« والله لا أفلحت. » وكان الهفتى مربوعا ذا كدنة والمعتصم رجلا معرّقا خفيف اللحم فجعل المعتصم يسبق الهفتيّ في المشي فإذا تقدّمه ولم ير الهفتيّ معه التفت إليه فقال له:
« ما لك لا تمشى؟ » يستعجله.
فلمّا كثر ذلك من أمر المعتصم على الهفتى قال له الهفتيّ مداعبا له:
« أصلحك الله، كنت أرانى أماشى خليفة ولم أكن أرانى أماشى فيجا والله لا أفلحت. » فضحك المعتصم وقال:
« ويلك وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟ » فقال له الهفتى:
« أتحسب أنّك قد أفلحت الآن؟ إنّما لك من الخلافة الاسم، والله ما يجاوز أمرك أذنيك. وإنّما الخليفة الفضل بن مروان الذي يأمر فينفذ أمره من ساعته. » قال المعتصم:
« وأيّ أمر لي لم ينفذ؟ » فقال: « أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين فما أعطيت ممّا أمرت به منذ ذاك حبّة. » وكان هذا أوّل ما حرّك المعتصم في القبض على الفضل بن مروان.
وكان محمد بن عبد الملك الزيّات يتولّى ما كان أبوه يتولّاه للمأمون من عمل الفساطيط وآلة الجمّازات ويكتب عليها ممّا جرى على يدي محمد بن عبد الملك. وكان يلبس إذا حضر الدار الدرّاعة السوداء والسيف بالحمائل.
فدعاه الفضل يوما وقال له:
« ما هذا الزيّ إنّما أنت تاجر فما لك والسواد والسيف؟ » فترك ذلك محمد. وأخذه الفضل برفع حسابه إلى دليل بن يعقوب النصراني فأحسن دليل إليه ولم يزرأه شيئا. وعرض عليه محمد هدايا فأبى دليل أن يقبل منها شيئا. ثم غضب المعتصم على الفضل بن مروان وأهل بيته وأمرهم برفع ما جرى على أيديهم وصيّر محمد بن عبد الملك مكانه.
فلمّا صار محمد بن عبد الملك وزيرا استدعى الفضل يوما وقد دخل دار السلطان بسواد وسيف وهو إذ ذاك مغضوب عليه يحاسب، فقال:
« ما هذا الزيّ؟ الزم منزلك، فإن احتيج إليك استدعيت. »
ودخلت سنة إحدى وعشرين ومائتين
وقعة كانت بين بغا وبابك
وفي هذه السنة كانت بين بغا الكبير وبابك وقعة بناحية هشتاذ سر فهزم بغا واستبيح عسكره.
ذكر الخبر عن ذلك
كان بغا قدم بالمال الذي مضى ذكره ففرّقه الأفشين على أصحابه وتجهّز بعد النيروز عند زوال البرد ومكروه الثلج، ووجّه بغا في عسكر ليدور حول هشتاذ سر وينزل في خندق محمد بن حميد ويحكمه ويخفره، ووجّه أبا سعيد من وجه آخر ورحل الأفشين من برزند، فتجهّز بغا من غير مواقفة الأفشين وسار حتى نزل قرية البذّ في وسطها وأقام بها يوما واحدا واحتاج إلى الميرة والأعلاف، فوجّه ألف رجل في علّافة له، فخرج عسكر من عساكر بابك فاستباح العلّافة وقتل البعض وأسر البعض ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد شبيها بالمنهزم وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك ويسأله المدد فقال الأفشين:
« ما عمل شيئا وأقدم بغير أمرنا. » ثم وجّه إليه أخاه الفضل بن كاوس وأحمد بن الخليل بن هشام وابن جوشن وصاحب شرطة الحسن وقرابة للفضل بن سهل. ثم كتب الأفشين إلى بغا يعلمه أنّه يغزو بابك في يوم سمّاه له ويأمره أن يغزوه في ذلك اليوم بعينه ليحاربه من كلا الوجهين. فخرج الأفشين في ذلك اليوم يريد بابك وخرج بغا، فعسكر على دعوة فهاجت ريح شديدة ومطر شديد فلم يكن للناس صبر على البرد وشدّة الريح فانصرف بغا إلى عسكره وواقعهم الأفشين من الغد وبغا غير حاضر، فهزمه الأفشين وأخذ عسكره وخيمته، ونزل الأفشين في معسكر بابك.
ثم تجهّز بغا من الغد وصعد هشتاذ سر، فوجد العسكر الذي كان مقيما بإزائه قد انصرف إلى بابك فترك بغا في موضعه وأصاب قماشا وخرثيّا قد تركوه، ثم انحدر من هشتاذ سر يريد البذّ وكان على مقدّمته داود سياه فبعث إليه:
« إنّا قد توسّطنا الموضع الذي تعرفه يعنى الذي كنا فيه في المرّة الاولى وهذا وقت المساء وقد تعب الرجّالة، فانظر جبلا حصينا يسع معسكرنا حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه. » فالتمس داود سياه ذلك، فصعد إلى قلّة جبل فأشرف فرأى أعلام الأفشين ومعسكره شبه الخيال فقال:
« هذا موضعنا. » فجاءهم في تلك الليلة سحاب وبرد ومطر وثلج كثير، فلم يقدر أحد حين أصبحوا أن ينزل من الجبل لأخذ ماء ولا سقى دابّة من شدّة البرد وكثرة الثلج وكأنهم كانوا في نهارهم ذلك في ليل من الضباب المتراكم وشدّة الظلمة. فلمّا كان اليوم الثالث قال الناس لبغا:
« قد فنى ما معنا من الزاد وأضرّ بنا البرد فانزل على أية حال كانت، إمّا راجعين وإمّا نحو الكافر. »
تبييت بابك الأفشين
وقد كان في يوم الضباب بيّت بابك الأفشين ونقض عسكره وانهزم الأفشين وانصرف إلى معسكره فضرب بغا بالطبل وانحدر يريد البذّ. فلمّا صار إلى بطن الوادي نظر إلى السماء منجلية والدنيا طيّبة غير رأس الجبل الذي كان عليه. فعبّأ بغا أصحابه ميمنة وميسرة ومقدّمة وتقدّم يريد البذّ وهو لا يشكّ أنّ الأفشين في موضع معسكره فمضى حتى صار لزق جبل البذّ ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذّ إلّا صعود قدر نصف ميل، وكان على مقدّمته غلام لابن البعيث، وكان ابن البعيث هذا ذا نكاية في بابك وأصحابه وكان للغلام قرابة بالبذّ، فلقيتهم طلائع لبابك، فعرف بعضهم الغلام فقال له:
« فلان؟ » قال: « نعم. » قال: « من هذا هاهنا؟ » فسمّى له من معه من أهل بيته فقال:
« ادن مني حتى أكلّمك. » فدنا منه الغلام فقال له:
« ارجع وقل لمن تعنى به يتنحّى فإنّا قد بيّتنا الأفشين وهزمناه، ونحن قد تهيّأنا لكم في عسكرين، فعجّل الانصراف لعلّك أن تنفلت. »
فرجع الغلام فأخبر صاحبه ابن البعيث، فأخبر ابن البعيث بغا بذلك، فوقف بغا يشاور أصحابه، فقال بعضهم:
« هذا باطل وهذه خدعة، ليس من هذا شيء. » وقال بعض الكوهانيّين:
« إنّ هذا جبل أعرفه. من صعد إلى رأسه نظر إلى عسكر الأفشين. » فصعد بغا والفضل بن كاوس وجماعة منهم ممّن نشط، فأشرفوا على الموضع فلم يروا فيه أحدا، فيقن أنّه مضى وتقرّر رأيه على أن ينصرف في صدر النهار قبل أن يجنّهم الليل، فأمر داود سياه بالانصراف، فجدّ في السير ولم يعد في الطريق الذي دخل منه مخافة المضايق والعقاب، وأخذ الطريق الذي دخل منه في المرّة الأولى يدور حول هشتاذ سر وليس فيه مضيق إلّا في موضع واحد. فسار بالناس وبعث الرجّالة فرموا بأسلحتهم وطرحوا الرماح في الطريق ودخلتهم وحشة شديدة ورعب عظيم وصار بغا والفضل بن كاوس وجماعة من القوّاد في الساقة، وظهرت طلائع بابك ونزل بغا فتوضّأ وصلّى ووقف في وجوههم وتخوّف بغا على عسكره أن يوافقه الطلائع من ناحية ويدور عليهم في بعض الجبال والمضايق قوم آخرون فشاور من حضره وقال:
« لست آمن أن يكون هؤلاء الذين بإزائنا مشغلة يحبسوننا عن المسير ويسبقوننا إلى المضايق قوم آخرون. » فأشار الفضل بن كاوس أن يوجّه إلى داود سياه وهو على المقدّمة أن يسرع السير ولا ينزل حتى يجاوز المضيق ولو في نصف الليل. فأمّا نحن فنقف هاهنا ونماطلهم حتى تجيء الظلمة، فإنّ هؤلاء لا يعرفون حينئذ لنا موضعا، فإن أخذ علينا المضيق تخلّصنا بأفراسنا من طريق هشتاذ سر أو من طريق آخر.
وأشار غيره على بغا فقال:
« إنّ العسكر قد تقطّع وليس يدرك أوّله آخره والناس قد رموا بسلاحهم وقد بقي المال والسلاح على البغال وليس معه أحد ولا نأمن أن يخرج علينا من يأخذ المال والسلاح والأسير الذي معنا» - وكان معهم ابن جويدان أسيرا.
فلمّا ذكر ذلك لبغا أشفق منه ووجّه إلى داود سياه: « حيثما رأيت جبلا حصينا فعسكر عليه. » فعدل داود إلى جبل مؤرّب لم يكن للناس فيه موضع للجلوس من شدّة نصوبه، فعسكر عليه وضرب لبغا مضرب على طرف الجبل في موضع شبيه بالحائط ليس فيه مسلك، فنزل فيه وأنزل الناس وقد كلّوا وفنيت أزوادهم، فباتوا على تعبئة يتحارسون من ناحية المصعد وجاءهم العدوّ من الناحية الأخرى، فعلّقوا بالجبل حتى صاروا إلى مضرب بغا، فكبسوه وبيّتوا العسكر وخرج بغا راجلا حتى نجا وخرج الفضل بن كاوس ونجا وقتل ابن جوشن وقرابة الفضل بن سهل وجماعة غيرهم، ووجد بغا بعد خروجه من العسكر دابّة فركبها، ومرّ بابن البعيث فأصعده على هشتاذ سر حتى انحدر به على عسكر محمد بن حميد وخندقه، فوافاه في جوف الليل وأخذ الخرّمية المال والعسكر والسلاح والأسير ولم يتبعوا الناس ومرّ الناس متقطعين حتى وافوا بغا.
وأقام بغا خمسة عشر يوما في خندق محمد بن حميد حتى أتاه كتاب الأفشين يأمره بالرجوع إلى المراغة. وانصرف الفضل أخو الأفشين وجمع من كان في عسكر الأفشين إلى الأفشين، وفرّق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة حتى جاء الربيع من السنة المقبلة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
وفيها وجّه المعتصم بالله إلى الأفشين جعفر بن دينار الخيّاط مددا له، ثم أتبعه بإيتاخ ووجّه معه ثلاثين ألف ألف درهم للجند والنفقات. فلمّا جاء الربيع ووصل إلى الأفشين ما وجّه من المال والمدد فوافاه ذلك كلّه وهو ببرزند سلّم إليه إيتاخ المال والرجال وانصرف وأقام جعفر الخيّاط إلى أن حضر الوقت الذي يمكن فيه الغزو وطاب الزمان.
فتح البذ مدينة بابك واستباحتها
وفي هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك ودخلها المسلمون واستباحوها.
ذكر الخبر عن ذلك وسببه
لمّا عزم الأفشين على الدنوّ من البذّ جعل يزحف قليلا قليلا على خلاف زحفه قبل ذلك إلى المنازل التي كان ينزلها وكان يتقدّم الأميال الأربعة فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إليه ولا يحفر خندقا ولكنّه يقيم معسكرا في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس، تقف على ظهور الخيل كما يدور العسكر بالليل، فبعض القوم معسكر وبعض وقوف على ظهور دوابّهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار، مخافة البيات، كي إن دهمهم أمر كان الناس على تعبئة والرجّالة في العسكر، فضجّ الناس من التعب وقالوا:
« كم نقعد هاهنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء وبيننا وبين العدوّ أربعة فراسخ ونحن نفعل فعال من يرى العدوّ بإزائه؟ قد استحيينا من الناس والجواسيس الذين يمرّون بنا، وبين العدوّ وبيننا أربعة فراسخ ونحن قد متنا من الفزع، اقدم بنا فإمّا لنا وإمّا علينا. » فقال: « أنا والله أعلم أنّ ما تقولون حقّ، ولكن أمير المؤمنين أمرنى بهذا ولا أجد بدّا منه. » فلم يلبث أن ورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرّى بدرّاجة الليل، فانحدر في خاصّته حتى نزل روذ الروذ وتقدّم حتى شارف الموضع الذي واقعه عليه بابك في العام الماضي، فنظر إليه فإذا عليه كردوس من الخرّمية فلم يحاربوه ولم يحاربهم فقال بعض العلوج: « ما لكم تجيئون وتفرّون، أما تستحيون؟ » فأمر الأفشين ألّا يجيبوهم ولا يبرز إليهم أحد، فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر ثم رجع إلى عسكره فلم يزل على ذلك أيّاما وكان يأمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم ولا يحرّكهم ولا يهيجهم وأمر الفعلة وكانوا يسمّون الكلغريّة أن يحملوا شكاء الماء والكعك.
فلمّا صاروا إلى روذ الروذ أمر أبا سعيد أن يذهب فيواقفهم على حسب ما كان يواقفهم، وأمر الفعلة أن ينقلوا الحجارة ويحصّنوا الطرق التي تسلك إلى تلك الأجبال، وكانت ثلاثة أجبال حصينة كان اختارها ففعل ذلك فصارت شبه الحصون، ثم أمر فاحتفر على طريق وراء تلك الحجارة على المصعد خندقا، ولم يترك إليها إلّا مسلكا واحدا، ثم أمر أبا سعيد بالانصراف.
فلمّا كان الثامن من الشهر وعلم أنّ ضوء القمر قد أمتع. دفع إلى الرجّالة الكعك والسويق ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير ووكّل بمعسكره من يحفظه، وانحدر وأمر الرجّالة بالصعود إلى رؤوس تلك الجبال، وأن يحملوا معهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد، ووجّه أبا سعيد ليواقف القوم على عادته وأمر الناس بالدخول في السلاح وألّا يأخذ الفرسان سروج دوابّهم. ثم خطّ الخندق وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكّل بهم من يستحثّهم، وكان يأمر بالعشيّ أن يتحارسوا ولا يناموا ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، ويأمر الفرسان أن يصيروا كراديس بين كلّ كردوس وكردوس مقدار رمية سهم، وتقدّم إلى جميع الكراديس:
« ألّا يلتفتن واحد منكم إلى الآخر وليحفظ كلّ رجل منكم ما يليه. فإن سمعتم هدّة فلا يلتفتنّ أحد منكم إلى أحد فكلّ كردوس قائم بما إليه، ونحن لا نمدّه بأحد. »
ملاطفة بين بابك وأفشين في تلك الحال
فلم تزل الكراديس وقوفا على ظهور دوابّهم إلى الصباح والرجّالة فوق رؤوس الجبال يتحارسون، فلبثوا كذلك عشرة أيّام حتى فرغوا من حفر الخندق، ودخله اليوم العاشر وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق فينقلوه. وأتاه رسول بابك معه قثّاء وبطّيخ وخيار يعلمه أنّه في أيّامه هذه في جفاء، إنّما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنّه إن أحبّ أن يلطفه بذلك فعل.
فقال الأفشين للرسول:
« قد عرفت أيّ شيء أراد أخي بهذا. إنّما أراد أن ينظر إلى العسكر، وأنا أقبل برّه وأعطى شهوته. فقد صدق، أنا في جفاء. » وقال للرسول:
« أمّا أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى ترى معسكرنا وترى ما وراءنا. » فأمر بحمله على دابّة، وأن يصعد به، حتى يرى الخندق، وينظر إلى خندق كلان روذ. وخندق برزند ويتأمّل الخنادق الثلاثة ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه.
ففعل به ذلك. ثم أطلقه ووصله وقال:
« اذهب واقرأه مني السلام. » ثم إنّ الأفشين كان في كلّ أسبوع يضرب الطبول نصف الليل ويخرج بالشمع والنفّاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كلّ إنسان كردوسه من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة. فيخرج الناس
« أيّها الأمير، لا تحرمنا شهادة إن حضرت، فإنّما قصدنا ثواب الله ووجهه، ولو أردنا الحياة لقعدنا في منازلنا، فدعنا وحدنا حتى نتقدّم بعد أن يكون بأذنك، فلعلّ الله أن يفتح علينا. » فقال الأفشين:
« أرى نيّاتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله، وقد نشطتم ونشط أصحابي وقد حدث لي الساعة رأى في ذلك وهو خير إن شاء الله، اعزموا على بركة الله أيّ يوم شئتم حتى نناهضه، لا حول ولا قوّة إلّا بالله. » فخرج القوم مستبشرين، فمن كان أراد الانصراف أقام ومن كان خرج ثم سمع بذلك رجع.
ووعد الناس ليوم، وتقدّم إلى الناس بأخذ الأهبة ثم خرج وأخرج المحامل على البغال لمن لعلّه يجرح، وأخرج المتطبّبين، وزحف الناس، حتى صعد إلى المكان الذي كان يجلس فيه وطرح له النطع ووضع عليه الكرسيّ كما كان يفعل وقال لأبي دلف:
« قل لأصحابك أيّ ناحية هي أسهل عليهم فليقتصروا عليها. » وقال لجعفر:
« العسكر كلّه بين يديك والناشبة والنفّاطون أمامك، فخذ حاجتك واعزم على بركة الله، ادن من أيّ موضع شئت. » قال: « أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه. » قال: « امض. » ثم دعا أبا سعيد فقال له:
« قف بين يديّ أنت وجميع أصحابك ولا يبرحنّ منكم أحد. » ودعا أحمد بن الخليل فقال له:
« قف أنت أيضا وجميع أصحابك ها هنا ودعوا جعفرا يعبر ومن معه من الرجال، فإن أراد رجالا وفرسانا أمددناه. »
توجه أبي دلف نحو حائط البذ
فتوجّه أبو دلف مع المطوّعة نحو حائط البذّ وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم وحمل جعفر حملة حتى ضرب باب البذّ كما فعل تلك الدفعة ووقف على الباب وواقفه الخرّمية ساعة، فوجّه الأفشين برجل معه بدرة دنانير وقال:
« قل لأصحاب جعفر: من تقدّم حثوت له ملء كفّى. » ودفع بدرة أخرى دنانير إلى آخر، وقال:
« اذهب إلى موضع المطوّعة وقل مثل ذلك. » وبعث بأطواق وأسورة مع البدرتين، واشتبكت الحرب، ثم فتح الخرّمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحّوهم عن الباب وشدّوا على المطوّعة من الناحية الأخرى فرموهم عن السور، وأخذوا علمين لهم وشدخوهم بالصخر حتى أثّروا فيهم ورقّوا عن الحرب. وصاح جعفر بأصحابه فبدر منهم نحو مائة رجل فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم وواقفوهم متحاجزين لا هؤلاء يقدمون ولا هؤلاء، حتى صلى الناس الظهر يختلف بينهم النشّاب والحجارة.
فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه إلى جعفر بكردوس فقال جعفر:
« لست أوتى من قلّة الرجال، معي رجال ولكن لست أرى للحرب موضعا وقد انقطعت الحرب. » فبعث إليه:
« انصرف على بركة الله. » فانصرف جعفر وتقدّم الأفشين بحمل الجرحى ومن به وهن من الحجارة في المحامل التي على البغال وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ ويئس الناس من الفتح في تلك السنة وانصرف أكثر المطوّعة.
ثم إنّ الأفشين تجهّز بعد جمعتين فلمّا كان في الليل بعث الرجّالة الناشبة وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كلّ واحد منهم شكوة وكعكا، ودفع إليهم أعلاما سودا وقال:
« سيروا حتى تصيروا خلف التلّ الذي عليه آذين» - وهو صاحب جيش بابك.
وأرسل مهم الأدلّاء وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد حتى يروا أعلام الأفشين عند صلاة الغداة، فحينئذ فركّبوا الأعلام على الرماح واضربوا بالطبول وانحدروا من فوق الجبل وارموا بالنشّاب والصخر على الخرّمية وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره.
ففعلوا ذلك ووافوا رأس الجبل عند السحر وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي.
فلمّا كان السحر وجّه الأفشين إلى القوّاد أن:
« اركبوا في السلاح. » فركبوا، وأخرج النفّاطين والشمع وضرب بالطبل حتى وافى الموضع الذي كان يقف عليه وبسط النطع ووضع الكرسيّ لعادته، وكان بخاراخذه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخاراخذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفر الخيّاط وأحمد بن الخليل، فأنكر الناس هذه التعبئة وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين فيحدقوا به، وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم. فمضوا جميعا حتى صاروا كالحلقة حول التلّ وارتفعت الضجّة وتحرّك الكمين واشتبكت الحرب.
فلمّا سمع الرجّالة الناشبة الذين تقدّموا صوت الطبول ورأوا الأعلام وركّبوا أعلامهم وانحدروا على أصحاب آذين وحمل جعفر الخيّاط وأصحابه حتى صعدوا إليهم ثم حملوا حملة منكرة، قلبوه وأصحابه في الوادي.
وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلا عليها صخرة. فلمّا حمل الناس دفع العجل على الناس، فأفرج الناس عنها حتى تدحرجت ثم حمل الناس من كلّ وجه.
بابك يريد الأمان
فلمّا نظر الناس إلى ذلك كبّروا ونظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، فخرج من طرف البذّ من باب يلي الأفشين يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل، فأقبل بابك يسأل عن الأفشين فقال لهم المطوّعة وأصحاب أبي دلف:
« من هذا؟ » فقالوا: « بابك، يريد الأفشين. » فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه ذلك. فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك. فنظر إليه، ثم عاد إليه فقال:
« نعم هو بابك. » فركب إليه الأفشين، فدنا منه حيث يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له:
« أريد الأمان من أمير المؤمنين. » فقال له الأفشين:
« قد عرضت عليك هذا وهو لك مبذول متى شئت. »
فقال: « قد شئت الآن على أن تؤجّلنى أجلا أحمل فيه عيالي وأتجهّز. » قال له الأفشين:
« قد والله نصحتك غير مرّة وأنا أنصحك الساعة: خروجك اليوم في الأمان خير من غد. » قال: « قد قبلت أيّها الأمير. » قال له الأفشين:
« فابعث بالرهائن التي كنت سألتك. » قال: « نعم. أمّا فلان وفلان فهم على ذلك الجبل، فمر أصحابك بالتوقّف عنهم. » فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس. فقيل له:
« من يردّ الناس؟ إنّ أعلام الفراغنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها إلى القصور. » فصاح الأفشين بالناس ودخل ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق القصور وقد كان بابك كمّن في قصوره وهي أربعة، ستمائة راجل. فوافاهم الناس فصعدوا فوق القصور بالأعلام وامتلأ شارع البذّ وميدانها من الناس وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور وخرجوا يقاتلون الناس، ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتاذ سر واشتغل الأفشين وقوّاده بالحرب على أبواب القصور وأحضروا النفّاطين فصبّوا عليهم النفط والناس والنار يهدمون القصور حتى قتلوهم عن آخرهم.
وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاتهم وأمر الناس بالانصراف فانصرفوا، وكان عامّة الخرّمية في البيوت فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر الناس أنّ بابك وأصحابه حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتاذ سر، فلمّا كان من الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ
فوقف في القرية وأصعد الكلغريّة فهدموا القصور وحرّقوها. فعل ذلك ثلاثة أيّام حتى أحرق خزائنه وقصوره ولم يدع بيتا واحدا. ثم رجع وقد علم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه. فكتب إلى ملوك أرمينية وأصحاب الأطراف يقول: « إنّ بابك قد هرب في عدّة معه وهو مارّ بكم فلا يفوتنّكم. » وجاءت الجواسيس إلى الأفشين فأخبروه بموضعه في الوادي وكان واديا معشبا كثير الشجر طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه ولا يرى من يستخفى فيه، إنّما هو غيضة ملتفّة الأشجار والأنهار فوجّه الأفشين إلى كلّ موضع يعلم أنّ منه طريقا ينحدر إلى تلك الغيضة، إذ يمكن بابك أن يخرج منه عسكرا، وكان يوجّه إلى كلّ عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت عدّة هذه العساكر خمسة عشر عسكرا.
أمان مختوم بالذهب من المعتصم لبابك
وكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالله مختوما بالذهب فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين ممّن كان استأمن إليه من أصحاب بابك وبالأسرى وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال لهم:
« هذا ما لم أكن أطمع له فيه، أن يكتب له أمير المؤمنين وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه ويذهب به إليه؟ » فلم يجسر على ذلك أحد منهم وقالوا:
« أيّها الأمير ما فينا من يجترئ أن يلقاه بهذا. » فقال الأفشين:
« ويحكم، إنّه يفرح بهذا. » قالوا: « أصلح الله الأمير، نحن أعرف بهذا منك. » قال: « فلا بدّ من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه. » فقام رجلان منهم فقالا:
« اضمن لنا أنّك تجرى على عيالاتنا. » فضمن لهما. وأخذا الكتاب وتوجّها، فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك يعلمه الخبر ويسأله أن يصير إلى الأمان. فدفعا إليه الكتاب عن ابنه فقرأ الكتاب ابنه وقال:
« أيّ شيء صنعتم؟ » قال: « أسر عيالاتنا ولم نعرف موضعك فنأتيك. » فقال للذي كان معه الكتاب:
« أمّا هذا فلا أعرفه، ولكن أنت يا ابن الفاعلة كيف اجترأت أن تجيئني من عند ابن الفاعلة؟ » - يعنى ابنه.
فأخذه وشدّ الكتاب على صدره مختوما لم يفضّه وضرب عنقه.
ثم قال للآخر:
« اذهب أنت فقل لابني: يا بن الزانية قد تحقّقت الساعة أنّك لست لي بابن، وأنّ أمّك جاءت بك من عهر، لو عشت يوما واحدا وأنت رئيس هذه الدعوة، كان خيرا لك من أن تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل، ولكنّك من جنس لا خير فيه. » وردّ الرجل مع أدلّاء حتى دلّوه ورجعوا إلى بابك.
فناء زاد بابك
ثم إنّ بابك فنى زاده وخرج ممّا يلي طريقا فيه جبل لا يقيم عليه عسكر لبعده من الماء، وكان الناس قد أقاموا هناك فارسين وكوهيّين يحرسون الطريق بنوبة، فلمّا خرج بابك وأصحابه وكان معه أخواه عبد الله ومعاوية وامرأة له وساروا يريدون أرمينية، نظر إليهم الفارسان والكوهيّان، فتوجّهوا إلى العسكر وعليه أبو الساج، فأعلموه أنّهم رأوا فرسانا خرجوا من الغيضة ومرّوا لا ندري من هم. فركب الناس وساروا فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدّون عليها. فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه. فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له. فوجّه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر ومرّ بابك حتى دخل جبال أرمينية يسير متكمّنا في الجبال فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم وأوصوا مسالحهم: [ أن ] لا يجتاز عليهم أحد إلّا أخذوه حتى يعرفوه. وكان أصحاب المسالح كلّهم متحفّظين.
بابك والحراث وما فعل ابن سنباط
وأصاب بابك الجوع فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له في بعض الأودية. فقال لغلام له:
« انزل إلى هذا الحرّاث وخذ معك دراهم ودنانير، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه. » وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته. فنزل الغلام إلى الحرّاث يخاطبه، فنظر إليه شريكه من بعيد فوقف بالبعد يفرق أن يجيء إلى شريكه. فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئا، فجاء الحرّاث فأخذ الخبز فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر ويظنّ أنّه إنّما اغتصبه خبزه. فعدا إلى صاحب المسلحة فأعلمه أنّ رجلا عليه سيف وسلاح جاءهم وأخذ خبز شريكه من الوادي.
فركب صاحب المسلحة وكان في جبال ابن سنباط، ووجّه إلى سهل بن سنباط بالخبر. فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحرّاث والغلام عنده فقال:
« ما هذا؟ » قال الحرّاث:
« هذا رجل مرّ بي فطلب خبزا فأعطيته. » فقال للغلام:
« أين مولاك؟ » قال: « هاهنا. » فأومأ إليه، فاتّبعه فأدركه وهو نازل. فلمّا رأى وجهه عرفه، فترجّل له ابن سنباط عن دابّته ودنا منه فقبّل يده ثم قال:
« يا سيّدي إلى أين؟ » قال: « أريد بلاد الروم - أو موضعا سمّاه. » فقال له:
« لا تجد أحدا أعرف بحقّك ولا أحقّ أن تكون عنده مني. أنت تعرف موضعي، ليس بيني وبين السلطان عمل ولا يدخل عليّ أحد من أصحاب السلطان، وأنت عارف بقصتي وبلدي وكلّ من ها هنا من البطارقة، إنّما هم أهل بيتك قد صار لك منهم أولاد. » وذلك أنّ بابك كان إذا علم أنّ عند أحد البطارقة بنتا أو أختا جميلة وجّه يطلبها، فإن بعث بها وإلّا بيّته وأخذها وأخذ جميع ما له من متاع وغيره.
ثم قال له ابن سنباط:
« صر عندي في حصني فإنّما هو منزلك وأنا عبدك فكن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. » وكان بابك قد أصابه الضرّ والجهد فركن إلى كلام سهل بن سنباط وقال له:
« ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، لعلّه أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكني أقيم عندك وتوجّه عبد الله أخي إلى ناحية ابن اصطفانوس، لأنّه ليس لنا خلف يقوم بدعوتنا. » فقال له ابن سنباط:
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)