بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا أنظر إليه، فلم أجد لذلك مسًا. ثم أخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فأنعم غسلها، ثم أعاداها مكانها، ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح؛ فنحاه عني، ثم أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي وأنا أنظر إليه فصدعه، ثم أخرج منه مضغة سوداء، فرمى بها ثم قال بيده يمنةً منه؛ كأنه يتناول شيئًا، فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نورًا، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرًا، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عني، فأمر يده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، فالتأم ذلك الشق بإذن الله. ثم أخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضًا لطيفًا، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه، فلو وزنتموه بإمته كلها لرجحهم قال: ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع؛ إنك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك. قال: فبينا نحن كذلك، إذ أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا أمي - وهي ظئري - أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: يا ضعيفاه! قال: فانكبوا علي فقبلوا رأسي وما بين عيني، فقالوا: حبذا أنت من ضعيف! ثم قالت ظئري: يا وحيداه! فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا راسي وما بين عيني، ثم قالوا: حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد! إن الله معك وملائكته والمؤمنين من أهل الأرض. ثم قالت: ظئرى: يا يتيماه، استضعفت من بين أصحابك فقتلت لضعفك، فانكبوا علي فضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، وقالوا: حبذا أنت من يتيم، ما أكرمك على الله! لو تعلم ماذا يراد بك من الخير! قال: فوصلوا بي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي - وهي ظئري - قالت: يا بني ألا أراك حيًا بعد! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها؛ فو الذي نفسي بيده، إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي - وهو زوج ظئري - ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأسٌ، فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني، فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب إلي فضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: ياللعرب، يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك، ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدينٍ لم تسمعوا بمثله قط! فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون ممن قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي فاصبحت مفزعًا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك؛ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. متني إلى صدرها؛ فو الذي نفسي بيده، إني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وإن يدي في يد بعضهم، فجعلت ألتفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم، يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو طائفٌ من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا، ما بي شيء مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي - وهو زوج ظئري - ألا ترون كلامه كلام صحيح! إني لأرجو ألا يكون بابني بأسٌ، فاتفقوا على أن يذهبوا بي إلى الكاهن، فاحتملوني حتى ذهبوا بي إليه، فلما قصوا عليه قصى قال: اسكتوا حتى أسمع من الغلام، فإنه أعلم بأمره منكم، فسألني، فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب إلي فضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: ياللعرب، يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فواللات والعزى لئن تركتموه وأدرك، ليبدلن دينكم وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدينٍ لم تسمعوا بمثله قط! فعمدت ظئري فانتزعتني من حجره وقالت: لأنت أعته وأجن من ابني هذا! فلو علمت أن هذا يكون ممن قولك ما أتيتك به، فاطلب لنفسك من يقتلك، فإنا غير قاتلي هذا الغلام. ثم احتملوني فأدوني إلى أهلي فاصبحت مفزعًا مما فعل بي، وأصبح أثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك؛ فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. فقال العامري: أشهد بالله الذي لا إله غيره أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها! قال: سل عنك - وكان النبي قبل ذلك يقول للسائل: سل عما شئت، وعما بدا لك، فقال للعامري يومئذ: سل عنك، لأنها لغة بني عامر، فكلمه بما علم - فقال له العامري: أخبرني يا بن عبد المطلب ما يزيد في العلم؟ قال: التعلم، قال: فأخبرني ما يدل على العلم؟ قال النبي : السؤال. قال: فأخبرني ماذا يزيد في الشر؟ قال: التمادي. قال: فأخبرني هل ينفع البر بعد الفجور. قال: نعم، التوبة تغسل الحوبة، والحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه عند الرخاء، أغاثه عند البلاء، قال العامري: وكيف ذلك يا بن عبد المطلب؟ قال: ذلك بأذن الله يقول: لا وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين، إن هو خافني في الدنيا أمنني يوم أجمع فيه عبادي عندي في حظيرة الفردوس، فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق، وإن هو أمنني في الدنيا خافني يوم أجمع فيه عبادي لميقات يوم معلوم، فيدوم له خوفه؛ قال: يا بن عبد المطلب، أخبرني إلام تدعو؟ قال: أدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأن تخلع الأنداد، وتكفر باللات والعزى، وتقر بما جاء من الله من كتاب أو رسول، وتصلى الصلوات الخمس بحقائقهن، وتصوم شهرًا من السنة، وتؤدي زكاة مالك، يطهرك الله بها ويطيب لك مالك، وتحج البيت إذا وجدت إليه سبيلًا، وتغتسل من الجنابة، وتؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، والجنة، والنار. قال: يا بن عبد المطلب، فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال : " جنات عدنٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ". قال: يا بن عبد المطلب، هل مع هذا من الدنيا شيء؟ فإنه يعجبني الوطاءة من العيش! قال النبي صلى اله عليه وسلم: نعم، النصر والتمكن في البلاد. قال: فأجاب وأناب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي، أن نفرًا من أصحاب الرسول الله ص قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور بصرى من أرض الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخٍ لي خلف بيوتنا نرعى بهمًا لنا، أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطستٍ من ذهب مملوءة ثلجًا، فأخذاني، فشقا بطنى، ثم استخرجا منه قلبي، فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء، فطرحاها، ثم غسلا بطني وقلبي بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائةٍ من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: دعه عنك، فلو وزنته بأمته لوزنها.
قال ابن إسحاق: هلك عبد الله بن عبد المطلب أبو رسول الله ص، وأم رسول الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة حاملٌ به.
وأما هشام فإنه قال: توفي عبد الله أبو رسول الله، بعد ما أتى على رسول الله ص ثمانيةٌ وعشرون شهرًا.
حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: قال محمد بن عمر الواقدي: الثبت عندنا مما ليس بين أصحابنا فيه اختلاف، أن عبد الله بن عبد المطلب أقبل من الشام في عير لقريش، فنزل بالمدينة - وهو مريض - فأقام بها حتى توفي، ودفن في دار النابغة، في الدار الصغرى إذا دخلت الدار على يسارك في البيت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبيد الله ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، أن أم رسول الله ص آمنة، توفيت - ورسول الله ص ابن ست سنين - بالأبواء بين مكة والمدينة، كانت قدمت به المدينة على أخواله من بنى عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعةٌ به إلى مكة.
وقد حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال حدثني ابن جريج، عن عثمان بن صفوان، أن قبر آمنة بنت وهب في شعب أبي ذرٍ بمكة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العباس ابن عبد الله بن معبد بن العباس، عن بعض أهله، أن عبد المطلب توفي ورسول الله ص ابن ثماني سنين؛ وكان بعضهم يقول: توفي عبد المطلب ورسول الله ابن عشرة سنين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس قال: كان النبي ص في حجر أبي طالب بعد جده عبد المطلب، فيصبح ولد عبد المطلب غمصًا رمصًا، ويصبح ص صقيلًا دهينًا.
رجع الحديث إلى:
تمام أمر كسرى بن قباذ أنوشروان
حدثنا علي بن حرب الموصلي، قال: حدثن اأبو أيوب يعلى بن عمران البجلي؛ قال: حدثني مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه - وأتت له خمسون ومائة سنة - قال: لما كانت ليلة ولد فيها رسول الله ص، ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشر شرفة، وخمدت نار فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، وغاضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، وقد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها.
فلما أصبح كسرى أفزعه ما رأى، فصبر تشجعًا، ثم رأى ألا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته، فلبس تاجه وقعد على سريره وجمعهم إليه.
فلما اجتمعوا إليه أخبرهم بالذي بعث إليهم فيه ودعاهم. فبينما هم كذلك إذا ورد عليه كتابٌ بخمود النار فإزداد غمًا إلى غمه، فقال الموبذان: وأنا أصلح الله الملك! قد رأيت في هذه الليلة ** وقص عليه الرؤيا في الإبل.
فقال: أي شيء يكون هذا يا موبذان؟ - وكان أعلمهم عند نفسه بذلك - فقال: حادثٌ يكون من عند العرب، فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر، أما بعد؛ فوجه إلي رجلًا عالمًا بما أريد أن أسأله عنه.
فوجه إليه عبد المسيح بن عمرو بن حيان بن بقيلة الغساني، فلما قدم عليه، قال له: أعندك علم بما أريد أن أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم، وإلا أخبرته بمن يعلمه له، فأخبره بما رأى؛ فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشأم، يقال له سطيح، قال: فإته فاسأله عما سألتك، وأتني بجوابه. فركب عبد المسيح راحلته حتى قدم على سطيح - وقد أشفى على الموت - فسلم عليه وحياه، فلم يحر سطيح جوابًا، فأنشأ عبد المسيح يقول:
أصم أم يسمع غطريف اليمن! ** يافاصل الخطة أعيت من ومن
أم فاز فأزلم به شأو العنن ** أتاك شيخ الحي من آل سنن
وأمه من آل ذئب بن حجن ** أزرق ممهى الناب صرار الإذن
أبيض فضفاض الرداء والبدن ** رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب بي الأرض علنداةٌ شزن ** ترفعني وجنٌ وتهوى بي وجن
لا يرهب الرعد ولا ريب الزمن ** حتى أتى عاري الجآجي والقطن
تلفه في الريح بوغاء الدمن ** كأنما حثحث من حضني ثكن
فلما سمع سطيح شعره، رفع رأسه وقال: عبد المسيح، على جمل يسيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان. رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح: إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست الشأم لسطيح شأما؛ يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت.
ثم قضى سطيح مكانه، فقام عبد المسيح إلى رحله وهو يقول:
شمر فإنك ماضي الهم شمير ** لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن يك ملك بني ساسان أفرطهم ** فإن ذا الدهر أطوارٌ دهارير
فربما ربما أضحو بمنزلة ** تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح مهرانٌ وإخوته ** والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علاتٍ فمن علموا ** أن قد أقل، فمهجورٌ ومحقور
وهم بنو الأم لما أن رأوا نشبًا ** فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرنٍ ** فالخير متبعٌ والشر محذور
فلما قدم عبد المسيح على كسرى، أخبره بقول سطيح، فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا قد كانت أمور.
فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك الباقون إلى ملكي عثمان بن عفان.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: بعث وهرز بأموال وطرف من طرف اليمن إلى كسرى، فلما صارت ببلاد بني تميم، دعا صعصعة ابن ناجيه بن عقال المجاشعي بني تميم إلى الوثوب عليه، فأبوا ذلك فلما صارت في بلاد بني يربوع دعاهم إلى ذلك، فهابوه، فقال: يا بني يربوع، كأني بهذه العير قد مرت ببلاد بكر بن وائل، فوثبوا عليها فاستعانوا بها على حربكم! فلما سمعوا ذلك انتهبوها، وأخذ رجلٌ من بني سليط يقال له النطف خرجًا فيه جوهر، فكان يقال: " أصاب كنز النطف "؛ فصار مثلًا؛ وأخذ صعصعة خصفة فيها سبائك فضة، وصار أصحاب العير إلى هوذة بن علي الحنفي باليمامة فكساهم، وزودهم وحملهم، وسار معهم حتى دخل على كسرى. وكان لهوذة جمالٌ وبيان. فأعجب به كسرى وحفظ له ما كان منه، ودعا بعقد من در فعقد على رأسه، وكساه قباء ديباج، مع كسوة كثيرة، فمن ثم سمى هوذة ذا التاج، وقال كسرى لهوذا أرأيت هؤلاء القوم الذين صنعوا ما صنعوا من قومك هم؟ قال: لا. قال: أصلح هم لك؟ قال: بيننا الموت. قال: قد أدركت بعض حاجتك ونلت ثأرك. وعزم على توجيه الخيل إلى بني تميم، فقيل له: إن بلادهم بلاد سوء، إنما هي مفاوز وصحارى لا يهتدى إلى مسالكها، وماؤهم من الآبار، ولا يؤمن أن يعوروها فيهلك جندك. وأشير إليه أن يكتب إلى عامله بالبحرين وهو آزاذ فروز بن جشنس الذي سمته العرب المكعبر - وإنما سمي المكعبر، لأنه كان يقطع الأيدي والأرجل وآلى أن لا يدع من بني تميم عينًا تطرف - ففعل؛ ووجه له رسولًا. ودعا بهوذة فجدد له كرامة وصلة وقال: سر مع رسولي هذا فاشفني واشتف، فأقبل هوذه والرسول معه حتى صار إلى المكعبر، وذلك قريب من أيام اللقاط، وكان بنوا تميم يصيرون في ذلك الوقت إلى هجر، للميرة واللقاط، فنادى منادي المكعبر: من كان هاهنا من بني تميم فليحضر فإن الملك قد أمر لهم بميرة وطعام يقسم فيهم؛ فحضروا، فأدخلهم المشقر - وهو حصنٌ حياله حصنٌ يقال له الصفا، وبينهما نهر يقال له محلم - وكان الذي بنى المشقر رجلًا من أساورة كسرى يقال له: بسك بن ماهبوذ، كان كسرى وجهه لبنائه، فلما ابتدأه قيل له: إن هؤلاء الفعلة لا يقيمون بهذا الموضع إلا أن تكون معهم نساء، فإن فعلت ذلك بهم تم بناؤك، وأقاموا عليه حتى يفرغوا منه؛ فنقل إليهم الفواجر من ناحية السواد والأهواز، وحملت إليهم روايا الخمر من أرض فارس في البحر، فتناكحوا وتوالدوا، فكانوا جل أهل مدينة هجر، وتكلم القوم بالعربية وكانت دعوتهم إلى عبد القيس، فلما جاء الإسلام قالوا لعبد القيس: قد علمتم عددنا وعدتنا وعظيم غنائنا، فأدخلونا فيكم وزوجونا، فقالوا: لا، ولكن أقيموا على حالكم فأنتم إخواننا وموالينا، فقال رجلٌ من عبد القيس: يا معشر عبد القيس، أطيعوني وألحقوهم، فإنه ليس عن مثل هؤلاء مرغب، فقال رجل من القوم: أما تستحي! أتأمرنا أن ندخل فينا من قد عرفت أوله وأصله! قال: إنكم إن لم تفعلوا ألحقهم غيركم من العرب، قال: إذن لا نستوحش لهم؛ فتفرق القوم في العرب، وبقيت في عبد القيس منهم بقية فانتموا إليهم، فلم يردوهم عن ذلك. فلما أدخل المكعبر بني تميم المشقر قتل رجالهم واستبقى الغلمان وقتل يومئذ قعنب اليراحي - وكان فارس بني يربوع - قتله رجلان من شن كانا ينوبان الملوك، وجعل الغلمان في السفن فعبر بهم إلى فارس، فخصوا منهم بشرًا. قال هبيرة بن حدير العدوي: رجع إلينا بعد ما فتحت إصطخر عدة منهم، أحدهم خصي والآخر خياط. وشد رجلٌ من بني تميم، يقال له عيد بن وهب على سلسلة الباب فقطعها وخرج، فقال:
تذكرت هندًا لات حين تذكر ** تذكرتها ودونها سير أشهر
حجازيةٌ علويةٌ خل أهلها ** مصاب الخريف بين زورٍ ومنور
ألا هل أتى قومي على النأي أنني ** حميت ذماري يوم باب المشقر
ضربت رتاج الباب بالسيف ضربةً ** تفرج منها كل بابٍ مضبر
وكلم هوذة بن علي على المكعبر يومئذ في مائةٍ في أسرى بني تميمٍ، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، ففي ذلك يقول الأعشى:
سائل تميمًا به أيام صفقتهم ** لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في غبراء مظلمةٍ ** لا يستطيعون بعد الضر منتفعا
فقال للملك أطلق منهم مائةً ** رسلًا من القول مخفوضًا وما رفعا
ففك عن مائةٍ منهم إسارهم ** وأصبحوا كلهم من غله خلعا
بهم تقرب يوم الفصح ضاحيةً ** يرجو الإله بما أسدى وما صنعا
فلا يرون بذاكم نعمة سبقت ** إن قال قائلها حقًا بها وسعا
يصف بني تميم بالكفر لنعمته.
قال: فلما حضرت وهرز الوفاة - وذلك في آخر ملك أنوشروان - دعا بقوسه ونشابته، ثم قال: أجلسوني، فأجلسوه، فرمى وقال: انظروا حيث وقعت نشابتي فجعلوا ناؤوسي هناك، فوقعت نشابته من وراء الدير، وهي الكنيسة التي عند نعم، وهي تسمى اليوم مقبرة وهرز؛ فلما بلغ كسرى موت وهرز، بعث إلى اليمن أسوارًا يقال له وين، وكان جبارًا مسرفًا، فعزله هرمز بن كسرى، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم هلك كسرى أنوشروان وكان ملكه ثمانيًا وأربعين سنة.
ذكر ملك هرمز بن كسرى أنوشروان
ثم ملك هرمز بن كسرى أنوشروان، وكانت أمه ابنة خاقان الأكبر، فحدثت عن هشام بن محمد، قال: كان هرمز بن كسرى هذا كثير الأدب، ذا نية في الإحسان إلى الضعفاء والمساكين، والحمل على الأشراف، فعادوه وأبغضوه، وكان في نفسه عليهم مثل ذلك، ولما عقد التاج على رأسه، اجتمع إليه أشراف أهل مملكته، واجتهدوا في الدعاء له والشكر لوالده، فوعدهم خيرًا. وكان متحريًا للسيرة في رعيته بالعدل، شديدًا على العظماء لاستطالتهم كانت على الوضعاء، وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى ماه ليصيف، فأمر فنودي في مسيره ذلك في جنده وسائر من كان في عسكره أن يتحاموا مواضع الحروث ولا يضروا بأحدٍ من الدهاقين فيها، ويضبطوا دوابهم عن الفساد فيها، ووكل بتعهد ما يكون في عسكره من ذلك ومعاقبة من تعدى أمره.
وكان ابنه كسرى في عسكره، فعار مركب من مراكبه ووقع في محرثة من المحارث التي كانت على طريقه فرتع فيها وأفسد منها، فأخذ ذلك المركب، ودفع إلى الرجل الذي وكل هرمز بمعاقبة من أفسد أو دابته شيئًا من المحارث وتغريمه. فلم يقدر الرجل على إنفاذ أمر هرمز في كسرى، ولا في أحد ممن كان معه في حشمه، فرفع ما رأى من إفساد ذلك المركب إلى هرمز، فأمر أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرم كسرى؛ فخرج الرجل من عند هرمز لينفذ أمره في كسرى ومركبه ذلك، فدس له كسرى رهطًا من العظماء ليسألوه التغبيب في أمره، فلقوه وكلموه في ذلك فلم يجب إليه، فسألوه أن يؤخر ما أمر به هرمز في المركب حتى يكلموه فيأمر بالكف عنه، ففعل فلقي أولئك الرهط هرمز وأعلموه أن بالمركب الذي أفسد ما أفسد زعارةً، وأنه عار فوقع في محرثة؛ فأخذ من ساعة وقع فيها، وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وتبتيره لما فيها من سوء الطيرة على كسرى، فلم يجبهم إلى ما سألوا من ذلك، وأمر بالمركب فجدع أذناه، وبتر ذنبه، وغرم كسرى مثل ما يغرم غيره في هذا الحد، ثم ارتحل من معسكره. وكان هرمز ركب ذات يوم في أوان إيناع الكرم إلى ساباط المدائن، وكان ممره على بساتين وكرومٍ، وإن رجلًا ممن ركب معه من أساورته اطلع في كرمٍ فرأى فيه حصرمًا، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامٍ كان معه وقال له: اذهب بها إلى المنزل، واطبخها بلحمٍ، واتخذ منها مرقةً فإنها نافعة في هذا الإبان. فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصرخ، فبلغ من إشفاق الرجل من عقوبة هرمز على تناوله من ذلك الكرم أن دفع إلى حافظ الكرم منطقة محلاة بذهب كانت عليه، عوضًا له من الحصرم الذي رزأ من كرمه، وافتدى نفسه بها، ورأى أن قبض الحافظ إياها منه وتخليته عنه، منةٌ من بها عليه، ومعروف أسداه إليه. وقيل أن هرمز كان مظفرًا منصورًا لا يمد يده إلى شيء إلا ناله، وكان مع ذلك أديبًا أريبًا داهيًا رديء النية، قد نزعه أخواله الأتراك، وكان مقصيًا للأشراف، وإنه قتل من العلماء وأهل البيوتات والشرف ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل، وإنه لم يكن له رأيٌ إلا في تألف السفلة واستصلاحهم، وإنه حبس ناسًا كثيرًا من العظماء وأسقطهم وحط مراتبهم ودرجاتهم، وجهز الجنود وقصر بالأساورة ففسد عليه كثيرٌ ممن كان حوله لما أراد الله من تغيير أمرهم وتحويل ملكهم؛ ولكل شيء سبب. وإن الهرابذة رفعوا إليه قصة يبغون فيها على النصارى، فوقع فيها: إنه كما لا قوام لسرير ملكنا بقائمتيه المقدمتين دون قائمتيه المؤخرتين، فكذلك لا قوام لملكنا ولا ثبات له، مع استفسادنا من في بلادنا من النصارى وأهل سائر الملل المخالفة لنا؛ فأقصروا عن البغي على النصارى، وواظبوا على أعمال البر ليرى ذلك النصارى وغيرهم من أهل الملل والأديان، فيحمدوكم عليه، وتتوق أنفسهم إلى ملتكم.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: خرج على هرمز الترك - وقال غيره: أقبل عليه شابة ملك الترك الأعظم في ثلثمائة ألف مقاتل، في سنة إحدى عشرة من ملكه، حتى صار إلى باذغيس وهراة. وإن ملك الروم صار إلى الضواحي في ثمانين ألف مقاتل قاصدًا له، وإن ملك الخزر صار في جمعٍ عظيم إلى الباب والأبواب، فعاث وأخرب، وإن رجلين من العرب يقال لأحدهما: عباس الأحول، والآخر: عمرو الأزرق، نزلا في جمع عظيم من العرب بشاطىء الفرات، وشنوا الغارة على أهل السواد، واجترأ أعداؤه عليه وغزوا بلاده، وبلغ من اكتنافهم إياها أنها سميت منخلًا كثير السمام. وقيل: قد اكتنف بلاد الفرس الأعداء من كل وجه كاكتناف الوتر سيتي القوس. وأرسل شابة ملك الترك إلى هرمز وعظماء الفرس يؤذنهم بإقباله في جنوده، ويقول: رموا قناطر أنهارٍ وأودية أجتاز عليها إلى بلادكم، واعقدوا القناطر على كل نهرٍ من تلك الأنهار لا قنطرة له، وافعلوا ذلك في الأنهار والأودية التي عليها مسلكي من بلادكم إلى بلاد الروم، لإجماعي بالمسير إليها من بلادكم. فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وشاور فيه، فأجمع له على القصد لملك الترك، فوجه إليه رجلًا من أهل الري يقال له بهرام بن بهرام جشنس - ويعرف بجوبين - في اثني عشر ألف رجل، اختاره بهرام على عينيه من الكهول دون الشباب، ويقال: إن هرمز عرض ذلك الوقت من كان بحضرته من الديوانية، فكانت عدتهم سبعين ألف مقاتل، فمضى بهرام بمن ضم إليه مغذًا حتى جاز هراة وباذغيس، ولم يشعر شابة ببهرام حتى نزل بالقرب منه معسكرًا فجرت بينهما رسائل وحروبٌ، وقتل بهرام شابة برمية رماه إياها. وقيل: إن الرمى في ملك العجم كان لثلاثة نفر، منها رمية أرششياطين بين منوشهر، وأفراسياب، ومنها رمية سوخرا في الترك، ومنها رمية بهرام هذه. واستباح عسكره وأقام بموضعه، فوافاه برموذة بن شابة، وكان يعدل بأبيه، فحاربه فهزمه، وحصره في بعض الحصون، ثم ألح عليه حتى استسلم له، فوجهه إلى هرمز أسيرًا، وغنم مما كان في الحصن وكانت كنوزًا عظمية.
ويقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجوهر والآنية والسلاح وسائر الأمتعة مما غنمه وقر مائتي ألف وخمسين ألف بعير، فشكر هرمز لبهرام ما كان منه بسبب الغنائم التي صارت إليه، وخاف بهرام سطوة هرمز، وخاف مثل ذلك من كان معه من الجنود، فخلعوا هرمز وأقبلوا نحو المدائن، وأظهروا الامتعاض مما كان من هرمز، وأن ابنه أبرويز أصلح للملك منه. وساعدهم على ذلك بعض من كان بحضرة هرمز، فهرب أبرويز بهذا السبب إلى آذربيجان خوفًا من هرمز، فاجتمع إليه هناك عدةٌ من المرازبة والإصبهبذين، فأعطوه بيعتهم، ووثب العظماء والأشراف بالمدائن، وفيهم بندى وبسطام خالا أبرويز، فخلعوا هرمز وسملوا عينيه وتركوه تحرجًا من قتله.
وبلغ الخبر أبرويز، فأقبل بمن شايعه من آذربيجان إلى دار الملك مسابقًا لبهرام، فلما صار إليها استولى على الملك وتحرز من بهرام، والتقى هو وهو على شاطىء النهروان، فجرت بينهما مناظرةٌ ومواقفةٌ، ودعا أبرويز بهرام إلى أن يؤمنه ويرفع مرتبته ويسني ولايته، فلم يقبل ذلك، وجرت بينهما حروبٌ اضطرت أبرويز إلى الهرب إلى الروم مستغيثًا بملكها بعد حرب شديدة وبيات كان من بعضهم لبعض. وقيل إنه كان مع بهرام جماعةٌ من الأشداء، وكان فيهم ثلاثة نفرٍ من وجوه الأتراك لا يعدل بهم في فروسيتهم وشدتهم من الأتراك أحدٌ، قد جعلوا لبهرام قتل أبرويز، فلمتا كان الغد من ليلة البيات وقف أبرويز ودعا الناس إلى حرب بهرام فتثاقلوا عليه، قصده النفر الثلاثة من الأتراك، فخرج إليهم أبرويز فقتلهم بيده واحدًا واحدًا، ثم انصرف من المعركة وقد أحس من أصحابه بالفتور والتغيير، فصار إلى أبيه بطيسبون حتى دخل عليه، وأعلمه ما قد تبينه من أصحابه وشاوره، فأشار عليه بالمصير إلى موريق ملك الروم ليستنجده، فأحرز حرمه في موضع أمن عليهم بهرام، ومضى في عدة يسيرةٍ؛ منهم بندي وبسطام وكردي أخو بهرام جوبين حتى صار إلى أنطاكية، وكاتب موريق فقبله، وزوجه ابنةً له كانت عزيزةً عليه، يقال لها: مريم. وكان جميع مدة ملك هرمز بن كسرى في قول بعضهم، إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام. وأما هشام بن محمد فإنه قال: كان ملكه اثنتي عشرة سنة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)