وخرجت الخوارج على ميمنتهم عبيدة بن هلال اليشكري، وعلى ميسرتهم الزبير بن الماحوز، وجاءوا وهم أحسن عدة، وأكرم خيولًا، وأكثر سلاحًا من أهل البصرة؛ وذلك لأنهم مخروا الأرض وجردوها، وأكلوا ما بين كرمان إلى الأهواز، فجاءوا عليهم مغافر تضرب إلى صدورهم، وعليهم دروعٌ يسحبونها، وسوق من زرد يشدونها بكلاليب الحديد إلى مناطقهم، فالتقى الناس فاقتتلوا كأشد القتال، فصبر بعضهم عامة النهار. ثم إن الخوارج شدت على الناس بأجمعها شدةً منكرة، فأجفل الناس وانصاعوا منهزمين لا تلوي أمٌّ على ولد حتى بلغ البصرة هزيمة الناس، وخافوا السباء، وأسرع المهلب حتى سبقهم إلى مكان يفاع في جانب عن سنن المنهزمين.
ثم إنه نادى الناس: إلي إلي عباد الله، فثاب إليه جماعةٌ من قومه، وثابت إليه سرية عمان فاجتمع إليه منهم نحوٌ من ثلاثة آلاف، فلما نظر إلى من قد اجتمع رضي جماعتهم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله ربما يكل الجمع الكثير إلى أنفسهم فيهزمون، وينزل النصر على الجمع اليسير فيظهرون، ولعمري ما بكم الآن من قلة، إني لجماعتكم لراضٍ؛ وإنكم لأنتم أهل الصبر، وفرسان أهل المصر، وما أحب أن أحدًا ممن انهزم معكم، فإنهم لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا. عزمت على كل امرىءٍ منكم لما أخذ عشرة أحجار معه، ثم امشوا بنا نحو عسكرهم، فإنهم الآن آمنون، وقد خرجت خيلهم في طلب إخوانكم؛ فوالله إني لأرجوا ألا ترجع إليهم خيلهم حتى تستبيحوا عسكرهم، وتقتلوا أميرهم. ففعلوا، ثم أقبل بهم راجعًا، فلا والله ما شعرت الخوارج إلا بالمهلب يضاربهم بالمسلمين في جانب عسكرهم. ثم استقبلوا عبيد الله بن الماحوز وأصحابه، وعليهم الدروع والسلاح كاملًا، فأخذ الرجل من أصحاب المهلب يستقبل الرجل منهم، فيستعرض وجهه بالحجارة فيرميه حتى يثخنه، ثم يطعنه بعد ذلك برمحه، أو يضربه بسيفه، فلم يقاتلهم إلا ساعة حتى قتل عبيد الله ابن الماحوز، وضرب الله وجوه أصحابه؛ وأخذ المهلب عسكر القوم وما فيه، وقتل الأزارقة قتلًا ذريعًا، وأقبل من كان في طلب أهل البصرة منهم راجعًا؛ وقد وضع لهم المهلب خيلًا ورجالًا في الطريق تختطفهم وتقتلهم، فانكفئوا راجعين مفلولين، مقتولين محروبين، مغلوبين؛ فارتفعوا إلى كرمان وجانب أصفهان، وأقام المهلب بالأهواز، ففي ذلك اليوم يقول الصلتان العبدي:
بسلى وسلبرى مصارع فتيةٍ ** كرامٍ وقتلى لم توسد خدودها
وانصرفت الخوارج حين انصرفت؛ وإن أصحاب النيران الخمس والست ليجتمعون على النار الواحدة من الفلول وقلة العدد، حتى جاءتهم مادةٌ لهم من قبل البحرين، فخرجوا نحو كرمان وأصبهان؛ فأقام المهلب بالأهواز فلم يزل ذلك مكانه حتى جاء مصعب البصرة، وعزل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة عنها.
ولما ظهر المهلب على الأزارقة كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم. للأمير الحارث بن عبد الله، من المهلب بن أبي صفرة. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد فالحمد لله الذي نصر أمير المؤمنين، وهزم الفاسقين، وأنزل بهم نقمته، وقتلهم كل قتلة، وشردهم كل مشرد. أخبر الأمير أصلحه الله أنا لقينا الأزارقة بأرض من أرض الأهواز يقال لها سلى وسلبرى؛ فزحفنا إليهم ثم ناهضناهم، فاقتتلنا كأشد القتال مليًا من النهار. ثم إن كتائب الأزارقة اجتمع بعضها إلى بعض، ثم حملوا على طائفة من المسلمين فهزموهم؛ وكانت في المسلمين جولة قد كنت أشفقت أن تكون هي الأصرى منهم. فلما رأيت ذلك عمدت إلى مكان يفاع فعلوته، ثم دعوت إلي عشيرتي خاصة والمسلمين عامة، فثاب إلي أقوام شروا أنفسهم ابتغاء مرضاة الله من أهل الدين والصبر والصدق والوفاء، فقصدت بهم إلى عسكر القوم؛ وفيه جماعتههم وحدهم وأميرهم قد أطاف به أولو فضلهم فيهم، وذوو النيات منهم؛ فاقتتلنا ساعة رميًا بالنبل، وطعنًا بالرماح. ثم خلص الفريقان إلى السيوف؛ فكان الجلاد بها ساعة من النهار مبالطةً ومبالدةً. ثم إن الله عز وجل أنزل نصره على المؤمنين، وضرب وجوه الكافرين ونزل طاغيتهم في رجال كثير من حماتهم وذوي نياتهم، فقتلهم الله في المعركة. ثم اتبعت الخيل شرادهم فقتلوا في الطريق والآخاذ والقرى، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليك ورحمة الله.
فلما أتى هذا الكتاب الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة بعث به إلى الزبير فقرىء على الناس بمكة.
وكتب الحارث بن أبي ربيعة إلى المهلب: أما بعد؛ فقد بلغني كتابك، تذكر فيه نصر الله إياك، وظفر المسلمين، فهنيئًا لك يا أخا الأزد بشرف الدنيا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها، والسلام عليك ورحمة الله.
فلما قرأ المهلب كتابه ضحك ثم قال: أما تظنونه يعرفني إلا بأخي الأزد! ما أهل مكة إلا أعرابٌ.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو المخارق الراسبي أن أبا علقمة اليحمدي قاتل يوم سلى وسلبرى قتالًا لم يقاتله أحدٌ من الناس؛ وأن أخذ ينادي في شباب الأزد وفيتان اليحمد: أعيرونا جماجمكم ساعةً من نهار؛ فأخذ فتيانٌ منهم يكرون، فيقاتلون ثم يرجعون إليه؛ يضحكون ويقولون: يا أبا علقمة، القدور تستعار! فلما ظهر المهلب ورأى من بلائه ما رأى وفاه مائة ألف.
وقد قيل: إن أهل البصرة قد كانوا سألوا الأحنف قبل المهلب أن يقاتل الأزارقة، وأشار عليهم بالمهلب، وقال: هو أقوى على حربهم مني، وإن المهلب إذ أجابهم إلى قتالهم شرط على أهل البصرة أن ما غلب عليه من الأرض فهو له ولمن خف معه من قومه وغيرهم ثلاث سنين، وأنه ليس لمن تخلف عنه منه شيء. فأجابوه إلى ذلك، وكتب بذلك عليهم كتابًا، وأوفدوا بذلك وفدًا إلى ابن الزبير.
وإن ابن الزبير أمضى تلك الشروط كلها للمهلب وأجازها له، وإن المهلب لما أجيب إلى ما سأل وجه ابنه حبيبًا في ستمائة فارس إلى عمرو القنا، وهو معسكر خلف الجسر الأصغر في ستمائة فارس، فأمر المهلب بعقد الجسر الأصغر، فقطع حبيب الجسر إلى عرمو ومن معه؛ فقاتلهم حتى نفاهم عما بين الجسر، وانهزموا حتى صاروا من ناحية الفرات، وتجهز المهلب فيمن خف من قومه معه، وهم اثنا عشر ألف رجل، ومن سائر الناس سبعون رجلًا، وسار المهلب حتى نزل الجسر الأكبر، وعمرو القنا بإزائه في ستمائة. فبعث المغيرة بن المهلب في الخيل والرجالة، فهزمتهم الرجالة بالنبل، واتبعتهم الخيل، وأمر المهلب بالجسر فعقد، فعبر هو وأصحابه، فلحق عمرو القنا حينئذ بابن الماحوز وأصحابه؛ وهو بالمفتح، فأخبروهم الخبر، فساروا فعسكروا دون الأهواز بثمانية فراسخ، وأقام المهلب بقية سنته، فجبى كور دجلة، ورزق أصحابه، وأتاه المدد من أهل البصرة لما بلغهم ذلك؛ فأثبتهم في الديوان وأعطاهم حتى صاروا ثلاثين ألفًا.
قال أبو جعفر: فعلى قول هؤلاء كانت الوقعة التي كانت فيها هزيمة الأزارقة وارتحالهم عن نواحي البصرة والأهواز إلى ناحية أصبهان وكرمان في سنة ست وستين. وقيل: إنهم ارتحلوا عن الأهواز وهم ثلاثة آلاف، وإنه قتل منهم في الوقعة التي كانت بينهم وبين المهلب بسلى وسلبرى سبعة آلاف.
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وجه مروان بن الحكم قبل مهلكه ابنه محمدًا إلى الجزيرة، وذلك قبل مسيره إلى مصر.
وفي هذه السنة عزل عبد الله بن الزبير عبد الله بن يزيد عن الكوفة، وولاها عبد الله بن مطيع، ونزع عن المدينة أخاه عبيدة بن الزبير، وولاها أخاه مصعب بن الزبير، وكان سبب عزله أخاه عبيدة عنها أنه - فيما ذكر الواقدي - خطب الناس فقال لهم: قد رأيتم ما صنع بقوم في ناقة قيمتها خمسمائة درهم، فسمي مقوم الناقة؛ وبلغ ذلك ابن الزبير فقال: إن هذا لهو التكلف.