ذكر سبب العداوة والشحناء بين عبد الملك وبين عمرو بن سعيد
كان الشرّ بينهما قديما، لأنّ ابني سعيد وابني مروان أعنى: محمد بن سعيد وعمرو بن سعيد، ومعاوية بن مروان، وعبد الملك بن مروان، كانوا وهم غلمان لا يزالون يأتون أمّ مروان بن الحكم الكنانيّة يلعبون عندها. فكانت تصنع لهم الطعام، ثم تأتيهم به وتضع بين يدي كلّ واحد صحفة على حدة، ثم تؤرّش بين معاوية بن مروان وبين محمد بن سعيد وبين عبد الملك بن مروان وعمرو بن سعيد، فيقتتلون، وربما تصارموا الحين لا يكلّم بعضهم بعضا. فكان ذلك دأبهما كلّما أتوها حتى ثبتت الشحناء في صدورهم على الصبى، ثم نشأت تلك العداوة معهما.
فذكر أنّ خالد بن يزيد بن معاوية قال لعبد الملك ذات يوم:
« عجب منك ومن عمرو بن سعيد كيف أصبت غرّته فقتلته! » فقال عبد الملك:
أدنيته مني ليسكن ذعره ** فأصول صولة حازم مستمكن
ثم إن ولد عمرو بن سعيد دخلوا على عبد الملك بعد الجماعة وهم أربعة:
أمية، وسعيد، وإسماعيل، ومحمد. فلما نظر إليهم عبد الملك، قال:
« إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أنّ لكم على جميع قومكم فضلا لم يجعله الله لكم، وإنّ الذي كان بيني وبين أبيكم لم يكن حديثا، بل كان قديما في أنفس أوّليكم على أوّلينا في الجاهليّة. » فأقطع بأميّة بن عمرو وكان أكبرهم سنّا وأنبلهم وأعقلهم، فلم يتكلّم بشيء.
فقام سعيد بن عمرو، وكان الأوسط، فقال:
ذكر كلام نفع عند سلطان حقود
« يا أمير المؤمنين، ما تبغى علينا أمرا كان في الجاهليّة، وقد جاء الله بالإسلام فهدم ذلك، ووعد جنّة، وحذّر نارا. فأما الذي بينك وبين عمرو، فإنّ عمرا ابن عمّك، وأنت أعلم وما صنعت، وقد وصل عمرو إلى ربّه وكفى بالله حسيبا. ولعمري لئن أخذتنا بما كان بينك وبينه لبطن الأرض خير لنا من ظهرها. » فرقّ لهم عبد الملك رقّة شديدة، وقال:
« إنّ أباكم خيّرنى بين أن أقتله أو يقتلني، فاخترت قتله على قتلى. فأما أنتم فما أرغبنى فيكم، وأوصلنى لقرابتكم، وأرعانى لحقّكم! » فأحسن جائزتهم.
مسير عبد الملك إلى العراق لحرب مصعب
ثم سار عبد الملك من الشام إلى العراق لحرب مصعب وذلك في سنة سبعين.
وكان قال له خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد:
« إن وجّهتنى إلى البصرة مستخفيا في مواليّ وأتبعتني خيلا يسيرة، رجوت أن أغلب لك عليها. » فأنفذه عبد الملك. فقدمها في مواليه، ونزل على عمرو بن أصمع، ولم يتمّ له ما أراد، وعلم به، فهرب بعد أن أثار فتنة، وقاتل مدّة. وبادر مصعب إلى البصرة، فوجد خالدا قد خرج بمن معه، فأتبعه بخداش بن يزيد، فأدرك مرّة بن محكان، فأخذه وقتله.
وكتب عبد الملك إلى المروانيّة من أهل العراق، فأجابه كلّهم، وشرط كلّ واحد ولاية إصبهان، فأنعم بها لهم. منهم: حجّار بن أبجر، وعتّاب بن ورقاء، والغضبان بن القبعثرى، وزحر بن قيس، ومحمد بن عمير، وغيرهم.
وسار عبد الملك وعلى مقدمته محمد بن مروان، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية، وعلى ميسرته خالد بن يزيد، وسار مصعب وقد خذله أهل الكوفة، وأشار رؤساء أهل الشام على عبد الملك أن يقيم ويقدّم الجيوش، فطن ظفروا، فذاك. وإن لم يظفروا أمدّهم بالجيوش خشية على الناس، وإن أصيب في لقائه مصعبا لم يكن وراءه ملك.
فقال عبد الملك:
« لا يقوم بهذا الأمر إلّا قرشيّ له رأى، ولعلّى أبعث من له شجاعة وليس له رأى، وإني أجد في نفسي أنّى بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن ألجيت إليه، ومصعب في بيت شجاعة، أبوه شجاع قريش وهو شجاع ولا علم له بالحرب، ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي. » فسار عبد الملك حتى نزل مسكن، وسار مصعب إلى باجميرا، وكتب عبد الملك إلى أهل العراق، فأقبل إبراهيم بن الأشتر بكتاب عبد الملك مختوما لم يقرأه، فدفعه إلى مصعب، فقال له مصعب:
« ما فيه؟ » قال:
« ما قرأته. » فقرأه، فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب:
« إنّه والله ما كان أحد آيس منه مني. ولقد كتب إلى أصحابك كلّهم بمثل ما كتب إليّ. فأطعنى فيهم واضرب أعناقهم. » قال:
« إذا لا يناصحنا عشائرهم. » قال:
« فأوقرهم حديدا وابعث بهم إلى أبيض كسرى فاحبسهم هنالك، ووكّل بهم من إن غلبت، ضرب أعناقهم، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم. » فقال:
« يا با النعمان، أنا لفى شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحر، إن كان ليحذّرنى غدر أهل العراق، كأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه. » وتمثّل مصعب:
وإنّ الأولى بالطفّ من آل هاشم ** تأسّوا، فسنّوا للكرام التأسّيا
فعلم الناس أنه قد استقتل.
مقتل إبراهيم الأشتر
ولمّا تدانى العسكران تقدّم إبراهيم بن الأشتر، فحمل على محمد بن مروان فأزاله عن موضعه، وهرب، فوجّه عبد الملك عبد الله بن يزيد بن معاوية، والتقى القوم، فقتل إبراهيم بن الأشتر، وقتل مسلم بن عمرو الباهليّ، وهرب عتّاب بن ورقاء، وكان على الخيل مع مصعب. فقال مصعب لقطن بن عبد الله الحارثيّ:
« أبا عثمان قدّم خيلك. » قال:
« ما أرى ذلك. » قال:
« ولم؟ » قال:
« أكره أن تقتل مذحج في غير شيء. » فقال لحجّار بن أسيد:
« قدّم رايتك. » قال:
« إلى هذه العذرة؟ » قال:
« ما تتأخّر إليه، والله أنتن وألأم. » وقال لعبد الرحمن بن سعيد بن قيس مثل ذلك. فقال:
« ما أرى أحدا فعل ذلك فأفعله. » فقال مصعب:
« يا إبراهيم، ولا إبراهيم لي اليوم. » ولما أخبر ابن خازم وهو بخراسان مسير مصعب إلى عبد الملك، قال:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
« أمعه عمر بن عبيد الله؟ » قيل:
« لا، استعمله على فارس. » قال:
« أمعه المهلّب؟ » قيل:
« استعمله على الموصل. » قال:
« أمعه عبّاد بن الحصين؟ » قيل:
« لا، استخلفه على البصرة. » فقال:
« وأنا بخراسان. » ثم تمثّل:
خذينى، فجرّينى ضباع وأبشرى ** بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
وقال مصعب لابنه عيسى بن مصعب:
« يا بنيّ اركب أنت ومن معك إلى عمّك بمكة، فإني مقتول. » وأخبره بما صنع أهل العراق.
فقال ابنه:
« والله لا أخبر قريشا عنك أبدا، ولكن الحق أنت بالبصرة فإنّهم على الجماعة، أو [ الحق ] بأمير المؤمنين. » فقال مصعب:
« لا والله، لا أفرّ، ولكن أقاتل. فلعمري ما السيف بعار وما الفرار لي بعادة. »
مقتل مصعب بن الزبير وابنه عيسى بن مصعب
ثم أرسل عبد الملك إلى مصعب مع أخيه محمد بن مروان:
« إنّ ابن عمّك يعطيك الأمان. » فقال مصعب:
« إنّ مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلّا غالبا أو مغلوبا. » فلما أبي مصعب قبول الأمان، نادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب وقال:
« يا بن أخي، لا تقتل نفسك، لك الأمان. » فقال له مصعب:
« قد آمنك عمّك، فامض إليه. » قال:
« لا تحدّث نساء قريش أنّى أسلمتك [ للقتل ]. » وتقدّم بين يدي مصعب، فقاتل حتى قتل. وأثخن مصعب، ونظر إليه زائدة بن قدامة، فشدّ عليه، فطعنه، وقال:
« يا لثارات المختار. » فصرعه، ونزل إليه عبيد الله بن زياد بن ظبيان، فاحتزّ رأسه، فأتى به عبد الملك، فأمر له بألف دينار، فأبى أن يأخذه، وقال:
« إني لم أقتله على طاعتك. إنما قتلته على وتر صنعه بي. » يعنى بذلك أخاه، لأنّ مصعبا أتى بالنابئ بن زياد بن ظبيان ورجل من بنى نمير قد قطعا الطريق، فقتل النابئ وضرب النميري بالسياط وتركه.
وحدّث ابن عباس عن أبيه قال: إنّا لوقوف مع عبد الملك وهو يحارب مصعبا إذ دنا منه زياد بن عمرو، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إنّ إسماعيل بن طلحة كان لي جار صدق، وقلّ ما أرادنى مصعب بسوء إلّا دفعه عني. فإن رأيت أن تؤمنه على دمه. » قال:
« وهو آمن. » فمضى زياد، وكان ضخما وعلى ضخم حتى صاح بين الصفّين:
« أين أبو النحترى إسماعيل بن طلحة؟ » فخرج إليه. فقال:
« إني أريد أن أذكر لك شيئا. » فدنا حتى اختلفت أعناق دوابّهما، وكان الناس يتنطّقون بالحواشى المحشوّة. فوضع زياد يده في منطقة إسماعيل، ثم اقتلعه عن سرجه وكان نحيفا، فقال:
« أنشدك الله يا أبا المغيرة، فإنّ هذا ليس بالوفاء لمصعب. » فقال:
« هذا أحبّ إليّ لك من أن أراك غدا مقتولا. » ولما قتل مصعب وابنه عيسى، قال عبد الملك:
« واروه، فقد كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكنّ هذا الملك عقيم. » وكان عبد الملك ومصعب يتحدّثان إلى حبّى، وهما بالمدينة. فلمّا قيل لها: قتل مصعب، قالت:
« تعس قاتله. » قيل:
« فإنّما قتله عبد الملك. » قالت:
« بأبي القاتل والمقتول. » وقد روى أنّ مقتل مصعب والحرب بينه وبين عبد الملك كان في سنة اثنتين وسبعين.
ومن المقامات المشهورة مقام تقدّم فيه رجل بالأدب
لمّا دخل عبد الملك الكوفة، وجاءته القبائل تبايعه، خاطب كلّا بما بسطه حتى تقدّم إليه عدوان. قال معبد بن خالد الجدلي: فقدّمنا رجلا وسيما جميلا، وتأخّرت ومعبد كان دميما.
فقال عبد الملك: « من؟ » فقال الكاتب: « عدوان. » فقال عبد الملك:
غدير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض
بغى بعضهم بعضا ** فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ** ت والموفون بالقرض
ثم أقبل على الرجل، فقال:
« إيه. » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
ومنهم حكم يقضى ** فلا ينقض ما يقضى
ومنهم من يجيز الحج ** ج بالسنّة والفرض
وهم من ولدوا أشبوا ** بسرّ الحسب المحض
قال: فتركني عبد الملك، ثم أقبل على الجميل فقال:
« من يقول هذا؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« ذو الإصبع. » « فأقبل على الجميل، فقال:
« لم سمّى ذا الإصبع؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« لأن إصبعه قطعت يوم الكلاب. »
فقال للجميل:
« وما اسمه؟ » فقال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« حرثان بن الحارث. » فأقبل على الجميل فقال:
« من أيّكم كان؟ » قال:
« لا أدري. » فقلت من خلفه:
« من بنى تاج »، وهو يقول:
أبعد بنى تاج وسعيك بينهم ** فلا تتبعن عينيك من كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم ** يقول وهيب: لا أصالح ذلكا
فأضحى كظهر العير جبّ سنامه ** يطيف به الولدان أحدب باركا
ثم أقبل على الجميل، فقال:
« كم عطاؤك؟ » فقال:
« سبعمائة. » وقال لي:
« في كم أنت؟ » قلت:
« في ثلاثمائة. » فأقبل على الكاتبين فقال:
« حطّا من عطاء هذا أربعمائة، وزيداها في عطاء هذا. »
فرجعت وأنا في سبعمائة وهو في ثلاثمائة.
ثم فرّق عبد الملك عمّاله ولم يف لأحد شرط عليه ولاية إصبهان.
وفي هذه السنة، وجّه عبد الملك بن مروان الحجّاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير.
توجيه عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف لحرب عبد الله بن الزبير
وكان السبب في توجيه دون غيره أنّ عبد الملك لمّا أراد الرجوع إلى الشام، قام الحجاج بن يوسف، فقال:
« يا أمير المؤمنين، إني رأيت في منامي أنى أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعثني إليه، وولّنى قتاله. » فبعثه في جيش من أهل الشام كثيف. فخرج ولم يعرض للمدينة، وسلك طريق العراق، فنزل بالطائف، وكان يبعث البعوث فيقتتلون هناك. فكلّ ذلك تهزم خيل ابن الزبير، وترجع خيل الحجّاج بالظفر.
ثم كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم عليه وحصاره، وأخبره أنّ شوكته قد كلّت وتفرّق عنه أصحابه. فأذن له. وكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه من الجند، بالحجّاج وكان بالبصرة واليا عليها. فسار في خمسة آلاف من أصحابه حتى لحق بالحجّاج وذلك في شعبان سنة اثنتين وسبعين.
حصر ابن الزبير ومقتله
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
لما دخل ذو القعدة، رحل الحجّاج من الطائف حتى نزل بئر ميمون، وحصر ابن الزبير، وقدم عليه طارق لهلال ذي الحجّة، ولم يطف بالبيت، ولم يصل إليه، وكان يلبس السلاح، ولا يقرب النساء ولا الطيب، إلى أن قتل ابن الزبير ولم يحجّ ابن الزبير ولا أصحابه في هذه السنة لأنهم لم يقفوا بعرفة.
وحجّ الحجّاج بالناس في هذه السنة، ثم حصر ابن الزبير ثمانية أشهر، ونصب المجانيق على البيت. فلما رمى البيت رعدت السماء وعلا صوت الرعد والبرق صوت الحجارة، فأعظم ذلك أهل الشام وأمسكوا أيديهم. فرفع الحجّاج برقة قبائه فغرزها في منطقته، ورفع الحجر فوضعه في المنجنيق، ثم مدّه وقال لأصحابه:
« ارموا! » ورمى معهم. فلما أصبحوا جاءت صاعقة تتبعها أخرى، فقتلت من أصحابه اثنى عشر رجلا. فانكسر أهل الشام، فقال الحجّاج:
« يا قوم، لا تنكروا ذلك، فإني ابن تهامة وهذه صواعقها، وهذا الفتح قد حضرنا، فأبشروا، إنّ القوم سيصيبهم مثل ما أصابكم. » فصعقت من الغد، فأصيب من أصحاب ابن الزبير عدّة. فقال الحجّاج:
« ألا ترون أنهم قد أصيبوا وأنتم على الطاعة وهم على الخلاف؟ » فتفرّق عامّة من كان مع الزبير، وخرجوا إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج في الأمان حتى بلغ عدّة المستأمنة عشرة آلاف. وكان في من خرج إلى الحجّاج ابنا عبد الله ابن الزبير:
حمزة وخبيب، بعد أن أخذا أمانا لأنفسهما.
فدخل على أمّه أسماء بنت أبي بكر، فقال:
ما قالته لابن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر
« يا أمّه، قد خذلنى الناس حتى ولدي وأهلى، فلم يبق إلّا اليسير، من ليس عنده من الدفع إلّا صبر ساعة. والقوم يعطونني من الدنيا، فما رأيك؟ » فقالت:
« أنت والله يا بنيّ أعلم بنفسك. إن كنت تعلم أنّك على حقّ فامض له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكّن من رقبتك تلعّب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك، ومن قتل معك. فإن قلت: إني كنت على حقّ، فلما وهن أصحابي، ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن. » فدنا ابن الزبير، فقبّل رأسها، وقال:
« هذا رأيي، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدينى بصيرة، فانظرى يا أمّه، إني مقتول من يومي هذا، فلا يشتدّ حزنك، وسلّمى لأمر الله، فإنّ ابنك لم يتعمّد إتيان منكر، ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم، ولم يتعمّد ظلم مسلم ولا معاهد.
اللهمّ، إني لا أقول هذا تزكية لنفسي، ولكن تعزية لأمي لتسلو عني. » فقالت أمّه:
« إني لأرجو أن يكون عزائى فيك حسنا. اخرج، حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. » قال:
« يا أمّه، لا تدعى لي الدعاء قبل وبعد. » قالت:
« لا أدعه أبدا. » ثم قالت:
« اللهمّ ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكّة وبرّه بأبيه وبي. اللهمّ إني قد أسلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت، فائتني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. » ثم دنا عبد الله فقبّلها، فقالت:
« هذا وداع فلا تبعد. » وكان عليه الدرع. فلمّا عانقها وجدت مسّ الدرع، فقالت:
« ما هذا صنيع من يريد ما تريد. » قال:
« ما لبسته إلّا لأشدّ منك. » قالت:
« فإنّه لا يشدّ مني. » - فنزعها، ثم أدرج كمّيه، وأدخل أسفل قميصه وجبّة خزّ عليه في أسفل المنطقة، وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر ** إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
قال بعضهم: والله لقد رأيت ابن الزبير يخرج وقد كثره الناس، فيحمل فلا يبقى بين يديه أحد، وينهزم الناس، فيقف بالأبطح ما يدنو منه أحد، حتى ظننت أنّه لا يقتل.
وكان الحجّاج وطارق بن عمرو جميعا في ناحية الأبطح إلى المروة والبابين، لكلّ طائفة منهم باب. فمرّة يحمل عبد الله بن الزبير في هذه الناحية ومرّة في هذه الناحية ولكأنّه أسد في أجمة، ما يقدم عليه الرجال فيعدو في أثرهم، ثم يصيح:
« أبا صفوان، ويل أمّة فتحا لو كان له رجال، لو كان قرني واحدا كفيته. » فقال أبو صفوان:
« إى والله وألف. » فلما كان يوم الثلاثاء، وقد أخذت علينا الأبواب، أذّن المؤذّن فصلّى بأصحابه، وقرأ ن وَالْقَلَمِ حرفا حرفا، ثم سلّم وقام وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
« اكشفوا وجوهكم حتى أنظر. » وعليهم المغافر والعمائم. فكشفوا وجوههم فقال:
« يا آل الزبير، لو طبتم لي نفسا عن أنفسكم كنّا أهل بيت من العرب اصطلمنا، لم تصبنا ربّانيّة. أما بعد، يا آل الزبير، فلا يرعكم وقع السيوف، فإنى لم أحضر موطنا قطّ إلّا ارتثثت فيه بين القتلى، وما أجد من دواء جراحها أشدّ مما أجد من ألم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم امرأ كسر سيفه واستبقى نفسه، فإنّ الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة. غضّوا أبصاركم عن البارقة، وليشغل كلّ امرئ منكم قرنه، ولا يلهينّكم السؤال عنى. فلا تقولنّ:
أين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلا فإني في الرعيل الأول. احملوا على بركة الله. » ثم حمل حتى بلغ الحجون، فرمى بآجرّة، فأصابت في وجهه، فأرعش لها، ودمى وجهه. فلما وجد سخونة الدم تسيل على وجهه ولحيته، قال:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
وتمثّل أيضا:
عن أيّ يوميّ من الموت أفرّ ** أيوم لم يقدر، أم يوم قدر
وصاحت مولاة لآل الزبير مجنونة:
« وا أمير المؤمنيناه! » فأشارت لهم إليه، فقتل.
وجاء الخبر إلى الحجّاج، فسجد وجاء هو وطارق حتى وقفا عليه، فقال طارق:
« ما ولدت النساء أذكر من هذا. » فقال الحجّاج:
« أتمدح من يخالف طاعة أمير المؤمنين؟ » قال:
« نعم، هو أعذر لنا، ولو لا هذا ما كان لنا عذر. إنّا لمحاصروه وهو في غير خندق ولا حصن ولا منعة منذ سبعة أشهر، ينتصف منّا بل يفضل علينا في كلّ ما التقينا. » فبلغ كلامهما عبد الملك، فصوّب طارقا.
ثم دخل الحجّاج مكّة، فبايع من بها من قريش، وبعث برأس ابن الزبير وجماعة من أهله إلى المدينة، فنصبت بها، ثم ذهب بها إلى عبد الملك بن مروان.
وبعث عبد الملك إلى عبد الله بن خازم، وهو بخراسان يقاتل بحير بن ورقاء الصريمى يدعوه إلى طاعته ويقول له:
« إنّ خراسان لك طعمة سبع سنين، فبايع لي. » وكان عبد الملك بعث إليه برأس ابن الزبير، فغسله وحنّطه وكفّنه وبعث به إلى أهله بالمدينة. وحلف لا يعطى عبد الملك طاعة أبدا.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
فقال ابن خازم للرسول:
« لو لا أنّ الرسل لا تقتل، لأمرت بضرب رقبتك، ولكن كل كتابه. » وأكله.
مقتل ابن خازم في مرو
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج أحد بنى عوف بن سعد، وكان خليفة ابن خازم على مرو بعهده على خراسان، ووعده ومنّاه. فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك بن مروان، فأجابه أهل مرو، وبلغ ابن خازم، فخاف أن يأتيه بكير بأهل مرو، فيجتمع عليه أهل مرو، وأهل أبر شهر الذين مع بحير. فأقبل إلى مرو أن يأتى ابنه بالترمذ، فاتبعه بحير فلحقه بقرية يقال لها: شاه مزغند، بينها وبين مرو ثلاثة فراسخ. فقاتله ابن خازم، فقتل عبد الله بن خازم، وكان الذي ولى قتله وكيع بن عميرة القريعى، اعتون عليه بحير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز الجشمي ووكيع، فطعنوه وصرعوه، فقعد وكيع على صدره فقتله.
فقال بعض الولاة لوكيع:
« كيف قتلت ابن خازم؟ » قال:
« غلبته بفضل القنا. لمّا صرع قعدت على صدره، فحاول القيام، فلم يقدر عليه، وقلت: يا لثارات دويلة. » ودويلة أخ لوكيع من أمّه، قتل في تلك الأيام.
قال: فتنخّم في وجهى، وقال:
« لعنك الله، تقتل كبش مضر بأخيك: علج لا يساوى كفّا من نوى - أو قال: - من تراب؟ » قال: فما رأيت أحدا أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت، لقد ملأ وجهى منه. فذكر ابن هبيرة يوما هذا الحديث، فقال:
« هذه والله البسالة. » وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم رجلا من بنى غدانة إلى عبد الملك بقتل ابن خازم، ولم يبعث بالرأس، وأقبل بكير بن وساج في أهل مرو حين قتل ابن خازم، فأراد أخذ رأس ابن خازم. فمنعه بحير، فضربه بكير بعمود، وأخذ الرأس، وقيّد بحيرا وحبسه. وبعث بكير بالرأس إلى عبد الملك، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله.
ولاية المهلب حرب الأزارقة من قبل عبد الملك
وفي هذه السنة وجّه عبد الملك أخاه بشر بن مروان من الكوفة إلى البصرة واليا عليها. ثم كتب إليه:
« أمّا بعد، فابعث المهلّب في أهل مصره إلى الأزارقة لينتخب من أهل مصره ووجوههم وفرسانهم أولى الفضل والتجربة منهم، فإنّه أعرف بهم، وخلّه ورأيه في الحرب، فإني أوثق شيء بتجربته ونصيحته للمسلمين، وابعث من أهل الكوفة بعثا كثيفا، وابعث عليهم رجلا معروفا حسيبا شريفا يعرف بالبأس والنجدة والتجربة للحرب، ثم أنهض إليهم أهل المصرين، فليتبعوهم أيّ وجه ما توجّهوا حتى يبيرهم الله ويستأصلهم، والسلام عليك. » فدعا بشر المهلّب، فأقرأه الكتاب، وأمره أن ينتخب من شاء. فبعث بجذيع بن قبيصة وهو خال ابنه يزيد، فأمره أن يأتى الديوان، فينتخب الناس. فشقّ على بشر أنّ إمرة المهلّب جاءت من قبل عبد الملك فلا يستطيع أن يبعث غيره.
فأوغرت صدره عليه حتى كأنّ له إليه ذنبا. ودعا بشر بن مروان عبد الرحمن بن مخنف، فبعثه على أهل الكوفة، وأمره أن ينتخب فرسان الناس ووجوههم وأولى الفضل منهم والنجدة.
قال عبد الرحمن بن مخنف، قال لي بشر:
« إنّك قد عرفت منزلتك مني وأثرتك عندي، وقد ولّيتك هذا الجيش للذي عرفت من جرأتك وغنائك وشرفك وبأسك، فكن عند أحسن ظنّى بك، انظر هذا الكذّاب - يعنى المهلّب ووقع فيه وسبعه - (كذا) فاستبدّ عليه بالأمر، ولا تقبلنّ له مشورة ولا رأيا. » وتنقّصه وقصّر به.
قال عبد الرحمن: فترك أن يوصيني بالجند وقتال العدوّ والنظر لأهل الإسلام، وأقبل يغرينى بابن عمّى حتى كأنّى سفيه من السفهاء، أو ممّن يستصبى ويستجهل. ما رأيت شيخا في مثل سنّى ومنزلتي طمع منه في مثل ما طمع فيه هذا الغلام مني. شبّ عمرو عن الطوق.
قال: ولما رءانى لست بالنشيط إلى جوابه قال:
« ما لك؟ » قلت:
« أصلحك الله، وهل يسعني إلّا أن أنقاد لأمرك في كلّ ما أحببت أو كرهت؟ »
قال:
« امض راشدا. » فودّعته وخرجت من عنده.
وخرج المهلّب حتى نزل رامهرمز، فلقى الخوارج، فخندق عليه، وأقبل عبد الرحمن بن مخنف بأهل الكوفة، فنزل قريبا من المهلّب على ميل، أو ميل ونصف، حيث يتراءى العسكران برامهرمز، فلم يلبث الناس إلّا عشرا حتى أتاهم نعى بشر، وتوفّى بالبصرة، وارفضّ الناس من أصحاب المهلّب وأصحاب عبد الرحمن بن مخنف، وهم رؤساء أهل البصرة والكوفة، وبقيا في قلّة. وكان بشر استخلف خالد بن عبد الله بن أسيد، وكان خليفته على الكوفة عمرو بن حريث، وكان ممن انصرف من أهل الكوفة: زحر بن قيس، وإسحاق بن محمد بن الأشعث، ومحمد بن عبد الرحمن بن سعد بن قيس. فبعث عبد الرحمن ابنه جعفرا في آثارهم، فردّ إسحاق ومحمدا، وفاته زحر بن قيس، فحبسهما يومين، ثم أخذ عليهما ألّا يفارقاه. فما لبثا إلّا يوما حتى انصرفا ولحقا بزحر بن قيس بالأهواز، فاجتمع بها ناس كثير ممن يريد البصرة، فبلغ ذلك خالد بن عبد الله، فكتب إلى الناس كتابا، وبعث رسلا تضرب وجوه الناس وتردّهم. فقدم مولى له، فقرئ الكتاب على الناس وقد جمعوا له، وكان فيه حضّ على الجهاد وتوبيخ للرؤساء، وتهديد لعامّة الناس، ويقول في آخره:
« أيها الناس، اعلموا على من اجترأتم ومن عصيتم. إنه عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين الذي ما فيه غميزة، ولا عنده رخصة على من خالفه وعصى أمره، وإنما سوطه سيفه، فلا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فإني لم آلكم نصيحة. اذهبوا إلى مكتبكم وطاعة خليفتكم، ولا ترجعوا عاصين مخالفين، فأقسم بالله لا أثقف عاصيا بعد كتابي هذا إلّا قتلته والسلام. » فلم يلتفت الناس إلى ما في الكتاب، وأقبل رؤساء الكوفة حتى نزلوا إلى جانب الكوفة في قرية لآل الأشعث، وكتبوا إلى عمرو بن حريث:
« أما بعد، فإنّ الناس لما بلغهم وفاة الأمير رحمه الله، تفرّقوا فلم يبق معنا أحد، فأقبلنا إلى الأمير، وإلى مصرنا، وأحببنا ألّا ندخل الكوفة إلّا بإذن الأمير وعلمه، والسلام. » فكتب إليهم:
« أما بعد، فإنّكم تركتم مكتبكم وأقبلتم عاصين مخالفين، فليس لكم عندنا أمان ولا إذن. » فلما أتاهم كتابه انتظروا حتى إذا كان الليل دخلوا إلى رحالهم، فلم يزالوا مقيمين حتى قدم الحجّاج بن يوسف.
سبب عزل بكير بن وساج عن خراسان
وفي هذه الأيام عزل عبد الملك بكير بن وساج عن خراسان، وولّاها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. وكان سبب ذلك أنّ تميما اختلفت بخراسان، فصار منهم قوم يتعصّبون لبحير ويطلبون بكيرا، وصار منهم يعذرون بكيرا ويتعصّبون له. فخاف أهل خراسان أن تعود الحرب وتفسد البلاد ويقهرهم عدوّهم من المشركين. فكتبوا إلى عبد الملك أنّ خراسان لا تصلح بعد الفتنة إلّا على رجل من قريش لا يحسدونه.
فوجّه عبد الملك أمية بن عبد الله، وكان يحبّه ويقول:
« هو لدتى. » وكان بحير كما كتبنا في ما تقدّم من خبره، في حبس بكير لما كان منه في رأس ابن خازم حين قتله. فلم يزل محبوسا عنده حتى استعمل عبد الملك أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فلما بلغ ذلك بكيرا أرسل إلى بحير ليصالحه، فأبى عليه وقال:
« ظنّ بكير أنّ خراسان تبقى له في الجماعة. » فمشى بينهم السفراء، فأبى بحير.
ذكر رأي صواب أشير به على بحير فقبله
ثم دخل عليه ضرار بن حصن الضبي، فقال:
« إني لا أراك مائقا، يرسل إليك ابن عمّك يعتذر إليك وأنت أسير في يده فلا تقبل منه! لو قتلك ما حبقت فيه عنز. ما أنت بموفّق، اقبل الصلح، واخرج وأنت على أمرك. » فقبل مشورته وصالح بكيرا.
قال: فأرسل إليه بكير بأربعين ألفا، وأخذ على بحير ألّا يغتاله. فلما بلغ بحيرا أنّ أمية قارب أبرشهر، قال لرجل من عجم مرو:
« دلّنى على طريق قريب لألقى الأمير قبل قدومه ولك كذا وكذا. » وأجزل له العطيّة. وكان عالما بالطريق. فخرج إلى أرض سرخس في ليلة، ثم مضى به إلى نيسابور.
فوافى أمية حتى قدم أبر شهر، فلقيه، فأخبره عن خراسان وما يصلح أهلها ويحسن طاعتهم ويخفّ على الموالي مؤونتهم، ورفع على بكير أموالا قد أصابها، وحذّره غدره، وسار معه حتى قدم مرو. وكان أمية سيّدا كريما. فلم يعرض لبكير ولا لعمّاله، وعرض عليه أن يولّيه شرطته، فأبى بكير، فولّاها بحيرا. وقد كان لام بكيرا رجال من قومه وقالوا:
« أبيت أن تلى حتى ولّاها بحيرا، وقد عرفت ما كان بينكما. » قال:
« كنت أمس والى خراسان تحمل الحراب بين يديّ وأصبر اليوم على الشرطة أحمل الحربة! » وقال أمية لبكير:
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)