قال: ثم إن الحجاج بن جارية حمل وهو في الميمنة على عمر بن هبيرة وهو في الميسرة، وفيها الطفيل بن عامر بن واثلة، فالتقى هو والطفيل - وكانا صديقين متؤاخيين - فتعارفا، وقد رفع كل منهما السيف على صاحبه، فكفا أيديهما، واقتتلوا طويلًا، ثم إن ميسرة عدي بن وتاد زالت غير بعيد، وانصرف الحجاج بن جارية إلى موقفه. ثم إن الربيع بن يزيد حمل على عبد الله بن زهير، فاقتتلوا طويلًا، ثم إن جماعة الناس حملت على الأسدي فقتلته، وانكشف ميسرة مطرف ابن المغيرة حتى انتهت إليه. ثم إن عمر بن هبيرة حمل على الحجاج بن جارية وأصحابه فقاتله قتالًا طويلًا، ثم إنه حذره حتى اتنهى إلى مطرف، وحمل ابن أقيصر الخثعمي في الخيل على سليمان بن صخر المزني فقتله، وانكشف خيلهم، حتى انتهى إلى مطرف، فثم اقتتلت الفرسان أشد قتال رآه الناس قط، ثم إنه وصل إلى مطرف. قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه جعل يناديهم يومئذ: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ". قال: ولم يزل يقاتل حتى قتل، واحتز رأسه عمر بن هبيرة، وذكر أنه قتله، وقد كان أسرع إليه غير واحد، غير أن ابن هبيرة احتز رأسه وأوفده إلى عدي بن وتاد وحظي به، وقاتل عمر بن هبيرة يومئذ وأبلى بلاء حسنًا. قال أبو مخنف: وقد حدثني حكيم بن أبي سفيان الأزدي أنه قتل يزيد بن زياد مولى المغيرة بن شعبة، وكان صاحب راية مطرف. قال: ودخلوا عسكر مطرف، وكان مطرف قد جعل على عسكره عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، فقتل، وكان صالحًا ناسكًا عفيفًا. أبو مخنف: حدثني زيد مولاهم أنه رأى رأسًا مع ابن أقيصر الخثعمي، فما ملكت نفسي أن قلت له: أما والله قد قتلته من المصلين العابدين الذاكرين الله كثيرًا. قال: فأقبل نحوي وقال: من أنت؟ فقال له مولاي: هذا غلامي ماله؟ قال: فأخبره بمقالتي؛ فقال إنه ضعيف العقل؛ قال: ثم انصرفنا إلى الري بن عدي بن وتاد. قال: وبعث رجالًا من أهل البلاء إلى الحجاج، فأكرمهم وأحسن إليهم. قال: ولما رجع إلى الري جاءت بجيلة إلى عدي بن وتاد فطلبوا لبكير بن هارون الأمان فآمنه، وطلبت ثقيف لسويد بن سرحان الثقفي الأمان فآمنه، وطلبت في كل رجل كان مع مطرف عشيرته، فآمنهم وأحسن في ذلك، وقد كان رجال مكن أصحاب مطرف أحيط بهم في عسكر مطرف، فنادوا: يا براء، خذ لنا الأمان، يا براء، اشفع لنا. فشفع لهم، فتركوا، وأسر عدي ناسًا كثيرًا فخلى عنهم.
قال أبو مخنف: فحدثني النضر بن صالح أنه أقبل حتى قدم على سويد بن عبد الرحمن بحلوان، فأكرمه وأحسن إليه، ثم إنه انصرف بعد ذلك إلى الكوفة. قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن علقمة أن الحجاج بن جارية الخثعمي أتى الري وكان مكتبه بها، فطلب إلى عدي فيه، فقال: هذا رجل مشهور قد شهر مع صاحبه، وهذا كتاب الحجاج إلى فيه. قال أبو مخنف: فحدثني أبي عن عبد الله بن زهير، قال: كنت فيمن كلمه في الحجاج بن جارية، فأخرج إلينا كتاب الحجاج بن يوسف: أما بعد: فإن كان الله قتل الحجاج بن جارية فبعدًا له. فذاك ما هو أهوى وأحب؛ وإن كان حيًا فاطلبه قبلك حتى توثقه، ثم سرح به إلى إن شاء الله. والسلام.
قال: فقال لنا: قد كتب إلي فيه، ولابد من السمع والطاعة، ولو لم يكتب إلي فيه آمنته لكم، وكففت عنه فلم أطلبه. وقمنا من عنده. قال: فلم يزل الحجاج بن جارية خائفًا حتى عزل عدي بن وتاد، وقدم خالد ابن عتاب بن ورقاء، فمشيت إليه فيه، فكلمته فآمنته. وقال حبيب بن خدرة مولى لبنى هلال بن عامر:
هل أتى فائد عن أيسارنا ** إذ خشينا من عدو خرقا
إذ أتاني الخوف من مأمننا ** فطوينا في سواد أفقا
وسلي هدية يوم هل رأيت ** بشرًا أكرم منا خلقا!
وسليها أعلى العهد لنا ** أو يصيرون علينا حنقا!
ولكم من خلة من قبلها ** قد صرمنا حبلها فانطلقا
قد أصبنا العيش عيش ناعمًا ** وأصبنا العيش عيشًا رنقا
وأصبت الدهر دهرًا اشتهى ** طبقًا منه وألوى طبقا
وشهدت الخيل في ملومة ** ما ترى منهن إلا الحدقا
يتساقون بأطراف القنا ** من نجيع الموت كأسا دهقا
فطراد الخيل قد يؤنقني ** ويرد اللهو عني الأنقا
بمشيح البيض حتى يتركوا ** لسيوف الهند فيها طرقا
فكأني من غد وافقتها ** مثل ما وافق شن طبقا
ذكر الخبر عن وقوع الخلاف بين الأزارقة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة، فخالفه بعضهم واعتزله، وبايع عبد ربه الكبير، وأقام بعضهم على بيعة قطري.
ذكر الخبر عن ذلك وعن السبب الذي من أجله حدث الاختلاف بينهم حتى صار أمرهم إلى الهلاك
ذكر هشام عن أبي مخنف، عن يوسف بن يزيد، أن المهلب أقام بسابور فقاتل قطريًا وأصحابه من الأزارقة بعدما صرف الحجاج عتاب بن ورقاء عن عسكره نحوًا من سنة. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم قتالًا شديدًا، وكانت كرمان في أيدي الخوارج، وفارس في يد المهلب، فكان قد ضاق عليهم مكانهم الذي هم به، لا يأتيهم من فارس مادة، وبعدت ديارهم عنهم، فخرجوا حتى أتوا كرمان وتبعهم المهلب حتى نزل بجيرفت - وجيرفيت مدينة كرمان - فقاتلهم بها أكثر من سنة قتالًا شديدًا. وحازهم عن فارس كلها، فلما صارت فارس كلها في يد المهلب بعث الحجاج عليها عماله وأخذها من المهلب، فبلغ ذلك عند عبد الملك، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فدع بيد المهلب خراج جبال فارس، فإنه لا بد للجيش من قوة، ولصاحب الجيش من معونة، ودع له كورة فساودرابجرد. وكورة إصطخر. فتركها للمهلب، فبعث المهلب عليها عماله، فكانت له قوة على عدوه وما يصلحه، ففي ذلك يقول الشاعر الأزد وهو يعاتب المهلب:
نقاتل عن قصور درابجرد ** ونجبي للمغيرة والرقاد
وكان الرقاد بن زياد بن همام - رجل من العتيك - كريمًا على المهلب، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة. وكتب إلى المهلب: أما بعد، فإنك والله لو شئت فيما أرى لقد اصطلمت هذه الخارجة المارقة، ولكنك تحب طول بقائهم لتأكل الأرض حولك. وقد بعثت إليك البراء بن قبيصة لينهضك إليهم، فانهض إليهم إذا قدم عليك بجميع المسلمين، قم جاهدهم أشد الجهاد. وإياك والعلل والأباطيل، والأمور التي ليست لك عندي بسائغة ولا جائزة؛ والسلام.
فأخرج المهلب بنيه؛ كل ابن له في كتيبة، وأخرج الناس على راياتهم ومصافهم وأخماسهم، وجاء البراء بن قبيصة فوقف على تل قريب منهم حيث يراهم. فأخذت الكتائب تحمل على الكتائب، والرجال على الرجال، فيقتلون أشد قتال رآه الناس من صلاة الغداة إلى انتصاف النهار، ثم انصرفوا. فجاء البراء بن قبيصة إلى المهلب فقال له: لا والله ما رأيت كبنيك فرسانًا قط، ولا كفرسانك من العرب فرسانًا قط، ولا رأيت مثل قوم يقاتلونك قط أصبر ولا أبأس، أنت والله المعذور. فرجع بالناس المهلب، حتى إذا كان عند العصر خرج إليهم بالناس وبنيه في كتائبهم، فقاتلوه كقتالهم في أول مرة. قال أبو مخنف: وحدثني أبو المغلس الكناني، عن عمه أبي طلحة، قال: خرجت كتيبة من كتائبهم لكتيبة من كتائبنا، فاشتد بينهما القتال، فأخذت كل واحدة منهما لا تصد عن الأخرى، فاقتتلتا حتى حجز الليل بينهما، فقالت إحداهما للأخرى: ممن أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بني تميم؛ وقال هؤلاء: نحن من بني تميم؟ فانصرفوا عند المساء، قال المهلب للبراء: كيف رأيت؟ قال: رأيت قومًا والله ما يعينك عليهم إلا الله. فأحسن إلى البراء بن قبيصة وأجازه. وحمله وكساه، وأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم انصر إلى الحجاج فآتاه بعذر المهلب، وأخبره بما رأى، وكتب المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فقد آتاني كتاب الأمير أصلحه الله. واتهامه إياي في هذه الخارجة المارقة، وأمرني الأمير بالنهوض إليهم، وإشهاد رسوله ذلك، وقد فعلت، فليسأله عما رأى، فأما أنا فوالله لو كنت أقدر على استئصالهم وإزالتهم عن مكانهم ثم أمسكت عن ذلك لقد غششت المسلمين، وما وفيت لأمير المؤمنين، ولا نصحت للأمير - أصلحه الله - فمعاذ الله أن يكون هذا من رأيي، ولا مما أدين الله به، والسلام. ثم إن الهلب قاتلهم بها ثمانية عشر شهرًا لا يستقل منهم شيئًا، ولا
يرى في موطن ينقعون له ولمن معه من أهل العراق من الطعن والضرب ما يردعونهم به ويكفونهم عنهم. ثم إن رجلًا منهم كان عاملًا لقطرى على ناحية من كرمان خرج في سرية لهم يدعى المقعطر من بني ضبة، فقتل رجلًا قد كان ذا بأس من الخوارج، ودخل منهم في ولاية، فقتله المقعطر، فوثبت الخوارج إلى قطرى، فذكروا له ذلك، وقالوا: أمكنا من الضبي نقتله بصاحبنا، فقال لهم: ما أرى أن أفعل! رجل تأول فأخطأ في التأويل ما أرى أن تقتلوه، وهو من ذوي الفضل منكم، والسابقة فيكم، قالوا: بلى! قال لهم: لا، فوقع الاختلاف بينهم، فولوا عبد ربه الكبير، وخلعوا قطريًا، وبايع قطريًا منهم عصابة نحوًا من ربعهم أو خمسهم، فقاتلهم نحوًا من شهر غدوة وعشية. فكتب بذلك المهلب إلى الحجاج: أما بعد، فإن الله قد ألقى بأس الخوارج بينهم، فخلع عظمهم قطريًا وبايعوا عبد رب، وبقيت عصابة منهم مع قطري، فهم يقاتل بعضهم بعضأ غدوًا وعشيًا، وقد رجزت أن يكون ذلك من أمرهم سبب هلاكهم إن شاء الله! والسلام. فكتب إليه: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه اختلاف الخوارج بينها، فإذا آتاك كتابي هذا فناهضهم على حال اختلافهم وافتراقهم قبل أن يجتمعوا، فتكون مأونتهم عليك أشد، والسلام. فكتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتاب الأمير، وكل ما فيه قد فهمت، ولست أرى أن أقاتلهم ما داموا يقتل بعضهم بعضًا، وينقص بعضهم عدد بعض، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضًا. فأناهضهم على تفئة ذلك، وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكة، إن شاء الله، والسلام. فكف عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهرًا لا يحركهم. ثم إن قطريًا خرج بمن اتبعه نحو طبرستان. وبايع عامتهم عبد ربه الكبير، فنهض إليهم المهلب، فقاتلوه قتالًا شديدًا. ثم إن الله قتلهم فلم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا، لأنهم كانوا يسبون المسلمين. وقال كعب الأشقري - والأشقر بطن من الأزد - يذكر يوم رامهرمز، وأيام سابور. وأيام جيرفت:
يا حفص إن عداني عنكم السفر ** وقد أرقت فآذى عيني السهر
علقت يا كعب بعد الشيب غانية ** والشيب فيه عن الأهواء مزدجر
أممسك أنت عنها بالذي عهدت ** أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر
علقت خودًا بأعلى الطف منزلها ** في غرفة دونها الأبواب والحجر
درمًا مناكبها ريا مآكمها ** تكاد إذ نهضت بالمشي تنبتر
وقد تركت بشط الزابيين لها ** دارًا بها يسعد البادون والحضر
واخترت دارًا بها حي أسر بهم ** ما زال فيهم لمن تختارهم خير
لما نيت بي بلادي سرت منتجعًا ** وطالب الخير مرتاد ومنتظر
أبا سعيد فإني جئت منتجعًا ** أرجو نوالك لما مسني الضرر
لولا المهلب ما زرنا بلادهم ** ما دامت الأرض فيها الماء والشجر
فما من الناس من حي علمتهم ** إلا يرى فيهم من سيبكم أثر
أحييتهم بسجال من نداك كما ** تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
إني لأرجو إذا ما فاقه نزلت ** فضلا من الله في كفيك يبتدر
فاجبر أخًا لك أوهى الفقر قوته ** لعله بعد وهي العظم ينجبر
جفا ذوو نسبي عني وأخلقني ** ظني فلله دري كيف آتمر
يا واهب القينة الحسناء سنتها ** كالشمس هر كولة في طرفها فتر
وما تزال بدور منك رائحة ** وآخرون لهم من سيبك الغرر
نماك للمجد أملاك ورثتهم ** شم العرانين في أخلاقهم يسر
ثاروا بقتلى وأوتار تعددها ** في حين لاحدث في الحرب يتئر
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم ** فما لأمرهم ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من أحد ** وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على ** مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا ** أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم ** فشمر الشيخ لما أعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهم ** حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا ** واستنفر الناس تارات فما نفروا
نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته ** عنه وليس به في مثله قصر
أفشى هنالك مما كان مذ عصروا ** فيهم صنائع مما كان يدخر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها ** فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت ** وتحتهن ليوث في الوغى وقر
حتى إذا خلفوا الأهواز واجتمعوا ** برامهرمز وافاهم بها الخبر
نعي بشر فجال اليوم وانصدعوا ** إلا بقايا إذا ما ذكروا ذكروا
ثم استمر بنا راض ببيعته ** ينوي الوفاء ولم نغدر كما غدروا
حتى اجتمعنا بسابور الجنود وقد ** شبت لنا ولهم نار لها شرر
نلقي مساعير أبطالًا كأنهم ** جن نقارعهم ما مثلهم بشر
نسقى ونسقيهم سمًا على حنق ** مستأنفي الليل حتى أسفر السحر
قتلى هنالك لا عقل ولا قود ** منا ومنهم دماء سفكها هدر
حتى تنحوا لنا عنها تسوقهم ** منا ليوث إذا ما أقدموا جسروا
لم يغن عنهم غداة التل كيدهم ** عند الطعان ولا المكر الذي مكروا
باتت كتائبنا تردى مسومةً ** حول المهلب حتى نور القمر
هناك ولوا حزانًا بعدما فرحوا ** وحال دونهم الأنهار والجدر
عبوا جنودهم بالسفح إذ نزلوا ** بكازرون فما عزوا ولا ظفروا
وقد لقوا مصدقًا منا بمنزلة ** ظنوا بأن ينصروا فيها فما نصروا
بدشت بارين يوم الشعب إذ لحقت ** أسد بسفك دماء الناس قد زئروا
لاقوا كتائب لا يخلون ثغرهم ** فيهم على من يقاسي حربهم صعر
المقدمين إذ ما خيلهم وردت ** والعاطفين إذا ما ضيع الدبر
وفي جبيرين إذ صفوا بزحفهم ** ولوا خزايا وقد فلوا وقد قهروا
والله ما نزلوا يومًا بساحتنا ** إلا أصابهم من حربنا ظفر
ننفيهم با لقنا عن كل منزلة ** تروح منا مساعير وتبتكر
ولوا حذارًا وقد هزوا أسنتنا ** نحو الحروب فما نجاهم الحذر
صلت الجبين طويل الباع ذو فرح ** ضخم الدسيعة لا وان ولا غمر
مجرب الحرب ميمون نقيبته ** لا يستخف ولا من رأيه البطر
وفي ثلاث سنين يستديم بنا ** يقارع الحرب أطوارًا ويأتمر
يقول إن غدًا مبد لناظره ** وفي الليالي وفي الأيام معتبر
دعوا التتابع والإسراع وارتقبوا ** إن المحارب يستأني وينتظر
حتى أتته أمور عندها فرج ** وقد تبين ما يأتي وما يذر
لما زواهم إلى كرمان وانصدعوا ** وقد تقاربت الآجال والقدر
سرنا إليهم بمثل الموج وازدلفوا ** وقبل ذلك كانت بيننا مئر
وزادنا حنقًا قتلى نذكرها ** لا تستفيق عيون كلما ذكروا
إذا ذكرنا جروزًا والذين بها ** قتلى مضى لهم حولان ما قبروا
تأتي علينا حزازات النفوس فما ** نبقي عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقيلوننا في الحرب عثرتنا ** ولا نقيلهم يومًا إذا عثروا
لا عذر يقبل منا دون أنفسنا ** ولا لهم عندنا عذر لو اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما ** كالبرق يلمع حتى يشخص البصر
على بصائر كل غير تاركها ** كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا ** مشي الزوامل تهدي صفهم زمر
وشيخنا حوله منا ململمة ** حي من الأزد فيما نابهم صبر
في موطن يقطع الأبطال منظره ** تشاط فيه نفوس حين تبتكر
مازال منا رجال ثم نضربهم ** بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به ** في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة ** وبيننا ثم من صم القنا كسر
يغشين قتلي وعقري ما بها رمق ** كأنما فوقها الجادي يعتصر
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها ** تشفي صدور رجال طالما وتروا
مجاوين بها خيلاُ معقرة ** للطير فيها وفي أجسادهم جزر
في معرك تحسب القتلى بساحته ** أعجاز نخل زفته الريح ينعقر
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت ** قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
في كل يوم تلاقى الأزد مفظعةً ** يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار القوم قد علنوا ** إذا قرومهم يوم الوغى خطر
فيهم معاقل من عز يلاذ بها ** يومًا إذا شمرت حرب لها درر
حي بأسيافهم يبغون مجدهم ** إن المكارم في المكروه تبتدر
لولا المهلب للجيش الذي وردوا ** أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إن اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا ** بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا ** دينًا يخالف ما جاءت به النذر
قالت طفيل بن عامر بن واثلة وهو يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه،
ذهاب قطري في الأرض واتباعهم إياه ومراوغته إياهم:
لقد مس منا عبد رب وجنده ** عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ** بكرمان عن مثوى من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ** طريد يدوي ليله غير نائم
إذا فر منا هارب كان وجهه ** طريقًا سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ** به الفلك في لج من البحر دائم
ذكر الخبر عن هلاك قطري وأصحابه
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال وعبد رب الكبير ومن كان معهم من الأزارقة ذكر سبب مهلكهم: وكان سبب ذلك أن أمر الذين ذكرنا خبرهم من الأزارقة لما تشتت بالاختلف الذي حدث بينهم بكرمان فصار بعضهم مع عبد ربه الكبير وبعضهم مع قطري ووهي أمر قطري، توجه يريد طبرستان، وبلغ أمره الحجاج، فوجه - فيما ذكر هشام عن أبي مخنف. عن يونس بن يزيد - سفيان بن الأبرد، ووجه معه جيشًا من أهل الشام عظيمًا في طلب قطري، فأقبل سفيان حتى أتى الري ثم أتبعهم، وكتب الحجاج إلى إسحاق بن محمد ابن الأشعث وهو على جيش لأهل الكوفة بطبرستان، أن اسمع وأطيع لسفيان. فأقبل إلى سفيان فسار معه في طلب قطري حتى لحقوه في شعب من شعاب طبرستان، فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه، ووقع عن دابته في أسفل الشعب فتد هدى حتى خر إلى أسفله، فقال معاوية بن محصن الكندي: رأيته حيث هوى ولم أعرفه، ونظرت إلى خمس عشرة امرأة عربية هن في الجمال والبزازة وحسن الهيئة كما شاء ربك، ما عدا عجوزًا فيهن، فحملت عليهن فصرفتهن إلى سفيان بن الأبرد. فلما دنوت بهن منه انتحت لي بسيفها العجوز فتضرب به عنقي فقطعت المغفر، وقطعت جلدةً من حلقي وأختلج السيف فأضرب به وجهها. فأصاب قحف رأسها، فوقعت ميتةً، وأقبلت بالفتيات حتى دفعتهن إلى سفيان وإنه ليضحك من العجوز. وقال: ما أردت إلى قتل هذه أخزاها الله - فقلت: أو ما رأيت أصلحك الله ضربتها إياي! والله إن كادت لتقتلني؛ قال: قد رأيت، فوالله ما ألومك على فعلك، أبعدها الله ويأتي قطريًا حيث تدهدى من الشعب علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني من الماء - وقد كان اشتد عطشه - فقال: أعطني شيئًا حتى أسقيك، فقال: ويحك؛ والله ما معي إلا ما ترى من سلاحي، فأنا مؤتيكه إذا أتيني بماء، قال: لا، بل أعطنيه الآن، قال: لا، ولكن ائتني بماء قبل، فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجرًا عظيمًا من فوقه دهداه عليه، فأصاب إحدى وركيه فأوهته، وصاح بالناس، فأقبلوا نحوه. والعلج حينئذ لا يعرف قطريًا، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لحسن هيئته، وكمال سلاحه، فدفع إليه نفر من أهل الكوفة فابتدروه فقتلوه، منهم سورة بن أبجر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذام مولى بني الأشعث، وعمر بن أبي الصلت بن كنارة مولى بني نصر بن معاوية، وهو من الدهاقين، فكل هؤلاء ادعوا قتله. فدفع إليهم أبو الجهم بن كنانة الكلبي - وكلهم يزعم أنه قاتله - فقال لهم: ادفعوه إلي حتى تصتلحوا، فدفعوه إليه. فأقبل به إلى إسحاق بن محمد - وهو على أهل الكوفة - ولم يأته جعفر لشئ كان بينه وبينه قبل ذلك - وكان لا يكلمه، وكان جعفر مع سفيان بن الأبرد، ولم يكن معه إسحاق. وكان جعفر على ربع أهل المدينة بالري، فلما مر سفيان بأهل الري انتخب فرسانهم بأمر الحجاج. فسار بهم معه، فلما أتى القوم بالرأس فاختصموا به إليه وهو في يدي أبي الجهم بن كنانة الكلبي، قال له: امض به أنت، ودع هؤلاء المختلفين، فخرج برأس قطري حتى قدم به على الحجاج، ثم أتى به عبد الملك بن مروان، فألحق في ألفين، وأعطى فطما - يعني أنه يفرض للصغار في الديوان - وجاء جعفر إلى سفيان فقال له: أصلحك الله! إن قطريًا كان أصاب والدي فلم يكن لي هم غيره. فاجمع بيني وبين هؤلاء الذين ادعوا قتله، فسلهم، ألم أكن أمامهم حتى بدرتهم فضربته ضربةً فصرعته، ثم جاؤوني بعد، فأقبلوا يضربونهم بأسيافهم! فإن أقروا لي بهذا فقد صدقوا، وإن أبوا فأنا أحلف بالله أني صاحبه، وإلا فليحلفوا بالله أنهم أصحابه الذين قتلوه، وأنهم لا يعرفون ما أقول، ولا حق لي فيه، قال: جئت الآن وقد سرحنا بالرأس. فانصرف عنه فقال له أصحابه: أما والله إنك لأخلق القوم أن تكون صاحبه. ثم إن سفيان بن الأبرد أقبل منصرفًا إلى عسكر عبيدة بن هلال، وقد تحصن في قصر بقومس، فحاصره فقاتله أيامًا. ثم إن سفيان بن الأبرد سار بنا إليهم حتى أحطنا بهم، ثم أمر مناديه فنادى فيهم: أيما رجل قتل صاحبه ثم خرج إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال:
لعمري لقد قام الأصم بخطبة ** لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لأن أعطيت سفيان بيعتي ** وفارقت ديني إنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ** تساوك هزلى مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانب ** بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ** تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كنا مما إن يقدن على الوجى ** لهن بأبواب القباب صهيل
فحاصرهم حتى جهدوا، وأكلوا دوابهم، ثم إنهم خرجوا إليه فقاتلوه، فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، ثم دخل إلى دنباوند وطبرستان، فكان هنالك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: ذكر سبب قتله إياه. وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد - أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرًا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقةً كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام. فلما ولاه غزو ماوراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو. قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على الخراسان ابنه زيادًا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أيامًا، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقيل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس. قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: إقطع يا بكير؛ فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! إعبر ثم يعبر الناس بعدك. فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت ألا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره. فانتخب بكير فرسانًا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى أمية إلى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة. فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إن قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرًا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: إحرق هذه السفن. وامض إلى مرو فخلع أمية، وتقيم بمرو وتأكلها إلى يوم ما؛ قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي مارأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلون؛ قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفًا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع؛ قال: فيهلك أمية ومن معه؛ قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكا منه، وذكروا أموالًا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحد من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرًا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون. فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابًا، فقال عتاب في ذلك:
إن الحواضن تلقاها مجففة ** غلب الرقاب على المنسوبة النجب
تركت أمرك من جبن ومن خور ** وجئتنا حمقًا يا ألأم العرب
لما رأيت جبال السغد معرضةً ** وليت موسى ونوحًا عكوة الذنب
وجئت ذيخًا مغذى ما تكلمنا ** وطرت من سعف البحرين كالخرب
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ** تحت الخوافق دون العارض اللجب
يخب بي مشرف عار نواهقه ** يغشى الكتيبة بين العدو والخبب
قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه. فقال شماس بن دثار - وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله. فقدمه أمية في ثمانمائة، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه. فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيع مني، لم تفي لأمية ولم تشكر له صنيعه بك؛ قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك. قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدًا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتًا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده. قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية بالناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة - وعارمة جارية بكير - فأحجم، فقال له بكير: لا أبالك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارم فحل يمنعها، فقدم لوائك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يومًا، فحماهم بكير، ثم التقوا يومًا آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم: لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس. قال: ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش؛ فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يومًا آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح؛ فحمل حريث من قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، وأتبع حريث بكيرًا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة. قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة، وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله؛ فلا يرميهم أحد. قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلحة، وأحب ذلك أيضًا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه - وكان أمية يحب العافية - فصالحه على أن يقضي عنه أربعمائة ألف، ويصل أصحابه ويوليه أيضًا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يومًا حتى يخرج عن مرو، فأخذ الآمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابًا على باب سنجان، ودخل أمية بالمدينة. قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيًا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير. وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة؛ فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرامائي؛ قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فاستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفًا؛ قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك. فأدى عنه عشرين ألفًا. وكان أمية سهلًا لينًا سخيًا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه؛ قال: وكان مع ذلك ثقيلاُ عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي. وعزل أمية بحيرًا عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب. وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه. فضرب عبد الملك بعثًا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليل الأسدي جعالته رجلًا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه فجلس بكير يومًا في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: صلت علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاح بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحمًا فسأله فقال: إنما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرًا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لو لا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان؛ فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل؛ فآمنته ووصلته. قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرًا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك. فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وإن تكركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز؛ وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذ دخل بكير، وبدل وشمردل ابنا أخيه، فنهضت فخذوهم. وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام أمية عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذاوكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع. فلما كان من الغد أخرج بكيرًا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعك والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة - وهو رأس أهل العالية - ولابن والآن العدوي - وهو يومئذ من رؤساء بني تميم - ليعقوب بن خالد الذهلي: أتقتلونه؟ فلم يجيبوه؛ فقال لبحير: أتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه. فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه - وكان صديقًا لبكير - فاحتضن أمية، وقال: أذكرك الله أيها الأمير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال: عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير؛ قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرًا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك؛ قال: يا بعقوب، ما أعطيته ذمة، ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من أسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني أسد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد؛ فقال بحير: لا والله يابن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة. وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت من أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء. قال: ثم وجه أمية رجلًا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه؛ فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم إلى أمية. وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك؛ فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو. وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:
ألا أبلغ أمية أن سيجزي ** ثواب الشر إن له ثوابا
ومن ينظر عتابك أو يرده ** فلست بناظر منك العتابا
محا المعروف منك خلال سوء ** منحت صنيعها بابًا فبابا
ومن سماك إذا قسم الأسامي ** أمية إذ ولدت فقد أصابا
قال أبو جعفر: وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير على المدينة، وكان على الكوفة والبصرة الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان أمية ابن عبد الله بن خالد بن أسيد.
وحدثني أحمد بن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: حج أبان بن عثمان وهو على المدينة بالناس حجتين سنة ست وسبعين وسنة سبع وسبعين. وقد قيل: إن هلاك شبيب كان في سنة ثمان وسبعين، وكذلك قيل في هلاك قطري وعبيدة بن هلال وعبد ربه الكبير. وغزا في هذه السنة الصائفة الوليد.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين
ذكر الخبر عن الكائن في هذه السنة من الأحداث الجليلة
في ذلك عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله عن خراسان وضمه خراسان وسجستان إلى الحجاج بن يوسف. فلم ضم ذلك إليه فرق فيه عماله.
ذكر الخبر عن العمال الذين ولاهم الحجاج خراسان وسجستان وذكر سبب في توليته من ولاه ذلك وشيئا منه
ذكر أن الحجاج لما فرغ من شبيب ومطرف شخص من الكوفة إلى البصرة، واستخلف على الكوفة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل - وقد قيل: إنه استخلف عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي، ثم عزله، وجعل مكانه المغيرة بن عبد الله - فقدم عليه المهلب بها، وقد فرغ من أمر الأزارقة.
فقال هشام: حدثني أبو مخنف عن أبي المخارق الراسبي، أن المهلب بن أبي صفرة لما فرغ من الأزارقة قدم على الحجاج - وذلك سنة ثمان وسبعين - فأجلسه معه، ودعا بأصحاب البلاء من أصحاب المهلب، فأخذ الحجاج لا يذكر له المهلب رجلًا من أصحابه ببلاء حسن إلا صدقه الحجاج بذلك، فحملهم الحجاج وأحسن عطاياهم، وزاد في أعطياتهم، ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال، وأحق بالأموال، هؤلاء حماة الثغور، وغيظ الأعداء.
قال هشام عن أبي مخنف: قال يونس بن أبي إسحاق: وقد كان الحجاج ولى المهلب سجستان مع خراسان، فقال له المهلب: إلا أدلك على رجل هو أعلم بسجستان مني، وقد كان ولي كابا وزابل، وجباهم وقاتلهم وصالحهم؟ قال له: بلى، فمن هو؟ قال عبيد الله بن أبي بكرة.
ثم إنه بعث المهلب على خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان العامل هناك أمية بن هبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وكان عاملًا لعبد الملك بن مروان، لم يكن للحجاج شيء من أمره حين بعث على العراق حتى كانت تلك السنة، فعزله عبد الملك وجمع سلطانه للحجاج، فمضى المهلب إلى خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، فمكث عبيد الله بن أبي يكرة بقية سنته. فهذه رواية أبي مخنف عن أبي المخارق.
وأما علي بن محمد فإنه ذكر عن المفضل بن محمد أن خراسان وسجستان جمعتا للحجاج مع العراق في أول سنو ثمان وسبعين بعد ما قتل الخوارج، فاستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على خراسان، والمهلب بن أبي صفرة على سجستان، فكره المهلب سجستان، فلقي عبد الرحمن بن عبيد طارق العبشمي - وكان على شرطة الحجاج - فقال: إن الأمير ولاني سجستان، وولى ابن أبي بكرة خراسان، وأنا أعرف بخراسان منه، قد عرفتها أيام الحكم بن عمرو الغفاري، وابن أبي بكرة أقوى على سجستان مني، فكلم الأمير يحولني إلى خراسان، وابن أبي بكرة إلى سجستان؛ قال: نعم، وكلم زاذان فروخ يعينني؛ فكلمه، فقال: نعم، فقال عبد الرحمن بن عبيد للحجاج: وليت المهلب سجستان وابن أبي بكرة أقوى عليها منه، فقال زاذان فروخ: صدق، قال: إنا قد كتبنا عهده؛ قال زاذان فروخ: ما أهون تحويل عهده! فحول ابن أبي بكرة إلى سجستان، والمهلب إلى خراسان، وأخذ المهلب بألف ألف من خراج الأهواز، وكان ولاها إياه خالد بن عبد الله، فقال المهلب لابنه المغيرة: إن خالدًا ولاني الأهواز، وولاك إصطخر، وقد أخذني الحجاج بألف ألف، فنصف علي ونصف عليك، ولم يكن عند المهلب مال، كان إذا عزل استقرض؛ قال: فكلم أبا معاوية مولى عبد الله بن عامر - وكان أبو ماوية على بيت مال عبد الله بن عامر - فأسلف المهلب ثلثمائة ألف، فقالت خيرة القشيرية امرأة المهلب: هذا لا يفي بما عليك؛ فباعت حليًا لها ومتاعًا، فأكمل خمسمائة ألف، وحمل المغيرة إلى أبيه خمسمائة ألف فحملها إلى الحجاج، ووجه المهلب ابنه حبيبًا على مقدمته، فأتى الحجاج فودعه، فأمر الحجاج له بعشرة آلاف وبغلة خضراء، قال: فسار حبيب على تلك البغلة حتى قدم خراسان هو وأصحابه على البريد، فسار عشرين يومًا، فتلقاهم حين دخلوا حمل حطب، فنفرت البغلة فتعجبوا منها ومن نفارها بعدذلك التعب وشدة السير. فلم يعرض لأمية ولا لعماله، وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين. وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عبد الملك، حدثني بذلك أحمد ابن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان أمير المدينة في هذه السنة أبان بن عثمان، وامير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وخليفته بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله ابن أبي بكرة، وعلى فضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة - فيما قيل - موسى بن أنس. وأغزى عبد الملك في هذه السنة يحيى بن الحكم.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة
في ذلك ما أصاب أهل الشام في هذه السنة من الطاعون حتى كادوا يفنون من شدته، فلم يغز في تلك السنة أحد - فيما قيل - للطاعون الذي كان بها وكثرة الموت. وفيها - فيما قيل -: أصابت الروم أهل أنطاكية.
ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل
وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل.
ذكر الخبر عن غزوته إياه
قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته. ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحًا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجًا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته. فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضباني، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ماشاء وهدم قلاعًا وحصونًا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخًا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: إني مصالح القوم على أن أعطيهم مالًا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل إليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شئ إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا؛ قال شريح: والله لقد بلغت سنًا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي على ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما إخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم؛ فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز مومئذ ويقول:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ** قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمت أدركت النبي المنذرا ** وبعده صيقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ** والجمع في صفينهم والنهرا
وبا جميرات مع المشقرا ** هيهات ما أطول هذا عمرا
فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطمعة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا. وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك: أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذي بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندًا كثيفًا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأى أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله.
وفي هذه السنة قدم المهلب خراسان أميرًا، وانصرف عنها أمية بن عبد الله، وقيل استعفى شريح القاضي من القضاء في هذه السنة، وأشار بأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، فأعفاه الحجاج وولى أبا بردة. وحج بالناس في هذه السنة - فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر - أبان بن عثمان، وكذلك قال الواقدي وغيره من أهل السير.
وكان أبان هذه السنة أميرًا على المدينة من قبل عبد الملك بن مروان وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج وقيل: إن المهلب كان على حربها، وابنه المغيرة على خراجها، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس
ثم دخلت سنة ثمانين
ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة
وفي هذه السنة جاء - فيما حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر الواقدي - سيل بمكة ذهب بالحجاج، فغرقت بيوت مكة فسمى ذلك العام عام الجحاف، لأن ذلك السيل جحف كل شئ مر به. قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جده، قال: جاء السيل حتى ذهب بالحجاج ببطن مكة، فسمى لذلك عام الجحاف، ولقد رأيت الإبل عليها الحمولة والرجال والنساء تمر بهم ما لأحد فيهم حيلة، وإني لأنظر إلى الماء قد بلغ الركن وجاوزه.
وفي هذه السنة كان بالبصرة طاعون الجارف، فيما زعم الواقدي.
ذكر خبر غزو المهلب ما وراء النهر
وفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ فنزل على كس، فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد وغيره أنه كان على مقدمة المهلب حين نزل على كس أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهم خمسة آلاف إلا أن أبا الأدهم كان يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة. قال: فأتى المهلب وهو نازل على كس ابن عم ملك الختل، فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، فنزل في عسكره، ونزل ابن عم الملك - وكان الملك يومئذ اسمه السبلي في عسكره على ناحية، فبيت السبل ابن عمه، فكبر عي عسكره، فظن ابن عم السبل أن العرب قد غدروا به، وأنهم خافوه. إلى الغدر حين اعتزل عسكرهم، فأسره السبل، فأتى به قلعته فقتله. قال: فأطاف يزيد بن المهلب بقلعة السبل، فصالحوه على فدية حملوها إليه، ورجع إلى المهلب فأرسلت أم الذي قتله السبل إلى أم السبل: كيف ترجين بقاء السبل بعد قتل ابن عمه، وله سبعة إخوة قد وترهم! وأتت أم واحد فأرسلت إليها: إن الأسد تقل أولادها، والخنازير كثير أولادها. ووجه المهلب ابنه حبيبًا إلى ربنجن فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفًا، فدعا رجل من المشركين إلى المبارزة، فبرز له جبلة غلام حبيب، فقتل المشرك، وحمل على جمعهم، فقتل منهم ثلاثة نفر، ثم رجع ورجع العسكر، ورجع العدو إلى بلادهم، ونزلت جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف، فقاتلهم فظفر بهم، فأحرقها، ورجع إلى أبيه فسميت المحترقة. ويقال إن الذي أحرقها جبلة غلام حبيب قال: فمكث المهلب سنتين مقيمًا بكس، فقيل له: لو تقدمت إلى السغد وما وراء ذلك! قال: ليت حظي من هذه الغزوة سلامة هذه الجند، حتى يرجعوا إلى مرو سالمين. قال: وخرج رجل من العدو بومًا فسأله البراز، فبرز إليه هريم بن عدي أبو خالد بن هريم وعليه عمامة قد شدها فوق البيضة، فانتهى إلى جدول، فجاوله المشرك ساعة فقتله هريم وأخذ سلبه، فلامه المهلب، وقال: لو أصبت ثم أمددت بألف فارس ما عد لوك عندي، واتهم المهلب وهو بكس قومًا من مضر فحبسهم بها، فلما قفل وصار صلح خلاهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت في تخليتهم؛ وإن كنت أصبت بتخليتهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فقال المهلب: خفتهم فحبستهم، فلما أمنت خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري. ثم صالح المهلب أهل كس على فدية، فأقام ليقبضها، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته على خلعه، فبعث بكتاب ابن الأشعث إلى الحجاج.
تسيير الجنود مع ابن الأشعث لحرب رتبيل
وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك؛ وقد اختلف أهل السير في سبب توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل؛ فأما يونس بن أبي إسحاق - فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه - فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم وأما ما أردت أن يأتيك فيه من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذي أصيب فيه المسلمون أو كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدًا موفقًا. وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسًا حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه. قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثًا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له؛ فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء. ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملًا وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرسًا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغلة علنداة، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج؛ يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمي فعسكر بالأهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب. ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانًا. فقال الحجاج: ليس هنالك، هولى أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي؛ فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان ينة ثمانين؛ فجمع أهلها حين قدمها.
قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي - رجل من همدان كان معه - أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس. فعسكر الناس كلهم في معسركهم ووضعت له الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارهًا، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقًا رستاقًا، وحصنًا حصنًا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدًا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانًا، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضًا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم. وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدى السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج بن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه. ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملًا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشًا أنفق عليهم ألفى ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل. وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثن أجمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر وكذلك قال محمد بن عمر الواقدي. وقال بعضهم: الذي حج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الملك وكان على المدينة في هذه السنة آبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعلى خراسان المهلب بن أبي صفرة من قبل الحجاج، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة بن أبي موسى، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس وأغزى عبد الملك في هذه السنة ابنه الوليد.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
ذكر ما كان فيها من الأحداث
ففي هذه السنة كان فتح قاليقلا، حدثني عمر بن شبة، قال: حدثنا علي ابن محمد، قال: أغزى عبد الملك سنة إحدى وثمانين ابنه عبيد الله بن عبد الملك، ففتح قاليقلا.
ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان
وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان.
ذكر الخبر عن مقتله
وكان سبب قتله أن بحيرًا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر:
لعمري لقد أغضبت عينًا على القذى ** وبت بطينا من رحيق مروق
وخليت ثأرًا طل واخترت نومة ** ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ** تركت بحيرًا في دم متر قرق
فقل لبحير نم ولا تخش ثائرًا ** بعوف فعوف أهل شاة حبلق
دع الضأن يومًا قد سبقتم بوتركم ** وصرتم حديثًا بين غرب ومشرق
وهبوا فلوا أمسى بكير كعهده ** صحيحًا لغاداهم بجأواء فيلق
وقال أيضًا:
فلو كان بكر بارزًا في أداته ** وذي العرش لم يقدم عليه بحير
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ** وفي الله طلاب بذاك جدير
وبلغ بحيرًا أن الأنباء يتوعدونه، فقال:
توعدني الأنباء جهلًا كأنما ** يرون فنائي مقفرًا من بني كعب
رفعت له كفي بحد مهند ** حسام كلون الملح ذي رونق عضب
فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفًا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل. ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارًا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابةً لبحير هنالك ولا طفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثًا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرًا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابًا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز. قال: فلقي قومًا من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرًا، فعمل له خنجرًا وأحماه وغمسه في لبن أتان مرارًا، ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بأخرون يومئذ، فلقى بحيرًا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرًا أو نحوًا من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به، قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدًا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يومًا وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه يكلمه، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثارات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسًا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكني ما صنعت خاليًا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرًا؛ فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسًا بالموت صبرًا من هذا؛ وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبجير، فقال له أنس بن طلق: ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشمه أنس وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل أن يموت، فقال له أنس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرًا، فاستحي هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير؛ فغضب عوف بن كعب والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجي: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواءً ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتى تجاوز همه ** دون العراق مفاوزًا وبحورًا
ما زال يدأب نفسه ويكدها ** حتى تناول في خرون بحيرا
قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فأخذ لصعصعة ديتين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)