صفحة 10 من 11 الأولىالأولى ... 891011 الأخيرةالأخيرة
النتائج 37 إلى 40 من 41

الموضوع: تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثامن)


  1. #37
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وذكر أنه دخل عليه يومًا هشام بن فرخسرو والحسين بن مصعب، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد يا بن الملحد! والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوتك للإسلام وطعنك في الدين، وما أنتظر بقتلك إلا إذن الخليفة فيه، فقد أباح الله دمك، وأرجو أن يسفكه الله على يدي عن قريب، ويعجلك إلى عذابه. ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد ما ثملت من الخمر، وزعمت أنه جاءتك كتب من مدينة السلام بعزلي! اخرج إلى سخط الله، لعنك الله، فعن قريب ما تكون من أهلها! فقال له الحسين: أعيذ بالله الأمير أن يقبل قول واشٍ، أو سعاية باغٍ، فإني بريء مما قرفت به. قال: كذبت لا أم لك! قد صح عندي أنك ثملت من الخمر، وقلت ما وجب عليك به أغلظ الأدب؛ ولعل الله أن يعاجلك ببأسه ونقمته؛ اخرج عني غير مستور ولا مصاحب. فجاء الحاجب فأخذ بيده فأخرجه، وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة؛ يجتمع فيها إليك السفهاء، وتطعن على الولاة! سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فقال هشام: جعلت فداء الأمير! أنا والله مظلوم مرحوم؛ والله ما أدع في تقريظ الأمير جهدًا، وفي وصفه قولًا إلا خصصته به وقلته فيه؛ فإن كنت إذا قلت خيرًا نقل إليك شرًا فما حيلتي! قال: كذبت لا أم لك؛ لأنا أعلم بما تنطوي عليه جوانحك من ولدك وأهلك، فاخرج فعن قريب أريح منك نفسي. فلما كان في آخر الليل دعا ابنته عالية - وكانت من أكبر ولده - فقال لها: أي بنية، إني أريد أن أفضي إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت؛ وإن حفظته سلمت، فاختاري بقاء أبيك على موته، قالت: وما ذاك جعلت فداك! قال: إني أخاف هذا الفاجر علي بن عيسى على دمي، وقد عزمت على أن أظهر أن الفالج أصابني، فإذا كان في السحر فاجمعي جواريك، وتعالي إلى فراشي وحركيني؛ فإذا رأيت حركتي قد ثقلت، فصيحي أنت وجواريك، وابعثي إلى إخوتك فأعلميهم علتي. وإياك ثم إياك أن تطلعي على صحة بدني أحدًا من خلق الله من قريب أو بعيد. ففعلت - وكانت عاقلة حازمة - فأقام مطروحًا على فراشه حينًا لا يتحرك إلا إن حرك، فيقال إنه لم يعلم من أهل خراسان أحد من عزل علي بن عيسى بخبر ولا أثر غير هشام؛ فإنه توهم عزله، فصح توهمه.
    ويقال: إنه خرج في اليوم الذي قدم فيه هرثمة لتلقيه. فرآه في الطريق رجل من قواد علي بن عيسى، فقال: صح الجسم؟ فقال: ما زال صحيحًا بحمد الله! وقال بعضهم: بل رآه علي بن عيسى، فقال: أين بك؟ فقال: أتلقى أميرنا أبا حاتم، قال: ألم تكن عليلًا؟ قال: بلى؛ فوهب الله العافية؛ وعزل الله الطاغية في ليلة واحدة.
    وأما الحسين بن مصعب فإنه خرج إلى مكة مستجيرًا بالرشيد من علي بن عيسى، فأجاره.
    ولما عزم الرشيد على عزل علي بن عيسى دعا - فيما بلغني - هرثمة بن أعين مستخليًا به فقال: إني لم أشاور فيك أحدًا، ولم أطلعه على سري فيك، وقد اضطرب علي ثغور المشرق، وأنكر أهل خراسان أمر علي بن عيسى؛ إذ خالف عهدي ونبذه وراء ظهره؛ وقد كتب يستمد ويستجيش، وأنا كاتب إليه، فأخبره أني أمده بك، وأوجه إليه معك من الأموال والسلاح والقوة والعدة ما يطمئن إليه قلبه، وتتطلع إليه نفسه، وأكتب معك كتابًا بخطي فلا تفضنه، ولا تطلعن فيه حتى تصل إلى مدينة نيسابور؛ فإذا نزلتها فاعمل بما فيه، وامتثله ولا تجاوزه، إن شاء الله، وأنا موجه معك رجاء الخادم بكتاب أكتبه إلى علي بن عيسى بخطي؛ ليتعرف ما يكون منك ومنه؛ وهون عليه أمر علي فلا تظهرنه عليه، ولا تعلمنه ما عزمت عليه، وتأهب للمسير، وأظهر لخاصتك وعامتك أني أوجهك مددًا لعلي بن عيسى وعونًا له. قال: ثم كتب إلى علي بن عيسى بن ماهان كتابًا بخطه نسخته:
    " بسم الله الرحمن الرحيم ". يا بن الزانية، رفعت من قدرك، ونوهت باسمك، وأوطأت سادة العرب عقبك، وجعلت أبناء ملوك العجم خولك وأتباعك؛ فكان جزائي أن خالفت عهدي، ونبذت وراء ظهرك أمري؛ حتى عثت في الأرض، وظلمت الرعية، وأسخطت الله وخليفته؛ بسوء سيرتك، ورداءة طعمتك، وظاهر خيانتك، وقد وليت هرثمة بن أعين مولاي ثغر خراسان، وأمرته أن يشد وطأته عليك وعلى ولدك وكتابك وعمالك، ولا يترك وراء ظهوركم درهمًا، ولا حقًا لمسلم ولا معاهد إلا أخذكم به؛ حتى ترده إلى أهله؛ فإن أبيت ذلك وأباه ولدك وعمالك فله أن يبسط عليكم العذاب، ويصب عليكم السياط، ويحل بكم ما يحل بمن نكث وغير، وبدل وخالف، وظلم وتعدى وغشم، انتقامًا لله عز وجل بادئًا، ولخليفته ثانيًا، وللمسلمين والمعاهدين ثالثًا؛ فلا تعرض نفسك للتي لا شوى لها، واخرج مما يلزمك طائعًا أو مكرهًا.
    وكتب عهد هرثمة بخطه: هذا ما عهد هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى هرثمة بن أعين حين ولاه ثغر خراسان وأعماله وخراجه؛ أمره بتقوى الله وطاعته ورعاية أمر الله ومراقبته، وأن يجعل كتاب الله إمامًا في جميع ما هو بسبيله، فيحل حلاله ويحرم حرامه، ويقف عند متشابهه؛ ويسأل عنه أولي الفقه في دين الله وأولي العلم بكتاب الله، أو يرده إلى إمامه ليريه الله عز وجل فيه رأيه، ويعزم له على رشده، وأمره أن يستوثق من الفاسق علي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، وأن يشد عليهم وطأته، ويحل بهم سطوته، ويستخرج منهم كل مال يصح عليهم من خراج أمير المؤمنين وفيء المسلمين؛ فإذا استنظف ما عندهم وقبلهم من ذلك، نظر في حقوق المسلمين والمعاهدين، وأخذهم بحق كل ذي حق حتى يردوه إليهم؛ فإن ثبتت قبلهم حقوق لأمير المؤمنين وحقوق للمسلمين؛ فدافعوا بها وجحدوها، أن يصب عليهم سوط عذاب الله وأليم نقمته؛ حتى يبلغ بهم الحال التي إن تخطاها بأدنى أدب، تلفت أنفسهم، وبطلت أرواحهم؛ فإذا خرجوا من حق كل ذي حق، أشخصهم كما تشخص العصاة من خشونة الوطاء وخشونة المطعم والمشرب وغلظ الملبس، مع الثقات من أصحابه إلى باب أمير المؤمنين، إن شاء الله. فاعمل يا أبا حاتم بما عهدت إليك، فإني آثرت الله وديني على هواي وإرادتي، فكذلك فليكن عملك، وعليه فليكن أمرك، ودبر في عمال الكور الذين تمر بهم في صعودك ما لا يستوحشون معه إلى أمرٍ يريبهم وظن يرعبهم. وابسط من آمال أهل ذلك الثغر ومن أمانهم وعذرهم، ثم اعمل بما يرضي الله منك وخليفته، ومن ولاك الله أمره إن شاء الله. هذا عهدي وكتابي بخطي، وأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه وسكان سمواته وكفى بالله شهيدًا.
    وكتب أمير المؤمنين بخط يده لم يحضره إلا الله وملائكته.
    ثم أمر أن يكتب كتاب هرثمة إلى علي بن عيسى في معاونته وتقوية أمره والشد على يده؛ فكتب وظهر الأمر بها؛ وكانت كتب حمويه وردت على هارون: إن رافعًا لم يخلع ولا نزع السواد ولا من شايعه، وإنما غايتهم علي بن عيسى الذي قد سامهم المكروه.
    خبر شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليا عليها

    ومن ذلك ما كان من شخوص هرثمة بن أعين إلى خراسان واليًا عليها.
    ذكر الخبر عما كان من أمره في شخوصه إليها وأمر علي بن عيسى وولده
    ذكر أن هرثمة مضى في اليوم السادس من اليوم الذي كتب له عهده الرشيد وشيعه الرشيد، وأوصاه بما يحتاج إليه، فلم يعرج هرثمة على شيء، ووجه إلى علي بن عيسى في الظاهر أموالًا وسلاحًا، وخلعًا وطيبًا؛ حتى إذا نزل نيسابور جمع جماعة من ثقات أصحابه وأولى الين والتجربة منهم؛ فدعا كل رجل منهم سرًا، وخلا به، ثم أخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره، ويطووا سره، وولى كل رجل منهم كورة، على نحو ما كانت حاله عنده؛ فولى جرجان ونيسابور والطبسين ونسا وسرخس، وأمر كل واحد منهم، بعد أن دفع إليه عهده بالمسير إلى عمله الذي ولاه على أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهمإلى الوقت الذي سماه لهم، وولى إسماعيل بن حفص بن مصعب جرجان بأمر الرشيد، ثم مضى حتى إذا صار من مرو على مرحلة، دعا جماعة من ثقات أصحابه، وكتب لهم أسماء ولد علي بن عيسى وأهل بيته وكتابه وغيرهم في رقاع، ودفع إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكله بحفظه إذا هو دخل مرو، خوفًا من أن يهربوا إذا أظهر أمره. ثم وجه إلى علي بن عيسى:
    إن أحب الأمير أكرمه الله أن يوجه ثقاته لقبض ما معي من أموال فعل؛ فإنه إذا تقدم المال أمامي كان أقوى للأمير، وأفت في عضد أعدائه. وأيضًا فإني لا آمن عليه إن خلفته وراء ظهري؛ أن يطمع فيه بعض من تسمو إليه نفسه إلى أن يقتطع بعضه، ويفترض غفلتنا عند دخول المدينة. فوجه علي بن عيسى جهابذته وقهارمته لقبض المال، وقال هرثمة لخزانه: اشغلوهم هذه الليلة، واعتلوا عليهم في حمل المال بعلة تقرب من أطماعهم، وتزيل الشك عن قلوبهم، ففعلوا. وقال لهم الخزان: حتى تؤامروا أبا حاتم في دواب المال والبغال. ثم ارتحل نحو مدينة مرو، فلما صار منها على ميلين تلقاه علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده بأحسن لقاء وآنسه؛ فلما وقعت عين هرثمة عليه، ثنى رجله لينزل عن دابته فصاح به علي: والله لئن نزلت لأنزلن، فثبت على سرجه، ودنا كل منهما من صاحبه فاعتنقا، وسارا، وعلي يسأل هرثمة عن أمر الرشيد وحاله وهيئته وحال خاصته وقواده وأنصار دولته؛ وهرثمة يجيبه؛ حتى صار إلى قنطرة لا يجوزها إلا فارس، فحبس هرثمة لجام دابته، وقال لعلي: سر على بركة الله، فقال علي: لا والله لا أفعل حتى تمضي أنت، فقال: إذًا والله لا أمضي، فأنت الأمير وأنا الوزير؛ فمضى وتبعه هرثمة حتى دخلا مرو، وصارا إلى منزل علي، ورجاء الخادم لا يفارق هرثمة في ليل ولا نهار، ولا ركوب ولا جلوس؛ فدعا علي بالغداء فطعما، وأكل معهما رجاء الخادم، وكان عازمًا على ألا يأكل معهما، فغمزه هرثمة وقال: كل فأنت جائع، ولا رأي لجائع ولا حاقن؛ فلما رفع الطعام قال له علي: قد أمرت أن يفرغ لك قصر على الماشان؛ فإن رأيت أن تصير إليه فعلت. فقال له هرثمة: إن معي من الأمور ما لا يتحمل تأخير المناظرة فيها؛ ثم دفع رجاء الخادم كتاب الرشيد إلى علي، وأبلغه رسالته. فلما فض الكتاب فنظر إلى أول حرف منه سقط في يده، وعلم أن حل به ما يخافه ويتوقعه، ثم أمر هرثمة بتقيه وتقييد ولده وكتابه وعماله وكان رحل ومعه وقر من قيود وأغلال - فلما استوسق منه صار إلى المسجد الجامع، فخطب وبسط من آمال الناس، وأخبر المؤمنين ولاه ثغورهم لما انتهى إليه من سوء سيرة الفاسق علي بن عيسى، وما أمره به وفي عماله وأعوانهن وأنه بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة، والأخذ لهم بحقوقهم أقصى مواضع الحق. وأمر بقراءة عهده عليهم. فأظهروا السرور بذلك، وانفسحت آمالهم، وعظم رجاؤهم، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر الدعلء لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
    ثم انصرف، فدعا لعلي بن عيسى وولده وعماله وكتابه، فقال: اكفوني مئونتكم، واعفوني من الإقدام بالمكروه عليكم. ونادى في أصحاب ودائعهم ببراءة الذمة من رجل كانت لعلي عنده وديعة أو لأحد من ولده أو كتابه أو أعماله وأخفاها ولم يظهر عليها؛ فأحضره الناس ما كانوا أودعوا إلا رجلًا من أهل مرو - وكان من أبناء المجوس - فإنه لم يزل يتلطف للوصول إلى علي بن عيسى حتى صار إليه، فقال له سرًا: لك عندي مال، فإن احتجت إليه حملته إليك أولًا فأولًا، وصبرت للقتل فيك؛ إيثارًا للوفاء وطلبًا لجميل الثناء، وإن استغنيت عنه حبسته عليك حتى ترى فيه رأيك. فعجب علي منه، وقال: لو اصطنعت مثلك ألف رجل ما طمع في في السلطان ولا الشيطان أبدًا. ثم سأله عن قيمة ما عنده، فذكر له أنه أودعه مالًا وثيابًا ومسكًا، وأنه لا يدري ما قدر ذلك؛ غير أنه أودعه بخطه، وأنه محفوظ لم يشذ منه شيء، فقال له: دعه فإن ظهر عليه سلمته ونجوت بنفسك، وإن سلمت به رأيت فيه رأيي. وجزاه الخير، وشكر له فعله ذلك أحسن شكر، وكافأه عليه وبره. وكان يضرب به المثل بوفائه؛ فذكر أنه لم يتستر عن هرثمة من مال علي إلا ما كان أودعه هذا الرجل - وكان يقال له: العلاء بن ماهان - فاستنظف هرثمة ما وراء ظهورهم حتى حلي نسائهم؛ فكان الرجل يدخل إلى المنزل فيأخذ جميع ما فيه؛ حتى إذا لم يبق فيه إلا صوف أو خشب أو ما لا قيمة له قال للمرأة: هاتي ما عليك من الحلي، فتقول للرجل إذا دنا منها لينزع ما عليها:
    يا هذا، إن كنت محسنًا فاصرف بصرك عني، فوالله لا تركت شيئًا من بغيتك علي إلا دفعته إليك؛ فإن كان الرجل يتحوب من الدنو إليها أجابها إلى ذلك حتى ربما نبذت إليه بالخاتم والخلخال وما قيمته عشرة دراهم، ومن كان بخلاف هذه الصفة، قال: لا أرضى حتى أفتشك؛ لا تكونين قد خبأت ذهبًا أو درًا أو ياقوتًا؛ فيضرب يده إلى مغابنها وأرفاغها؛ فيطلب فيها ما يظن أنها قد سترته عنه؛ حتى إذا ظن أنه قد أحكم هذا كله وجهه على بعير بلا وطاء تحته، وفي عنقه سلسلة، وفي رجله قيود ثقال ما يقدر معها على نهوض واعتماد.
    فذكر عمن شهد أمر هرثمة وأمره؛ أن هرثمة لما فرغ من مطالبة علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله بأموال أمير المؤمنين، أقامهم لمظالم الناس، فكان إذا برد للرجل عليه أو على أحد من أصحابه حق، قال: اخرج للرجل من حقه، وإلا بسطت عليك، فيقول علي: أصلح الله الأمير! أجلني يومًا أو يومين، فيقول: ذلك إلى صاحب الحق، فإن شاء فعل. ثم يقبل على الرجل، فيقول: أترى أن تدعه؟ فإن قال نعم، قال: فانصرف وعد إليه، فيبعث علي إلى العلاء بن ماهان، فيقول له: صالح فلانًا عني من كذا وكذا على كذا وكذا، أو على ما رأيت، فيصالحه ويصلح أمره.
    وذكر أنه قام إلى هرثمة رجل، فقال له: أصلح الله الأمير! إن هذا الفاجر أخذ مني درقة ثمينة لم يملك أحد مثلها، فاشتراها على كره مني ولم أرد بيعها بثلاثة آلاف درهم؛ فأتيت قهرمانة أطلب ثمنها، فلم يعطني شيئًا، فأقمت حولًا أنتظر ركوب هذا الفاجر؛ فلما ركب عرضت له وصحت به: أيها الأمير، أنا صاحب الدرقة، ولم آخذ لها ثمنًا إلى هذه الغاية، فقذف أمي ولم يعطني حقي، فخذ لي بحقي من مالي وقذفه أمي، فقال: لك بينة؟ قال: نعم، جماعة حضروا كلامه؛ فأحضرهم فأشهدهم على دعواه، فقال هرثمة: وجب عليك الحد، قال: ولم؟ قال: لقذفك أم هذا، قال: من فقهك وعلمك هذا؟ قال: هذا دين المسلمين، قال: فأشهد أن أمير المؤمنين قد قذفك غير مرة ولا مرتين؛ وأشهد أنك قد قذفت بنيك ما لا أحصي، مرة حاتمًا ومرة أعين؛ فمن يأخذ لهؤلاء بحدودهم منك؟ ومن يأخذ لك من مولاك! فالتفت هرثمة إلى صاحب الدرقة، فقال: أرى لك أن تطالب هذا الشيطان بدرقتك أو ثمنها، وتترك ومطالبته بقذفه أمك.
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #38
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    كتاب هرثمة إلى الرشيد في أمر علي بن عيسى

    ولما حمل هرثمة عليًا إلى الرشيد، كتب إليه كتابًا يخبره ما صنع؛ نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن الله عز وجل لم يزل يبلي أمير المؤمنين في كل ما قلده من خلافته واسترعاه من أمور عباده وبلاده أجمل البلاء وأكمله، ويعرفه في كل ما حضره ونأى عنه من خاص أموره وعامها، ولطيفها وجليلها أتم الكفاية وأحسن الولاية، ويعطيه في ذلك كله أفضل الأمنية، ويبلغه في أقصى غاية الهمة، امتنانًا منه عليه، وحفظًا لما جعل إليه، مما تكفل بإعزازه وإعزاز أوليائه وأهل حقه وطاعته؛ فسيتم الله أحسن ما عوده وعودنا من الكفية في كل ما يؤدينا إليه، ونسأله توفيقنا لما نقضي به المفترض من حقه في الوقوف عند أمره، والاقتصار على رأيه.
    ولم أزل أعز الله أمير المؤمنين، مذ فصلت عن معسكر أمير المؤمنين ممتثلًا ما أمرني به فيما أنهضني له؛ لا أجاوز ذلك ولا أتعداه إلى غيره، ولا أتعرف اليمن والبركة إلا في امتثاله؛ إلى أن حللت أوائل خراسان؛ صائنًا للأمر الذي أمرني أمير المؤمنين بصيانته وستره؛ لا أفضي ذلك إلى خاصي ولا إلى عامي، ودبرت في مكاتبة أهل الشاش وفرغانة وخزلهما عن الخائن، وقطع طمعه وطمع من قبله عنهما، ومكاتبة من ببلخ بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين وفسرت له، فلما نزلت نيسابور عملت في أمر الكور التي اجتزت عليها بتولية من وليت عليها، قبل مجاوزتي إياها؛ كجرجان ونيسابور ونسا وسرخس، ولم آل الأحتياط في ذلك، واختيار الكفاءة وأهل الأمانة والصحة من ثقات أصحابي، وتقدمت إليهم في ستر الأمر وكتمانه، وأخذت عليهم بذلك أيمان البيعة، ودفعت إلى كل رجل منهم عهده بولايته، وأمرتهم بالمسير إلى كور أعمالهم على أخفى أخفى الحالات وأسترها، والتشبه بالمجتازين في ورودهم الكور ومقامهم بها إلى الوقت الذي سميت لهم؛ وهو اليوم الذي قدرت فيه دخولي إلى مرو، والتقائي وعلي بن عيسى، وعملت في استكفائي إسماعيل بن حفص بن مصعب أمر جرجان بما كنت كتبت به إلى أمير المؤمنين، فنفذ أولئك العمال لأمري، وقام كل رجل منهم في الوقت الذي وقت له بضبط عمله وإحكام ناحيته، وكفى الله أمير المؤمنين المؤنة في ذلك، بلطيف صنعه.
    ولما صرتمن مدينة مرو على منزل، اخترت عدةً من ثقات أصحابي، وكتبت بتسمية ولد علي بن عيسى وكتابه وأهل بيته وغيرهم رقاعًا، ودفعت إلى كل رجل منهم رقعة باسم من وكلته بحفظه في دخولي، ولم آمن لو قصرت في ذلك وأخرته أن يصيروا عند ظهور الخبر وانتشاره إلى التغيب والانتشار، فعملوا بذلك، ورحلت عن موضعي إلى مدينة مرو، فلما صرت منها على ميلين تلقاني علي بن عيسى في ولده وأهل بيته وقواده، فلقيته بأحسن لقاء، وآنسته، وبلغت من توقيره وتعظيمه والتماس النزول إليه أول ما بصرت به ما ازداد به أنسًا وثقة، إلى ما كان ركن إليه قبل ذلك؛ مما كان يأتيه من كتبي؛ فإنها لم تنقطع عنه بالتعظيم والإجلال مني له والالتماس، لإلقاء سوء الظن عنه؛ لئلا يسبق إلى قلبه أمر ينتقض به ما دبر أمير المؤمنين في أمره، وأمرني به في ذلك. وكان الله تبارك وتعالى هو المنفرد بكفاية أمير المؤمنين الأمر فيه إلى أن ضمني وإياه مجلسه، وصرت إلى الأكل معه، فلما فرغنا من ذلك بدأني يسألني المصير إلى منزل كان ارتاده لي؛ فأعلمته ما معي من الأمور التي لا تحتمل تأخير المناظرة فيها. ثم دفع إليه رجاء الخادم كتاب أمير المؤمنين وأبلغه رسالته، فعلم عند ذلك أنه قد حل به الأمر الذي جناه على نفسه، وكسبته يداه؛ من سخط أمير المؤمنين، وتغير رأيه بخلافه أمره وتعديه سيرته.
    ثم صرت إلى التوكيل به، ومضيت إلى المسجد الجامع، فبسطت آمال الناس ممن حضر، وافتتحت القول بما حملني أمير المؤمنين إليهم، وأعلمتهم إعظام أمير المؤمنين ما أتاه، ووضح عنده من سوء سيرة علي، وما أمرني به فيه وفي عماله وأعوانه؛ وإني بالغ من ذلك ومن إنصاف العامة والخاصة والأخذ بحقوقهم أقصى غايتهم. وأمرت بقراءة عهدي عليهم، وأعلمتهم أن ذلك مثالي وإمامي؛ وأني به أقتدي وعليه أحتذي؛ فمتى زلت عن باب واحد من أبوابه فقد ظلمت نفسي، وأحللت بها ما يحل بمن خالف رأي أمير المؤمنين وأمره؛ فأظهروا السرور بذلك والاستبشار، وعلت بالتكبير والتهليل أصواتهم، وكثر دعاؤهم لأمير المؤمنين بالبقاء وحسن الجزاء.
    ثم انكفأت إلى المجلس الذي كان علي بن عيسى فيه، فصرت إلى تقييده وتقييد ولده وأهل بيته وكتابه وعماله والاستيثاق منهم جميعًا، وأمرتهم بالخروج إلي من الأموال التي احتجنوها من أموال أمير المؤمنين وفيء المسلمين، وإعفائي بذلك من الإقدلم عليهم بالمكروه والضرب، وناديت في أصحاب ودائعهم بإخراج ما كان عندهم. فحملوا إلي إلى أن كتبت إلى أمير المؤمنين صدرًا صالحًا من الورق والعين، وأرجو أن يعين الله على استيفاء ما قبلهم، واستنظاف ما وراء ظهورهم، ويسهل الله من ذلك أفضل ما لم يزل يعوده أمير المؤمنين من الصنع في مثله من الأمور التي تعنى بها إن شاء الله تعالى.
    ولم أدع عند قدومي مرو التقدم في توجيه الرسل وإنفاذ الكتب البالغة في الإعذار والإنذار، والتبصير والإرشاد، إلى رافع ومن قبله من أهل سمرقند، وإلى من ببلخ، على حسن ظني بهم في الإجابة، ولزوم الطاعة والاستقامة؛ ومهما تنصرف به رسلي إلى أمير المؤمنين من أخبار القوم في إجابتهم وامتناعهم، وأعمل على حسبه من أمرهم، وأكتب بذلك إلى أمير المؤمنين على حقه وصدقه. وأرجو أن يعرف الله أمير المؤمنين في ذلك من جميل صنعه ولطيف كفايته؛ ما لم تزل عادته جاريةً به عنده، بمنه وطوله وقوته والسلام.
    الجواب من الرشيد

    بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين كتابك بقدومك مرو في اليوم الذي سميت، وعلى الحال التي وصفت وما فسرت، وما كنت قدمت من الحيل قبل ورودك إياها، وعملت به في أمر الكور التي سميت وتولية من وليت عليها قبل نفوذك عنها، ولطفت له من الأمر الذي استجمع لك به ما أردت من أمر الخائن علي بن عيسى وولده وأهل بيته، ومن صار في يدك من عماله واحتذائك في ذلك كله ما كلن أمير المؤمنين مثل لك ووقفك عليه، وفهم أمير المؤمنين كل ما كتبت به، وحمد الله على ذلك كثيرًا وعلى تسديده إياك وما أعانك به من توفيقه، حتى بلغت إرادة أمير المؤمنين، وأدركت طلبته، وأحسنت ما كان يحب بك وعلى يدك إحكامه، مما كان اشتد به اعتناؤه، ولج به اهتمامه، وجزاك الخير على نصيحتك وكفايتك، فلا أعدم الله أمير المؤمنين أحسن ما عرفه منك في كل ما أهاب بك إليه، واعتمد بك عليه.
    وأمير المؤمنين يأمرك أن تزداد جدًا واجتهادًا فيما أمرك به من تتبع أموال الخائن علي بن عيسى وولده وكتابه وعماله ووكلائه وجهابذته والنظر فيما اختانوا به أمير المؤمنين في أمواله، وظلموا به الرعية في أموالهم، وتتبع ذلك واستخراجه من مظانه ومواضعه، التي صارت إليه، ومن أيدي أصحاب الودائع التي استودعوها إياهم؛ واستعمال اللين والشدة في ذلك كله؛ حتى تصير إلى استنظاف ما وراء ظهورهم؛ ولا تبقي من نفسك في ذلك بقية، وفي إنصاف الناس منهم في حقوقهم ومظالمهم؛ حتى لا تبقى لمتظلم منهم قبلهم ظلامة إلا استقضيت ذلك له، وحملته وإياهم على الحق والعدل فيها، فإذا بلغت أقصى غاية الإحكام والمبالغة في ذلك، فأشخص الخائن وولده وأهل بيته وكتابه وعماله إلى أمير المؤمنين في وثاق، وعلى الحال التي استحقوها من التغيير والتنكيل بما كسبت أيديهم؛ وما الله بظلام للعبيد.
    ثم اعمل بما أمرك به أمير المؤمنين من الشخوص إلى سمرقند، ومحاولة ما قبل خامل، ومن كان على رأيه ممن أظهر خلافًا وامتناعًا من أهل كور ما وراء النهر وطخارستان بالدعاء إلى الفيئة والمراجعة، وبسط أمانات أمير المؤمنين التي حملكها إليهم؛ فإن قبلوا وأنابوا وراجعوا ما هو أملك بهم، وفرقوا جموعهم، فهو ما يحب أمير المؤمنين أن يعاملهم به من العفو عنهم والإقالة لهم؛ إذ كانوا رعيته؛ وهو الواجب على أمير المؤمنين لهم إذ أجابهم إلى طلبتهم، وآمن روعتهم، وكفاهم ولاية من كرهوا ولايته، وأمر بإنصافهم في حقوقهم وظلاماتهم - وإن خالفوا ما ظن أمير المؤمنين، فحاكمهم إلى الله إذ طغوا وبغوا، وكرهوا العافية وردوها؛ فإن أمير المؤمنين قد قضى ما عليه، فغير ونكل، وعزل واستبدل، وعفا عمن أحدث، وصفح عمن اجترم؛ وهو يشهد الله عليهم بعد ذلك فيإن آثروه، وعنودٍ إن أظهروه. وكفى بالله شهيدًا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه يتوكل وإليه ينيب. والسلام.
    وكتب إسماعيل بن صبيح بين يدي أمير المؤمنين.
    وحج بالناس في هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان والي مكة.
    ولم يكن للمسلمين بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين.
    ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين ومائة

    ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
    ففيها كان الفداء بين المسلمين والروم على يدي ثابت بن ناصر بن مالك.
    ذكر الخبر عن مسير الرشيد إلى خراسان

    وفيها وافى الرشيد من الرقة في السفن مدينة السلام، يريد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع؛ وكان مصيره ببغداد يوم الجمعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر، واستخلف بالرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، ثم شخص من مدينة السلام عشية الاثنين، لخمس خلون من شعبان بعد صلاة العصر، من الخيزرانية، فبات في بستان أبي جعفر، ثم سار من غد إلى النهروان، فعسكر هنالك، ورد حمادًا البربري إلى أعماله، واستخلف ابنه محمدًا بمدينة السلام.
    وذكر عن ذي الرياستين أنه قال: قلت للمأمون لما أراد الرشيد الشخوص إلى خراسان لحرب رافع: لست تدري ما يحدث بالرشيد وهو خارج إلى خراسان، وهي ولايتك، ومحمد المقدم عليك! وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك؛ وهو ابن زبيدة، وأخواله بنو هاشم، وزبيدة وأموالها، فاطلب إليه أن يشخصك معه. فسأله الإذن فأبى عليه، فقلت له: قل له: أنت عليل؛ وإنما أردت أن أخدمك، ولست أكلفك شيئًا. فأذن له وسار.
    فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد حين خرج إلى خراسان، فمضى معه إلى النهروان، فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال له: يا صباح، لا أحسبك تراني أبدًا. قال: فقلت: بل يردك الله سالمًا؛ قد فتح الله عليك، وأراك في عدوك أملك. قال:؟ يا صباح، لا أحسبك تدري ما أجد! قلت: لا والله، قال: فتعال حتى أريك، قال: فانحرف عن الطريق قدر مائة ذراع، فاستظل بشجرة، فأومأ إلى خدمه الخاصة فتنحوا، ثم قال: أمانة الله يا صباح أن تكتم علي، فقلت: يا سيدي، عبدك الذليل تخاطبه مخاطبة الولد! قال: فكشف عن بطنه؛ فإذا عصابة حرير حوالي بطنه، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم؛ ولكل واحد من ولدي علي رقيب؛ فمسرور رقيب المأمون، وجبريل بن بختيشوع رقيب الأمين - وسمى الثالث فذهب عني اسمه - وما منهم أحد إلا وهو يحصي أنفاسي، ويعد أيامي ويستطيل عمري، فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو بدابة، فيجيئونني ببرذون أعجف قطوف، ليزيد في علتي، فقلت: يا سيدي ما عندي في الكلام جواب؛ ولا في ولاة العهود؛ غير أني أقول: جعل الله من يشنؤك من الجن والإنس والقريب والبعيد فداك؛ وقدمهم إلى تلك قبلك، ولا أرانا فيك مكروهًا أبدًا، وعمر بك الله الإسلام، ودعم ببقائك أركانه، وشد بك أرجاءه، وردك الله مظفرًا مفلحًا، على أفضل أملك في عدوك، وما رجوت من ربك. قال: أما أنت فقد تخلصت من الفريقين.
    قال: ثم دعا ببرذون، فجاءوا به كما وصف، فنظر إلي فركبه، وقال انصرف غير مودع؛ فإن لك أشغالًا، فودعته وكان آخر العهد به.
    وفيها تحرك الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس، فأسر وسبى، ووافاه بقرماسين، فأمر بقتل الأسارى وبيع السبي.
    وفيها مات علي بن ظبيان القاضي بقصر اللصوص.
    وفيها قدم يحيى بن معاذ بأبي النداء على الرشيد وهو بالرقة فقتله.
    وفيها فارق عجيف بن عنبسة والأحوص بن مهاجر في عدة من أبناء الشيعة رافع بن ليث، وصاروا إلى هرثمة.
    وفيها قدم بابن عائشة وبعدة من أهل أحواف مصر.
    وفيها ولى ثابت بن نصر بن مالك الثغور وغزا، فافتتح مطمورة.
    وفيها كان الفداء بالبدندون.
    وفيها تحرك ثروان الحروري، وقتل عامل السلطان بطف البصرة.
    وفيها قدم بعلي بن عيسى بغداد، فحبس في داره.
    وفيها مات عيسى بن جعفر بطرارستان - وقيل بالدسكرة - وهو يريد اللحاق بالرشيد.
    وفيها قتل الرشيد الهيصم اليماني.
    وحج بالناس في هذه السنة العباس بن عبيد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور.
    ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

    ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
    ذكر الخبر عن وفاة الفضل بن يحيى

    فمن ذلك وفاة الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة في المحرم، وكان بدء علته - فيما ذكر - من ثقل أصابه في لسانه وشقه؛ وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد، فيقال له: أما تحب أن يفرج الله عنك! فيقول: إن أمري قريب من أمره. ومكث يعالج أشهرًا، ثم صلح، فجعل يتحدث، ثم اشتد عليه فعقد لسانه وطرفه، ووقع لمآبه، فمكث في تلك الحال يوم الخميس ويوم الجمعة، وتوفي مع أذان الغداة، قبل وفاة الرشيد بخمسة أشهر؛ وهو في خمس وأربعين سنة، وجزع الناس عليه، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه قبل إخراجه، ثم اخرج فصلى الناس على جنازته.
    وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
    ذكر الخبر عن مقام الرشيد بطوس

    وفيها وافى هارون جرجان في صفر، فوافاه بها خزائن علي بن عيسى على ألف بعير وخمسمائة بعير، ثم رحل من جرجان - فيما ذكر - في صفر، وهو عليل، إلى طوس؛ فلم يزل بها إلى أن توفي - واتهم هرثمة، فوجه ابنه المأمون قبل وفاته بثلاث وعشرين ليلة إلى مرو، ومعه عبد الله بن مالك ويحيى ين معاذ وأسد بن يزيد بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث والسندي بن الحرشي ونعيم بن حازم؛ وعلى كتابته ووزارته أيوب بن أبي سمير، ثم اشتد بهارون الوجع حتى ضعف عن السير.
    وكانت بين هرثمة وأصحاب رافع فيها وقعة، فتح فيها بخارى، وأسر أخا رافع بشير بن ليث، فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس؛ فذكر عن ابن جامع المروزي، عن أبيه، قال: كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع. قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع، وعليه فرش بقدر ذلك - أو قال أكثر - وفي يده مرآة ينظر فيها إلى وجهه. قال: فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ونظر إلى أخي رافع، فقال: أما والله يابن اللخناء؛ إني لأرجو ألا يفوتني خامل - يريد رافعًا - كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد كنت لك حربًا، وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله، أكن لك سلمًا؛ ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذًا علم أنك قد مننت علي! فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت: اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فقال: لا تشحذ مداك، اتركها على حالها، وفصل هذا الفاسق ابن الفاسق، وعجل؛ لا يحضرن أجلي وعضوان من أعضائه في جسمه. ففصله حتى جعله أشلاء. فقال: عد أعضاءه، فعددت له أعضاءه، فإذا هي أربعة عشر عضوًا، فرفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك، فبلغت فيه رضاك، فمكني من أخيه. ثم أغمي عليه، وتفرق من حضره.
    ذكر الخبر عن موت هارون الرشيد

    وفيها مات هارون الرشيد.
    ذكر الخبر عن سبب وفاته والموضع الذي توفي فيه
    ذكر عن جبريل بن بختيشوع أنه قال: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، فأتعرف حاله في ليلته؛ فإن كان أنكر شيئًا وصفه، ثم ينبسط فيحدثني بحديث جواريه وما عمل في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالها؛ فدخلت عليه في غداة يوم، فسلمت فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابسًا مفكرًا مهمومًا، فوقفت بين يديه مليًا من النهار، وهو على تلك الحال؛ فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: يا سيدي، جعلني الله فداك! ما حالك هكذا، أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب فذاك ما لا يدفع ولا حيلة فيه إلا التسليم والغم، لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك، فلم تخل الملوك منذلك؛ وأنا أولى من أفضيت إليه بالخبر، وتروحت إليه بالمشورة. فقال: ويحك يا جبريل! ليس غمي وكربي لشيء مما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه، وقد أفزعتني وملأت صدري، وأقرحت قلبي، قلت: فرجت عني يا أمير المؤمنين؛ فدنوت منه، فقبلت رجله، وقلت: أهذا الغم كله لرؤيا! الرؤيا إنما تكون من مخاطر أو بخارات رديئة أو من تهاويل السوداء؛ وإنما هي أضغاث أحلام بعد هذا كله. قال: فأقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، لا أفهم اسم صاحبها، وفي الكهف تربة حمراء، فقال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها، فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: بطوس. وغابت اليد وانقطع الكلام، وانتهت. فقلت: يا سيدي، هذه والله رؤيا بعيدة ملتبسة، أحسبك أخذت مضجعك، ففكرت في خراسان وحروبها وما قد ورد عليك من انتفاض بعضها. قال: قد كان ذاك، قال: قلت: فلذلك الفكر خالطك في منامك ما خالطك، فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها جعلني الله فداك! وأتبع هذا الغم سرورًا، يخرجه من قلبك لا يولد علة. قال:
    فما برحت أطيب نفسه بضروب من الحيل، حتى سلا وانبسط، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في ذلك اليوم في لهوه. ومرت الأيام فنسي، ونسينا تلك الرؤيا، فما خطرت لأحد منا ببال، ثم قدر مسيره إلى خراسان حين خرج رافع، فلما صار في بعض الطريق، ابتدأت به العلة فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس، فنزلنا في منزل الجنيد بن عبد الرحمن في ضيعة له تعرف بسناباذ، فبينا هو يمرض في بستان له في ذلك القصر إذ ذكر تلك الرؤيا، فوثب متحاملًا يقوم ويسقط؛ فاجتمعنا إليه؛ كل يقول: يا سيدي ما حالك؟ وما دهاك؟ فقال: يا جبريل، تذكر بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور، فقال: جئني من تربة هذا البستان، فمضى مسرور، فأتى بالتربة في كفه حاسرًا عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه والله الكف بعينها، وهذه والله التربة الحمراء ما خرمت شيئًا؛ وأقبل على البكاء والنحيب. ثم مات بها والله بعد ثلاثة ودفن في ذلك البستان.
    وذكر بعضهم أن جبريل بن بختيشوع كان غلط على الرشيد في علته في علاج عالجه به، كان سبب منيته؛ فكان الرشبد هم ليلة مات بقتله، وأن يفصله كما فصل أخا رافع، ودعا بجبريل ليفعل ذلك به، فقال له جبريل: أنظرني إلى غد يا أمير المؤمنين، فإنك ستصبح في عافية. فمات في ذلك اليوم.
    وذكر الحسن بن علي الربعي أن أباه حدثه عن أبيه - وكان جمالًا معه مائة جمل، قال: هو حمل الرشيد إلى طوس - قال: قال الرشيد احفروا لي قبرًا قبل أن أموت، فحفروا له، قال: فحملته في قبة أقود به؛ حتى نظر إليه. قال، فقال: يابن آدم تصير إلى هذا! وذكر بعضهم أنه لما اشتدت به العلة أمر بقبره فحفر في موضع الدار التي كان فيها نازلًا، بموضع يسمى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم الطائي، فلما فرغ من حفر القبر، أنزل فيه قومًا فقرءوا فيه القرآن حتى ختموا، وهو في محفة على شفير القبر.
    وذكر محمد بن زياد بن محمد بن حاتم بن عبد الله بن أبي بكرة، أن سهل بن صاعد حدثه، قال: كنت عند الرشيد في بيته الذي قبض فيه، وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة فاحتبى بها، وجعل يقاسي ما يقاسي؛ فنهضت فقال لي: اقعد يا سهل، فقعدت وطال جلوسي لا يكلمني ولا أكلمه، والملحفة تنحل فيعيد الاحتباء بها، فلما طال ذلك نهضت، فقال لي: إلى أين يا سهل؟ قلت يا أمير المؤمنين ما يسع قلبي أن أرى أمير المؤمنين يعاني من العلة ما يعاني؛ فلو اضطجعت يا أمير المؤمنين كان أروح لك، ثم قال: يا سهل إني أذكر في هذه الحال قول الشاعر:
    وإني من قوم كرام يزيدهم ** شماسًا وصبرًا شدة الحدثان
    وذكر عن مسرور الكبير، قال: لما حضرت الرشيد الوفاة، وأحس بالموت أمرني أن أنشر الوشي فآتيه بأجود ثوب أقدر عليه وأغلاه قيمة، فلم أجد ذلك في ثوب واحد، ووجدت ثوبين أغلى شيء قيمة، وجدتهما متقاربين في أثمانهما، إلا أن أحدهما أغلى من الآخر شيئًا، وأحدهما أحمر والآخر أخضر، فجئته بهما، فنظر إليهما وخبرته قيمتهما، فقال: اجعل أحسنهما كفني، ورد الآخر إلى موضعه.
    وتوفي - فيما ذكر - في موضع يدعى المثقب، في دار حميد بن أبي غانم، نصف الليل؛ ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة من هذه السنة، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع وإسماعيل بن صبيح، ومن خدمه مسرور وحسين ورشيد.
    وكانت خلافته ثلاثًا وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومًا. أولها ليلة الجمعة لأربع عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وآخرها ليلة السبت لثلاث ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
    وقال هشام بن محمد: استخلف أبو جعفر الرشيد هارون بن محمد ليلة الجمعة لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وهو يومئذ ابن اثنتين وعشرين سنة، وتوفي ليلة الأحد غرة جمادى الأولى وهو ابن خمس وأربعين سنة سنة ثلاث وتسعين ومائة، فملك ثلاثًا وعشرين سنة وشهرًا وستة عشر يومًا.
    وقيل: كان سنه يوم توفي سبعًا وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، أولها لثلاث بقين من ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة، وآخرها يومان مضيا من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.
    وكان جميلًا وسيمًا أبيض جعدًا، وقد وخطه الشيب.
    ذكر ولاة الأمصار في أيام هارون الرشيد

    ولاة المدينة: إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك بن صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب الزبيري، بكار بن عبد الله بن مصعب، أبو البختري وهب بن وهب.
    ولاة مكة: العباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس؛ محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، أحمد بن إسماعيل بن علي، الفضل بن العباس بن محمد.
    ولاة الكوفة: موسى بن عيسى، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، جعفر بن جعفر بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى.
    ولاة البصرة: محمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد؛ جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين؛ إسحاق بن عيسى بن علي.
    ولاة خراسان: أبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاء، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة ابن مالك، الفضل بن يحيى، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى خليفته بها، علي بن الحسن بن قحطبة، علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين.


  • #39
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ذكر بعض سير الرشيد

    ذكر العباس بن محمد عن أبيه، عن العباس، قال: كان الرشيد يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا؛ إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة والكسوة الباهرة، وكان يقتفي آثار المنصور، ويطلب العمل بها إلا في بذل المال؛ فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، ثم المأمون من بعده. وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في أول ما يجب ثوابه. وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شيء لانتيجة له، وبالحري ألا يكون فيه ثواب، وكان يحب؛ ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي.
    وذكر ابن أبي حفصة أن مروان بن أبي حفصة دخل عليه في سنة إحدى وثمانين ومائة يوم الأحد لثلاث خلون من شهر رمضان، فأنشده شعره الذي يقول فيه:
    وسدت بهارون الثغور فأحكمت ** به من أمور المسلمين المرائر
    وما انفك معقودًا بنصر لواؤه ** له عسكر عنه تشظى العساكر
    وكل ملوك الروم أعطاه جزية ** على الرغم قسرًا عن يد وهو صاغر
    لقد ترك الصفصاف هارون صفصفا ** كأن لم يدمنه من الناس حاضر
    أناخ على الصفصاف حتى استباحه ** فكابره فيها ألج مكابر
    إلى وجهه تسمو العيون وما سمت ** إلى مثل هارون العيون النواظر
    ترى حوله الأملاك من آل هاشم ** كما حفت البدر النجوم الزواهر
    يسوق يديه من قريش كرامها ** وكلتاهما بحر على الناس زاخر
    إذا فقد الناس الغمام تتابعت ** عليهم بكفيك الغيوم المواطر
    على ثقة ألقت إليك أمورها ** قريش، كما ألقى عصاه المسافر
    أمور بميراث النبي وليتها ** فأنت لها بالحزم طاوٍ وناشر
    إليكم تناهت فاستقرت وإنما ** إلى أهله صارت بهن المصاير
    خلفت لنا المهدي في العدل والندى ** فلا العرف منزور ولا الحكم جائر
    وأبناء عباس نجوم مضيئة ** إذا غاب نجم لاح آخر زاهر
    علي بني ساقي الحجيج تتابعت ** أوائل من معروفكم وأواخر
    فأصبحت قد أيقنت أن لست بالغًا ** مدى شكر نعماكم وإني لشاكر
    وما الناس إلا وارد لحياضكم ** وذو نهل بالري عنهن صادر
    حصون بني العباس في كل مأزق ** صدور العوالي والسيوف البواتر
    فطورًا يهزون القواطع والقنا ** وطورًا بأيديهم تهز المخاصر
    بأيدي عظام النفع والضر لا تني ** بهم للعطايا والمنايا بوادر
    ليهنكم الملك الذي أصبحت بكم ** أسرته مختالةً والمنابر
    أبوك ولي المصطفى دون هاشمٍ ** وإن رغمت من حاسديك المناخر
    فأعطاه خمسة آلاف دينار، فقبضها بين يديه وكساه خلعته، وأمر له بعشرة من رقيق الروم، وحمله على برذون من خاص مراكبه.
    وذكر أنه كان مع الرشيد ابن أبي مريم المدني، وكان مضاحكًا له محادثًا فكيهًا، فكان الرشيد لا يصبر عنه ولا يمل محادثته؛ وكان ممن قد جمع إلى ذلك المعرفة بأخبار أهل الحجاز وألقاب الأشراف ومكايد المجان، فبلغ من خاصته بالرشيد أن بوأه منزلًا في قصره، وخلطه بحرمه وبطانته ومواليه وغلمانه؛ فجاء ذات ليلة وهو نائم وقد طلع الفجر، وقام الرشيد إلى الصلاة فألفاه نائمًا، فكشف اللحاف عن ظهره، ثم قال له: كيف أصبحت؟ قال: يا هذا ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك، قال: ويلك! قم إلى الصلاة، قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف القاضي. فمضى وتركه نائمًا، وتأهب الرشيد للصلاة، فجاء غلامه فقال: أمير المؤمنين قد قام إلى الصلاة، فقام فألقى عليه ثيابه، ومضى نحوه، فإذا الرشيد يقرأ في صلاة الصبح، فانتهى إليه وهو يقرأ: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقال ابن أبي مريم: لا أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك في صلاته، ثم التفت إليه وهو كالمغضب، فقال: يابن أبي مريم، في الصلاة أيضًا! قال: يا هذا وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي، قال: والله ما فعلت؛ إنما سمعت منك كلامًا غمني حين قلت: " ومالي لا أعبد الذي فطرني " فقلت: لا أدري والله! فعاد فضحك، وقال: إياك والقرآن والدين، ولك ما شئت بعدهما.
    وذكر بعض خدم الرشيد أن العباس بن محمد أهدى غاليةً إلى الرشيد، فدخل عليه وقد حملها معه، فقال: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! قد جئتك بغالية ليس لأحد مثلها، أما مسكها فمن سرر الكلاب التبتية العتيقة، وأما عنبرها فمن عنبر بحر عدن، وأما بانها فمن فلان المدني المعروف بجودة عمله، وأما مركبها فإنسان بالبصرة عالم بتأليفها، حاذق بتركيبها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يمن علي بقبولها فعل، فقال الرشيد لخاقان الخادم وهو على رأسه: يا خاقان، أدخل هذه الغالية؛ فأدخلها خاقان، فإذا هي في برنية عظيمة من فضة، وفيها ملعقة، فكشف عنها وابن أبي مريم حاضر، فقال: يا أمير المؤمنين، هبها لي، قال: خذها إليك. فاغتاظ العباس، وطار أسفًا، وقال: ويلك! عمدت إلى شيء منعته نفسي، وآثرت به سيدي فأخذته! فقال: أمه فاعلة إن دهن بها إلا استه! قال: فضحك الرشيد ثم وثب ابن أبي مريم، فألقى طرف قميصه على رأسه، وأدخل يده في البرنية، فجعل يخرج منها ما حملت يده، فيضعه في استه مرة وفي أرفاغه ومغابنه أخرى، ثم سود بها وجهه وأطرافه، حتى أتى على جميع جوارحه وقال لخاقان: أدخل إلي غلامي، فقال الرشيد وما يعقل مما هو فيه من الضحك، ادع غلامه، فدعاه، فقال له: اذهب بهذه الباقية، إلى فلانة، امرأته، فقل لها: ادهني بهذا حرك إلى أن انصرف فأنيكك. فأخذها الغلام ومضى، والرشيد يضحك، فذهب به الضحك. ثم أقبل على العباس فقال: والله أنت شيخ أحمق، تجيء إلى خليفة الله فتمدح عنده غالية! أما تعلم أن كل شيء تمطر السماء وكل شيء تخرج الأرض له، وكل شيء هو في الدنيا فملك يده، وتحت خاتمه وفي قبضته! وأعجب من هذا أنه قيل لملك الموت: انظر كل شيء يقول لك هذا فأنفذه، فمثل هذا تمدح عنده الغالية، ويخطب في ذكرها، كأنه بقال أو عطار أو تمار! قال: فضحك الرشيد حتى كاد ينقطع نفسه، ووصل ابن أبي مريم في ذلك اليوم بمائة ألف درهم.
    وذكر عن زيد بن حسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أراد الرشيد أن يشرب الدواء يومًا، فقال له ابن أبي مريم: هل لك أن تجعلني حاجبك غدًا عند أخذك الدواء؛ وكل شيء أكسبه فهو بيني وبينك؟ قال: أفعل، فبعث إلى الحاجب: الزم غدًا منزلك؛ فإني قد وليت ابن أبي مريم الحجابة. وبكر ابن أبي مريم، فوضع له الكرسي، وأخذ الرشيد دواءه، وبلغ الخبر بطانته، فجاء رسول أم جعفر يسأل عن أمير المؤمنين وعن دوائه، فأوصله إليه، وتعرف حاله وانصرف بالجواب، وقال للرسول: أعلم السيدة ما فعلت في الإذن لك قبل الناس؛ فأعلمها، فبعثت إليه بمال كثير، ثم جاء رسول يحيى بن خالد، ففعل به مثل ذلك، ثم جاء رسول جعفر والفضل، ففعل كذلك، فبعث إليه كل واحد من البرامكة بصلة جزيلة، ثم جاء رسول الفضل بن الربيع فرده ولم يأذن له، وجاءت رسل القواد والعظماء؛ فما أحد سهل إذنه إلا بعث إليه بصلة جزيلة؛ فما صار العصر حتى صار إليه ستون ألف دينار، فلما خرج الرشيد من العلة، ونقي بدنه من الدواء دعاه، فقال له: ما صنعت في يومك هذا؟ قال: يا سيدي، كسبت ستين ألف دينار، فاستكثرها وقال: وأين حاصلي؟ قال: معزول، قال: قد سوغناك حاصلنا؛ فأهد إلينا عشرة آلاف تفاحة، ففعل، فكان أربح من تاجره الرشيد.
    وذكر عن إسماعيل بن صبيح، قال: دخلت على الرشيد، فإذا جارية على رأسه، وفي يدها صحيفة وملعقة في يدها الأخرى، وهي نلعقه أولًا فأولًا، قال: فنظرت إلى شيء أبيض رقيق فلم أدر ما هو! قال: وعلم أني أحب أن أعرفه، فقال: يا إسماعيل بن صبيح، قلت: لبيك يا سيدي، قال: تدري ما هذا؟ قلت: لا، قال: هذا حشيش الأرز والحنطة وماء نخالة السميد؛ وهو نافع لأطراف المعوجة وتشنيج الأعصاب ويصفى البشرة، ويذهب بالكلف، ويسمن البدن، ويجلو الأوساخ. قال: فلم تكن لي همة حين انصرفت إلا أن دعوت الطباخ؛ فقلت: بكر على كل غداة بالحشيش، قال: وما هو؟ فوصفت له الصفة التي سمعتها. قال: تضجر من هذا في اليوم الثالث، فعماه في اليوم الأول فاستطبته، وعمله في اليوم الثاني فصار دونه، وجاء به في اليوم الثالث، فقلت: لا تقدمه. وذكرت أن الرشيد اعتل علة، فعالجه الأطباء، فلم يجد من علته إفاقة، فقال له أبو العجمي: بالهند طبيب يقال له منكة؛ رأيتهم يقدمونه على كل من بالهند؛ وهو أحد عبادهم وفلاسفتهم، فلو بعث إليه أمير المؤمنين لعل الله أن يبعث له الشفاء على يده! قال: فوجه الرشيد من حمله، ووجه إليه بصلة تعينه على سفره. قال: فقدم فعالج الرشيد فبرىء من علته بعلاجه، فأجرى له رزقًا واسعًا وأموالًا كافية، فبينما منكه مارًا بالخلد؛ إذا هو برجلمن المانيين قد بسط كساءه، وألقي عليه عقاقير كثيرة، وقام يصف دواء عنده معجونًا، فقال في صفته: هذا دواء للحمى الدائمة وحمى الغب وحمى الربع، والمثلثة؛ ولوجع الظهر والركبتين والبواسير والرياح، ولوجع المفاصل ووجع العينين، ولوجع البطن والصداع والشقيقة ولتقطير البول والفالج والارتعاش؛ فلم يدع علة في البدن إلا ذكر أن الدواء شفاء منها، فقال منكه لترجمانه: ما يقول هذا؟ فترجم له ما سمع، فتبسم منكه، وقال: على كل حال ملك العرب جاهل؛ وذاك أنه كان الأمر على ما قال هذا، فلم حملني من بلادي، وقطعني عن أهلي، وتكلف الغيظ من مؤنتي، وهو يجد هذا نصب عينيه وبإزائه! وإن كان الأمر ليس كما يقول هذا فلم لا يقتله! فإن الشريعة قد أباحت دمه ودم من أشبهه؛ لأنه إن قتل، فإنما هي نفس يحيا بقتلها خلق كثير؛ وإن ترك هذا الجاهل قتل في كل يوم نفسًا، وبالحري أن يقتل اثنين وثلاثًا وأربعًا ففي كل يوم؛ وهذا فساد في التدبير، ووهن في المملكة.
    وذكر أن يحيى بن خالد بن برمك ولى رجلأ بعض أعمال الخراج بالسواد، فدخل إلى الرشيد يودعه؛ وعنده يحيى وجعفر بن يحي، فقال الرشيد ليحي وجعفر: أوصياه، فقال له يحي: وفر واعمر، وقال له جعفر: أنصف وانتصف، فقال الرشيد: اعدل وأحسن.
    وذكر عن الرشيد أنه غضب على يزيد بن مزيد الشيباني، ثم رضي عنه، وأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ الحمد لله الذي سهل لنا سبيل الكرامة، وحل لنا النعمة بوجه لقائك، وكشف عنا صبابة الكرب بإفضالك، فجزاك الله في حال سخطك رضا المنيبين، وفي حال جزاء المنعمين الممتنين المتطولين؛ فقد جعلك الله وله الحمد، تتثبت تحرجًا عند الغضب، وتتطول ممتنًا بالنعم، وتعفو عن المسيء تفضلًا بالعفو.
    وذكر مصعب بن عبد الله بن مصعب أخبره أن الرشيد قال له: ما تقول في الذين طعنوا على عثمان؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين، طعن عليه ناس؛ وكان معه ناس؛ فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه؛ فهم أنواع الشيع، وأهل البدع، وأنواع الخوارج؛ وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة إلى اليوم. فقال لي: ما أحتاج أن أسأل بعد هذا اليوم عن هذا.
    قال مصعب: وقال أبي - وسألني عن منزلة أبي بكر وعمر كانت من رسول الله ؛ فقلت له: كانت منزلتهما في حياته منه منزلتهما في مماته، فقال: كيفتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، كفيتني ما أحتاج إليه. قال: وولى سلام، أو رشيد الخادم - بعض خدام الخاصة - ضياع الرشيد بالثغور والشأمات، فتواترت الكتب بحسن سيرته وتوفيره وحمد الناس له، فأمر الرشيد بتقديمه والإحسان إليه، وضم ما أحب أن يضم إليه من ضياع الجزيرة ومصر. قال: فقدم فدخل عليه وهو يأكل سفرجلًا قد أتى به من بلخ؛ وهو يقشره ويأكل منه، فقال له: يا فلان، ما أحسن ما انتهى إلى مولاك عنك، ولك عنده ما تحب، وقد أمرت لك بكذا وكذا، ووليتك كذا وكذا، فسل حاجتك، قال: فتكلم وذكر حسن سيرته، وقال: أنسيتم والله يا أمير المؤمنين سيرة العمرين. قال: فغضب واستشاط، وأخذ سفرجلة فرماه بها، وقال: يابن اللخناء، العمرين، العمرين، العمرين! هبنا احتملناها لعمر بن عبد العزيز، نحتملها لعمر ابن الخطاب! وذكر عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز حدثه، عن الضحاك بن عبد الله، وأثنى عليه خيرًا؛ قال: أخبرني بعض ولد عبد الله بن عبد العزيز، قال: قال الرشيد: والله ما أدري ما آمر في هذا العمري! أكره أن أقدم عليه وله خلف أكرههم؛ وإني لأحب أن أعرف طريقه ومذهبه، وما أثق بأحد أبعثه إليه، فقال عمر بن بزيع والفضل بن الربيع: فنحن يا أمير المؤمنين، قال: فأنتما، فخرجا من العرج إلى موضع من البادية يقال له خلص، وأخذا معهما أدلاء من أهل العرج؛ حتى إذا وردا عليه في منزله أتياه مع الضحى؛ فإذا هو في المسجد، فأناخا راحلتيهما ومن كان من أصحابهما، ثم أتياه على زي الملوك من الريح والثياب والطيب؛ فجلسا إليه وهو في مسجد له، فقالا له: يا أبا عبد الرحمن، نحن رسل من خلفنا من أهل المشرق، يقولون لك: اتق الله ربك؛ فإذا شئت فقم. فأقبل عليهما، وقال: ويحكما! فيمن ولمن! قالا: أنت، فقال: والله ما أحب أني لقيت الله بمحجمة دم امرئ مسلم، وأن لي ما طلعت عليه الشمس؛ فلما أيسا منه قالا: فإن معنا شيئًا تستعين به على دهرك، قال: لا حاجة لي فيه، أنا عنه غني، فقالا له: إنها عشرون ألف دينار، قال: لا حاجة لي فيها، قالا: فأعطها من شئت، قال: أنتما، فأعطياها من رأيتما، ما أنا بخادم ولا عون. قال: فلما يئسا منه ركبا راحلتيهما حتى أصبحا مع الخليفة بالسقيا في المنزل الثاني، فوجدا الخليفة ينتظرهما؛ فلما دخلا عليه حدثاه بما كان بينهما وبينه، فقال: ما أبالي ما أصنع بعد هذا. فحج عبد الله في تلك السنة، فبينا هو واقف على بعض أولئك الياعة يشتري لصبيانه؛ إذا هارون يسعى بين الصفا والمروة على دابة، إذ عرض له عبد الله وترك ما يريد، فأتاه حتى أخذ بلجام دابته، فأهوت إليه الأجناد والأحراس، فكفهم عنه هارون فكلمه. قال: فرأيت دموع هارون؛ وإنها لتسيل على معرفة دابته، ثم انصرف.
    http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg

    مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني



  • #40
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وذكر محمد بن أحمد مولى بني سليم قال: حدثني الليث بن عبد العزيز الجوزجاني - وكان مجاورًا بمكة أربعين سنة - أن بعض الحجبة حدثه أن الرشيد لما حج دخل الكعبة، وقال على أصابعه، وقال:
    يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسألة منك ردًا حاضرًا، وجوابًا عتيدًا، ولكل صامت منك علم محيط ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة؛ ورحمتك الواسعة. صل على محمد وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا. يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايا. يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه الأسماء، صل على محمد، وخر لي في جميع أمري. يا من خشعت له الأصوات بألوان اللغات يسألونك الحاجات؛ إن حاجتي إليك أن تغفر لي إذا توفيتني، وصرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي. اللهم لك الحمد حمدًا يفضل على كل حمد كفضلك على جميع الخلق. اللهم صل على محمد صلاة تكون له رضًا، وصل على محمد صلاة تكون له حرزًا، واجزه عنا خير الجزاء في الآخرة والأولى. اللهم أحينا سعداء وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين ولا تجعلنا أشقياء محرومين! وذكر علي بن محمد عن عبد الله، قال: أخبرني القاسم بن يحيى، قال: بعث الرشيد إلى أبي داود والذين يخدمون قبر الحسين بن علي الحير، فأتى بهم، فنظر إليه الحسن بن راشد، وقال: ما لك؟ قال: بعث إلي هذا الرجل - يعني الرشيد - فأحضرني، ولست آمنة على نفسي، قال له: فإذا دخلت عليه فسألك، فقل له: الحسن بن راشد وضعني في ذلك الموضع. فلما دخل عليه قال هذا القول، قال: ما أخلق أن يكون هذا من تخليط الحسن! أحضروه، قال: فلما حضر قال: ما حملك على أن صيرت هذا الرجل في الحير؟ قال: رحم الله من صيره في الحير، أمرتني أم موسى أن أصيره فيه، وأن أجري عليه كل شهر ثلاثين درهمًا فقال: ردوه إلى الحير، وأجروا عليه ما أجرته أم موسى - وأم موسى هي أم المهدي ابنة يزيد بن منصور.
    وذكر علي بن محمد أن أباه حدثه قال: دخلت على الرشيد في دار عون العبادي فإذا هو في هيئة الصيف، وفي بيت مكشوف؛ وليس فيه فرش على مقعد عند باب في الشق الأيمن من البيت، وعليه غلالة رقيقة، وإزار رشيدي عريض الأعلام، شديد التضريج؛ وكان لا يخيش البيت الذي هو فيه؛ لأنه كان يؤذيه؛ ولكنه كان يدخل عليه برد الخيش؛ ولا يجلس فيه. وكان أول من اتخذ في بيت مقيله في الصيف سقفًا دون سقف؛ وذلك أنه لما بلغه أن الأكاسرة كانوا يطينون ظهور بيوتهم في كل يوم من خارج ليكف عنهم حر الشمس؛ فاتخذ هو سقفًا يلي سقف البيت الذي يقيل فيه.
    وقال علي عن أبيه: خبرت أنه كان في كل يوم القيظ تغار من فضة يعمل فيه العطار الطيب والزعفران والأفاوية وماء الورد، ثم يدخل إلى بيت مقيله، ويدخل معه سبع غلائل قصب رشيدية تقطيع النساء، ثم تغمس الغلال في ذلك الطيب، ويؤتى في كل يوم بسبع جوار، فتخلع عن كل جارية ثيابها عليها غلالة، وتجلس على كرسي مثقب، وترسل الغلالة على الكرسي فتجلله، ثم تبخر من تحت الكرسي بالعود المدرج في العنبر أمدًا حتى يجف القميص عليها، يفعل ذلك بهن، ويكون ذلك في بيت مقبله، فيعبق ذلك البيت بالبخور والطيب.
    وذكر علي بن حمزة أن عبد الله بن عباس بن الحسن بن عبيد الله بن علي بن أبي طالب قال: قال لي العباس بن الحسن: قال لي الرشيد: أراك تكثر من ذكر ينبع وصفتها، فصفها لي وأوجز، قال: قلت: بكلام أو بشعر؟ قال: بكلام وشعر، قال: قلت: جدتها في أصل عذقها، وعذقها مسرح شأنها، قال: فتبسم، فقلت له:
    يا وادي القصر نعم القصر والوادي ** من منزل حاضر إن شئت أو بادي
    ترى قراقيره والعيس واقفةً ** والضب والنون والملاح والحادي
    وذكر محمد بن هارون، عن أبيه، قال: حضرت الرشيد، وقال له الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين، قد أحضرت ابن السماك كما أمرتني، قال: أدخله، فدخل، فقال له: عظني، قال: يا أمير المؤمنين، اتق الله وحده لا شريك له، واعلم أنك واقف غدًا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما؛ جنة أو نار. قال: فبكى هارون حتى اخضلت لحيته، فأقبل الفضل على ابن السماك، فقال: سبحان الله! وهل يتخالج أحد شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله! لقيامه بحق الله وعدله في عباده، وفضله! قال: فلم يحفل بذلك ابن السماك من قوله، ولم يلتفت إليه، وأقبل على أمير المؤمنين، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله وانظر لنفسك. قال: فبكى هارون حتى أشفقنا عليه. وأفحم الفضل بن الربيع فلم ينطق بحرف حتى خرجنا.
    قال: ودخل ابن السماك على الرشيد يومًا؛ فبينا هو عنده إذ استسقى ماء، فأتى بقلة ماء؛ فلما أهوى بها إلى فيه ليشربها، قال ابن السماك: على رسلك يا أمير المؤمنين؛ بقرابتك من رسول الله ، لو منعت هذه الشربة فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله؛ فلما شربها، قال له: أسألك بقرابتك من رسول الله ، لو منعت خروجها من بدنك، فبماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي؛ قال ابن السماك: إن ملكًا قيمته شربة ماء، لجدير ألا ينافس فيه. فبكى هارون؛ فأشار الفضل بن الربيع إلى السماك بالانصراف فانصرف.
    قال: ووعظ الرشيد عبد الله بن عبد العزيز العمري، فتلقى قوله بنعم يا عم، فلما ولى لينصرف؛ بعث إليه بألفي دينار في كيس مع الأمين والمأمون فاعترضاه بها، وقالا: يا عم؛ يقول لك أمير المؤمنين: خذها وانتفع بها أو فرقها، فقال: هو أعلم بمن يفرقها عليه، ثم اخذ من الكيس دينارًا، وقال: كرهت أن اجمع سوء القول وسوء الفعل. وشخص إليه إلى بغداد بعد ذلك، فكره الرشيد مصيره إلى بغداد، وجمع العمريين، فقال: مالي ولابن عمتكم! احتملته بالحجاز، فشخص إلى دار مملكتي؛ يريد أن يفسد علي أوليائي! ردوه عني، فقالوا: لا يقبل منا؛ فكتب إلى موسى بن عيسى أن يرفق به حتى يرده، فدعا له عيسى ببني عشر سنين، قد حفظ الخطب والمواعظ، فكلمه كلامًا كثيرًا، ووعظه بما لم يسمع العمري بمثله، ونهاه عن التعرض لأمير المؤمنين. فأخذ نعله، وقام وهو يقول: " فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير ".
    وذكر بعضهم أنه كان مع الرشيد بالرقة بعد أن شخص من بغداد، فخرج يومًا مع الرشيد إلى الصيد، فعرض له رجل من النساك، فقال: يا هارون، اتق الله، فقال لإبراهيم بن عثمان بن نهيك: خذ هذا الرجل إليك حتى انصرف، فلما رجع دعا بغدائه، ثم أمر أن يطعم الرجل من خاص طعامه، فلما أكل وشرب دعا به، فقال: يا هذا، أنصفني في المخاطبة والمسألة، قال: ذاك أقل ما يجب لك، قال: فأخبرني: أنا شر وأخبث أم فرعون؟ قال: بل فرعون، قال: " أنا ربكم الأعلى " وقال: " ما علمت لكم من إله غيري "، قال: صدقت؛ فأخبرني فمن خير؟ أنت أم موسى بن عمران؟ قال: موسى كليم الله وصفيه، اصطنعه لنفسه، وأتمنه على وحيه، وكلمه من بين خلقه، قال: صدقت؛ أفما تعلم أنه لما بعثه وأخاه إلى فرعون قال لهما: " فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى "، ذكر المفسرون أنه أمرهما أن يكنياه؛ وهذا وهو في عتوه وجبريته؛ على ما قد علمت، وأنت جئتني وأنا بهذه الحالة التي تعلم، أؤدي أكثر فرائض الله علي، ولا أعبد أحدًا سواه، أقف عند أكبر حدوده وأمره ونهيه؛ فوعظتني بأغلظ الألفاظ وأشنعها وأخشن الكلام وأفظعه؛ فلا بأدب الله تأدبت، ولا بأخلاق الصالحين أخذت، فما كان يؤمنك أن أسطو بك! فإذا أنت قد عرضت نفسك لما كنت عنه غنيًا. قال الزاهد: أخطأت يا أمير المؤمنين؛ وأنا أستغفرك؛ قال: قد غفر لك الله؛ وأمر له بعشرين ألف درهم، فأبى أن يأخذها، وقال: لا حاجة لي في المال؛ أنا رجل سائح. فقال هرثمة - وخزره: أترد على أمير المؤمنين يا جاهل صلته! فقال الرشيد: أمسك عنه، ثم قال له: لم نعطك هذا المال لحاجتك إليه؛ ولكن من عادتنا أنه لا يخاطب الخليفة أحد ليس من أوليائه ولا أعدائه إلا وصله ومنحه؛ فاقبل من صلتنا ما شئت؛ وضعها حيث أحببت. فأخذ من المال ألفي درهم، وفرقها على الحجاب ومن حضر الباب.
    ذكر من كان عند الرشيد من النساء والمهائر

    قيل: إنه تزوج زبيدة؛ وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها في سنة خمس وستين ومائة في خلافة المهدي ببغداد، في دار محمد بن سليمان - التي صارت بعد للعباسة، ثم صارت للمعتصم بالله - فولدت له محمدًا الأمين، وماتت ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين.
    وتزوج أمة العزيز أم ولد موسى، فولدت له علي بن الرشيد.
    وتزوج أم محمد ابنة صالح المسكين، وأعرس بها بالرقة في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، وأمها أم عبد الله ابنة عيسى بن علي صاحبة دار أم عبد الله بالكرخ التي فيها أصحاب الدبس؛ كانت أملكت من إبراهيم بن المهدي، ثم خلعت منه فتزوجها الرشيد.
    وتزوج العباسة ابنة سليمان بن أبي جعفر، وأعرس بها في ذي الحجة سنة سبع وثمانين ومائة، حملت هي وأم محمد ابنة صالح إليه.
    وتزوج عزيزة ابنة الغطريف؛ وكانت قبله عند سليمان بن أبي جعفر، فطلقها، فخلف عليها الرشيد، وهي ابنة أخي الخيزران.
    وتزوج الجرشية العثمانية، وهي ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وسميت الجرشية لأنها ولدت بجرش باليمن، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، وعم أبيها عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
    ومات الرشيد عن أربع مهائر: أم جعفر، وأم محمد ابنة صالح، وعباسة ابنة سليمان، والعثمانية.
    ذكر ولد الرشيد

    وولد للرشيد من الرجال: محمد الأكبر وأمه زبيدة، وعبد الله المأمون وأمه أم ولد يقال لها مراجل، والقاسم المؤتمن وأمه أم ولد يقال لها قصف، ومحمد أبو إسحاق المعتصم وأمه أم ولد يقال لها ماردة، وعلي وأمه أمة العزيز، وصالح وأمه أم ولد يقال لها رثم، ومحمد أبو عيسى وأمه أم ولد يقال لها عرابة، ومحمد أبو يعقوب وأمه أم ولد يقال لها خبث ومحمد أبو سليمان وأمه أم ولد يقال لها رواح، ومحمد أبو علي وأمه أم ولد يقال لها دواج، ومحمد أبو أحد وأمه أم ولد يقال لها كتمان.
    ومن النساء: سكينة وأمها قصف وهي أخت القاسم، وأم حبيب وأمها ماردة وهي أخت أبي إسحاق المعتصم، وأروى أمها حلوب، وأم الحسن وأمها عرابة، وأم محمد وهي حمدونة، وفاطمة وأمها غصص واسمها مصفى، وأم أبيها وأمها سكر، وأم سلمة وأمها رحيق، وخديجة وأمها شجر، وهي أخت كريب، وأم القاسم وأمها خزق، ورملة أم جعفر وأمها حلى، وأم علي وأمها أنيق، وأم الغالية أمها سمندل، وريطة وأمها زينة.
    بقية ذكر بعض سير الرشيد

    ذكر يعقوب بن إسحاق الأصفهاني، قال: قال المفضل بن محمد الضبي: وجه الرشيد؛ فما علمت إلا وقد جاءتني الرسل ليلًا، فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فخرجت حتى صرت إليه؛ وذلك في يوم خميس؛ وإذا هو متكئ ومحمد بن زبيدة عن يساره، والمأمون عن يمينه؛ فسلمت، فأومأ إلي فجلست، فقال لي: يا مفضل، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كم إسمًا في: " فسيكفيكهم "؟ قلت: ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين، قال: وما هي؟ قلت: الكاف لرسول الله ، والهاء والميم، وهي للكفار، والياء وهي لله عز وجل. قال: صدقت؛ هكذا أفادنا هذا الشيخ - يعني الكسائي - ثم التفت إلى محمد، فقال له: أفهمت يا محمد؟ قال: نعم، قال: أعد علي المسألة كما قال المفضل، فأعادها، ثم التفت إلي فقال: يا مفضل، عندك مسألة تسألنا عنها بحضرة هذا الشيخ؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال وما هي؟ قلت: قول الفرزدق:
    أخذنا بآفاق السماء عليكم ** لنا قمراها والنجوم الطوالع
    قال: هيهات أفادناها متقدمًا قبلك هذا الشيخ؛ لنا قمراها، يعني الشمس والقمر كما قالوا سنة العمرين: سنة أبي بكر وعمر، قال: قلت: فأزيد في السؤال؟ قال: زد، قلت: فلم استحسنوا هذا؟ قال: لأنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه وسموا به الآخر؛ فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر وفتوحه أكثر، واسمه أخف غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، قال الله عز وجل: " بعد المشرقين " وهو المشرق والمغرب. قلت: قد بقيت زيادة في المسألة! فالتفت إلى الكسائي فقال: يقال في هذا غير ما قلنا؟ قال: هذا أوفى ما قالوا، وتمام المعنى عند العرب. قال: ثم التفت إلي فقال: ما الذي بقي؟ قلت: بقيت الغاية التي إليها أجرى الشاعر المفتخر في شعره، قال: وما هي؟ قلت: أراد بالشمس إبراهيم، وبالقمر محمدًا ، وبالنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين. قال: فاشرأب أمير المؤمنين؛ وقال: يا فضل بن الربيع؛ احمل إليه مائة ألف درهم لقضاء دينه، وانظر من بالباب من الشعراء فيؤذن لهم، فإذا العماني ومنصور النمري، فأذن لهما، فقال:
    أذن مني الشيخ، فدنا منه وهو يقول:
    قل للإمام المقتدي بأمه ** ما قاسم دون مدى ابن أمه
    فقد رضيناه فقم فسمه
    فقال الرشيد: ما ترضى أن تدعو إلى عقد البيعة له وأنا جالس حتى تنهضني قائمًا! قال: قيام عزم يا أمير المؤمنين، لا قيام حتم، فقال: يؤتى بالقاسم، فأتي به، وطبطب في أرجوزته، فقال الرشيد للقاسم: إن هذا الشيخ قد دعا إلى عقد البيعة لك، فأجزل له العطية، فقال: حكم أمير المؤمنين، قال: وما أنا وذاك! هات النمري، فدنا منه، وأنشده:
    ما تنقضي حسرة مني ولا جزع

  • صفحة 10 من 11 الأولىالأولى ... 891011 الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. تاريخ الرسل والملوك(الجزء السابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 80
      آخر مشاركة: 08-15-2010, 11:10 PM
    2. تاريخ الرسل والملوك(الجزء السادس)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 72
      آخر مشاركة: 08-14-2010, 11:05 PM
    3. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الخامس)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 107
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 09:12 PM
    4. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الرابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 49
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 05:26 PM
    5. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثاني)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 130
      آخر مشاركة: 07-25-2010, 03:00 AM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1