أقول: وماذا يضره ذلك؟ إنما المقصود من الاسم المعرفة وقد عرف بأبي هريرة، وأصح ما قيل في اسمه عبد الله أو عبد الرحمن، وهو على ما نسبه ابن الكلبي وغيره: ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الأزدي ثم الدوسي، وأمه أميمة بنت صفيح بن الحارث بن سابي بن أبي صعب…إلخ.
قال: (ص153) (نشأته وأصله… لم يعرفوا شيئًا عن نشأته ولا عن تاريخه قبل إسلامه غير ما ذكر هو عن نفسه….: «نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني وعقبة رحلي، فكنت أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا، وكنيت بأبي هريرة بهرة صغيرة كنت ألعب بها».
102أقول: أما أصله فقد تقدم، وهو من قبيلة شريفة كريمة عزيزة، وأما نشأته فما أكثر الصحابة الذين لا تعرف نشأتهم حتى من خيارهم وكبارهم، وأما قوله: «نشأت يتيمًا... إلخ»، فهذه القصة رويت من أوجه في إسناد كل منها مقال، ومجموعها يثبت أصل القصة، فأما الألفاظ التي تنفرد بها بعض الروايات فلا، وفي الإصابة أن بسرة هذه أخت عتبة بن غزوان السلمي، وبلاد دوس بعيدة جدًا عن بلاد بني سليم فيظهر أن أبا هريرة في هجرته إلى النبيمر ببلاد بني سليم أو قريبًا منها، فوجد رفقة راحلين نحو المدينة وفيهم بسرة هذه فصحبهم على أن يخدمهم في الطريق ويطعموه ويعقبوه. ولا يدفع هذا ما ثبت في صحيح البخاري من قوله: «لما قدمت على النبي
قلت في الطريق:
يا ليلة من طولها وعنائها ** على أنها من دارة الكفر نجّتِ
قال: وأبق لي غلام في الطريق، فلما قدمت على رسول اللهفبايعته، فبينا أنا عنده إذ طلع الغلام، فقال: يا أبا هريرة! هذا غلامك، فقلت: هو حر لوجه الله. فأعتقه» انظر فتح الباري (8: 79) فقد يكون الغلام أبق منه قبل صحبته للرفقة، وبهذا تبين أن في القصة منقبتين له: الأولى أن إخدامه لنفسه إنما كان ليبلغ إلى النبي
ودار الإسلام، والثانية أنه مع قلة ذات يده أعتق غلامه، شكرًا لله تعالى على إبلاغه مقصده. وفي القصة عبرة بالغة، فإنه لما أذل نفسه بخدمة تلك المرأة استعانة على الهجرة في سبيل الله عوّضه الله تعالى بأن زوجه إياها تخدمه فوق ما خدمها، ثم كان على طريقته في التواضع والتحدث بالنعمة والاعتبار مع الميل إلى المزاح يذكر هذه القصة ويشير إلى تكليف امرأته بخدمته على نحو ما كانت تكلفه. وقد يكون وقع منه ذلك مرة أو مرتين على سبيل المزاح ومداعبة الأهل وتحقيق العبرة، وقد ثبت عن أبي المتوكل الناجي وهو ثقة أن أبا هريرة كانت له أمة زنجية قد غمتهم بعملها، فرفع عليها السوط يومًا ثم قال: «لولا القصاص يوم القيامة لأغشيتك به، ولكني سأبيعك ممن يوفيني ثمنك أحوج ما أكون إليه -يعني الله عز وجل- اذهبي فأنت حرة لله عز وجل» انظر البداية (8: 112). فمن كانت هذه حاله مع أمة مهينة، فما عسى أن تكون حاله مع امرأته الحرة الشريفة؟ ولكن أبا رية ذكر (ص187) بعض الألفاظ التي انفردت بها بعض الروايات. [28] ثم راح يسب أبا هريرة رضي الله عنه ويرميه بما هو من أبعد الناس عنه.
103وهذا مما يوضح أن أبا رية ليس بصدد بحث علمي، إنما صدره محشو براكين من الغيظ والغل والحقد يحاول أن يخلق المناسبات للترويح عن نفسه منها، كأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل في أصحاب نبيه: { لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ } ولا يصدق بدعاء النبيلأبي هريرة وأمه أن يحببهما الله إلى عباده المؤمنين، كما في ترجمته في فضائل الصحابة من صحيح مسلم.
وقال (ص153): (إسلامه. قدم أبو هريرة بعد أن تخطى الثلاثين من عمره).
أقول: كذا زعم الواقدي عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة، والواقدي متروك، وكثير ضعيف، وقد قال الواقدي نفسه: إن أبا هريرة مات (سنة 59) وعمره (78)، ومقتضى هذا أن يكون عمره عند قدومه سنة سبع نحو ست وعشرين سنة، وهذا أشبه. والله أعلم
وفي الصحابة الطفيل بن عمرو الدوسي وهو من رهط أبي هريرة بني ثعلبة بن سليم بن فهم، أسلم قبل الهجرة وقصته مطولة في السيرة وغيرها، وفي ترجمته من الإصابة أنه لما عاد بعد إسلامه إلى قومه –وذلك قبل الهجرة بمدة- دعا قومه إلى الإسلام فلم يجبه إلا أبوه وأبو هريرة، فعلى هذا يكون إسلام أبي هريرة قبل الهجرة، وإنما تأخرت هجرته إلى زمن خيبر.
وذكر أبو رية (ص153) مقاولة أبي هريرة وأبان بن سعيد بن العاص وقول أبان: «واعجبًا لوبر تدلى علينا من قدوم ضأن» وعلق في الحاشية: (الوبر: دابة، والمعنى: أن أبا هريرة ملتصق في قريش وشبهه بما يعلق بوبر الشاة) وهذا من تحقيق أبي رية! وليس أبو هريرة من قريش في شيء لا ملصق ولا غير ملصق. وقوله: (وشبهه) يقتضي أن الرواية (وبر) بالتحريك، ولو كان كذلك لما بقي لقوله: (الوبر دابة) معنى، وعلق أيضًا (ومما يلفت النظر أن النبيلم يؤاخذ أبانًا بما أغلظ لأبي هريرة) وأقول: ليس ذاك بإغلاظ مع أنه إنما كان جوابًا ومكافأة.
وقال (ص154): (ولفقره اتخذ سبيله إلى الصفة، فكان أشهر من أمها، ثم صار عريفًا لمن كان يسكنونها) وعلق عليها عن أبي الفداء تعريفًا لأهل الصفة كما توهم، وقد عرفهم أبو هريرة رضي الله عنه التعريف الحق فقال كما في الصحيحين وغيرهما: «وأهل الصفة أضياف الإسلام104لا يأوون على أهل ولا مال... إلخ» وقد قال الله تبارك وتعالى: { لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ } الآية. كان للأنصار حوائط فيعملون فيها ويأكلون من غلتها، وكان كثير من المهاجرين يتاجرون، ومن الواضح أن التجارة في المدينة وهي محوطة بالمشركين من كل جانب لم تكن لتتسع للمهاجرين كلهم، فبقي بعضهم بالصفة، وكان أهل الصفة يقومون بفروض عظيمة، منها: تلقي القرآن والسنن، فكانت الصفة مدرسة الإسلام، ومنها: حراسة النبي ص، ومنها: الاستعداد لتنفيذ أوامره وحاجاته في طلب من يريد طلبه من المسلمين وغير ذلك، كانوا قائمين بهذه الفروض عن المسلمين، فكانت نفقتهم على سائر المسلمين وإن سميت صدقة، وكانوا بجوار النبي ص يؤثرهم على نفسه وأهل بيته، وقد حدث علي رضي الله عنه أنه قال لفاطمة عليها السلام يومًا: «والله لقد سنوتُ حتى لقد اشتكيت صدري، وقد جاء الله أباكِ بسبي، فاذهبي فاستخدميه، فقالت: وأنا والله لقد طحنت حتى مجلت يداي... » الحديث، وفيه أنهما أتيا النبي ص فذكرا له ذلك فقال: «والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم…» الحديث، انظر مسند أحمد الحديث (838). وكان أبو هريرة من بين أهل الصفة يخدم النبي ص ويدور معه، فلم يكن ليجوع إلا والنبي ص وأهل بيته جياع، فهل في ذلك الجوع من عيب؟
وأما تعرضه لبعض الصحابة رجاء أن يطعمه فإنما فعل ذلك مرة أو مرتين لشدة الضرورة، ولم يكن في تعرضه سؤال ولا ذكر لجوعه، وقد نقل الله تعالى في كتابه أن موسى والخضر مرا بأهل قرية فاستطعماهم، وانظر تفسير سورة التكاثر من تفسير ابن كثير.
هذا وقد عد أهل العلم -كما في الحلية – جماعة من المشاهير في أهل الصفة، منهم سعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة، وزيد بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وصهيب، وسلمان، والمقداد وغيرهم.
ثم قال: أبو رية (ص154) (سبب صحبته للنبي: كان أبو هريرة صريحًا صادقًا في الإبانة عن سبب صحبته للنبي
… فلم يقل إنه صاحبه للمحبة والهدايا كما كان يصاحبه غيره من سائر المسلمين، وإنما قال: إنه قد صاحبه على ملء بطنه، ففي حديث رواه أحمد والشيخان عن سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج قال سمعت أبا هريرة يقول:
105«إني كنت امرأ مسكينًا أصحب رسول الله على ملء بطني») ورواية مسلم «أخدم رسول الله» وفي رواية: «لشبع بطني».
أقول: حاصل هذا أن الواقع في رواية الإمام أحمد والبخاري (أصحب) وهذا خلاف الواقع، فرواية أحمد وهو الحديث (7273): (حدثنا سفيان عن الزهري عن عبد الرحمن الأعرج، قال سمعت أبا هريرة يقول: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله، والله الموعد، إني كنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله
على ملء بطني وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم... ») ولفظ البخاري في صحيحه في كتاب الاعتصام، باب: الحجة على من قال إن أحكام النبي
كانت ظاهرة… إلخ (حدثنا علي حدثنا سفيان عن الزهري أنه سمع من الأعرج يقول: أخبرني أبو هريرة قال: «إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله
والله الموعد، إني كنت امرأ مسكينًا ألزم رسول الله
... إلخ»). وأخرجه البخاري في مواضع أخرى من وجوه أخرى عن الزهري وفيه (ألزم)، وفي موضع: (إن أبا هريرة كان يلزم) فأبو هريرة لم يتكلم عن إسلامه ولا هجرته ولا صحبته المشتركة بينه وبين غيره من الصحابة، وإنما تكلم عن مزيته وهي لزومه للنبي
دونهم، ولم يعلل هذه المزية بزيادة محبته أو زيادة رغبته في الخير أو العلم أو نحو ذلك مما يجعل له فضيلة على إخوانه، وإنما عللها على أسلوبه في التواضع بقوله: «على ملء بطني» فإنه جعل المزية لهم عليه بأنهم أقوياء يسعون في معاشهم وهو مسكين، هذا والله أدب بالغ تخضع له الأعناق. ولكن أبا رية يهتبل تواضع أبي هريرة ويبدل الكلمة، ويحرف المعنى، ويركب العنوان على تحريفه ويحاول صرف الناظر عن التحري والتثبت بذكره رواية مسلم ليوهم أنه قد تحرى الدقة البالغة، ويبني على صنيعه تلك الدعوى الفاجرة، [29] وقد تقدم أن أبا هريرة أسلم في بلاده قبل الهجرة: لماذا؟ ثم ترك وطنه للهجرة مؤجرًا نفسه في طريقه على طعمته وعقبته، لماذا؟ ولما شاهد النبي ص وجاء غلامه الذي كان أبق منه أعتقه، لماذا؟ وتقدم (ص100) شهادة النبي ص بأنه أحرص الصحابة على معرفة حديثه، لماذا؟ قال ابن كثير: وقال سعيد بن أبي هند عن أبي هريرة: إن النبي ص قال له: «ألا تسألني من هذه الغنائم التي سألني أصحابك؟
106قال: فقلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله…» البداية (8: 111)، لماذا؟ وتقدم (ص 146) قول عمر بن الخطاب: «خفي علي هذا من أمر رسول الله ص، ألهاني عنه الصفق بالأسواق» وقال طلحة بن عبيد الله لما سئل عن حديث أبي هريرة: «والله ما نشك أنه قد سمع من رسول الله ص ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، إنا كنا قومًا أغنياء لنا بيوتات وأهلون، وكنا نأتي رسول الله ص طرفي النهار ثم نرجع، وكان هو مسكينًا لا مال له ولا أهل وإنما كانت يده مع يد رسول الله ص، وكان يدور معه حيث ما دار، فما نشك أنه قد علم ما لم نعلم وسمع ما لم نسمع» البداية (8: 109) [30] وحدث أبو أيوب -وهو من كبار الصحابة- عن أبي هريرة عن النبي ص، فقيل له في ذلك فقال: «إن أبا هريرة قد سمع ما لم نسمع» البداية (8: 109) وحدث أبو هريرة بحديث، فاستثبته ابن عمر فاستشهد أبو هريرة عائشة فشهدت، فقال أبو هريرة: «إنه لم يشغلني عن رسول الله ص غرس الودي ولا صفق بالأسواق، إنما كنت أطلب من رسول الله ص كلمة يعلمنيها أو أكلة يطعمنيها. فقال له ابن عمر: أنت يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله ص وأعلمنا بحديثه» البداية (8: 109) [31] وقالت عائشة لأبي هريرة: «أكثرت الحديث، قال: إني والله ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكني أرى ذلك شغلك عما استكثرت من حديثي، قالت: لعله» البداية (8: 109). [32]
فأنت ترى اعترافهم له، وترى أن أدبه البالغ المتقدم لم يكن تقية، فإنه لما اقتضى الحال صَدَعَ صَدْعَ الواثق المطمئن.
ثم ذكر أبو رية (ص155) قول أبي هريرة: «كنت أستقرئ الرجل الآية وهي معي كي ينقلب فيطعمني، وكان خير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا». ثم قال أبو رية: (من أجل ذلك كان جعفر هذا في رأي أبي هريرة أفضل الصحابة جميعًا.. أخرج الترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة: «ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله ص أفضل من جعفر بن أبي طالب».
107أقول: إسناده صحيح إلا أنه غريب، ومن تدبر ترجمة جعفر رضي الله عنه لم يستكثر عليه هذا، وفي فتح الباري (7: 62) في شرح قوله: «وكان أخير الناس للمساكين»، ما لفظه: (وهذا التقييد يحمل عليه المطلق الذي جاء… عن أبي هريرة قال: «ما احتذى النعال... ».
ثم ذكر (ص156-157) حكايات عن الثعالبي والبديع الهمذاني وعبد الحسين بن شرف الدين الرافضي وكلها من خرافات الرافضة وأشباههم، لا تمت إلى العلم بصلة.
ثم قال آخر (ص157): (وأخرج أبو نعيم في الحلية… إلخ).
أقول: هو من طريق فرقد السبخي قال: وكان أبو هريرة… إلخ، وفرقد ليس بثقة، ولم يدرك أبا هريرة.
وقال: (ص158): (وفي الحلية كذلك «أن أبا هريرة كان في سفر فلما نزلوا وضعوا السفرة وبعثوا إليه وهو يصلي فقال: إني صائم، فلما كادوا يفرغون، جاء فجعل يأكل الطعام، فنظر القوم إلى رسولهم… فقال أبو هريرة: صدق إني سمعت رسول اللهيقول: صوم رمضان وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر، وقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله».
أقول: هذه فضيلة له، وقد وقع مثلها لأبي ذر رضي الله عنه (مسند أحمد (5: 150) وغيره، وهو الذي قال فيه النبي: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر».
قال: (وفي خاص الخاص للثعالبي… إلخ).
أقول: ومن هو الثعالبي حتى يقبل قوله بغير سند؟
أقول: (وقد جعل أبو هريرة الأكل من المروءة، فقد سئل: «ما المروءة؟ قال: تقوى الله، وإصلاح الصنيعة، والغداء والعشاء بالأفنية».
أقول: ليس في هذا جعل الأكل نفسه من المروءة، وإنما فيه أن من المروءة أن يكون الأكل بالأفنية) يريد بموضع بارز ليدعو صاحب الطعام من مر ويشاركه من حضر، لا يغلق بابه ويأكل وحده.
قال: (وقد أضربنا عن أخبار كثيرة؛ لأن في بعضها ما يزيد في إيلام الحشوية الذين يعيشون بغير عقول).
أقول: أما عقول الملحدين الذي يعيشون بلا دين، ومقلديهم المغرورين، فنعوذ بالله منها.
ثم قال: (حديث: «زر غبًا تزدد حبًا». قال رسول اللهلأبي هريرة… إلخ)
108أقول: هذا حديث مذكور في الموضوعات، روي عن علي وعائشة وابن عباس بطرق كلها تالفة.
ثم قال: (ص161) (مزاحه وهذره. أجمع مؤرخو أبي هريرة على أنه كان رجلًا مزاحًا مهذارًا).
أقول: أما المزاح فنعم، ولم يكن في مزاحه ما ينكر، وأما الهذر فأسنده بقوله: قالت عنه عائشة… في حديث المهراس «إنه كان رجلًا مهذارا» وهذا باطل، لم تتكلم عائشة في حديث المهراس بحرف. انظر التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (2: 300) ثم رأيت الدكتور مصطفى السباعي قد بسط الكلام في هذا في الجزء (9) في المجلد (10) من مجلة المسلمون (ص20).
قال أبو رية: (عن أبي رافع قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة فيركب حمارًا قد شد عليه برذعة وفي رأسه خلية من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق قد جاء الأمير، وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب، [33] فلا يشعرون بشيء حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه فينفر الصبيان فيفرون، وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ثعلبة بن [أبي] مالك القرظي قال: «أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب وهو يومئذ خليفة لمروان على المدينة فقال: أوسع الطريق للأمير يا ابن [أبي] مالك. فقلت له: يكفي هذا. فقال: أوسع الطريق للأمير، والحزمة عليه».
أقول: إنما كان يعتمد هذا التبذل والمزاح حين يكون أميرًا تهاونًا بالإمارة ومناقضة لما كان يتسم به بعض الأمراء من الكبر والتعالي على الناس، وكانت إمارة أبي هريرة رحمة بأهل المدينة يستريحون إليها من عبية أمراء بني أمية وعنجهيتهم، وكانت إحياء للسنة، فإن الأمير كان هو الذي يؤم الناس، فكان الأمراء يغفلون أشياء من السنة كالتكبير في الصلاة وسجود التلاوة وقراءة السور التي كان يقرؤها النبيوغير ذلك، فكان أبو هريرة إذا ولى كان هو الذي يؤم بالناس، فيحيي ما أهمله الأمراء من السنن.
قال: (ولقد كانوا يتهكمون برواياته ويتندرون عليها لما تفنن فيها وأكثر منها، فعن أبي رافع أن رجلًا من قريش أتى أبا هريرة في حلة وهو يتبختر فيها فقال: «يا أبا هريرة! إنك تكثر الحديث عن رسول اللهفهل سمعته يقول في حلتي هذه شيئًا؟ فقال: [ والله إنكم لتؤذوننا، ولولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه ما حدثتكم بشيء. ] [34] سمعت أبا القاسم
109يقول: «إن رجلًا ممن كان قبلكم بينما كان يتبختر في حلة إذ خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها حتى تقوم الساعة»، فوالله ما أدري لعله كان من قومك أو من رهطك».
أقول: متن الحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر، وهو عند أحمد وغيره من حديث ابن عمرو، ومن حديث أبي سعيد، وجاء من حديث غيرهم. وقال الدارمي في (باب: تعجيل عقوبة من بلغه عن النبيحديث فلم يعظمه ولم يوقره، … عن العجلان عن أبي هريرة) فذكر المتن قال عقبه: «فقال له فتى -قد سماه- وهو في حلة له: أهكذا كان يمشي ذلك الفتى الذي خسف به؟ ثم ضرب بيده فعثر عثرة كاد يتكسر منها، فقال أبو هريرة: للمنخرين وللفم { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }».
أقول: فقد أخزى الله ذاك المستهزئ كما أخزى غيره من المستهزئين بدين الله ورسله وخيار عباده { وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ }.
وقال (ص162): (كثرة أحاديثه) ثم قال (ص163): (وقد أفزعت كثرة رواية أبي هريرة عمر بن الخطاب فضربه بالدرة وقال له: «أكثرت يا أبا هريرة من الرواية وأحرى بك أن تكون كاذبًا».
أقول: لم يعزُ هذه الحكاية هنا، وعزاها (ص171) إلى شرح النهج لابن أبي الحديد حكاية عن أبي جعفر الإسكافي، وابن أبي الحديد من دعاة الاعتزال والرفض والكيد للإسلام، وحاله مع ابن العلقمي الخبيث معروفة، والإسكافي من دعاة المعتزلة والرفض أيضًا في القرن الثالث ولا يعرف له سند، ومثل هذه الحكايات الطائشة توجد بكثرة عند الرافضة والناصبة وغيرهم بما فيه انتقاص لأبي بكر وعمر وعلي وعائشة وغيرهم، وإنما يتشبث بها من لا يعقل، وقد ذكر ابن أبي الحديد (1: 360) أشياء عن الإسكافي من الطعن في أبي هريرة وغيره من الصحابة وذكر من ذلك شيئًا من مزاح أبي هريرة فقال ابن أبي الحديد: (قلت: قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة وقوله: في حجة؛ لأنه غير متهم عليه) وفي هذا إشارة إلى أن الإسكافي متهم. ونحن كما لا نتهم ابن قتيبة قد لا نتهم الإسكافي باختلاق الكذب، ولكن نتهمه بتلقف الأكاذيب من أفاكي أصحابه الرافضة والمعتزلة، وأهل العلم لا يقبلون الأخبار المنقطعة ولو ذكرها كبار أئمة السنة، فما بالك بما يحكيه ابن أبي الحديد عن الإسكافي عمن تقدمه بزمان؟
قال (وقد أخرج ابن عساكر من حديث السائب بن يزيد: «لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس أو بأرض القردة»).
أقول: عزاه إلى البداية (8: 106) ولكن لفظه هناك (… دوس، وقال لكعب الأحبار: «لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة» فأسقط أبو رية هنا ذكر كعب، وجمع الكلمتين لأبي هريرة. وله في هذه الحكاية فعلة أشنع من هذه. قال (ص30): (وقال لكعب الأحبار: «لتتركن الحديث أو لألحقنك... إلخ» أسقط قوله (عن الأُوَل) لغرضين: الأول: تقوية110دعواه أن عمر كان ينهى عن الحديث عن النبي ص. الثاني ترويج دعوى مهولة فاجرة خبيثة، وهي دعوى أن كعبًا مع أنه لم يلق النبي ص كان يحدث عنه بما يشاء، وكان الصحابة يسمعون منه تلك الأحاديث ويقبلونها بسذاجة مخجلة ثم لا يكتفون بذلك حتى يذهبوا فيروونها عن النبي ص رأسًا فيوهموا الناس أنهم سمعوها من النبي ص أو على الأقل من بعض إخوانهم من الصحابة، ولزيادة تفظيع هذا الزعم بالغ في الحط على كعب وزعم أنه كان منافقًا يسعى لهدم الإسلام ويفتري ما شاء من الأكاذيب يرويها عن النبي ص فيتقبلها الصحابة ويروونها عن النبي ص رأسًا، فعلى هذا يزعم أن كل ما جاء من أحاديث الصحابة ولم يصرح الصحابي بسماعه من النبي ص فإنه يحتمل أن يكون مما افتراه كعب { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا } وراجع (ص73). [35] وهذه الخطة الجهنمية من أخطر تخطيط الكيد اليهودي الخاسر الذي مرت الإشارة إليه (ص94 و 99). وكذا قال (ص126): (قال له: «لتتركن الحديث أو لألحقنك»…) أسقط قوله "عن الأول" أيضًا ليؤكد لك أنه عمدًا ارتكب ذلك. ثم لم يكفه حتى قال (ص115): (لما قدم كعب المدينة في عهد عمر وأظهر إسلامه أخذ يعمل في دهاء ومكر لما أسلم من أجله من إفساد الدين وافتراء الكذب على النبي (كذا؟) ولم يلبث عمر أن فطن لكيده وتبين له سوء دخلته فنهاه عن الرواية عن النبي (كذا؟) وتوعده إن لم يترك الحديث عن رسول الله (كذا؟) أو ليلحقنه بأرض القردة، كذا قال، وعزا ذلك إلى المصدر نفسه وهو البداية والنهاية ج8 لكنه جعل الصفحة (206) والصواب (106) فهل تعمد هذا ليعمي عن فضيحته؟ فليتدبر القارئ، وينظر من الذي يعمل في دهاء ومكر لإفساد الدين بكيد وسوء دخلة؟
هذا وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في البداية: (قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب… إلخ) ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) ابن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا؟ وفي البداية عقبه: (قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده). أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي،111ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مر (ص106)، هذا باطل قطعًا. على أن أبا رية يعترف أن كعبًا لم يزل يحدث عن الأول حياة عمر كلها، وكيف يعقل أن يرخص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدد عمر مهاجرًا أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص92-93)، وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم.
قال أبو رية (ص16): (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده).
أقول: لم يمت الحق بموت عمر، وسيأتي تمام هذا.
قال: (ومن قوله في ذلك: «إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي»).
أقول: يروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح.
قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: «ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول اللهحتى قبض عمر»، ثم يقول: «أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذًا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله»).
أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني -وهو من أئمة الجرح والتعديل-: (اتهم في حديثه). وهناك أخبار وآثار تعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من الإصابة.
وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار، مع ثناء جماعة منهم عليه، وسماع كثير منهم منه، وروايتهم عنه كما يأتي؛ يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدل إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر.
ثم حكى أبو رية عن صاحب المنار قال: (لو طال عُمر عمر حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة).
112أقول: وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى يستحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحث عليه، وحفظُ الله تبارك وتعالى لشريعته وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر.
ثم قال أبو رية (ص164): (كيف سوغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبيبأنه ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي).
أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟
قال: (وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إذا لم تحلوا حرامًا ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس»).
أقول: ههنا مآخذ:
الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: «أتينا النبيفقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديث فلا نقدر أن نؤديه كما سمعنا. فقال: إذا لم… إلخ») وهو في مجمع الزوائد (1: 154) وقال: (رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه).
الثاني: أن هذا الخبر إنما يدل على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: «وأصبتم المعنى» وقد تقدم الكلام في الرواية بالمعنى (ص52) فما بعدها، ودعوى أبي رية هنا شيء آخر كما يأتي.
الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضت عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي.
قال: (وقال أيضًا إنه سمع النبي يقول: «من حدث حديثًا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته» روى ذلك ابن عساكر في تاريخه).
أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال (5: 223) وهناك أن ابن عساكر أخرجه عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذاب، وأبوه مجهول.
قال أبو رية: (وفي الإحكام…. لابن حزم) (2: 78) أنه روى عن رسول الله:
113«إذا حُدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث»).
أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن براز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه: (و أشعث بن براز كذاب ساقط).
قال: (وروى عن رسول الله: «إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله»).
أقول: عزاه إلى توجيه النظر (ص278) وهناك عقبه قول أبي حاتم: (الحديث منكر، الثقات لا يرفعونه) يريد لا يصلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي ص مرسلا، ذكره البخاري في التاريخ (2/1/434) ثم ذكر أن بعضهم قال: (عن أبي هريرة) قال البخاري: (وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة). ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في الإحكام عقب الحديث السابق وقال: (عبد الله بن سعيد كذاب مشهور). وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على موضوعات الشوكاني إن شاء الله تعالى.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)