ذكر ملك كسرى أبرويز بن هرمز
ثم ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان؛ وكان من أشد ملوكهم بطشًا، وأنفذهم رأيًا، وأبعدهم غورًا، وبلغ - فيما ذكر - من البأس والنجدة زالنصر والظفر وجمع الأموال والكنوز ومساعدة القدر ومساعفة الدهر إياه ما لم يتهيأ لملك أكثر منه، ولذلك سمي أبرويز، وتفسيره بالعربية: " المظفر ". وذكر أنه لما استوحش من أبيه هرمز - لما كان من احتيال بهرام جوبين في ذلك، حتى أوهم هرمز أنه على أن يقوم بالملك لنفسه دونه - سار إلى آذربيجان مكتتمًا، ثم أظهر أمره بعد ذلك، فلما صار في الناحية اجتمعت إليه جماعة ممن كان هناك بعد الإصبهبذين وغيرهم، فأعطوه بيعتهم على نصرته؛ فلم يحدث في الأمر شيئًا. وقيل أنه لما قتل آذينجشنس الموجه لمحاربة بهرام جوبين، انفض الجمع الذي كان معه حتى وافوا المدائن، واتبعهم جوبين، فاضطرب أمر هرمز، وكتبت أخت آذينجشنس إلى أبرويز - وكانت تربه - نخبره بضعف هرمز للحادث في آذينجشنس، وأن العظماء قد اجمعوا على خلعه، وأعلمته أن جوبين إن سبقه إلى المدائن قبل موافاته احتوى عليها.
فلما ورد الكتاب على أبرويز، جمع من أمكنه من أرمينية وآذربيجان، وصار بهم إلى المدائن، واجتمع إليه الوجوه والأشراف مسرورين بموافاته، فتتوج بتاج الملك، وجلس على سريره، وقال: إن من ملتنا إيثار البر، ومن رأينا العمل بالخير، وإن جدنا كسرى بن قباذ كان لكم بمنزلة الوالد، وإن هرمز أبانا كان لكم قاضيًا عادلًا، فعليكم بلزوم السمع والطاعة. فلما كان اليوم الثالث، أتى أباه فسجد له، وقال: عمرك الله أيها الملك! إنك تعلم أني بريءٌ مما أتى إليك المنافقون، وأني إنما تواريت ولحقت بآذربيجان خوفًا من إقدامك على القتل. فصدقه هرمز وقال له: إن لي إليك يا بني حاجتين فأسعفني بهما؛ إحداهما: أن تنتقم لي ممن عاون على خلعي والسمل لعيني، ولا تأخذ فيهم رأفة؛ والأخرى: أن تؤنسني كل يوم بثلاثة نفر لهم أصالة رأي، وتأذن لهم في الدخول علي. فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أظلنا ومعه الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمد يدًا إلى من أتى إليك ما آتى، فإن أدالني الله على المنافق؛ فأنا خليفتك وطوع يدك.
وبلغ بهرام قدوم كسرى وتمليك الناس إياه، فأقبل بجنده حثيثًا نحو المدائن، وأذكى أبرويز العيون عليه، فلما قرب منه رأى أبرويز أن الترفق به أصلح، فتسلح وأمر بندويه وبسطام وناسًا كان يثق بهم من العظماء وألف رجل من جنده، فتزينوا وتسلحوا، وخرج بهم أبرويز من قصره نحو بهرام، والناس يدعون له، وقد احتوشه بندويه وبسطام وغيرهما من الوجوه حتى وقف على شاطىء النهروان، فلما عرف بهرام مكانه، ركب برذونًا له أبلق كان معجبًا به، وأقبل حاسرًا ومعه إيزدجشنس وثلاثة نفر من قرابة ملك الترك كانوا جعلوا لبهرام على أنفسهم أن يأتوه بأبرويز أسيرًا، وأعطاهم بهرام على ذلك أموالًا عظيمة. ولما رأى بهرام بزة كسرى وزينته والتاج، يسايره معه " درفش كابيان " علمهم الأعظم منشورًا، وأبصر بندويه وبسطام وسائر العظماء وحسن تسلحهم وفراهة دوابهم، اكتأب لذلك، وقال لمن معه: ألا ترون ابن الفاعلة قد ألحم وأشحم، وتحول من الحداثة إلى الحنكة، واستوت لحيته وكمل شبابه، وعظم بدنه! فبينا هو يتكلم بهذا وقد وقف على شاطىء النهروان.
إذ قال كسرى لبعض من كان واقفًا: أي هؤلاء بهرام؟ فقال أخٌ لبهرام يسمى كردي لم يزل مطيعًا لأبزوير مؤثرًا له: عمرك الله! صاحب البرذون الأبلق. فبدأ كسرى فقال: إنك يا بهرام ركنٌ لمملكتنا وسنادٌ لرعيتنا، وقد حسن بلاؤك عندنا، وقد رأينا أن نختار لك يومًا صالحًا لنوليك فيه إصبهبذة بلاد الفرس جميعًا؛ فقال له بهرام - وازداد من كسرى قربًا -: لكني أختار يومًا أصلبك فيه. فامتلأ كسرى حزنًا من غير أن يبدو في وجهه من ذلك شيء، وامتد بينهما الكلام، فقال بهرام لأبرويز: يا بن الزانية المربى في خيام الأكراد! هذا ومثله، ولم يقبل شيئًا مما عرضه عليه، وجرى ذكر إيرش جد بهرام، فقرعه أبرويز بطاعة إيرش كانت لمنوشهر جده. وتفرقا وكل واحد منهما على غاية الوحشة لصاحبه.
وكانت لبهرام أختٌ يقال لها كردية، من أتم النساء وأكملهن، وكان تزوجها، فعاتبت بهرام على سوء ملافظته كانت لكسرى، وأرادته على الدخول في طاعته، فلم يقبل ذلك، وكانت بين كسرى وبهرام مبايتة، فيقال إنه لما كان من غد الليلة التي كانت البيات فيها، أبرز كسرى نفسه، فلما رأه الأتراك الثلاثة قصدوه، فقتلهم بيده أبرويز، وحرض الناس على القتال فتبين فشلًا، فأجمع أبرويز على إتيان بعض الملوك للاستجاشة به، فصار إلى أبيه وشاوره، فرأى له المصير إلى ملك الروم، فأحرز نساءه وشخص في عدة يسيرة، فيهم بندويه وبسطام وكردي أخو بهرام، فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام أن يرد هرمز إلى الملك ويكتب إلى ملك الروم عنه في ردهم فيتلفوا، فأعلموا أبرويز ذلك، واستأذنوه في إتلاف هرمز فلم يحر جوابًا، فانصرف بندويه وبسطام وبعض من كان معهم إلى هرمز حتى أتلفوه خنقًا، ثم رجعوا إلى كسرى وقالوا: سر على خير طائر، فحثوا دوابهم وصاروا إلى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له خرشيذان، وصاروا إلى بعض الديارات التي في أطراف العمارة، فلما أوطنوا إلى الراحة غشيتهم خيل بهرام، يرأسها رجلٌ يقال له بهرام بن سياوش، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك، فإن القوم قد أطلوك؛ قال كسرى: ما عندي حيلة، فأعلمه بندويه أنه يبذل نفسه دونه، وسأله أن يدفع إليه بزته ويخرج ومن معه من الدير، ففعلوا ذلك، وبادروا القوم حتى تواروا بالجبل، فلما وافى بهرام بن سياوش، اطلع عليه من فوق الدير بندويه وعليه بزة أبرويز، فوهمه بذلك أنه أبرويز، وسأله أن ينظره إلى غد ليصير في يده سلمًا، فأمسك عنه، ثم ظهر بعد ذلك على حيلته، فانصرف به إلى جوبين، فحبسه في يدي بهرام بن سياوش.
ويقال إن بهرام دخل دور الملك بالمدائن، وقعد على سريره، واجتمع إليه الوجوه والعظماء فخطبهم ووقع في أبرويز، وذمه، ودار بينه وبين الوجوه مناظرات وكلام، كان كلهم منصرفًا عنه، إلا أن بهرام جلس على سرير الملك وتتوج وانقاد له الناس خوفًا - ويقال إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك بجوبين، وإن جوبين ظهر على ذلك فقتله، وأفلت بندويه فلحق بآذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية، وكاتب موريق ملك الروم منها، وأرسل إليه بجماعة ممن كان معه وسأله نصرته، فأجابه إلى ذلك، وقادته الأمور إلى أن زوجه مريم ابنته وحملها إليه، وبعث إليه بنياذوس أخيه ومعه ستون ألف مقاتل، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير أمرهم، ورجلٌ آخر كانت قوته تعدل يقوة ألف رجل، وأشترط عليه حياطته، وألا يسأله الإتاوة التي كان آباؤه يسألونها ملوك الروم. فلما ورد القوم على أبرويز اغتبط، وأراحهم بعد موافاتهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرف عليهم العرفاء، وفي القوم ثياذوس وسرجس والكمي الذي يعدل بألف رجل؛ وسار بهم حتى صار إلى آذربيجان، ونزل صحراء تدعى الدنق، فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذى الناحية يقال له موسيل في أربعين ألف مقاتل، وانقض الناس من فارس وأصبهان وخراسان إلى أبرويز، وانتهى إلى بهرام مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حرب شديدة قتل فيها الكمى الرومى. ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردًا من العسكر بأربعة عشر رجلًا - منهم كردي أخو بهرام، وبندويه وبسطام، وسابور بن أفرايان بن فرخزاد، وفرخهرمز - حربًا شديدًا وصل فيها بعضهم إلى بعض. والمجوس تزعم أن أبرويز صار إلى مضيق واتبعه بهرام، فلما ظن أنه قد تمكن منه، رفعه إلى الجبل شيء لا يوقف عليه.
وذكر أن المنجمين أجمعت أن أبرويز يملك ثمانيًا وأربعين سنة. وقد كان أبرويز بارز بهرام فاختطف رمحه من يده وضرب به رأسه حتى تقصف، فاضطرب على بهرام أمره ووجل، وعلم أنه لا حيلة له في أبرويز فانحاز نحو خراسان، ثم صار إلى الترك، وصار أبرويز إلى المدائن بعد أن فرق في جنود الروم عشرين ألف ألف وصرفهم إلى موريق. ويقال إن أبرويز كتب للنصارى كتابًا أطلق لهم فيه عمارة بيعهم وأن يدخل في ملتهم من أحب الدخول فيها من غير المجوس، واحتج في ذلك أن أنوشوان كان هادن قيصر في الإتاوة التي أخذها منه على استصلاح من في بلده من أهل بلده، واتخاذ بيوت النيران هنالك. وإن قيصر اشترط مثل ذلك في النصارى؛ ولبث بهرام في الترك مكرمًا عند الملك، حتى احتال له أبرويز بتوجيه رجل يقال له هرمز، وجهه إلى الترك بجوهر نفيس وغيره حتى احتال لخاتون امرأة الملك ولاطفها بذلك الجوهر وغيره، حتى دست لبهرام من قتله. فيقال إن خاقان اغتم لقتله وأرسل إلى كردية أخته وامرأته يعلمها بلوغ الحادث ببهرام منه، ويسألها أن تزوج نفسها نطرًا أخاه، وطلق خاتون بهذا السبب، فيقال إن كردية أجابت خاقان جوابًا لينًا وصرفت نطرًا، وإنها ضمت إليها من كان مع أخيها من المقاتلة وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، وإن نطرا التركي اتبعها في اثني عشر ألف مقاتل، وإن كردية قتلت نطرًا بيدها ومضت لوجهها، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانًا من أبرويز. فلما قدمت عليه تزوجها أبرويز واغتبط بها وشكر لها ما كان من عتابها لبهرام، وأقبل أبرويز على برموريق وإلطافه. وإن الروم خلعوا - بعد أن ملك كسرى أربع عشرة سنة - موريق وقتلوه وأبادوا ورثته - خلا ابن له هرب إلى كسرى - وملكوا عليهم رجلًا يقال له قوفا.
فلما بلغ كسرى نكث الروم عهد موريق وقتلهم إياه، امتعض من ذلك وأنف منه، وأخذته الحفيظة، فآوى ابن موريق اللاجئ إليه، وتوجه وملكه على الروم، ووجه معه ثلاثة نفر من قواده في جنود كثيفة. أما أحدهم فكان يقال رميوزان، وجهه إلى بلاد الشام فدوخها حتى انتهى إلى أرض فلسطين، وورد مدينة بيت المقدس فأخذ أسقفها ومن كان فيها من القسيسين وسائر النصارى بخشبة الصليب، وكانت وضعت في تابوت من ذهب، وطمر في بستان وزرع فوقه مبقلة، وألح عليهم حتى دلوه على موضعها، فاحتفر عنها بيده واستخرجها، وبعث بها إلى كسرى في أربع وعشرين من ملكه.
وأما القائد الآخر - وكان يقال له شاهين، وكان فاذوسبان المغرب - فإنه سار حتى احتوى على مصر والإسكندرية وبلاد نوبة، وبعث إلى كسرى بمفاتيح مدينة إسكندرية في سنة ثمان وعشرين من ملكه. وأما القائد الثالث فكان يقال له فرهان، وتدعى مرتبته شهربراز. وإنه قصد القسطنطينية حتى أناخ على ضفة الخليج القريب منها، وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرب بلاد الروم غضبًا مما انتهكوا من موريق، وانتقامًا له منهم، ولم يخضع لابن موريق من الروم أحد ولم يمنحه الطاعة، غير أنهم قتلوا قوفا الملك الذي كانوا ملكوه عليهم لما ظهر لهم من فجوره وجرأته على الله وسوء تدبيره، وملكوا عليهم رجلًا يقال له هرقل.
فلما رأى هرقل عظيم ما فيه بلاد الروم من تخريب جنود فاؤس إياها وقتلها مقاتلتهم وسبيهم ذراريهم واستباحتهم أموالهم وانتهاكهم ما بحضرتهم، بكى إلى الله وتضرع إليه وسأله أن ينقذه وأهل مملكته من جنود فارس، فرأى في منامه رجلًا ضخم الجثة رفيع المجلس، عليه بزة، قائمًا في ناحية عنه، فدخل عليهما داخل، فألقى ذلك الرجل عن مجلسه، وقال لهرقل: إنى قد أسلمته في يدك. فلم يقصص رؤياه تلك في يقظته على أحد، ورأى الليلة الثانية في منامه أن الرجل الذي رآه في حلمه جالس في مجلس رفيع، وأن الرجل الداخل عليهما أتاه وبيده سلسلة طويلة، فألقاها في عنق صاحب المجلس وأمكنه منه، وقال له: هأنذا قد دفعت إليك كسرى برمته، فاغزه فإن الظفر لك، وإنك مدالٌ عليه ونائلٌ أمنيتك في غزاتك. فلما تتابعت عليه هذه الأحلام، قصها على عظماء الروم وذوي الرأي منهم.
فأخبروه أنه مدالٌ عليه، وأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعد هرقل واستخلف ابنًا له على مدينة قسطنطينية، وأخذ غير الطريق الذي فيه شهر براز، وسار حتى أوغل في بلاد أرمينية، ونزل نصيبين بعد سنة، وكان شاهين - فاذوسبان المغرب - بباب كسرى حين ورد هرقل نصيبين لموجدة كانت من كسرى عليه، وعزله إياه عن ذلك الثغر، وكان شهر براز مرابطًا للموضع الذي كان فيه لتقدم كسرى كان إليه في الجثوم فيه، وترك البراح منه، فبلغ كسرى خبر تساقط هرقل في جنوده إلى نصيبين، فوجه لمحاربة هرقل رجلًا من قواده يقال له: راهزار، في اثني عشر ألف مقاتل، وأمره أن يقيم بنينوى من مدينة الموصل على شاطئ دجلة، ويمنع الروم أن يجوزها - وكان كسرى حين بلغه خبر هرقل مقيمًا بد سكرة الملك - فنفذ راهزار لأمر كسرى، وعسكر حيث أمره، فقطع هرقل دجلة في موضع آخر إلى الناحية التي كان فيها جندٌ فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فانصرفوا إليه وأخبروه أنه في سبعين ألف مقاتل، وأيقن راهزار أنه ومن معه من الجنود عاجزون عن مناهضة سبعين ألف مقاتل، فكتب إلى كسرى غير مرة دهم هرقل إياه بمن لا طاقة له ولمن معه بهم، لكثرتهم وحسن عدتهم، كل ذلك يجيبه كسرى في كتابه؛ أنه إن عجز عن أولئك الروم فلن يعجز عن استقتالهم وبذل دمائهم في طاعته. فلما تتابعت على راهزار جوابات كتبه إلى كسرى بذلك، عبى جنده وناهض الروم، فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم، وبلغ كسرى قتل الروم راهزار وما نال هرقل من الظفر، فهده ذلك وانحاز من دسكرة المكل إلى المدائن، وتحصن فيها لعجزه كان من محاربة هرقل.
وسار هرقل حتى كان قريبًا من المدائن، فلما تساقط إلى كسرى خبره واستعد لقتاله، انصرف إلى أرض الروم وكتب كسرى إلى قواد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلوه على كل رجل منهم ومن أصحابهم، ممن فشل في تلك الحرب ولم يرابط مركزه فيها، فيأمر أن يعاقب بقدر ما استوجب، فأحرجهم بهذا الكتاب إلى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب إلى شهر براز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله في ذلك، ويصف ما كان من أمر الروم في عمله.
وقد قيل: إن قول الله: " الم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون "، إنما نزل في أمر أبرويز ملك فارس وملك الروم هرقل، وما كان بينهما مما قد ذكرت من هذه الأخبار.
ذكر من قال ذلك
حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض. قال: وأدنى الأرض يومئذ أذرعات، بها التقوا فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي ص وأصحابه وهم بمكة؛ فشق ذلك عليهم - وكان النبي ص يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم - وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي ص، فقالوا: إنكم أهل الكتاب والنصارى أهل كتابٍ ونحن أميون، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم؛ فأنزل الله " آلم غلبت الروم " - إلى - " وهم عن الآخرة هم غافلون "، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا! فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فقام إليه أبي بن خلفٍ الجمحي، فقال: كذبت يا أبا فصيل! فقال له أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله! فقال: أنا حبك! عشر قلائص مني، وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي ص، فأخبره، فقال: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبيًا فقال: لعلك ندمت، قال: لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال: قد فعلت.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن أبي بكر عن عكرمة، قال: كانت في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك الأبطال، فدعاها كسرى، فقال: إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشًا وأستعمل عليهم رجلًا من بنيك، فأشيري علي أيهم أستعمل، قالت: هذا فلانٌ وهو أروغ من ثعلب، وأحذر من صقر؛ وهذا فرخان وهو أنفذ من سنان، وهذا شهربراز وهو أحلم من كذا؛ فاستعمل أيهم شئت، قال: فإني قد استعملت الحليم، فاستعمل شهربراز، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم، فقتلهم وخرب مدائنهم، وقطع زيتونهم. قال أبو بكر: فحدثت هذا الحديث عطاء الخراساني فقال: أما رأيت بلاد الشام؟ قلت: لا قال: أما أنك لو أتيتها لرأيت المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع؛ فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته.
قال عطاء الخراساني: حدثني يحيى بن يعمر، أن قيصر بعث ردلًا يدعى قطمة بجيش من الروم، وبعث كسرى بشهربراز، فالتقيا بأذرعات وبصرى - وهي أدنى الشأم إليكم - فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس، ففرح بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون، فأنزل الله: " آلم غلبت الروم.. " الآيات. ثم ذكر مثل حديث عكرمة، وزاد: فلم يبرح شهربراز يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج، ثم مات كسرى فبلغهم موته، فانهزم شهربراز وأصحابه، وأديلنا عليهم الروم عند ذلك فاتبعوهم يقتلونهم.
قال: وقال عكرمة في حديثه: لما ظهرت فارس على الروم، جلس فرخان يشرب، فقال لأصحابه: لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى؛ فبلغت كسرى، فكتب إلى شهربراز: إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان. فكتب إليه: أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرخان؛ إن له نكايةً وصوتًا في العدو فلا تفعل. فكتب إلأيه: إن في رجال فارس خلفًا منه، فعجل علي برأسه. فراجعه. فغضب كسرى فلم يجبه، وبعث بريدًا إلى أهل فراس: إني قد نزعت عنكم شهربراز، واستعملت عليكم فرخان. ثم دفع إلى البريد صحيفةً صغيرة، وقال: إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه، فأعطه هذه الصحيفة. فلما قرأ شهربراز الكتاب، قال: سمعًا وطاعةً، ونزل عن سريره وجلس فرخان، ودفع الصحيفة إليه فقال: ائتوني بشهربراز، فقدمه ليضرب عنقه، فقال: لا تعجل حتى أكتب وصيتي، قال: نعم، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف، وقال: كل هذا راجعت فيك كسرى، وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد! فرد الملك إلى أخيه، وكتب شهربراز إلى قيصر ملك الروم: إن لي إليك حاجةً لا تحملها البرد ولا تبلغها الصحف، فالقني، ولا تلقني إلا في خمسين روميًا، فإني ألقاك في خمسين فارسيًا، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي، وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، حتى أتاه عيونه؛ أنه ليس معه إلا خمسون رجلًا، ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت لهما، مع كل منهما سكين، فدعوا ترجمانًا بينهما، فقال شهربراز: إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا، وإن كسرى حسدنا فأراد أن أقتل أخي، فأبيت، ثم أمر أخي أن يقتلني؛ فقد خلعناه جميعًا فنحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما، ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين، فإذا جاوز اثنين فشا، قال: أجل، فقتلا الترجمان جميعًا بسكينهما؛ فأهلك الله كسرى، وجاء الخبر إلى رسول الله يوم الحديبية، ففرح ومن معه.
وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: في سنة عشرين من ملك كسرى أبرويز، بعث الله محمدًا ، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر في سنة ثلاث وثلاثين من ملكه إلى المدينة.
ذكر الخبر عن الأسباب التي حدثت عند إرادة الله إزالة ملك فارس عن أهل فارس ووطأتها العرب بما أكرمهم به بنبيه محمد من النبوة والخلافة والملك والسلطان في أيام كسرى أبرويز
فمن ذلك ما روى عن وهب بن منبه، وهو ما حدثنا به ابن حميد. قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: كان من حديث كسرى كما حدثني بعض أصحابي، عن وهب بن منبه، أنه كان سكر دجلة العوراء، وأنفق عليها من الأموال ما لا يدري ما هو، وكان طاق مجلسه قد بني بنيانًا لم ير مثله، وكانن يعلق تاجه؛ فيجلس فيه إذا جلس للناس، وكان عنده ستون وثلثمائة رجل من الحزاة - والحزاة العلماء - من بين كاهنٍ وساحرٍ ومنجم؛ قال: وكان فيهم رجل من العرب يقال له السائب، يعتاف اعتياف العرب قلما يخطئ - بعث به إليه باذان من اليمن - فكان كسرى إذا حزبه أمر جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقال: انظروا في هذا الأمر ما هو! فلما أن بعث الله نبيه محمدًا ، أصبح كسرى ذات غداةٍ وقد انقصمت طاق ملكه من وسطها من غير ثقل، وانخرقت عليه دجلة العوراء، فلما رأى ذلك حزنه، وقال: انقصمت طاق ملكي من وسطها من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست: يقول: الملك انكسر. ثم دعا كهانه وسحاره ومنجميه، ودعا السائب معهم، فقال لهم: انقصمت طاق ملكي من غير ثقل، وانخرقت علي دجلة العوراء، شاه بشكست انظروا في هذا الأمر ما هو؟ فخرجوا من عنده فنظروا في أمره، فأخذ عليهم بأقطار السماء، وأظلمت عليهم الأرض، وتسكعوا في علمهم، فلا يمضى لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا يستقيم لمنجم علم نجومه. وبات السائب في ليلة ظلماء على ربوة الأرض يرمق برقًا نشأ من قبل الحجاز، ثم استطار حتى بلغ المشرق، فلما أصبح ذهب ينظر إلى ما تحت قدميه؛ فإذا روضة خضراء، فقاتل فيما يعتاف: لئن صدق ما رأى، ليخرجن من الحجاز سلطان يبلغ المشرق؛ تخصب عنه الأرض كأفضل ما أخصبت عن ملك كان قبله.
فلما خلص الكهان والمنجمون بعضهم إلى بعض، ورأوا ما قد أصابهم، ورأى السائب ما رأى، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله ما حيل بينكم وبين علمكم إلا لأمر جاء من السماء، وإنه لنبي قد بعث - أو هو مبعوث - يسلب هذا الملك ويكسره. ولئن نعيتم لكسرى ملكه ليقتلنكم، فأقيموا بينكم أمرًا تقولونه له تؤخرونه عنكم إلى أمرٍ ما ساعة.
فجاءوا كسرى، فقالوا له: إنا قد نظرنا في هذا الأمر فوجدنا حسابك الذين وضعت على حسابهم طاق ملكك، وسكرت دجلة العوراء وضعوه على النحوس، فلما اختلف عليهما الليل والنهار وقعت النحوس على مواقعها، فزال كل ما وضع عليهما؛ وإنا سنحسب لك حسابًا تضع عليه بنيانك فلا يزول. قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنه، فبنى. فعمل في دجلة ثمانية أشهر وأنفق فيها من الأموال مالا يدري ما هو، حتى إذا فرغ منها قال لهم: أجلس على سورها؟ قالوا: نعم، فأمر بالبسط والفرش والرياحين فوضعت عليها، وأمر بالمرازبة فجمعوا له، واجتمع إليه اللعابون، ثم خرج حتى جلس عليها، فبينا هو هنالك انتسفت دجلة البنيان من تحته، فلم يستخرج إلا بآخر رمق. فلما أخرجوه، جمع كهانه وسحاره ومنجميه، فقتال منهم قريبًا من مائة، وقال سمنتكم وأدنيتكم من دون الناس، وأجريت عليكم أرزاقي، ثم تلعبون بي! فقالوا: أيها الملك، أخطأنا كما أخطأ من كان قبلنا، ولكنا سنحسب لك حسابًا فتثبت حتى تضعها على الوثاق من السعود. قال: انظروا ما تقولون! قالوا: فإنا نفعل؛ قال: فاحسبوا، فحسبوا له، ثم قالوا له: ابنه، فبنى وأنفق من الأموال ما لا يدري ما هو، ثمانية أشهر من ذي قبل. ثم قالوا: قد فرغنا، قال: أفأخرج فأقعد عليها؟ قالوا: نعم، فهاب الجلوس عليها، وركب بروذنا له، وخرج يسير عليها؛ فبينما هو يسير فوقها إذ انتسفته دجلة البنيان، فلم يدرك إلا بآخر رمق، فدعاهم فقال: والله لأمرن على آخركم ولأنزعن أكتافكم، ولأطرحنكم تحت أيدي الفيلة أو لتصدقني ما هذا ألأمر الذي تلقفون علي! قالوا: لا نكذبك أيها الملك، أمرتنا حين انخرقت عليك دجلة، وانقصمت عليك طاق مجلسك من غير ثقل أن ننظر في علمنا لم ذلك! فنظرنا، فأظلمت علينا الأرض وأخذ علينا بأقطار السماء، فتردد علينا علمنا في أيدينا، فلا يستقيم لساحر سحره، ولا لكاهن كهانته، ولا لمنجم علم نجومه؛ فعرفنا أن هذا الأمر حدث من السماء، وأنه قد بعث نبي أو هو مبعوث؛ فلذلك حيل بيننا وبين علمنا، فخشينا أن نعينا لك ملكك أن تقتلنا، وكرهنا من الموت ما يكره الناس، فعللناك عن أنفسنا بما رأيت. قال: ويحكم! فهلا تكونوا بينم لي هذا فأرى فيه رأي! قالوا: منعنا من ذلك ما تخوفنا منك. فتركهم ولها عن دجلة حين غلبته.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الفضل ابن عيسى الرقاشي، عن الحسن البصري؛ أن أصحاب رسول الله قالوا: يا رسول الله، ما حجة الله على كسرى فيك! قال: بعث إليه ملكًا فأخرج يده من سور جدار بيته الذي هو فيه يتلألأ نورًا، فلما رآها فزع، فقال: لم ترع يا كسرى، إن الله قد بعث رسولًا وأنزل عليه كتابًا فاتبعه تسلم دنياك وآخرتك، قال: سأنظر.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث الله إلى كسرى ملكًا وهو في بيت إيوانه الذي لا يدخل عليه فيه، فلم يرعه إلا به قائمًا على رأسه في يده عصا، بالهاجرة في ساعته التي كان يقيل فيها، فقال: يا كسرى أتسلم أو أكسر هذه العصا! فقال: بهل بهل، فانصرف عنه ثم دعا أحراسه وحجابه فتغيظ عليهم، وقال: من أدخل هذا الرجل علي؟ فقالوا: ما دخل عليك أحد ولا رأيناه؛ حتى إذا كان العام القابل أتاه في الساعة التي أتاه فيها، فقال له كما قال له، ثم قال له: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل بهل؛ ثلاثًا؛ فخرج عنه فدعا كسرى حجابه وحراسه وبوابيه فتغيظ عليهم وقال لهم كما قال أول مكرة، فقالوا: ما رأينا أحدًا دخل عليك. حتى إذا كان في العام الثالث أتاه في الساعة التي جاءه فيها، فقال له كما قال: أتسلم أو أكسر هذه العصا؟ فقال: بهل بهل، قال: فكسر العصا، ثم خرج فلم يكن إلا تهور ملكه؛ وانبعاث ابنه والفرس حتى قتلوه.
قال عبد الله بن أبي بكر: فقال الزهري: حدثت عمر بن عبد العزيز هذا الحديث عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فقال: ذكر لي أن الملك إنما دخل عليه بقارورتين في يديه، ثم قال له: أسلم، فلم يفعل، فضرب إحداهما على الأخرى فرضضهما، ثم خرج فكان من أمر هلاكه ما كان.
حدثني يحيى بن جعفر، قال: أخبرنا علي بن عاصم، قال: أخبرنا خالد الحذاء، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي بكرة، يقول: بينما كسرى ابن هرمز نائم ليلة في هذا الإيوان، إيوان المدائن، والأساورة محدقون بقصره؛ إذ أقبل رجل يمشي معه عصا؛ حتى قام على رأسه، فقال: يا كسرى ابن هرمز؛ إني رسول الله إليك أن تسلم، قالها ثلاث مرات - وكسرى مستلقٍ ينظر إليه لا يجيبه؛ ثم انصرف عنه - قال: فأرسل كسرى إلى صاحب حرسه، فقال: أنت أدخلت علي هذا الرجل؟ قال: لم أفعل ولم يدخل من قبلنا أحد. قال: فلما كان العام المقبل خاف كسرى تلك الليلة، فأرسل إليه أن أحدق بقصري، ولا يدخل علي أحد، قال: ففعل، فلما كان تلك الساعة إذا وهو قائم على رأسه، ومعه عصًا، وهو يقول له: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك - قال: وكسرى ينظر إليه لا يجيبه - فانصرف عنه، قال: فأرسل كسرى إلى صاحب الحرس: ألم آمرك ألا يدخل علي أحد! قال: أيها الملك، إنه والله ما دخل عليك من قبلنا أحد، فانظر من أين دخل عليك؟ قال: فلما كان العام المقبل؛ فكأنه خاف تلك الليلة، فأرسل إلى صاحب الحرس والحرس: أن أحدقوا بي الليلة، ولا تدهخل إمراة ولا رجل؛ ففعلوا. فلا كان تلك الساعة، إذا هو قائم على رأسه، وهو يقول: يا كسرى بن هرمز، إني رسول الله إليك أن تسلم، فأسلم خير لك، قالها ثلاث مرات وكسرى ينتظرإليه لا يجيبه.
قال: يا كسرى إنك قد أبيت علي، والله ليكسرنك الله كما أكسر عصاي هذه، ثم كسرها وخرج؛ فأرسل كسرى إلى الحرسة، فقال: ألم آمركم ألا يدخل علي الليلة أحد، أهل ولا ولد! قالوا: ما دخل عليك من قبلنا من أحد! قال فلم يلبث أن وثب عليه ابنه فقتله.
ذكر خبر يوم ذي قار
ومن ذلك ما كان من أمر ربيعة والجيش الذي كان أنفذه إليهم كسرى أبرويز لحربهم، فالتقوا بذي قار.
وذكر عن النبي أنه لما بلغه ما كان من هزيمة ربيعة جيش كسرى، قال: " هذا أول يوم انتصف العرب من العجم؛ وبي نصروا ".
وهو يوم قراقر ويوم الحنو حنو ذي قار، ويوم حنو قراقر، ويوم الجبابات، ويوم ذي العجرم، ويوم الغذوان، ويوم البطحاء، بطحاء ذي قار، وكلهن حول ذي قار.
فحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثني أبو المختار فراس بن خندق - أو خندقة - وعدة من علماء العرب قد سماهم؛ أن الذي جر يوم ذي قار، قتل النعمان بن المنذر اللخمي عدى بن زيد العبادي؛ وكان عدي من تراجمة أبرويز كسرى بن هرمز.
وكان سبب قتل النعمان بن المنذر عدي بن زيد، ما ذكر لي عن هشام ابن محمد، قال: سمعت إسحاق بن الجصاص - وأخذته من كتاب حماد وقد ذكر أبي بعضه - قال: ولد زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم ثلاثة: عديًا الشاعر، وكان جميلًا شاعرًا خطيبًا، وقد قرأ كتب العرب والفرس، وعمارا - وهو أبي - وعمرًا - وهو سمي - ولهم أخ من أمهم، يقال له عدي بن حنظلة من طيىء. وكان عمار يكون عند كسرى، فكان أحدهما يشتهي هلاك عدي بن زيد، وكان الآخر يتدين في نصرانيته، وكانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة لهم معهم أكلٌ وناحيةٌ، يقطعونهم القطائع، ويجزلون صلاتهم، وكان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود، أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعه. ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم: بنو مرينا، ينسون إلى لخم، وكانوا أشرافًا. وكان للمنذر بن المنذر سوى هذين من الولد عشرة؛ وكان يقال لولده كلهم الأشاهب، من جمالهم، فذلك قول الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة ** يمشون غدوةً بالسيوف
وكان النعمان أحمر أبرش قصيرًا، وكانت أمه يقال لها سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك. وكانت أمةً للحارث ابن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب من كلب، وكان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان وإخوته، بعث إلى كسرى بن هرمز بعدي بن زيد وإخوته. فكانوا في كتابه يترجمون له، فلما مات المنذر بن المنذر وترك ولده هؤلاء الثلاثة عشر، جعل على أمره كله إياس بن قبيصة الطائي وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه فكان عليه أشهرًا، وكسرى في طلب رجل يملكه على العرب. ثم إن كسرى بن هرمز دعا عدي بن زيد، فقال له: من بقي من بني المنذر؟ وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيتهم في ولد هذا الميت المنذر بن المنذر، وهم رجال، فقال: ابعث إليهم، فكتب فيهم فقدموا عليه، فأنزلهم على عدي بن زيد. فكان عدي يفضل إخوة النعمان عليه في النزل، وهو يريهم أنه لا يرجوه. ويخلو بهم رجلًا رجلًا، ويقول لهم: إن سألكم الملك: أتكفونني العرب؟ فقولوا: نكفيكهم إلا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك: عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم، فأنا عن غيرهم أعجز.
وكان من بني مارينا رجل يقال له عدي بن أوس بن مرينا، وكان ماردًا شاعرًا، وكان يقول للأسود بن المنذر: إنك قد عرفت أني لك راجٍ، وإن طلبي ورغبتي إليك أن تخالف عدي بن زيد، فإنه والله لا ينصح لك أبدًا. فلم يلتفت إلى قوله.
فلما أمر كسرى عدي بن زيد أن يدخلهم عليه، جعل يدخلهم عليه رجلًا رجلًا، فيكلمه، فكان يرى رجالًا قلما رأى مثلهم، فإذا سألهم: هل تكفونني ما كنتم تلون؟ قالوا: نكفيك العرب إلا النعمان، فلما دخل عليه النعمان رأى رجلًا دميمًا فكلمه، وقال له: أتستطيع أن تكفيني العرب؟ قال: نعم قال، فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز. فملكه وكساه. وألبسه تاجًا قيمته ستون ألف درهم، فيه اللؤلؤ والذهب. فلما خرج - وقد ملك - قال عدي بن أوس بن مرينا للأسود: دونك فإنك قد خالفت الرأي.
ثم إن عدي بن زيد صنع طعامًا في بيعة، ثم أرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت، فإن لي حاجة، فأتاه في ناس فتغدوا في البيعة، وشربوا، فقال: عدي بن زيد لعدي بن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه، من كان مثلك؛ إني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد علي شيئًا لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيتك من نفسي؛ فإن نصيبي من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. فقام عدي بن زيد إلى البيعة فحلف ألا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدًا، ولا يزوي عنه خبرًا أبدًا. فلما فرغ عدي بن زيد قام عدي بن مرينا، فحلف على مثل يمينه ألا يزال يهجوه أبدًا، ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزلة بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد:
ألا بلغ عديًا عن عديٍ ** فلا تجزع وإن رثت قواكا
هياكلنا تبز لغير فقر ** لتحمد أو يتم به غناكا
فإن ظفر فلم تظفر حميدًا ** وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعى لما ** رأت عيناك ما صنعت يداكا
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)