ما جرى على عمرة امرأة المختار
ثم إنّ مصعبا بعث إلى عمرة بنت النعمان بن بشير وهي امرأة المختار، فقال لها:
« ما تقولين في المختار؟ » فقالت:
« رحمه الله، كان عبدا من عباد الله الصالحين. » فرفعها مصعب إلى السجن، وكتب إلى أخيه عبد الله أنها تزعم أنه نبي. فكتب إليه أن اقتلها. فأخرجها بعد عتمة، وسلّمها إلى مطر، فضربها ثلاث ضربات بالسيف، فقالت:
« يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه! » فسمع بها أبان بن النعمان بن بشير، فلطمه وقال له:
« يا بن الزانية، قطعت نفسها قطع الله يمينك. » ولزمه مطر حتى رفعه إلى مصعب، فقال:
« إنّ أختى مسلمة. » وادّعى شهادة بنى قفل، فلم يشهد له أحد، فقال مصعب:
« خلّوا سبيله فإنّه رأى أمرا فظيعا. »
فقال عمر بن أبي ربيعة:
إنّ من أعجب العجائب عندي ** قتل بيضاء حرّة عطبول
قتلت هكذا على غير جرم ** إنّ الله درّها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى المحصنات جرّ الذّيول
حصار عبد الله بن خازم رجال بنى تميم بخراسان
وفي هذه السنة كان حصار عبد الله بن خازم من كان بخراسان من رجال بنى تميم بسبب من قتل منهم ابنه محمّدا. وذلك أنّ بنى تميم تفرّقوا بخراسان أيّام ابن خازم. فأتى قصرا يعرف بفرنبا عدّة من فرسان بنى تميم وأنجادهم مثل عثمان بن بشير، وشعبة بن ظهير النهشلي، وورد بن العلق، وزهير بن ذؤيب العدويّ، وجبهان بن مشجعة الضبي، ورقبة بن الحرّ، والحجّاج بن ناشب، فأتاهم ابن خازم فحصرهم، وخندق على نفسه خندقا حصينا لئلّا يبيّتوه، فكانوا يخرجون ويقاتلونه ثم يرجعون إلى القصر. فخرج ابن خازم يوما على تعبئة من خندقه في ستة آلاف، وخرج أهل القصر، فقال عثمان بن بشير:
« لا أظنّ لكم اليوم بهم طاقة، فانصرفوا. » فقال زهير بن ذؤيب العدوى: امرأته طالق إن يرجع حتى ينقض صفوفهم.
وكان إلى جنبهم نهر يدخله الماء في الشتاء، ولم يكن يومئذ فيه ماء، فاستبطنه زهير، فسار فيه ولم يشعر به أصحاب ابن خازم حتى حمل عليهم، فحطّم أولهم على آخرهم واستداروا وكرّ راجعا واتبعوه على جنبتي النهر يصيحون به ولا ينزل إليه أحد حتى انتهى إلى الموضع الذي انحدر منه، فخرج، وحمل عليهم، فأفرج له القوم حتى رجع.
فقال ابن خازم لأصحابه:
« إذا خرج إليكم زهير فطاعنتموه فاجعلوا في رماحكم كلاليب، فاعلقوها في أداته ودرعه. » فالتفت إليه ليحمل عليهم، فخلّوا رماحهم، فجاء يجرّ أربعة أرماح حتى دخل القصر، فأرسل ابن خازم إلى زهير:
« أرأيتك إن آمنتك وأعطيتك مائة ألف وجعلت لك باشان طعمة تناصحنى؟ » فقال زهير للرسول:
« ويحك! كيف أنا صح قوما قتلوا الأشعث بن ذؤيب؟ » فرجع الرسول فأسقط بها عند موسى بن عبد الله بن خازم. فلما أطال عليهم الحصار، أرسلوا إلى ابن خازم أن:
« خلّنا نخرج فنتفرّق. » فقال:
« لا، إلّا أن تنزلوا على حكمي. » قالوا:
« فإنّا ننزل على حكمك. » فقال لهم زهير:
« ثكلتكم أمّهاتكم، والله ليقتلنّكم عن آخركم، فإن طبتم بالموت نفسا فموتوا كراما، اخرجوا بنا جميعا، فإمّا أن تموتوا جميعا، وإما أن ينجو بعضكم ويهلك بعض. وأيم الله، لئن شددتم عليهم شدّة صادقة ليفرجنّ لكم عن مثل طريق البريد، فإن شئتم كنت أمامكم، وإن شئتم كنت خلفكم. » قال: فأبوا عليه، فقال:
« أما إني سأريكم. » ثم خرج هو ورقبة بن الحرّ ومع رقبة غلام له تركيّ، وشعبة بن ظهير، فحملوا على القوم، فأفرجوا لهم، فمضوا. فأما رقبة وغلامه وشعبة فمضوا على وجوههم، وأما زهير فرجع إلى أصحابه حتى دخل القصر، فقال لأصحابه:
« قد رأيتم، فأطيعونى. » فقالوا:
« إنّ فينا من يضعف عن هذا ويطمع في الحياة. » قال:
« أبعدكم الله، والله لا أكون أجزعكم من الموت. » ففتحوا القصر، ونزلوا على حكمه، فأرسل إليهم، فقيّدهم، ثم حملوا رجلا رجلا، فأراد أن يمنّ عليهم، فأبى ابنه موسى وقال:
« والله، لئن عفوت عنهم لأتّكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري. » فقال له عبد الله:
« أما والله، إني لأعلم أنّ الغيّ في ما يأمرنى به. » فقتلهم جميعا إلّا ثلاثة: الحجاج بن ناشب - كلّمه فيه رجال من بنى تميم كانوا معتزلين من عمرو، وحنظلة، وجبهان بن مسجعة، وهو الذي كان ألقى نفسه على ابنه محمد يوم قتل، فقال ابن خازم خلّوا عن هذا البغل الديرج، ورجل من بنى سعد، وهو الذي قال يوم لحقوا ابن خازم: انصرفوا عن فارس مضر.
فأما زهير بن ذؤيب، فأرادوا حمله مقيّدا، فأبى وأقبل يحجل في قيده حتى جلس بين يديه، فقال له ابن خازم:
« كيف شكرك إن أطلقتك وجعلت لك باشان طعمة؟ » قال:
« لو لم تصنع بي إلّا حقن دمى لشكرتك. » فقام ابنه موسى، فقال:
« تقتل الضبع وتترك الذيخ؟ تقتل اللبوءة وتترك الليث؟ » قال:
« ويحك! يقتل مثل زهير؟ من لقتال عدوّ المسلمين، من لنساء العرب؟ » قال:
« والله لو شركت في دم أخي لقتلتك. » فقام رجل من بنى سليم إلى ابن خازم، فقال:
« أذكّرك الله في زهير. » فقال له موسى:
« اتخذه فحلا لبناتك! » فغضب ابن خازم، وأمر بقتله. قال زهير:
« فإنّ لي حاجة: لا تخلط دمى بدماء هؤلاء اللئام، فقد نهيتهم عما صنعوا، وأمرتهم أن يموتوا كراما، وأن يخرجوا عليكم مصلتين السيوف، والله لو فعلوا لشغلوا بنيّك هذا بنفسه عن طلب الثأر بأخيه. » وأمر به فنحّى ناحية وقتل.
فما أشبه هذا الرأي برأى المختار حتى كأنّ أحدهما أخذ عن صاحبه، ولعلّ الوقتين كان واحدا، فإنّ الزمان متقارب.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
رجوع الأزارقة
وفي هذه الأيام التي شغل فيها الناس بعضهم ببعض، رجعت الأزارقة إلى قرب الكوفة، وذلك في سنة ثمان وستين.
وكان عبد الله بن الزبير ردّ أخاه مصعبا على العراق أميرا بعد أن كان عزله بابنه حمزة وظهر من ابنه حمزة خفّة فعزله. فلما ردّ مصعبا، بعث مصعب الحارث بن أبي ربيعة على الكوفة أميرا، وصار هو إلى البصرة، وكانت الأزارقة قد لحقت بفارس وكرمان ونواحي إصبهان بعد ما أوقع بهم المهلّب بالأهواز. فلما أشخص المهلّب إلى الموصل كان عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس، فانحطّت الأزارقة مع ابن الزبير بن الماحوز على عمر بن عبيد الله، فلقيهم، فقاتلهم قتالا شديدا، ثم ظفر بهم وانهزموا، وتبعهم عمر بن عبيد الله، وكتب بالفتح إلى مصعب، ولحقهم بإصطخر وقد ثبتوا له، فلقيهم وقاتلهم قتالا شديدا وقتل ابنه. ثم إنّه ظفر بهم وقطعوا قنطرة طمستان، وارتفعوا إلى إصبهان وكرمان، فأقاموا بها حتى اجتبروا، وقووا، واستعدّوا وكثروا.
ثم إنهم أقبلوا حتى مرّوا بفارس، وفيها عمر بن عبيد الله بن معمر، فقطعوا أرضه من غير الوجه الذي كان فيه أخذوا على سابور، ثم خرجوا على أرجان، فلما رأى عمر بن عبيد الله أنّ الخوارج قد قطعت أرضه موجّهة إلى البصرة خشي ألّا يحتملها له مصعب، فشمّر في آثارهم مسرعا حتى أتى أرجان، فوجدهم حين خرجوا موجّهين إلى الأهواز. وبلغ مصعبا إقبالهم، فخرج، فعسكر بالناس بالجسر الأكبر وقال:
« والله، ما أدري ما الذي أغنى عني أن وضعت عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس، وجعلت معه بها جندا أجرى عليهم أرزاقهم في كلّ شهر، وأوفّيهم أعطياتهم في كلّ سنة، وآمر لهم من المعاون كلّ سنة بمثل الأعطيات، قطع أرضه الخوارج إليّ، وقد أزحت علّته، وقد أمددته بالرجال، وقوّيتهم، والله، لو قاتلهم ثم فرّ لكان أعذر له عندي، وإن كان الفارّ غير مقبول العذر، ولا كريم الفعل. »
إقبال الخوارج وعليهم الزبير
وأقبلت الخوارج وعليهم الزبير بن الماحوز حتى نزلوا الأهواز. فأتتهم عيونهم أنّ عمر بن عبيد الله في أثرهم، وأنّ مصعبا قد خرج من البصرة.
فقام الزبير خطيبا وقال بعد حمد الله:
« أما بعد، فإنّ من سوء الرأي والحين وقوعكم بين هاتين الشوكتين، انهضوا بنا إلى عدوّنا، فلنلقهم من وجه واحد. » فسار بهم حتى قطع بهم الأرض إلى جوخى، ثم أخذ على النهر وانات، ثم لزم شاطئ دجلة حتى خرج على المدائن، فشنّ بها الغارات، وقتل الولدان والنساء والرجال، وبقربطون الحبالى. وانتهوا إلى ساباط، ففعلوا ذلك، وقتلوا نباتة بنت أبي يزيد بن عاصم الأزديّ، وكانت من أجمل نساء دهرها، وكانت قرأت القرآن، وهي أفصح امرأة، غشوها بالسيف، قالت:
« ويحكم هل سمعتم بأنّ الرجال كانوا يقتلون النساء؟ ويحكم، هل سمعتم بقتل امرأة؟ ويحكم أتقتلون من لا يبسط إليكم يدا ولا يريد بكم ضرّا، ولا يملك لنفسه نفعا؟ أتقتلون من يُنَشَّؤُا في الْحِلْيَةِ وَهُوَ في الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ؟ » فقال رجل منهم:
« لو تركتموها! » فقال له آخر:
« أعجبك جمالها يا عدوّ الله! كفرت وافتتنت. » وانصرف الآخر عنه وتركهم، قال: فظننّا أنه فارقهم، وحملوا عليها فقتلوها.
خروج الحارث بن أبي ربيعة من الكوفة ومعه ابن الأشتر
ثم إنّ الناس بالكوفة أتوا الحارث بن أبي ربيعة، فصاحوا إليه وقالوا:
« اخرج، فإنّ هذا عدوّنا قد أظلّ علينا. » فتقاعد إلى أن أكثروا الصياح فخرج حتى نزل النخيلة، فأقام بها أياما.
فوثب إبراهيم بن الأشتر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، فإنّه قد سار إلينا عدوّ ليست له بقيّة، يخيف السبل ويخرّب البلاد، فانهض بنا إليه. » فأمر بالرحيل، فخرج حتى نزل دير عبد الرحمن، فأقام فيه حتى دخل شبث بن ربعيّ، فكلمه بنحو ما كلّمه به ابن الأشتر، فارتحل، ولم يكدّ، فرجز به الناس وكان يلقّب بالقباع:
سار بنا القباع سيرا نكرا ** يسير يوما ويقيم شهرا
فأشخصوه من ذلك المكان. فكلّما نزل بهم منزلا أقام، يصيح به الناس وينادونه حول فسطاطه. فلم يبلغ الصراة إلّا في بضعة عشر يوما وقد انتهى إليها طلائع العدوّ، وأوائل الخيول. فلما أتتهم العيون بأن جماعة أهل المصر قد أتوهم قطعوا الجسر بينهم وبين الناس.
فقال إبراهيم بن الأشتر للحارث بن أبي ربيعة:
« اندب معي الناس حتى أعبر إلى هؤلاء الأكلب فأجيئك برؤوسهم. » فقال شبث بن ربعيّ، وأسماء بن خارجة، ومحمد بن عمير:
« أصلح الله الأمير، دعهم، فليذهبوا، لا تبدأ بهم. » وكانوا حسدوا إبراهيم بن الأشتر. فلما أتت أيّام اجتمع الناس فقالوا:
« يا أيها الأمير، ما قعودنا بهذا الجسر، فليعد، ثم اعبر بنا إليهم، فإنّ الله سيريك ما تحبّ. » فأمر بالجسر، فأعيد وعبر الناس إليهم، فطاروا إلى المدائن، فتبعهم المسلمون، فخرجوا، فأتبعهم الحارث بن أبي ربيعة، عبد الرحمن بن مخنف في ستة آلاف ليخرجهم من أرض الكوفة، فإذا وقعوا في أرض البصرة خلّاهم، فاتبعهم حتى وقعوا في أرض البصرة، ثم وقعوا إلى إصبهان، فانصرف عنهم من غير قتال، ومضوا حتى نزلوا بعتّاب بن ورقاء بجيّ، وحاصروه. فكان يخرج إليهم فيقاتلهم ولا يطيقهم. وكانت إصبهان يومئذ طعمة لإسماعيل بن طلحة بن مصعب الزبير، فبعث عتّابا، فصبر لهم عتّاب، فكان يقاتلهم على باب المدينة، ويرمون من السور النشّاب والحجارة. فلما طال الحصار ونفدت الأطعمة هلك كراعهم وأصابهم الجهد الجهيد.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر رأي لعتاب بن ورقاء صحيح
فدعاهم عتّاب بن ورقاء، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« أما بعد، أيها الناس، فإنّه قد أصابكم من الجهد ما ترون. فو الله، إن بقي إلّا أن يموت أحدكم على فراشه، فيحيى أخوه فيدفنه إن استطاع. وبالحريّ أن يضعف عن ذلك، ثم يموت هو، فلا يجد من يدفنه ولا يصلّى عليه، فاتقوا الله، فو الله ما أنتم بالقليل الذي تهون شوكتهم، وإنّ فيكم لفرسان أهل المصر وإنكم لصلحاء من أنتم منه. اخرجوا بنا إلى هؤلاء القوم، وبنا حياة وقوّة، قبل أن لا يستطيع رجل أن يمتنع من امرأة لو جاءته. فقاتل رجل عن نفسه وصبر وصدق، فو الله إني لأرجو، إن صدقتموهم، أن يظفركم الله بهم. » فناداه الناس من كلّ جانب:
« وفّقت وأصبت، اخرج بنا إليهم. » فجمع إليه الناس من الليل، وأمر لهم بعشاء كثير، فتعشّى الناس عنده. ثم إنه خرج بهم حتى أصبح على راياتهم، فصبّحهم في عسكرهم، وهم آمنون أن يؤتوا في عسكرهم، فأخلوا لهم حتى انتهوا إلى الزبير بن الماحوز، فقاتل في عصابة نزلوا معه حتى قتل.
وانحازت الأزارقة إلى قطريّ، فبايعوه، فمشوا إلى قطريّ مصلتين للسيوف، فارتحلوا منهزمين، فكان آخر العهد بهم.
ذكر رأي رءاه الأحنف للخوارج وهو يعد من سقطاته
يقال: إنّ الخوارج دسّوا إلى الأحنف من جلس إليه، وذاكره بهم، فقال:
« إنّ هؤلاء إن ركبوا بنات سحّاج، وقادوا بنات صهّال، ونزلوا اليوم أرضا وغدا أخرى، فبالحريّ أن يبقوا. » فلما بلغ ذلك قطريّا، ذهب وخلّاهم، ومضى نحو كرمان، فأقام بها حتى اجتمعت إليه جموع كثيرة، وأكل الأرض، واجتبى المال، وقوى، ثم أقبل حتى أخذ في أرض إصبهان، ثم خرج من شعب ناشط إلى إيذج وأرض الأهواز، والحارث بن أبي ربيعة عامل مصعب على البصرة. فكتب إلى مصعب:
« قد تحدّرت الخوارج إلى الأهواز، وليس لهم إلّا المهلّب. » فبعث إلى المهلّب، وهو على الجزيرة والموصل وأمره بقتال الخوارج والمسير إليهم، وبعث إلى عمله إبراهيم بن الأشتر. وجاء المهلّب حتى قدم البصرة، وانتخب الناس وسار بمن أحبّ. ثم توجّه نحو الخوارج، وأقبلوا إليه حتى التقوا بسولاف، فاقتتلوا بها ثمانية أشهر أشدّ قتال يكون.
ذكر توبيخ للخوارج المهلب على طريق المكيدة
ثم إنه بلغهم أنّ مصعبا قد قتل، ونحن نذكر خبره في ما بعد، وذلك قبل أن يبلغ المهلّب وأصحابه. فناداهم الخوارج:
« ألا تخبروننا ما قولكم في مصعب؟ » قالوا:
« إمام هدى. » قالوا:
« هو وليّكم في الدنيا والآخرة. » قالوا:
« نعم. » قالوا:
« وأنتم أولياؤه أحياء وأمواتا. » قالوا:
« نعم. » قالوا:
« فما قولكم في عبد الملك بن مروان؟ » قالوا:
« ذاك ابن اللعين نحن منه برآء إلى الله، هو عندنا أحلّ دما منكم » قالوا:
« فأنتم منه برآء في الدنيا والآخرة. » قالوا:
« نعم، كبرائنا منكم. » قالوا:
« وأنتم له أعداء أحياء وأمواتا. » قالوا:
« نعم، كعداوتنا لكم. » قالوا:
« فإنّ إمامكم مصعبا قتله عبد الملك، ونراكم ستجعلون غدا عبد الملك إمامكم، وأنتم اليوم تبرّأون منه وتلعنونه. » قالوا:
« كذبتم يا أعداء الله. » فلما كان من الغد تبيّن لهم قتل مصعب، فبايع المهلّب الناس لعبد الملك بن مروان. فأتتهم الخوارج فقالوا لهم:
« ما تقولون في مصعب؟ » قالوا:
« يا أعداء الله، لا نخبركم ما قولنا فيه. » قالوا:
« فقد أخبرتمونا أمس أنه وليّكم في الدنيا والآخرة، وأنكم أولياؤه أحياء وأمواتا، فأخبرونا ما قولكم في عبد الملك؟ » فقالوا:
« ذاك إمامنا وخليفتنا. » ولم يجدوا - إذ بايعوه - من أن يقولوا هذا القول بدّا. فقالت لهم الأزارقة:
« يا أعداء الله أنتم أمس تبرّأون منه في الدنيا والآخرة، وتلعنونه، وهو اليوم إمامكم وخليفتكم. وقد قتل إمامكم الذي كنتم تولّونه، فأيهما المحقّ، وأيهما المبطل، وأيهما المهتدي، وأيّهما الضالّ! » فقالوا لهم:
« يا أعداء الله، رضينا بذاك، إذ كان يلي أمورنا، ونرضى بهذا، كما كنّا رضينا بذاك. » قالوا:
« لا والله، ولكنّكم إخوان الشياطين وعبيد الدنيا. » وتشاتموا.
ذكر مسير عبد الملك إلى مصعب
كان لا يزال عبد الملك يخرج من دمشق ومصعب من الكوفة. فإذا تدانيا، هجم الشتاء، فانصرف كلّ واحد إلى مكانه حتى إذا كان سنة تسع وستين - وقد قيل سنة سبعين - خرج عبد الملك من دمشق نحو العراق يريد مصعب بن الزبير، فقال له عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق:
« إنّك تخرج إلى العراق وقد كان أبوك وعدني هذا الأمر من بعده، وعلى هذا، جاهدت معه وقد كان من بلائي معه ما لم يخف عليك، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك. » فلم يجبه إلى شيء من ذلك. فانصرف عمرو إلى دمشق، فغلب عليها. ورجع عبد الملك في أثره وإنّ عمرا اجتمع الناس إليه، فصعد المنبر فخطبهم، وقال بعد حمد الله والثناء عليه:
« أيها الناس إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر، إلّا زعم أنّ له جنّة ونارا يدخل الجنّة من أطاعه، والنار من عصاه. وإني أخبركم أنّ الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إليّ من ذلك شيء. غير أنّ لكم عليّ حسن المواساة والعطيّة. » ثم إنّ عبد الملك وعمرا اقتتلا أياما على باب دمشق وتأدّى الأمر بينهما إلى الموادعة والصلح، وكتبا بينهما كتابا وآمنه عبد الملك.
فيقال: إنّ عمرو بن سعيد جاء في خيل متقلّدا قوسا، وأقبل حتى أوطأ فرسه سرادقات عبد الملك، فانقطعت الأطناب وسقط السرادق، ونزل عمرو فجلس وعبد الملك مغضب، فقال لعمرو:
« يا با أمية، كأنك تشبّه بتقلّدك هذه القوس بهذا الحيّ من قيس. » فقال:
« لا، ولكني أتشبّه بمن هو خير منهم: العاص بن أمية. » ثم قام مغضبا والخيل معه حتى دخل دمشق، ودخل عبد الملك أيضا دمشق.
فبعث إلى عمرو أن:
« أعط الناس أرزاقهم. » فأرسل إليه عمرو:
« إنّ هذا ليس لك ببلد، فاشخص عنه. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر استهانة بعدو عادت بهلكة
فلما كان بعد أيام، بعث إلى عمرو أن:
« ايتنى أخاطبك. » فلما أتى رسوله عمرا يدعوه، صادف الرسول عبد الله بن يزيد بن معاوية عند عمرو، فقال عبد الله لعمرو:
« يا با أمية، لأنت أحبّ إليّ من سمعي وبصرى، وقد أرى هذا الرجل بعث إليك أن تأتيه، وأنا أرى لك ألّا تفعل. » فقال عمرو:
« ولم؟ » قال:
« لأنّه يقال: إنّ عظيما من ولد إسماعيل يغلق أبواب دمشق، ثم يخرج منها، فلا يلبث إلّا أن يقتل. » فقال له عمرو:
« والله لو كنت قائما ما تخوّفت أن لا ينبّهنى ابن الزرقاء، ولا كان ليجترئ على ذلك مني. »
رواح عمرو إلى عبد الملك وما جرى عليه
وقال عمرو للرسول:
« أبلغه عني السلام وقل له: أنا رائح إليك العشيّة. » فلما كان العشيّ، لبس عمرو درعا حصينة بين قباء قوهيّ وقميص، وتقلّد سيفه. فلما نهض متوجّها عثر بالبساط، فقال حميد:
« أما والله لئن أطعتنى لم تأته. »
وقالت له امرأته تلك المقالة، فلم يلتفت ومضى في مائة رجل من مواليه، وقد بعث عبد الملك إلى بنى مروان، فاجتمعوا عنده. فلما بلغ عبد الملك أنه بالباب، أمر أن يحبس من كان معه، وأذن له. فدخل ولم يزل أصحابه يحبسون عند كلّ باب حتى دخل عمرو قعر الدار وليس معه إلّا وصيف له. فرمى عمرو ببصره، فإذا حوله بنو مروان وفيهم حسّان بن بحدل الكلبي، وقبيصة بن ذؤيب الخزاعي.
فلما رأى جماعتهم أحسّ بالشرّ، فالتفت إلى وصيفه، فقال:
« انطلق ويحك إلى يحيى بن سعيد يعنى أخاه، فقل له يأتنى. » فقال له الوصيف ولم يفهم ما قال له:
« لبّيك. » فقال له:
« اغرب في حرق الله وناره. » وقال عبد الملك لحسّان وقبيصة:
« إذا شئتما، فقوما فالتقيا وعمرا في الدار. » فقال عبد الملك لهما كالممازح:
« ليطمئنّ عمرو! أيّكما أطول؟ » فقال حسّان:
« قبيصة أطول مني يا أمير المؤمنين بالإمرة. » وكان قبيصة على الخاتم. ثم التفت عمرو إلى وصيفه، فقال:
« انطلق إلى يحيى، فمره أن يأتينى. » فقال له:
« لبّيك. » ولم يفهم عنه.
فقال له عمرو:
« اغرب عني. »
فلما خرج حسّان وقبيصة، أمر بالأبواب فأغلقت، ودخل عمرو، فرحّب به عبد الملك، وقال:
« ها هنا يا با أمية رحمك الله. » فأجلسه معه على السرير وجعل يحدّثه طويلا ثم قال:
« يا غلام خذ السيف عنه. » فقال عمرو:
« إنّا لله، يا أمير المؤمنين. » فقال عبد الملك:
« أو تطمع أن تجلس معي متقلّدا سيفك! » فأخذ السيف عنه، ثم تحدّثا ما شاء الله، ثم قال له عبد الملك:
« يا با أمية! » فقال:
« لبّيك يا أمير المؤمنين! » فقال:
« إنّك حيث خلعتنى آليت بيمين أنى إن ملأت عيني منك وأنا مالك لك، أن أجمعك في جامعة. » فقال له بنو مروان:
« ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ » قال:
« ثم أطلقه. وما عسيت أن أصنع بأبي أميّة. » فقال بنو مروان:
« أبرّ قسم أمير المؤمنين. » قال عمرو:
« فإني أبرّ قسم أمير المؤمنين. » فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه، ثم قال:
« يا غلام قم فاجمعه فيها. »
فقام فجمعه فيها، فقال عمرو:
« أذكّرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس. » فقال عبد الملك:
« أمكرا يا با أمية وأنت في الحديد! لا ها الله، ما كنّا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولا نخرجها منك إلّا صعدا. » ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه منها السرير فكسر ثنيّته. فقال عمرو:
« أذكّرك الله يا أمير المؤمنين، أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم منه. » فقال له عبد الملك:
« والله لو أعلم أنّك تبقّى عليّ أو تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك، ولكن ما اجتمع رجلان في بلدة على مثل ما نحن عليه إلّا أخرج أحدهما صاحبه. » فلما رأى عمرو ما يريد قال:
« أغدرا يا بن الزرقاء؟ » وأذّن المؤذّن العصر، فخرج عبد الملك يصلّى بالناس، وأمر عبد العزيز بن مروان بقتله. فقام إليه عبد العزيز بالسيف، فقال: له عمرو:
« أذكّرك الله والرحم، دعني يتولّ قتلى من هو أبعد رحما منك. » فألقى عبد العزيز السيف، وجلس وصلّى عبد الملك صلاة خفيفة، ودخل وغلّقت الأبواب. ورأى الناس عبد الملك حيث خرج وليس معه عمرو، فذكروا ذلك ليحيى بن سعيد، فأقبل في الناس حتى حلّ بباب عبد الملك ومعه ألف عبد لعمرو وأناس من أصحابه كثير، فجعل من معه يصيحون:
« أسمعنا صوتك يا با أمية! »
وأقبل مع يحيى جماعة فكسروا باب المقصورة، وضربوا الناس بالسيوف، فضرب الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه، واحتمله إبراهيم بن عربيّ صاحب الديوان، فأدخله بيت القراطيس. ولما دخل عبد الملك داره وجد عمرا حيّا بعد.
فقال لعبد العزيز:
« ما منعك من قتله؟ » قال:
« إنّه ناشدني الله والرحم، فرققت له. » فقال عبد الملك:
« أخزى الله أمّك البوّالة على عقبها فإنّك لم تشبه غيرها. » ولم يكونا من أم واحدة.
ثم قال عبد الملك:
« يا غلام ائتني بالحربة. » فأتاه بها فهزّها، ثم طعنه بها فلم تجزّ، ثم ثنّى فلم تجزّ. فضرب بيده إلى عضد عمرو، فوجد مسّ الدرع، فضحك، ثم قال:
« ودارع أيضا إن كنت لمعدّا. يا غلام ايتني بالصمصامة. » فأتاه بسيفه، ثم أمر بعمرو، فصرع وجلس على صدره، فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك رعدة فوضع على سريره.
ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بنى مروان، فخرجوا هم ومن معهم من مواليهم، فقاتلوا يحيى وأصحابه. وقام عبد العزيز، فأخذ المال في البدور، وجعل يلقيها إلى الناس. فلما نظر الناس إلى الأموال ورأوا رأس عمرو، وكان ألقى إليهم، تفرّقوا وانتهبوا المال. ثم أمر عبد الملك بعد ذلك بتلك الأموال، فجبيت حتى عادت كلّها إلى بيت المال.
وفقد عبد الملك ابنه الوليد، فجعل يقول:
« ويحكم أين الوليد؟ وأبيهم لئن كانوا قتلوه لقد أدركوا ثأرهم. » فأتاه إبراهيم بن عربيّ، وقال:
« هذا الوليد عندي ليس به بأس. » ثم أتى عبد الملك بيحيى بن سعيد، فأمر بقتله، فقام إليه عبد العزيز فقال:
« جعلني الله فداءك يا أمير المؤمنين. أتراك قاتلا بنى أمية في يوم واحد؟ » فأمر به فحبس. وأتى عبد الملك بجماعة منهم فحبسهم، وكان همّ بقتلهم، فأشير عليه أن يسيّرهم إلى عدوّه، فإن هم قتلوا، كفى أمرهم، وإن سلموا رأيت رأيك، ولا يكون قد آثرت على نفسك قوما هم اليوم معك.
فألحقهم بمصعب. فلما قدموا عليه ودخل إليه يحيى بن سعيد، قال له ابن الزبير:
« أفلتّ وانحصّ الذنب. » فقال:
« والله إنّ الذنب لبهلبه. »
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)