بقِصَر المُدة وإنّ غائباً يَحْدوه الجديدان الليلُ والنهار لجديرٌ بسُرعة الأوبة وإنّ قادماً يَحُل بالفَوْز أو بالشِّقوة لمُستحق لأفضل العُدّة‏.‏ فاتقى عبدٌ ربّه ونصح نفسه وقدّم توبته وغلب شَهْوته فإنَّ أجلَه مستور عنه وأملَه خادع له والشيطان مُوَكَلٌ به يُزَيِّن له المعصية ليركَبَها وُيمَنِّيه التَّوْبة ليًسَوِّفها حتى تَهْجُم عليه منيتَه أغفَلَ ما يكون عنها‏.‏ فيالها حَسْرَةً على كلّ ذي غَفلة أن يكون عُمْره عليه حُجَّة أو تؤدّيه منيّته إلى شَقْوَة‏.‏ نَسْأل اللهّ أن يَجعلنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نِعْمة ولا تُقَصِّر به عن طاعة ربه غَفْلة ولا تَحُل به بعد الموت فَزْعة إنَّه سَمِيع الدعاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير فعّال لما يريد‏.‏ خطبة المأمون يوم الأضحى قالت بعد التكبير والتَحميد‏:‏ إنَّ يومَكم هذا يومُ أبان الله فَضْلَه وأوْجَبَ تَشْريفَه وعَظَّم حًرْمَته ووفِّى له من خلقه صَفْوَته وابتلى فيه خليله‏.‏ وفَدَى فيه بالذِّبح العظيم نبيَّه وجعله خاتَم الأيام المعلومات من العَشْر ومُقَدّم الأيام المعدودات من النَّفْر يومٌ حَرام من أيام عِظَام في شهر حرام يومُ الحجّ الأكبر يومٌ دعا الله فيه إلى مَشْهده ونزل القرآن العظيم بتَعْظيمه قال الله عزّ وجلّ‏:‏ ‏"‏ وأذِّنْ في النَّاس بالحَجّ يأتُوكَ رِجَالاً وعَلَى كُل ضامِرٍ يأتِينَ مِنْ كُل فَجٍٍّ عَمِيق ‏"‏ فتقرّبوا إلى الله في هذا اليوم بذَبائحكم وعَظّموا شعائر اللهّ واجعلوها من طيِّب أموالكم وبصحِّة التَّقوى من قُلوبكم فإنه يقول‏:‏ ‏"‏ لَنْ يَنَال الله لُحُومُها ولا دِماؤُها ولَكِنْ يَنالُه التَّقوى مِنْكم ‏"‏ ثم التَّكبير والتّحميد‏.‏ والصلاةُ على النبي والوصية بالتَقوى‏.‏ ثم ذكر الموت ثم قال‏:‏ وما من بعده إلا الجنَّة أو النار عظمَ قدْرُ الدارين وارتفع جزاء العَمَلين وطالت مُدَة الفَريقَيْن‏.‏ الله فوالله إنه الجدّ لا الّلعِب والحقّ لا الكَذِب وما هو إلا الموتُ والبعثُ والمِيزان والحِساب والصِّرَاط والقِصاص والثواب والعِقاب‏.‏ فَمَن نجا يومئذٍ فقد فاز ومَن هَوَى يومئذ فقد خاب الخيْر كلّهُ في الجنة‏.‏ والشرّ كله في النار‏.‏ خطبة للمأمون في الفطر قال بعد التَّكبير والتَحميد‏:‏ ألاَ وإنَ يومَكم هذا يوم عيد وسُنة وابتهال ورَغبة يومٌ خَتَم الله به صِيَام شهر رمضان وافتتح به حَجّ بيته الحرام فجلعه أول أيام شُهور الحجّ وجعله مُعَقِّبا لِمَفروض صيامكم ومُتَنَقِّل قيامكم أحلَّ الله لكم فيه الطَّعام وحرّم عليكم فيه الصّيامَ فاطلبُوا إلى الله حوائجكم واستغفروه لتَفريطكم فإنه يُقال‏:‏ لا كثيرَ مع نَدَم واستغفار ولا قَليل مع تَمَادٍ وإصرار‏.‏ ثم كبَرَ وحَمّد وذكرَ النبيَّ وأوصى بالبرّ وّالتَّقوى ثم قال‏:‏ اتقوا الله عباد الله وبادرُوا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يَحْضر الشد فيه أحداً منكم وهو الموتُ المكتوب عليكم فإنه لا تُسْتقال بعده عَثْرة ولا تُحْظر قبله توبة واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه ولا شيء بعدَه إلاّ فوقَه ولا يُعين على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه وعلى القبر وظُلْمته وضِيقه ووَحْشَته وهَول مطلعه ومسألة ملكَيْه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به فمن زَلْت عند الموت قدَمُه فقد ظهرت ندامتُه وفاتته استقالتُه ودَعا من الرّجعة إلى مالا يُجاب إليه وبَذَل من الفِدْية مالا يُقْبَل منه‏.‏ فالله الله عباد الله كُونوا قوماً سألوا الرَّجعة فأُعطوها إذ مُنعها الذين طلبوها فإنه ليس يتمنى المُتقدّمون قبلَكم إلا هذا الأجل المَبْسوط لكم فاحذَروا ما حَذّركم الله واتقوا اليوم الذي يَجْمعكم اللهّ فيه لوَضْع موازِينكم ونشر صًحفكم الحافظة لأعمالكم‏.‏ فلينظر عبدٌ ما يَضع في ميزانه مما يَثْقل به وما يُمْلى في صحيفته الحافظة لما عليه وله ألا فَقد حكى اللهّ لكم ما قالَ المُفرطون عندها إذ طال إعراضّهم عنها قال جلّ ذكره‏:‏ ‏"‏ ووُضِع الكِتابُ فَتَرَى المُجْرمين مُشْفِقِين مما فيه ويقولون يا وَيْلَتَنا ما لهِذا الكِتاب لا يُغَادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً إلاّ أحْصَاها ووَجَدُوا ما عَمِلوا حاضِراً ولا يَظْلمُ رَبًّكَ أحَداً ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ ونَضَع المَوَازِين القِسْطَ لِيَوْم القِيَامة فَلاَ تُظْلم نَفْسٌ شيئَاَ‏.‏ وإنْ كان مثقالَ حًبّة من خرْدَلٍ أتينا بها وكَفى بنا حَاسِبين ‏"‏ ولستُ أنها كم عن الدُنيا بأكثر مما نهتكم به الدُّنيا عن نَفْسها فإنّ كل ما بها يُحَذِّر منها وينهى عنها وكلّ ما فيها يدعو إلى غيرها وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذَمُّ كتاب اللهّ لها والنهيُ عنها فإنّه يقول تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تَغرَّنكم الحياةُ الدُّنيا ولا يَغُرَّنكم بالله الغَرُور ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ اعلَموا أنما الحَيَاة الدُّنيا لَعب ولَهْو وزِينَة وتفَاخُز بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ‏"‏ فانتفعوا بمَعرفتكم بها‏.‏ وبإخبار اللهّ عنها‏.‏ واعلموا أنَّ قوماً مِن عباد الله أدركتهم عِصْمَةُ اللهّ فَحَذِروا مَصَارعها وجانبوا خَذائعها واثروا طاعةَ اللهّ فيها وأدركوا الجنة بما يَتْركون منها‏.‏ خطبة عبد الله بن الزبير حين قام بفتح افريقية‏:‏ قَدِم عبدُ اللهّ بن الزُّبير علي عثمان بن عفّان بفتح إفريقية فأخبره مُشافهة وقَص عليه كيف كانت الوقعة‏.‏ فأعجب عثمانَ ما سمع منه فقال له‏:‏ يا بني أتقوم بمثل هذا الكلام في الناس فقال‏:‏ يا أميرَ المؤمنين أنا أهْيب لك مني لهم‏.‏ فقام عثمانُ في الناس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إن الله قد فَتح عليكم إفريقية وهذا عبدُ اللهّ بن الزبير يُخبركم خبرَها إن شاء الله‏.‏ وكان عبدُ الله بن الزُبير إلى جانب المِنبر فقام خطيباً وكان أولَ من خطب إلى جانب المنبر فقال‏:‏ الحمدُ للهّ الذي ألَف بين قُلوبنا وجعلنا متحابين بعد البِغْضة الذي لا تُجحد نَعماؤه ولا يزول مُلْكه له الحَمْد كما حَمدَ نفسه وكما هو أهلُه انتخب محمداً فاختاره بعِلْمه وائتمنه على وَحْيه واختار له من الناس أعواناً قَذف في قُلويهم تصديقَه ومحبته فآمنوا به وعَز روه ووَقروه وجاهدوا في الله حَق جِهاده فاستُشهد لله منهم مَن استشهد على المِنْهاج الواضح والبَيْع الرابح وبقي منهم مَن بَقي ولا تأخذُهم في الله لومةُ لائم‏.‏ أيها الناس‏:‏ رَحمكم الله إنا خرجنا للوجه الذي عَلمتم فكُنا مع والٍ حافظ حَفِظ وصيةَ أمير المؤمنين كان يسير بنا الابْردين ويَخْفض بنافي الظهائر ويتخذ الليل جملًا يعُجل الرِّحلة من المَنزل الجَدْب ويُطيل اللبث في المنزل الخِصْب فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربّنا حتى انتهينا إلى إفريقية فنزلنا منها بحيثُ يسمعون صَهيل الخيل ورُغاء الإبل وقَعقعة السلاح‏.‏ فأقمنا أياماً نُجِمّ كُراعنا ونُصْلح سِلاحنا ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخولِ فيه