أجد متعة في تسريب كتابإلى غرفة نوم مهيأة أصلاً لتكون فضاءً نسائياً تهرّب إليه زوجتي أشياءها منالآخرين, أو بالأحرى من الأخريات!
حدث كثيراً أثناء تهريبي كتاباً إلى مخدعالزوجية, مدعياً حاجتي المهنية إلى مطالعته, أن تذكرت أبي الذي عثر أثناء حربالتحرير على حيلة فوق كل الشبهات تمكنه من إحضار عشيقاته إلى البيت, مستفيداً مننشاطه النضالي, وإقامتنا بمفردنا في بيت شاسع على الطراز العربي. فكان يغلق علينا, أنا وجدتي وزوجته العروس, في إحدى الغرف الكبيرة, متحججاً باستقبال المجاهدين الذينكانوا يقضون بين الحين والآخر ليلة " مشاورات" في بيتنا.. يعودون بعدها إلىالجبال!
كان عمري لا يتجاوز الست سنوات. وبرغم ذلك لفت انتباهي أن أبي, علىغير عادته, أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح, بعد أن كان في الماضي يكتفي بأنيسعل بصوتٍ عالٍ كلما دخل البيت مع رجل غريب مردداً وهو يسبقه بخطوات: " الطريق.. الطريق". فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب حتى يمر الرجال.
ذات مرةتأملت من ثقب الباب الذي لم تكن قامتي تعلوه سوى بقليل, فرأيته يدخل مع امرأةبملاءة سوداء. عندما أخبرت زوجة أبي بذلك بدت مندهشة, غير أن جدتي تدخلت لتنهرنيململمة الفضيحة, مدعية أن العادة جرت أن يتنكر المجاهدون في زي النساء.
من يومهابدأت زوجة أبي التي لم تقتنع بالزي التنكري للمجاهدين, تتجسس بدورها من ثقب الباب, وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار.
ولكن اكتشافها لم يغير شيئاًمن تصرفاتها, فهي لم تجرؤ حتى على إخباره بأنها تدري أنه يكذب عليها, خشية أن يغضبويعيدها إلى بيت أهلها, فتستبدل بشرف الزواج من أحد وجهاء قسنطينة مذلة أن تكونرقماً في طوابير المطلقات.
هكذا واصلت إعداد أشهى الطعام للمجاهدين و " المجاهدات", القادمين لتوهم " من الجبال الشامخات الشاهقات", وفرش سريرها بأجمل مافي جهازها من شراشف مطرزة, والمضي للنوم جوار صغيرتها في غرفة الضيوف, بينما كانأبي يخوض معاركه التحريرية في سريرها الزوجي على أمتار منها. وربما كانت أثناءتقلبها في فراشها, تبحث عن وجوه وأسماء لنساء فاجرات يدخلن بيتها تحت حشمة الملايةوعفة الجهاد ليضاجعن زوجها في حضرتها.
كان يلزمني بلوغ سن التأمل, كي أفهمأنني يوم وضعت عيني على ثقب المفتاح لم أكن أكتشف سوى قسنطينة التي لم يكن ذلكالبيت العتيق سوى صورة لتقاليد نفاقها.
دفعة واحدة أدركت أن الآباء يكذبون, وأنالمجاهدين ليسوا منزهين عن الخطيئة, وأن النساء اللائي يلبسن ملايات لسن فوقالشبهات, وأن النساء القابعات في بيوت الظلم الزوجي لسن مخدوعات إلى هذا الحد, وأن " الضحية ليست بريئة من دمها"!
بعد ذلك , أصبحت مع العمر أرى في تصرفات أبيآنذاك جانباً " زوربوياُ" ساهم في خلق أسطورته النضالية والعشقية.
كان بحكمثقافته رجلاً لكل الجبهات. خاض معاركه ضد الاستعمار وضد المؤسسة الزوجية التي لميؤمن بها يوماً, وانتسب إليها استجابة لإلحاح جدتي لا غير. كان لا بد له من زوجةتتكفل بتربيتي بعد وفاة والدتي, فجاءته بإحدى القريبات من اللائي هيئن ليكن رباتبيوت وأمهات صالحات.
في الواقع, عشقه للحرية أوصله إلى الإعجاب بنساء متحررات. كان له ضعف دائم تجاه الأجنبيات لكونهن متعلمات. ساعدته وسامة أندلسية عرف بها أهلقسنطينة الأوائل, على اكتساح القلوب الشقراء والسمراء. كمدرّسة فرنسية نظم أشعارهالأولى تغزلاً بها, أو تلك الأرملة اليهودية التي كان زوجها حارساً في سجن الكدياعندما كان والدي سجيناً هناك, وكانت جدتي تتردد على بيته كلما أرادت أن ترسل شيئاًإلى أبي في السجن. وعندما بعد سنتين عرف العالم المجاعة وكلّف أبي من طرف الإدارةالفرنسية بتوزيع قسائم المساعدات الغذائية على سكان قسنطينة من المسلمين, كانيزورها ليزودها خلسة هي وبعض عونه من المعارف والجيران, في ذلك الزمن الذي كانتتتجاور فيه الأجناس والأديان.
كان زوربا على طريقته. اعتاد أن يحيط نفسهبالأرامل والعوانس, ونساء على وشك أن تذبل ورودهن وليس لهن بستاني سواه.
كانمسؤولاً عن كل نساء الأرض, بدون تمييز بين أعمارهن أو ديانتهن أو جمالهن, مسؤولاًعن أجسادهن وأحلامهن, معنياً بتعليمهن وإدارة مستقبلهن إلى حد التكفل بتزويجهن, ومسؤولاً عن كل جياع الأرض أينما وجدت أفواههم وبطونهم ولقمتهم. وعن كل المظلومينوالمستعمرين أينما وجدت أرضهم وقضيتهم. ولذا " عاش ما كسب.. مات ما خلى". فلم يكنيعنيه أن يمتلك بقدر ما كان يعنيه أن يحيا.
وكان بعد الاستقلال يقيم في شقةواسعة استأجرها. نشغل نحن جزأها الأكبر بينما يحيا هو بين غرفتين: صالونه الذهبيالفخم حيث يستقبل ضيوفه من السياسيين ورفاق قدامى يتناقصون كل عام, وغرفة نوم فاخرةاشتراها من معمرين فرنسيين غادروا الجزائر عند الاستقلال, ربما كانت تعود لنهايةالقرن الماضي, بخزانة ضخمة منقوشة باليد بحفر صغير على شكل دوالٍ تغطيها مراياكبيرة. جوارها سرير عالٍ يسند رأسه لوح بذات النقوش وينتهي جانباه من الأعلىبمجسمات نحاسية لملاكين كأنما يطيران أحدهما صوب الآخر, وعلى جانبي السرير طاولتانصغيرتان تغطيهما لوحتان رخاميتان, يقابله خزانة أثاث بأربعة جوارير بمماسك نحاسيةجميلة تعلوه مرآة أخرى تحيط بها النقوش ذاتها.
كان الصالون قصاص أبي. كانكتلك الغرف القليلة الاستعمال, القليلة الاستقبال والمهيأة لزوار لن يأتوا. يذكّرهبابه الذي لا يفتح إلا في المناسبات بأن الرفاق من حوله انفضوا.
أما غرفة النومالتي كانت مملكته وما بقي من جاهه والتي كان ينام فيها وحده, فقد أصبحت بعده قصاصيأنا. كان مستبعداً بيعها لأسباب عاطفية, ولذا وجدتني أبدأ حياتي الزوجية علىسريرها.
كان في الغرفة رائحة توقظ زمن الموتى, تفسد عليك زمانك. ما أصعب أن تبدأحياتك الزوجية على سرير كان أبوك يشغله وحده, وينام على يساره دائماً إلى حد تواطأالزمن مع الجسد حافراً لحداً داخل الفراش الصوفي بحيث ما عاد بإمكانك أن تتقاسمه معشخص, إلا وتدحرج أحدكما نحو الآخر.
كانت غرفة فاخرة تصلح بسريرها العالي وأبوابخزائنها الثقيلة للأنتيكا.. لا للحب. وربما أرادها أبي فخمة إلى ذلك الحد ليعوض بهاغياب الحب في حياته.
ما كان أبي ثرياً, ولا اشترى تلك الغرفة بالذات ليراها أحدسواه. ولكنها كانت تذكرني بغرف نوم فاخرة مؤثثة بإثم واضح في التبذير, قصد إقناعكأن الأثرياء ليسوا عشاقاً سيئين!
ذات يوم تبدأ حياتك الزوجية في سريرالمسنين المليء بكوابيس النوم غير المريح. وعليك, لأسباب عاطفية غبية, أن تتدرب علىالتصرف بحياة سبقك إليها أبوك. رائحته هنا علقت بالخشب.. بالستائر.. بأوراقالجدران.. بكريستال الثريا. وأنت مدهوش, لا تدري حتى متى ستظل رائحته تتسرب إليك. أكانت كل تلك الغرفة سريراً لرائحته؟
كنت تظن لك فيها حياة مؤقتة, كما لو كانتنزلاً تمر به, كما لو كنت عابر سرير. ولكن حيث تنام, ذات يوم, في اللحظة التيتتوقعها الأقل, تجتاحك رائحة الغياب, وتستيقظ فيك تلك الرائحة التي أفسدت عليك منذالبدء علاقتك بجسد زوجتك, حد جعلك تفرض عليها تناول حبوب منع الحمل لسنوات, خشيةمجيء صغير يعاني من " تشوهات الأسرية للأسرة"!
█║S│█│Y║▌║R│║█
كنت أجد فرحتي بعد ذلك فيالهروب إلى بيت عبد الحق, حيث أصبح لشهواتي سرير غير شرعي مع حياة. فعليك بلا توقفأن تخترع حياتك الأخرى المزورة, إنقاذاً لحياتك الحقيقية التي لا وهج فيها.
وكنتتزوجت امرأة لتقوم بالأشغال المنزلية داخلي, لتكنس ما خلّفت النساء الأخريات مندمار في حياتي, مستنجداً بالزواج الوقائي عساه يضع متاريس تجنبني انزلاقات الحياة, وإذ في ذلك الزواج اغتيال للحياة.
ذلك أن ثمة من يبتزك بدون أن يقول لك شيئاً, ذلك الابتزاز الصامت للضعفاء, الذي يجيز له التصرف بحياتك مذ وقعت في قبضته بحكمورقة ثبوتية.
ثمة من ينال منك, بدون أن يقصد إيذاءك, إنما باستحواذه عليك حدالإيذاء. ثمة من يربط سعادته بحقه في أن يجعلك تعيساً, بحكم أنه شريك لحياتك, تشعرأن الحياة معه أصبحت موتاً لك, ولا بد من المواجهة غير الجميلة مع شخص لم يؤذك, لميخنك, ولكنه يغتالك ببطئ.
تريد أن تستقيل من دور الزوج الصالح والسعيد الذيمثلته لسنوات, تفادياً منك للشجارات والخلافات. تريد أن تتنازل عن أوسكار التمثيلالذي كان يمكن أن تحصل عليه في البطولة الرجالية في فيلم " الحياة الزوجية". لالقلة حيلتك, فأنت ما زلت قادراً على مزيد من الأكاذيب التي تبتلعها امرأة دون جهد. ولكنك متعب, والحياة أقصر من أن تقضيها في حياكة الأكاذيب, والرعب اليومي الذيتعيشه أكبر من أن تزيد عليه الخوف من زوجتك.
ربما لكل هذه الأسباب اخترت أنأذهب للإقامة في ( مازفران) تأجيلاً لقرار الانفصال عن زوجتي التي برغم كل شيء كانيعز علي إيلامها.
نجحت يومها في قراءة ذلك الكتاب الصغير الذي اشتريته , قبل أنتلحق بي فرانسواز وتنزلق تحت الألحفة.. وتمنعني من إنهاء صفحاته الأخيرة.
ضممتهاوأنا أفكر في نساء تعيش معهن ولا تعاشرهن. وأخرى دون الجميع تحتاج أن تعاشر طيفهافي غفوتك.. أن تفكر بها في ذروة عزلتك. تحتاج لكي تبقى على قيد الحياة, أن تعلمأنها ما زالت على قيد ذكراك وأنها حتماً ستأتي.
ليلتها, وأنا أتقاسم سريراً معفرانسواز, عانقت غيرها ونمت متوسداً موعد.
الفصل السادس
ثم جاءت.
انخلعت أبواب الترقب علىتدفق ضوئها المباغت.
دخلت.. وتوقف العالم برهة عن الدوران.
توقف القلب دقة عنالخفقان كما لالتقاط الأنفاس من شهقة.
إعصار يتقدم في معطف فرو ترتديه امرأة. أيتها العناية الإلهية..
ألا ترفقت بي!
أيتها السماء.. أيها المطر.. يا جبالالألب.. خذوا علماً أنها جاءت.
التقينا إذن..
الذين قالوا: وحدها الجبال لاتلتقي أخطأوا, والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح من دون أن تنحني, لا يفهمون شيئاًفي قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى, وعندها لا تتصافح إنما تتحول إلى تراب واحد.
أكان بوسعنا تفادي الكارثة؟ ها نحننلتقي حيث رتبت لنا المصادفة موعداً في آخر معاقل الحزن.. كلعنة.
عمي صباحاًسيدتي الجميلة.. كفاجعة.
هي ذي.. كيف يمكن فك الاشتباك مع عينيها. كل ما أردتهكان النظر إليها بعد هذا الغياب. كانت تبدو كشجرة ليمون. تساقط زهرها دهشة عندمارأتني. كان آخر مكان توقعت أن تراني فيه هو باريس, في معرض رسام أنكرت وجوده خارجكتاب.
قالت:
- شيء لا يصدق.
- هي حياة ندين بها لمصادفة اللقاءات.
ردتباندهاش جميل لا يخلو من الذعر:
- يا إلهي.. ما توقعت أبداً أن أراك هنا!
قلتمازحاً:
- ماذا أفعل إذا كان كل شيء يعيدك إلي.
كنت ألمّح لقولها مرة " كلشيء يعيدني إليك" وكنت أجبتها مصححاً آنذاك: " وكل شيء يبقيني فيكِ".
قالت معلقةبذكاء:
- ظننتك غيرت عنوان إقامتك منذ ذلك الحين!
أجبت وأنا أمازحها نافضاًسترتي:
- كما ترين: كلما هممت بمغادرتك تعثرت بكِ.
ثم واصلت:
- بالمناسبة.. أجمل ما يحدث لنا لا نعثر عليه بل نتعثر به.
كنت هنا أيضاً أصححقولها " أجمل حب.. هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".
كيف الفكاك من حبتمكن منك حد اختراق لغتك, حتى أصبحت إحدى متعك فيه هتك أسرار اللغة؟
النشوة معهاحالة لغوية. لكأنني كنت أراقصها بالكلمات, أخاصرها, أطيِّرها, أبعثرها, ألملمها. وكانت خطى كلماتنا دوماً تجد إيقاعها منذ الجملة الأولى.
كنا في كل حوار راقصينيتزلجان على مرايا الجليد في ثياب احتفائية, منتعلين موسيقى الكلمات.
ذات مرةقالت:
- أحلم أن أفتح باب بيتك معك.
أجبتها على إيقاع التانغو, وأنا أعيدأحلامها خطوتين إلى الوراء:
- وأحلم أن أفتح الباب.. فألقاك.
لكن الحياة قلبتلنا الأدوار. هاهي ذي تفتح باب قاعة لتزور معرضاً فتلقاني. إنه ليس زمن التانغو, بلأزمنة الفالس, بدوارها المحموم وجملها المتخاصرة في تداخلها, وارتباك خطوتها الأولىبجمل منتشية, متداخلة, كتوتر شفتين قبل قبلة, لامرأة بلغت في غيابي ثلاثين سنة.. وبعض قُبَل. ويلزمها سبع قبلات أخرى, لتبلغ عمر حزني الموثق في شهادة لا تأخذ بعينالاعتبار, ميلادي على يديها ذات 30 أكتوبر على الساعة الواحدة والربع ظهراً.. فيمقهى!
الأشياء معها تبدأ كما تنتهي: على حافة ربع الساعة الأخيرة.
كانتتتأملني بارتباك المفاجأة. وكنا بعد سنتين من الغياب يتصفح أحدنا الآخر على عجل, وندخل صمتاً في حوارات طويلة لحديث لم يكن.
سألتها إن كان في رفقتهاأحد.
ردت:
- حضرت بمفردي.
- حسناً إذن أقترح أن تلقي نظرة على المعرض ثمأدعوك لنشرب شيئاً معاً في المقهى المجاور.
تعمدت أن أتركها تقوم بجولة بمفردها. أردت أن أحافظ على جمالية المسافة لأراها
█║S│█│Y║▌║R│║█
بوضوح, ولأتجسس على ذاكرتها المعلقة فوقأكثر من جسر.
كما توقعت, بعد بضع لوحات, ذهبت صوب تلك اللوحة. رأيتها تقف أمامهاطويلاً كما لأول مرة منذ عشر سنوات.
كما من دون قصد قصدتها. كانت تجيل النظر فيدليل اللوحات. سألتها إن كانت أحبت تلك اللوحة.
قالت كما لإخفاء شبهة:
- كنتأعجب فقط أن يكون الرسام باعها. أرى عليها إشارة حمراء.
سألتها مستفيداً منالفرصة إن كانت تعرف الرسام.
قالت:
- لا.. أبداً. لكن من عادة الرسامين أنيحتفظوا بلوحتهم الأولى. وحسب التاريخ المكتوب عليها , هي أول لوحاته, بينها وبينبقية اللوحات أكثر من ربع قرن!
- هل كان يعنيك شراؤها؟
قالت بعد شيء منالتردد:
- لا أدري..
ثم واصلت:
- في جميع الحالات بيعت, وعلي أن أختارغيرها.. لا أستطيع التركيز على شيء وأنت معي. سأعود مرة ثانية لاختيار لوحة أولوحتين.
قلت مستدرجاً إياها لاعتراف ما:
- مازلت غير مصدق أننا معاً.. بربكما الذي جاء بك إلى هنا؟
أنا الذي كنت أملك سوء الظن بأجوبتها, لم أكن مهتماًباختيار صيغة لأسئلتي. كانت تملك إغراء الصمت المفاجئ عن اعتراف كادت تطيره ريحالمباغتة. ولذا بين جملتين تنحسران كذباً كانت تشد فستان اللغة صمتاً.. إلىالأسفل.
- إنها مصادفة لا أكثر.. أمدني أخي ناصر ببطاقة إعلان عن هذا المعرضلعلمه أنني أحب الرسم... غادرت باريس منذ 10 سنوات وما عدت منذ ذلك الحين أتابعالحياة الثقافية هنا.
لم أفهم سر إصرارها على إنكار وجود هذا الرجل ذات يوم فيحياتها.
أكان ذلك بسبب عاهته؟ أم كهولته؟ أم كانت فقط ككل الكتّاب لا تحب انفضاحشخصياتها في واقع الحياة؟
كان واضحاً أن ناصر لم يأتِ على ذكري معها ولازيان طبعاً, مما جعلها تتوقع وجودي هنا مصادفة. ونظراً لاختلاف اسم الرسام عن اسمبطلها, ربما اعتقدت أن الكذبة انطلت عليَّ, خاصة أنها كانت واثقة من وجود زيان فيالمستشفى واستحالة لقائي به.
ربما ولدت لحظتها في ذهني تلك الفكرة المجنونة التيرحت بسرعة الفرحة أخطط لتفاصيلها, بعد أن قررت أن أهيئ لذاكرتها مقلباً بحجمنكرانها!
عندما خلوت بها بعد ذلك في المقهى, بدت لي كثيرة الصمت سهواً, دائمةالنظر إلى الرواق الذي كنا نراه خلف الواجهة الزجاجية على الرصيف الآخر, كأنها كانتتستعيد شيئاً أو تتوقع قدوم أحد. إنها لم تتغير.
متداخل الوقت حبها, لكأنهاتواصل معك حب رجل أحبته قبلك , أثناء استعدادها لحب من سيليك.
لفرط ديمومةحالتها العشقية, لم تعد تعرف هلع النساء في بداية كل حب, ولا حداد العشاق أمام يتمالعواطف.
أنت الذي قد يأخذ معك حداد حب سنتين, يا لغباء حدادك الشعبي! من أين لكهذا الصبر على امرأة لها حداد ملكيّ, لا يكاد يموت ملك إلا ويعلن مع مواته اسم منسيعتلي عرش قلبها؟
سألتها مرة عن سبب ألا تكون كتبت سوى كتاب واحد. أجابتساخرة: " لم أرتدِ سوى حداد حب واحد, لتكتب لا بد أن تدخل في حالة حداد على أحد أوعلى شيء, الحياة تزداد قصراً كلما تقدم بنا العمر, ولا وقت لنا لمثل هذا الهدرالباذخ. ما الحداد إلا خيانة للحياة." وربما كانت تعني أن الوفاء لشخص واحد.. خيانةلأنفسنا. تحاشت قول ذلك لأنني كنت وقتها ذلك الشخص الواحد الذي كانت تحبه!
عندماأحضر النادل طلباتنا, سألتها وأنا أشعل سيجارة:
- هل كتبت شيئاً خلال هاتينالسنتين؟
كان باستطاعتي عبر هذا السؤال وحده أن أعرف ما حدث بعدي.
باغتهاسؤالي حتماً. على الأقل في استباقه أسئلة أخرى, أظنها أدركت بذكاء " شيفرتنا" العشقية.. كنت أسألها إن هي لبست حدادي بعض الوقت.
ردت بصوت غائب:
- لا..
لم تضف شيئاً على تلك الكلمة, أي تبرير يمكن أن يغير وقعها. شعرت بلسعةالألم وبوجع الاعتراف الذي تلقيته كإهانة لحبنا.
ألم يبق من اشتعالات ذلك الزمنالجميل ما يكفي لإضرام نار الكلمات في كتاب؟
أهي لم تحبني إذن؟ وما أحبت فيّ سوىخالد بن طوبال, الرجل الذي كنت أذكرها به والذي كانت تقول إنه أحد ابتكاراتهاالروائية.
أم ترى أحبت فيّ عبد الحق, الرجل الذي توهمته أنا وكان سيليني في عرشقلبها لو أن الموت لم يسبقها إليه؟
حب يحيلها إلى حب ولا وقت لديها للفقدان. الفقدان الذي هو مداد الكتابة.
سألتني بعدما طال صمتي:
- فيم تفكر؟
- فيمسرحية عنوانها " الحداد يليق بإلكترا". كنت أفكر أن الحداد يليق بك. جربي الحدادبعض الشيء, قد تكتبين أشياء جميلة.
- عدلت عن كتابة الروايات. إنها كالقمارتعطيك وهماً كاذباً بالكسب. أثناء إدارتك الآخرين تنسى أن تدير حياتك.. أقصد تنسىأن تحيا. كل رواية تضيف إلى عمر الآخرين ما تسرقه من عمر كاتبها. كمن يجهد في تبذيرحياة بحجة تدبير شؤونها.
سألتها ساخراً:
- ألهذا تقتلين أبطالك دائماً لتوفريعلى نفسك جهد إدارة حياتهم؟
ردت مازحة:
- ثمة أبطال يكبرون داخلك إلى حد لايتركون لك حيزاً للحياة, ولا بد أن تقتلهم لتحيا. مثل هؤلاء بإمكانهم قتل مؤلفيهم. بعض الروائيين يموتون على يد أبطالهم لأنهم ما توقعوا قدرة كائن حبري علىالقتل.
واصلت بعد شيء من الصمت:
- خالد مثلاً.. لو لم أقتله في رواية لقتلني. ما قست عليه رجلاً إلا و ازدادت فجيعتي. كان لا بد أن يموت. جماله يفضح بشاعةالآخرين ويشوش حياتي العاطفية.
راودتني رغبة أن أقول لها إنه- برغم ذلك- على قيدالحياة, يشاركنا استنشاق هواء هذه المدينة.
لكنني صمت. لم يكن آن بعد أوان تلكالمواجهة!
لم أدر لماذا, برغم ذلك, لم يزدني حديثي معها إلا اشتهاءًلها.
كاتبة مشغولة عن كتابة الروايات بالتهام الحياة, تفتح شهيتك لالتهامها. إضافة إلى أن امرأة على ذلك القدر من الكذب الروائي, تعطيك ذريعة إضافية لاستدراجهاإلى موعد تسقط فيه أقنعتها الروائية!
ها هي ذي. وأنا شارد بها عنها. نسيت كلمآخذي عليها. نسيت لماذا افترقنا.. لماذا كرهتها. وها أنا أريدها الآن, فوراً, بالتطرف نفسه. كنت سأقول : " أضيئي نفق الترقب
█║S│█│Y║▌║R│║█
بموعد" لكنني وجدت في تلك الصيغةاستجداءً لا يليق بامرأة لا تحب إلا رجلاً عصيّ العاطفة. قلبت جملتي في صيغة لاتسمح لها سوى بتحديد الوقت. قلت:
- أي ساعة أراك غداً؟
- أأنت على عجل؟
- أنا على امتلاء.
أضفت كما لأصحح زلة لسان كنت تعمدتها:
- في جعبتي كثير منالكلام إليك.
قالت:
- لماذا تتبدد في المشافهة؟ بما كان ما في جعبتك يصلحلكتابة رواية.
كان لها دهاء الأنوثة الفطري. فتنة امرأة تكيد لك بتواطؤ منك. امرأة مغوية , مستعصية, جمالها في نصفها المستحيل الذي يلغي السبيل إلى نصف آخر, يوهمك أنها مفتوحة على احتمال رغباتك.
هي المجرمة عمداً. الفاتنة كما بلا قصد. تتعاقد معها على الإخلاص وتدري أنك تبرم صفقة مع غيمة. لا يمكن أن تتوقع في أي أرضستمطر أو متى.
امرأة لها علاقة بالتقمص. تتقمص نساء من أقصى العفة إلى أقصىالفسق, من أقصى البراءة إلى أقصى الإجرام.
قلت:
- حواراتنا تحتاج إلى غرفةمغلقة.
ردت:
- لا أحب الثرثرة على شراشف الضجر.
أجبتها بما كنت واثقاً أنهسيقنعها:
- لن تضجري.. هيأت لك موقداً أنت حطبه.
لفظت هذه الجملة وأنا ابتسم, فوحدي كنت أعرف ما أعنيه. لكنني واصلت بنبرة أخرى:
- كيف تقاومين هذا المطربمفردك؟ نحن في باريس, إن لم يهزمك الحنين إليَّ ستهزمك النشرة الجوية, إلا إذا كنتأحضرتِ في حقائب سفرك من يتكفل بتدفئتك!
غرقت لأول مرة في صمت طويل.
لاحظت فيصوتها نبرة حزن لم أعهدها منها.. ثم واصلت كأنها تحادث نفسها:
- سامحكالله..
ولم تضف شيئاً.
شعرت بحزن من أساء إلى الفراشات, ولم أجد سبباًلشراستي معها. ربما لفرط حبي لها. ربما لإدراكي بامتلاكي المؤقت لها. لم أستطع أنأكون إلا على ذلك القدر من العنف العشقي.
قلت معتذراً :
سامحيني لم أكن أقصدإيلامك.
قالت بعد صمت:
- يؤلمني أنك ما زلت لا تعي كم أنا جاهزة لأدفع مقابللقاء معك. عيون زوجي مبثوثة في كل مكان.. وأنا أجلس إليك في مقهى غير معنية إن متبسببك في حادث حب. أنا التي أن لم أمت بعد, فلكوني عدلت عن الحب وتخليت عن الكتابة. الشبهتان اللتان لم يغفرهما لي زوجي.
أمسكت بيدها قصد تقبيلها, بدا لي خاتمالزواج, أعدت وضعها وأخذت الأخرى. طبعت قبلة طويلة عليها وتمتمت كما لنفسي:
- حبيبتي...
سألتها وأنا أرفع شفتي عن يدها:
- كيف سمح لك أن تسافري مندونه؟
قالت:
- جئت مع والدتي بذريعة أن أراجع طبيباً مختصاً في العقمالنسائي. نحن هنا لنلتقي بأخي ناصر. حضر من ألمانيا خصيصاً ليرانا. أخاف أن تموتأمي بدون أن تراه.. أصبحت هذه الفكرة ذعري الدائم, هرول العمر بها سريعاً منذغيابه.
قلت وأنا ممسك بيدها:
- كم تمنيت أن ألتقي بوالدتك. كثيراً ما شعرتأنها أمي. لا بسبب يتمي فحسب, بل لأحاسيسي المتداخلة المتقاطعة دوماً مع جسدك. أحياناً أشعر أننا خرجنا من الرحم نفسه. وأحياناً أن جسمك هو الذي لفظني إلى الحياةومن حقي أن أستوطنه. أعطيني تصريحاً للإقامة فيه تسعة أشهر.. أطالب باللجوء العاطفيإلى جسدك!
ابتسمت وعلا وجنتيها احمرار العذارى, وارتبكت خصلات شعرها حتى بدتكأنها صغيرتي.
كنت أحب جرأتها حيناً, وحيناً حياءها. أحب تلك الأنوثة المترفعةالتي لا يمكن أن تستبيحها عنوةً إلا بإذن عشقي.
قالت وهي ترفع خصلة شعرهاببطء:
- معك أريد حملاً أبدياً.
أجبت ممازحاً:
- لن أستطيع إذن أن أستولدكطفلة جميلة مثلك. أتدرين خسارة ألاَّ تتكرري في أنثى أخرى؟ ستتضائل كمية الأنوثة فيالعالم!
- بل أدري خسارة أن أتحسس بطني بحثاً عنك كل مرة, ولا أفهم ألا تكونتسربت إليَّ. لا بد أن تكون امرأة لتدرك فجيعة بطن لم يحبل ممن أحب. وحدها المرأةتدرك ذلك.
سألتها بعد صمت:
- حياة هل أحببتني؟
- لن أجيبك. أرى في سؤالكاستخفافاً بي, وفي جوابي عنه استخفافاً بك. كل المشاعر التي تستنجد بالبوح هي مشاعرنصف كاذبة. إن خدش حميمية الآخر لا تتأتى إلا بالتعري الدميم للبوح.
هذا كلامتعلمته منك في ذلك الزمن البعيد أيام كنت أستجدي منك اعترافاً بحبي فتجيب:" أي طبقشهي للبوح لا يخلو من توابل الرياء. وحده الصمت هو ذلك الشيء العاري الذي يخلو منالكذب."
قلت مندهشاً:
- متى حفظت كل هذا؟
- في تلك الأيام التي عشتها عندأقدام أريكتك, بصبر قطة, ألعق من صحن الانبهار كل ما تتفوه به. قلت مازحاً:
- وعندما كانت تشبع تلك القطة, تحولني إلى كرة صوفية تلعب بها حيناً وأحياناً أخرىتنتف بمخالبها خيوطها. كم غرستِ مخالب ساديتك في طيبوبتي.. ثم لعقت جراحي إمعاناًفي إيلامي.
ضحكنا بتواطؤ الزمن الجميل. وعندما رأيتها تنظر إلى ساعتها معلنةتأخرها, قلت:
- أريد أن أراكِ.. لا بد أن تتدبري لنا موعداً.
- لا أظننيأستطيع التحايل على ناصر وآماً معاً. سيلحق بي أحدهما حتماً حيثما أذهب.
قلتضاحكاً:
- ولماذا أنتِ روائية إذن؟
***
افترقنا في المقهى خشية أن نصادف أحد التجارالجزائريين من المترددين على المعرض, بعد أن تركت لها رقم هاتفي الجوال.
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 6 (0 من الأعضاء و 6 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)