« أمرت بصيانته وألّا يلحقه مكروه. » وردّه إلى دار السلطان وحبس في الموضع الذي كان إسحاق بن إسماعيل محبوسا فيه.
وورد يوم الثلاثاء لخمس خلون من جمادى الأولى كتاب أبي جعفر الكرخي وكتاب أبي يوسف عبد الرحمن بن محمّد الذي كان يكتب للسيدة بأنّ أصحاب ابن رائق كبسوا سوق الأهواز وأنّهم استولوا على سائر عمل الأهواز وصار كلّ من يتقلّد المعاون في أعمال الأهواز من قبله سوى محمّد بن ياقوت فإنّه كان يتقلّد المعاون بالسوس وجنديسابور فلم ينفذ لابن رائق لأنّه نظيره فكتب الخصيبي رقعة بما ورد عليه من ذلك إلى القاهر.
وكان القاهر قد ابتدأ بشرب فدعا بسلامة وأقرأه الكتاب وقال له:
« امض إلى الخصيبي واجتمع معه على التدبير في ذلك. » وعاود شربه فمضى سلامة وعيسى معه إلى الخصيبي وأطالا عنده إلى نصف الليل ولم يتقرر لهم رأى عليه شيء. فانصرف سلامة إلى منزله لعلمه بأنّ القاهر قد سكر ولا فضل فيه باقى ليلته وصدر نهار الغد، وبكّر سلامة إلى الخصيبي فوجد عنده عيسى المتطبّب وبلغهم خبر الساجيّة والحجريّة واجتماعهم لقصد دار السلطان. فتقدّم الخصيبي إلى عيسى بأن يبادر إلى دار السلطان ويعرّف القاهر الخبر ليتحرّز وإن وجده نائما أنبهه، فمضى عيسى واجتهد في إنباه القاهر فلم تكن فيه حيلة وقيل له: كان يشرب إلى أن طلعت الشمس وأنّه لو أنبه لما فهم عنه ما يقوله لشدّة سكره.
وكانت الحجريّة والساجيّة قد اجتمعوا عند سيما وتحالفوا على اجتماع الكلمة في كبس دار الخليفة والقبض على القاهر فقال لهم سيما:
« إن كان قد صحّ عزمكم على هذا فقوموا بنا الساعة حتى نمضيه. » فقالوا:
« بل نؤخّره إلى غد فهو يوم الموكب ويظهر لنا فنقبض عليه. » فقال لهم سيما:
« إن تفرّقتم الساعة وأخّرتموه إلى ساعة أخرى اتّصل الخبر به فتحرّز ودبّر علينا فأهلكنا كلّنا. » فقبلوا رأيه وركبوا معه إلى دار السلطان بالسلاح فرتّب سيما على كلّ باب من أبوابها غلاما من الساجيّة وغلاما من الحجرية ومعهما قطعة وافرة منهما فلمّا أحكم أمر الأبواب كلّها وقف على باب العامّة وأمر بالهجوم فهجموا كلّهم من جميع الأبواب في وقت واحد، وبلغ سلامة والخصيبي وهما مجتمعان في دار الخصيبي فخرج الخصيبي في زيّ امرأة واستتر وانحدر سلامة إلى مشرعة الساج واستتر.
ولمّا دخل الساجيّة والحجريّة الدار لم يدخلها سيما وأقام بمكانه من باب العامّة إلى أن قبض على القاهر فلما قبض عليه دخل.
ولمّا علم القاهر بحصول الغلمان في الدار انتبه من سكره وأفاق وهرب إلى سطح حمّام في دور الحرم فاستتر فيه ولمّا دخل الغلمان إلى المجلس الذي كان فيه ولم يجدوه وأخذوا من كان بالقرب [ منه ] مثل زيرك الخادم وعيسى المتطبّب واختيار القهرمانة فوكّلوا بهم ووقع في أيديهم خادم صغير فضربوه بالطبرزينات حتى دلّهم على موضعه فدخلوا فوجدوه على سطح الحمّام على رأسه منديل ديبقي وفي يده سيف مجرّد واجتهدوا به على سبيل الرفق أن ينزل إليهم وقالوا:
« نحن عبيدك وما نريد بك سوءا وإنّما نتوثق لأنفسنا. » فأقام على الامتناع من النزول إلى أن فوّق إليه واحد منهم بسهم وقال:
« إن لم تنزل وضعته في نحرك. » فنزل حينئذ وقبضوا عليه - وكان ذلك ضحوة نهار يوم الأربعاء لستّ خلون من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة - وصاروا به إلى موضع الحبوس وقصدوا البيت الذي فيه طريف السبكرى ففتحوه ووجدوا فيه طريفا فكسروا قيده وأطلقوه وأدخلوا القاهر إلى موضعه وحبسوه فيه ووكّلوا بالباب جماعة من الساجيّة والحجريّة ووقع النهب ببغداد وانقضت خلافة القاهر بالله.
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر
في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة
واستدلّ الغلمان الساجيّة والحجريّة حين اقبضوا على القاهر على الموضع الذي فيه أبو العبّاس ابن المقتدر فدلّهم عليه خليفة لزيرك الخادم. ففتحوا عنه الباب ودخلوا عليه وسلّموا عليه بالخلافة وأخرجوه وأجلسوه على السرير وبايع له قوّاد الساجيّة والحجريّة وطريف السبكرى وبدر الخرشنى ولقّب: الراضي بالله.
وتقدّم بإحضار عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وأحضرا، فوصلا إليه وشاورهما واعتمد عليهما فيما يعمل. فعرّفه عليّ بن عيسى أنّ سبيله أن يعقد لواء لنفسه على الرسم في ذلك فاستحضر اللواء وعقده بيده، ثم أمر بالاحتفاظ به وأشار عليه بتسلّم الخلافة، فسلّمها من كان في يده وهو خاتم فضّة فصّه من حديد صينى وعليه كتابة ثلاثة أسطر:
« محمّد رسول الله. » وأشار عليه بتسلّم خاتم الخلافة من القاهر بالله. فوجّه إليه الراضي، ثم فتح عنه الباب وطالبه بخاتمه فسلّمه وكان فصّه ياقوتا أحمر وعليه منقوش:
« بالله محمّد الإمام القاهر بالله أمير المؤمنين يثق. » وصار به إلى الراضي فأمر أن يسلّم إلى حاذق من حذّاق الخزانة ليمحو ذلك النقش منه، ففعل ذلك ونقش له خاتم آخر عليه:
« الراضي بالله » وتقدّم عليّ بن عيسى بأن يحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد، والقاضي أبو محمّد ابن أبي الشوارب، والقاضي أبو طالب البهلول، وجماعة من الشهود وممّن يقرّب من دار السلطان فحضروا. فحكى القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي ابن أمّ شيبان أنّه لمّا استدعى القاضي أبو الحسين عند القبض على القاهر بالله وجم جميع أطرافه وأخذ معه خمسين دينارا في حجزة سراويله استظهارا واستخلفه في داره ومضى وانصرف بعد أن مضى أكثر الليل إلى منزله قال: فقال لي:
« أنا أعرف ضيق صدرك وتطلّعك إلى معرفة حديثنا فاسمعه: اعلم أنّى مضيت فأدخلت إلى حجرة فيها القاهر بالله ومعي ثلاثة من الشهود وطريف السبكرى. فقال له طريف: تقول يا سيّدي. » وكرّر ذلك دفعات. فقال له:
« اصبر. » ثم التفت إليّ فقال:
« ألست تعرفني؟ » فقلت: « بلى. » فقال: « أنا أبو منصور محمّد بن المعتضد بالله رحمة الله عليه ثم القاهر بالله بيعتي في عنقك وأعناق أهلى وسائر الأولياء ولست أبرّئكم منها ولا أحلّكم بوجه ولا سبب، فانهضوا. » فقمنا فلمّا بعدنا عذلت طريفا ولمته ملاما كثيرا وقلت:
« أيّ رأى كان إحضارنا إلى رجل لم يوطّأ ولم يؤخذ خطّه ويشهد عليه الكتّاب والجند؟ كان ينبغي أن تقدّم ذلك ثم تحضرنا له. » وعدل بنا إلى عليّ بن عيسى فسألنا عمّا جرى فحدّثناه به فقطّب وجهه ثم قال:
« يخلع ولا يفكّر فيه فإنّ أفعاله مشهورة وأعماله معروفة وما يستحقّه غير خاف. » فقلت له:
« بنا لا تعقد الدول وإنّما يتمّ بأصحاب السيوف ونصلح نحن ونراد لشهادة واستيثاق وقد سمعت من الرجل ما حدّثتك به ولم يكن الرأي أن يجمع بيننا وبينه إلّا بعد إحكام أمره. » فتغاضب وحضر وقت الصلاة فقمنا.
فقال القاضي أبو الحسن محمّد بن صالح:
فسمعت ذلك منه وبكّرنا إلى دار السلطان فقيل له: إنّ القاهر سمل البارحة. فلمّا حضر أبو عليّ ابن مقلة استدعينا وكنت مع القاضي أبي الحسين وثلاثة من الشهود واجتمعنا بحضرة الراضي بالله فأومأ إلى مفلح الأسود فأحضر ثلاثة من إخوته فأجلسهم عن يمينه وأخرج أبو عليّ ابن مقلة قرطاسا من كمّه ونشره فاستحلفهم على البيعة ثم أومأ الراضي إلى مفلح إيماء ثانيا فأحضر اثنان آخران من إخوته فأجلسهما عن شماله وأخذت البيعة عليهما ثم أعطى أبو عليّ القرطاس القاضي أبا الحسين فأخذ عليه البيعة وكتبنا خطوطنا في ذلك القرطاس على من بايع وانصرفنا.
وكان سيما أشار بسمل القاهر تلك الليلة فستر الراضي ذلك عن عليّ بن عيسى واستحضرا بختيشوع بن يحيى المتطبّب وسأله عمّن يحسن أن يسمل فذكر له رجلا فأحضره وسمل القاهر.
وما زال عليّ بن عيسى يوم الأربعاء إلى الليل يأخذ البيعة للراضى بالله على القضاة والقوّاد وكتّاب الدواوين والغلمان وطالبه الراضي أن يتقلّد الوزارة فامتنع وذكر أنّه لا يفي بالأمر، فأشار سيما بأبي علي بن مقلة. قال:
« هو يضمن أن يقوم بسائر الأمور. » فقال عليّ بن عيسى:
« قد أشرت به على أمير المؤمنين وما يصلح للوقت غيره. » وكان عليّ بن عيسى يسأل في الفضل بن جعفر فأطلق بمسألته ووقّع الراضي إلى أبي عليّ ابن مقلة فبكّر يوم الخمسين لسبع خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وحضر عليّ بن عيسى وأخوه عبد الرحمن ووقفا بين يديه يستحلفان من يحضر ويأخذان البيعة عليه وتأخّر الفضل بن جعفر والحسن بن هارون وخلع على أبي عليّ ابن مقلة خلع الوزارة وركب معه سيما وطريف السبكرى وسائر القوّاد والغلمان والخدم الخاصّة وظهر الحسن بن هارون وأبو بكر ابن قرابة وصاروا إلى أبي عليّ ابن مقلة ثم انصرفوا إلى منازلهم.
واستأنف أبو عليّ ابن مقلة سيرة حسنة وقال: « قد عاهدت الله في استتاري ألّا أسىء إلى أحد ونذرت نذورا. »
فوفى وأطلق كلّ من كان في حبس القاهر من كاتب وجنديّ وأطلق عيسى المتطبّب وإسحاق بن عليّ القنّائى وكان الراضي أنفذهم إليه. ثم تعقّب الرأي في عيسى المتطبّب فصادره. وكان القاهر قد اعترف بوديعة أودعها إيّاه من العين والورق والطيب، فاستخرج كلّه منه. وسأل في أمر أبي العبّاس الخصيبي فكتب له أمان وقّع الراضي فيه بخطّه وتسلّمه الوزير أبو عليّ وأنفذه في درج رقعة منه بخطّه إلى الخصيبي وخاطبه أجمل مخاطبة وظهر الخصيبي فقلّده دواوين الضياع الخاصّة والمستحدثة والعبّاسيّة والفراتيّة والمقبوضة عن أمّ موسى ونذير وشفيع اللؤللؤى وضياع المخالفين وضياع البرّ وضياع الجدّة والدة المقتدر وديوانى زمام المشرق والمغرب وأجرى عليه لنفسه سوى أرزاق كتّابه في هذه الدواوين ألف دينار في كلّ شهر وقلّد الراضي بدرا الخرشنى الشرطة بمدينة السلام.
ولمّا تقلّد الراضي الخلافة وردت كتب أبي جعفر الكرخي وأبي يوسف كاتب السيّدة بتخلصهما من الأهواز إلى نواحي دور الراسبي هاربين من محمّد بن رائق وكان بنو البريدي يستترون في أنهار الأهواز نهر بعد نهر.
ووصل الخبر إلى ابن رائق وهو بالباسيان: أنّ القاهر خلع من الخلافة وتقلّدها الراضي بالله وأنّه قد ندب للحجبة. فرجع منكفئا إلى واسط ولم يدخل البصرة ورجع الكرخي إلى البصرة ثم عاد إلى غيلة بالأهواز فنظر وعمل إلى أن ضمّن ابن مقلة بنى البريدي أعمال الأهواز.
ذكر ابتداء أمر أبي الحسن علي بن بويه الديلمي
كنّا كتبنا فيما تقدّم أنّ أبا الحسن عليّ بن بويه لحق بمرداويج وهو في حدود طبرستان فقوّده وضمّ رجالا إليه فلمّا أنفذه إلى الريّ - وكان أخوه وشمكير بها - اتفق أنّ عامل الكرج طمع في مالها فأنفذ عليّ بن بويه ليتلافى أمر الكرج ومعه دون مائة رجل من أصحابه فأقام بها وتلفّق إليه من الأطراف ديلم فصار في نحو ثلاثمائة رجل فأنكر مرداويج أمره وكاتبه بالانصراف فتأخّر، وروسل فتعلّل، وكان قد استخرج من مال الكرج نحو خمسمائة ألف وفوقها في مدّة يسيرة واستوحش مرداويج وهدّده ففزع وأخذ مرداويج ووشمكير في تدبير القبض عليه.
وكان عليّ بن بويه قد استخلف بحضرة وشمكير وهو بالريّ عند خروجه أحمد حاجبه - وهو والد أبي إسحاق الطبري الشاهد - في هذا الوقت، فكتب إليه أحمد بما فيه مرداويج ووشمكير من الخوض في سيّئه. وكان مرداويج قد صار إلى عند أخيه بالريّ بهذا السبب ولتسريب الجيوش إليه فخرج من الكرج إلى إصبهان خائفا ليستأمن إلى المظفّر بن ياقوت وكان عند المظفّر بن ياقوت في الوقت سبعمائة رجل من الديلم ووجههم فناخسره والد الحسن الديلمي الذي كان ببغداد ونظر في الشرطة بها. فلمّا قرب من إصبهان خرج إليه المظفّر ليمنعه ومعه نحو أربعة آلاف رجل فتخاذل أصحابه ووقع بين أصحابه من الديلم خلاف. لأنّ فناخسره كان له عدوّ من الديلم يضادّه فتقاعد المولّدون أيضا وافترقت كلمتهم وانهزم المظفّر بن ياقوت إلى فارس وبها أبوه ياقوت واستأمن إلى عليّ بن بويه نحو من أربعمائة رجل من الديلم فصارت عدّته سبعمائة رجل وملك إصبهان وهو في ثلاثمائة رجل.
وبلغ الخبر مرداويج فسيّر أخاه وشمكير لطلبه في الوقت فلمّا قرب إصبهان رحل عنها عليّ بن بويه وصار إلى أرجان وكان قد تهيّبها لحصوله بين ياقوت وهو بفارس وبين ابنه محمّد وهو برامهرمز فصوّر عنده بالمهانة واضطراب الرأي والرجال. فدخل أرجان واستوطنها وكاتب ياقوت واستخرج من مال أرجان خراجا نحو ألفي ألف درهم ووصل مع ذلك إلى ودائع ونظّم أمره للمسير إلى كرمان وبها ما كان بن كاكى الديلمي ليستأمن إليه فلم يجبه ياقوت عن كتابه ولم يقبله فكاتبه عليّ بن بويه وخاطبه بالإمارة والتعبّد وعرّفه أنّه يسأله أحد الأمرين: إمّا أن يقبله، أو يأذن له في المصير إلى باب السلطان. فلمّا لم يقبله ياقوت وسار إليه مع ابنه المظفّر ليحاربه سار عليّ بن بويه إلى النوبندجان وقدّر أن تكون الحرب بها وقدّم كتبه إليه وطلب منه الأمان واستعفاه من الحرب فحذّره ياقوت وخشي أن يغتاله وكان قيل له: إنّ عليّ بن بويه يريد الحيلة عليه ليحصل بفارس ويخدعه عنها.
وكان عليّ بن بويه قد حصل أيّام مقامه بكازرون وبلد سابور - وذلك عند خروجه من أرجان - نحو خمسمائة ألف دينار مع كنوز كثيرة وجدها فقويت شوكته وزاد رجاله. فلمّا صار إلى النوبندجان قام بأمره أبو طالب زيد بن عليّ وتكفّل بنفقاته فلزمه عليه في كلّ يوم خمسمائة دينار وأقام عنده مدّة. فلمّا خرج إليه ياقوت تهيّبه هيبة شديدة وذلك أنّ جيش ياقوت كانوا سبعة عشر ألف رجل من جميع الأصناف ساجيّة وحجريّة والرجّالة المصافية وغيرهم من الديلم وأصناف العسكر وعليّ بن بويه في ثمانمائة رجل، فسأله أن يفرج له عن الطريق لينصرف عنه ويجتاز إلى حيث يجتاز.
فمنعه ياقوت وطمع فيه لقلّة عدده ولوفور ما وصل إليه من المال.
فلم يثبت له عليّ بن بويه وسار إلى البيضاء فمنعه ياقوت وواقعه على باب إصطخر يومين فكانت لياقوت فاشتدّ طمع ياقوت فيه وزاد تهيّب عليّ بن بويه وحقّق عليه المسألة في الإفراج له لينصرف عنه فامتنع عليه فلمّا كان يوم الخميس لاثنى وعشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة واقعه مستقتلا.
فحدّثني من شهد الوقعة من الديلم أنّه ترجّل ستّة نفر من الديلم وصفّوا تراسهم وتقدّموا زحفا واستأخر من واجههم من أصحاب ياقوت فاشتملوا وتقدّموا وحمل أبو الحسين أحمد بن بويه في نحو ثلاثين رجلا فانهزم ياقوت وجميع من معه وذلك وقت الظهر من ذلك اليوم وانصرف إلى شيراز.
فقدّر عليّ بن بويه أنّ انصرافه مكيدة منه لا هزيمة فتوقّف في موضعه ولم يتبعه إلى وقت العصر، فلمّا صحّ عنده أنّها هزيمة سار إلى شيراز فنزل أوّل منزل قرية يقال لها: الزرقان على ستّة فراسخ من شيراز وبكّر منها يوم السبت فنزل قرية يقال لها: الدينكان، وعنده أنّ سيحارب عن البلد ويدفع عنه لأنّ الجيش الذي انهزم عنه كانوا قد انصرفوا عنه موفورين لم يحاربوه ولا وقفوا بين يديه، فنزل على فرسخ من شيراز في مضاربه، وبلغه أنّ ياقوتا وعليّ بن خلف بن طناب قد خرجا عن شيراز والبلد شاغر خال.
فوجّه بجماعة من الديلم وأخلاط من الجند إلى شيراز للمقام بها وضبطها فبادر إليهم العامّة بشيراز مع جماعة من الرجّالة السودان ومماليك للتنّاء.
وكان الديلم قد تفرقوا في الأسواق فقتلوا منهم نحو سبعين رجلا. فبلغ عليّ بن بويه ذلك ووجّه بأخيه أبي الحسين أحمد وكان إذ ذاك تسع عشرة سنة وهو أمرد وهو حينئذ صحيح اليدين وأنفذ معه ثمانين رجلا من الديلم فقتل من السودان نحو ألف رجل ونادى في البلد ألّا يقيم فيه أحد من أصحاب ياقوت ولا من الجند وأنّ من وجد بعد النداء فقد أباح دمه وماله.
فلم يبق في البلد أحد منهم.
اتفاقات عجيبة مساعدة لعلي بن بويه بعد دخوله شيراز وانفتاح وجوه الذخائر والودائع له
ودخل عليّ بن بويه شيراز واتفقت له بها ضروب من الاتفاقات عجيبة كانت سببا لثبات ملكه. فمنها أنّ أصحابه اجتمعوا وطالبوه بالمال ونظر فإذا القدر الذي معه لا يرضيهم وأشرف أمره على الانحلال فاشتغل قلبه واغتمّ غمّا شديدا فبينا هو مفكّر قد استلقى على ظهره في مجلس ياقوت من داره وقد خلا فيه للفكرة والتدبير، إذ رأى حيّة قد خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه وخاف أن تسقط عليه وهو نائم فدعا بالفرّاشين وأمرهم بإحضار سلّم وإخراج تلك الحيّة ففعلوا. ولمّا صعدوا وبحثوا عنها، وجدوا ذلك السقف يفضى إلى غرفة بين سقفين، فعرّفوه ذلك، فأمرهم بفتحها ففتحت ووجد فيها عدّة صناديق من المال والصياغات خمسمائة ألف. فاستوى جالسا وحمل إلى بين يديه ذلك المال فسرّ به وأنفقه في رجاله وثبت أمره بعد أن أشفى على الانحلال.
وحكى أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي أنّ عليّ بن بويه أراد قطع ثياب وسأل عن خيّاط حاذق فوصف له خيّاط لياقوت فأمر بإحضاره وكان أطروشا ووقع له أنّه قد سعى به إليه في وديعة كانت لياقوت وأنّه طلبه بهذا السبب. فلمّا خاطبه حلف أنّه ليس عنده إلّا اثنا عشر صندوقا لا يدرى ما فيها. فعجب عليّ بن بويه من جوابه ووجّه معه بمن حملها. فوجد فيها أمرا عظيما من المال والثياب.
والذي كان يكتب لعليّ بن بويه في ذلك الوقت رجل نصراني من أهل الريّ يعرف بأبي سعد إسرائيل بن موسى ثم قتله بعد مدّة بسبب سنفرد له خبرا، واستكتب مكانه أبا العبّاس أحمد بن محمّد القمّى المعروف بالحنّاط.
وسفر الأمير أبو الحسن عليّ بن بويه بعد تمكّنه من البلد في أن يقاطع السلطان عنه ويتقلّده من قبل الراضي، فأجيب إلى ذلك وقنع منه بما بذل وهو في كلّ سنة بعد جميع المؤن والنفقات الراتبة والحادثة ثمانية آلاف ألف درهم خالصة للحمل.
وكتب إلى الوزير أبي عليّ ابن مقلة يحلف له بأغلظ الأيمان على موالاة الوزير أبي عليّ ابن مقلة وابنه الحسين ومعاضدتهما وما يقال في هذا المعنى وأكّده. فأنفذ إليه الوزير أبو عليّ بالخلع واللواء في شوّال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ورسم للرسول وهو أبو عيسى يحيى بن إبراهيم المالكي الكاتب ألّا يسلّم اللواء والخلع إلّا بعد أن يتسلّم المال ووقف عليه. فلمّا قرب المالكي من البلد تلقّاه عليّ بن بويه على بعد وسار معه إلى ظاهر شيراز وطالبه بأن يسلّم إليه اللواء والخلع فعرّفه ما رسم له وأنّه لا يمكنه من ذلك إلّا بعد تسلّم المال الذي ووقف عليه فخاشنه عليّ بن بويه وأرهبه حتى سلّم إليه الخلع ولبسها ودخل بها إلى شيراز وبين يديه اللواء.
وأقام المالكي مدّة يطالب بالمال فلم يدفع إليه شيئا بتّة وحصل على المواعيد والمطل والتوقّف ثم اعتلّ المالكي ومات بشيراز وحمل تابوته إلى بغداد في سنة ثلاث وعشرين.
وانفتح لعليّ بن بويه وجوه الذخائر والودائع ووزير [ ه ] أبو سعد النصراني فضمن له بقايا مال السنة أبو الفضل العبّاس بن فسانجس وابن مرداس وأبو طالب زيد بن عليّ وغيرهم من وجوه البلد بأربعة آلاف ألف درهم، واستخرجت له الذخائر وانفتحت له كنوز وودائع عمرو بن الليث ويعقوب بن الليث وياقوت وابنه وعليّ بن خلف ورجال السلطان وكثرت أموال عليّ بن بويه وعمرت خزائنه واستأمن إليه رجال ما كان بن كاكى من كرمان وكثر جمعه واستفحل أمره وانتهى خبره إلى مرداويج فقامت قيامته ووافى إصبهان وبها وشمكير أخوه لأنّه لمّا خلع القاهر من الخلافة وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها وبقيت سبعة عشر يوما خالية أعاد مرداويج أخاه إليها. فلمّا استقرّ بها وورد مرداويج لتدبير عليّ بن بويه عند استعصائه عليه ردّ أخاه وشمكير إلى الريّ لخلافته عليها.
وأنفذ شيرج بن ليلى اسفهسلّاره مع حاجبه الشابشتى ومعهما ألفان وأربعمائة رجل من الجيل والديلم ووجوه القوّاد مثل بكران وإسماعيل الجبلي إلى الأهواز، وكان غرضه أن يملكها فيأخذ الطريق على عليّ بن بويه ويحجز بينه وبين السلطان حتى إذا قصده بعد ملكه الأهواز لم يكن له منفذ إلّا إلى تخوم كرمان والتيز ومكران وأرض خراسان.
ولمّا نزلت عساكر الجيل ايذج خاف ياقوت أن يحصل بينهم وبين عليّ بن بويه، فوافى الأهواز ومعه ابنه وقلّده السلطان أعمال الحرب والمعاون بها وارتسم أبو عبد الله أحمد بن محمّد البريدي بكتابة ياقوت مضافة إلى ما إليه من أعمال الخراج والضياع بالأهواز وصار أخوه أبو الحسين يخلف أخاه وياقوتا بالحضرة. وحصل رجال مرداويج برامهرمز في غرّة شوّال من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وصلّوا العيد بها وخطبوا لمرداويج وساروا إلى الأهواز فعسكر ياقوت بقنطرة أربق وقطعها والماء الذي تحت هذه القنطرة حاد الجرية فأقام رجال مرداويج بإزاء ياقوت أربعين يوما لا يمكنهم العبور إليه وسار ياقوت إلى بغداد على طريق دور الراسبي وسار عليّ بن خلف بن طناب في البحر من ساحل مهروبان إلى البصرة. ورحل جيش مرداويج عن قنطرة أربق وضمن لهم طائفة من العيّارين أن يعبروا بهم نحو المسرقان بعسكر مكرم حتى يصير الطريق بينهم وبين الأهواز جددا فعدلوا إليها.
واجتمع البريدي وياقوت فتشاوروا وقرّر الرأي على إنفاذ مونس غلام ياقوت في أربعة آلاف رجل إلى عسكر مكرم لدفعهم عن عبور المسرقان وكانا حسبا أنّ القوم بعد منازلة أربعين يوما قد ضجروا وانصرفوا وأنّهم لا يلبثون بعسكر مكرم إلّا يومين أو ثلاثة فلمّا حصلوا بها عملوا أطوافا من خشب وشاشا من قصب وعبر منهم خمسون رجلا عليها فانهزم مونس لوجهه وعاد إلى مولاه فأخبره الخبر. وكان قد ورد إليه مدد من بغداد وخيل عظيمة فرحل لوقته من قنطرة أربق بعد اجتماع الجيل إليه بيومين وصاروا بأجمعهم إلى قرية الريح وهم بالحقيقة قد حصلوا من أمرهم على الريح. وصار ياقوت ومن تبعه وهم عدّة وافرة كثيرة إلى باذاورد ومنها إلى واسط فأفرج له محمّد بن رائق عن غربيها فنزله بعسكره وعرف عليّ بن بويه حصول عسكر مرداويج بالأهواز وشرح ما جرى وتملّق لكاتب مرداويج واستصلحه وأقام الخطبة وواقفه على مال وأنفذ إليه رهينة فسكن مرداويج وقلّد عليّ بن بويه أرجان بعد انصراف ياقوت وعليّ بن خلف عنها إبراهيم بن كاسك.
واستقرّت كتابة ياقوت لأبي عبد الله البريدي فورد الخبر وهو بالبصرة في بستان المؤمّا يريد المسير في طيّاره إلى واسط بقتل مرداويج في الحمّام بإصبهان فأنفذ للوقت أبا عبد الله بن جني الجرجرائي إلى الأهواز بخلافته عليها وقال له:
« اقصد ظاهر البلد بل أقم على فرسخ منه فإذا صحّ عندك خروج الجيل والديلم فادخله واثبت عند دخولك الفرسان والرجّالة فإني أنفذ من واسط أبا الفتح ابن أبي طاهر وأبا أحمد السجستاني في ألف رجل لضبط البلد وكور الأهواز. » ثم وافى أبو عليّ غلام جوذاب كاتب البريدي في طريق الماء وترتب ابن أبي طاهر بالأهواز وأبو أحمد السجستاني بعسكر مكرم. ووافى إبراهيم بن كاسك من أرجان إلى رامهرمز طمعا في الأهواز لما خلت فكاتبه عليّ بن بويه بالتوقف وألّا يبرحها حتى يمدّه بالجيش فمن قبل ورود الجيش عليه من فارس ما وافى ياقوت إلى عسكر مكرم على طريق السوس فلمّا بلغ إبراهيم بن كاسك خبره رحل من رامهرمز إلى أرجان.
وكانت مع ياقوت قطعة من الديلم والأتراك والخراسانيّة فظنّ أنّهم يثبتون وأنّه مستظهر بهم ووافاه أبو عبد الله البريدي والتقيا بعسكر مكرم وأنفق فيه وفي رجاله ثلاثمائة ألف دينار على يد ابن بلوى وابن سريج المنفقين وسيّرهم إلى أرجان ووافاه عليّ بن بويه وحاربه بها فانهزم ياقوت هزيمة ثانية لم يفلح بعدها ولا شدّ منها حزاما ولم ينفعه عدد العجم والديلم ولا عجب من أمر الله وتبعه عليّ بن بويه إلى رامهرمز وخيف على الأهواز منه فراسله أبو عبد الله البريدي في الصلح فاستجاب له وكاتب الوزير أبا عليّ ابن مقلة فيما قرره من الصلح فعرضه على الراضي بالله فأمضاه فانصرف عليّ بن بويه إلى شيراز وعقدت فارس على عليّ بن بويه بما ذكرناه ونفذ إليه أبو عيسى المالكي باللواء والعهد وكان من أمره ما قدّمت ذكره.
وقتل أبو الحسن عليّ بن بويه أبا سعد إسرائيل كاتبه
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أبا سعد كان مكينا عند عليّ بن بويه يتبرّك به ويكرّمه جدا وكان يقود الجيش وله غلمان أتراك ولبس القباء والسيف والمنطقة وكان قد حارب في وقت ياقوتا فهزمه. فكان أبو العبّاس الحنّاط القمّى يضرّب عليه دائما ويجتهد في إفساد رأى صاحبه فيه فلا يقبل منه وينهاه عن ذكره فلا ينتهى إلى أن قال يوما وقد أكثر عليه في الإغراء به:
« يا هذا إنّ هذا الرجل صحبني وحالي صغيرة وقد بلغت ما ترى ولست أدرى هل ما وصلت إليه بدولته أم بدولتى وليس إلى تغيير أمره طريق فإيّاك أن تعاودني فيه. » فما أغنى ذلك منه ولا انتهى عن الوقيعة فيه وثلبه.
وكان بين أبي سعد هذا وبين حاجب لعليّ بن بويه يقال له: خطلخ - وإليه مع الحجبة رئاسة الجيش - عداوة فاتفق أن دعى أبو سعد دعوة عظيمة دعا فيها عليّ بن بويه والقوّاد وأنفق فيها في الخلع والحملان ما له قدر كثير ودعا خطلخ فلم يستجب إلى المصير إليه واجتهد به فلم يكن فيه حيلة وأصبح أبو سعد من غد يوم الدعوة فأقام على أمره ودعا من يأنس به وانتبه خطلخ من نومه وهو مغتاظ يزعم أنّه لا بدّ له من أن يركب إلى أبي سعد فيقتله لأنّه رأى في نومه أبا سعيد يريد قتله فاجتهد به خواصّه في أن يؤخّر ذلك فامتنع وحمل في خفّه دشنيا وركب وقيل لأبي سعد أنّ خطلخ قد ركب على أن يجيئه فأنكر ذلك لأنّه كان دعاه فامتنع فلم يعرف لمجيئه إليه بغير استدعاء وجها، فاستعدّ ليستظهر وقال لغلمانه:
« تأهّبوا بالطبرزينات وكونوا مستترين في المجالس حوله فإن أنكر من خطلخ أمرا صاح بهم فخرجوا ووضعوا عليه. » وحضر خطلخ فتلقّاه أبو سعد وجاء حتى جلس وأخذ يتجنّى ويعربد إلى أن ضرب يده إلى خفّه وأخرج الدشنى فصاح أبو سعد بالغلمان فخرجوا بالدبابيس والطبرزينات ووضعوا على خطلخ ووقع في رأسه دبّوس فدوّخه وسقط وقدّر أنّه مات وحمل إلى منزله فعاش يومين ومات.
فبادر أبو العبّاس الحنّاط إلى الأمير في الوقت فوجده نائما فقال للغلمان:
« أنبهوه ».
فلم يجسروا، فصاح وجلب إلى أن أنبهه ودخل إليه وقال له:
« إنّ أبا سعد قتل حاجبك خطلخ. » فلم يصدّقه وانتهره فقال:
« وجّه وانظر. » فورد عليه الخبر بصدقه فاستعظم ذلك ووجم ساعة ودخل أبو سعد فلم يظهر له أنّه أنكر شيئا ولا أنّه استوحش وسأله عن السبب فيما فعله فعرّفه الصورة واستشهد من حضر فاستصوب ما فعله. وخاف أبو سعد ووجد أبو العبّاس الحنّاط فرصته وأقبل يقول:
« هو ذا يأخذ البيعة على القوّاد وهو خارج عليك لا محالة. » فوجّه الأمير إلى أبي سعد فأنسه غاية التأنيس وحلف له أيمانا مؤكّدة على ثقته به وأنّه لا يلحقه سوء من جهته. واتّفق أن أخرج أبو سعد صناديقه من البيوت إلى صحن داره ليسترها استظهارا وخلا بموسى فياذه يشاوره فمضى الحنّاط إلى الأمير عليّ بن بويه فقال له:
« قد استحلف أبو سعيد قوّادك وآخر من استحلفه موسى فياذه وها هو قد أخرج صناديقه وهو خارج الساعة. » فوجّه بالأمير بمن عرف خبره فرأى الرسول الصناديق وموسى فياذه خارجا من عنده فعاد إليه بالخبر فلم يشكّ الأمير حينئذ في صحّة قول الحنّاط فقبض عليه وعلى جميع ماله من سائر الأصناف واعتقله. وكان في الاعتقال إلى أن ورد بعض قوّاد الأتراك من بعض أعمال فارس فواطأه الحنّاط على الدخول مع أصحابه وهم خمسون رجلا مخرّقي الثياب مسودّي الوجوه يضجّون بما جرى على خطلخ من أبي سعد ويتهددون إن لم يقتل أبو سعد. ففعل القائد ذلك ودخل والأمير على شرب فأمر بقتل أبي سعد ثم وقعت الندامة عند الصحو وبعد فوت الأمر واستكتب الأمير بعده أبا العبّاس الحنّاط وبقي معه إلى أن مات الأمير عليّ بن بويه.
عود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام
ونعود إلى ذكر الأحوال الجارية بمدينة السلام. لمّا حصل محمّد بن ياقوت بالحضرة وحصلت له الحجبة ورئاسة الجيش أدخل يده في تدبير أعمال الخراج والضياع ونظر فيما ينظر فيه الوزراء وطالب أصحاب الدواوين بحضور مجلسه وألّا يقبلوا توقيعا بولاية ولا صرف ولا غير ذلك من سائر الأحوال إلّا بعد أن يوقّع فيه بخطّه. وتجلّد أبو عليّ واحتمل ذلك وألزم نفسه المصير إليه فإذا صار إليه دفعتين صار هو إليه دفعة واحدة فكان أبو على كالمتعطّل لا يعمل شيئا ملازما لمنزله ويجيئه أبو إسحاق القراريطي كاتب محمّد ابن ياقوت فيطالعه بما يجرى وما يعمل.
وفي هذه السنة قتل هارون بن غريب الخال.
ذكر السبب في قتله
كان سبب ذلك أنّه لمّا بلغ هارون بن غريب تقليد الراضي بالخلافة وكان مقيما بالدينور - وهي قصبة أعمال ماه الكوفة - وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبما سبذان ومهرجانقذق وحلوان وتدبّر أعمال الخراج والضياع بها - وهي النواحي التي كانت بقيت في يد السلطان من نواحي المشرق بعد الذي غلب عليه مرداويج - رأى أنّه أحقّ بالدولة من كلّ أحد. فكاتب جميع القوّاد بالحضرة وأنّه إن صار إلى الحضرة وتقلّد رئاسة الجيش وتدبير الأمور أطلق لهم أرزاقهم على التمام ولم يؤخّر عنهم شيئا منها. وسار إلى بغداد حتى وافى خانقين فغلظ ذلك على الوزير أبي عليّ ابن مقلة وعلى محمّد ابن ياقوت وعلى الحجريّة والساجيّة والمونسيّة وخاطبوا بأجمعهم فقال الراضي:
« أنا كاره له، فامنعوه من دخول الحضرة وحاربوه إن أحوج إلى ذلك. » فلمّا كان يوم السبت لسبع خلون من جمادى الآخرة استحضر أبو بكر ابن ياقوت أبا جعفر بن شيرزاد وأوصله إلى الراضي بالله حتى حمّله رسالة إلى هارون بن غريب بأن يرجع إلى الدينور وكتب معه كتابا فنفذ من وقته ووجد هارون قد صار إلى جسر النهروان وأدّى الرسالة وأوصل الكتاب فأجاب هارون بأنّه قد انضمّ إليه من الرجال من لا يكفيهم مال عمله. وعاد أبو جعفر بالجواب وأدّاه إلى الراضي بالله بحضرة الوزير أبي عليّ والحاجب أبي بكر محمّد بن ياقوت، فبذلوا له أن يقلّدوه أعمال طريق خراسان كلّها ويكون مالها مصروفا إليه زائدا على ما يأخذه. وقال الراضي بالله:
« سبيله أن يقتصر على بعض من معه من الرجال. » فنفذ أبو جعفر ومعه أبو إسحاق القراريطي بهذا الجواب. فلمّا أدّيا إليه الرسالة امتنع وقال:
« إنّ الرجال لا يقنعون بهذه الزيادة. » ثم قال:
« ومن جعل ابن ياقوت أحقّ بالحجبة والرئاسة مني؟ الناس يعلمون أنّه كان في آخر أيّام المقتدر يجلس بين يديّ ويمتثل أمري. ومن جعله أخصّ بالخليفة مني؟ وأنا نسيب أمير المؤمنين وقريبه وابن ياقوت ابن غلام من غلمانه. » فقال القراريطي:
« لو كنت تراعى ما بينك وبينه من القرابة لما عصيته » فقال: « لو لا أنّك رسول لأوقعت بك. قم فانصرف. » ووضع هارون يده في الاستخراج، فاستخرج أموال طريق خراسان وقبض على عمّال السلطان وجبى المال بعسف وخبط وظلم وتهوّر وكان الوقت قريبا من الافتتاح. فلمّا اشتدّت شوكته شخص محمّد بن ياقوت من بغداد في سائر الجيوش بالحضرة ونزل في المضارب بنهربين بإنفاذ أبي جعفر محمّد بن شيرزاد دفعة ثانية برسالة جميلة ووعده أن يواقفه على عدّة الرجال الذين يتقرر الأمر معه على كونهم في جملته وينظر في جرائدهم وأرزاقهم لسنة خراجيّة. فإن وفي مال أعماله بماله ومالهم رجع إلى الدينور وإلّا سبّب له بالباقي على أعمال طساسيج النهروانات ونفذ إليه بهذه الرسالة يوم الاثنين.
وقد وقعت طلائع عسكر هارون على طلائع عسكر محمّد بن ياقوت وأصحاب هارون هم المستظهرون وكثر مضيّ الجند من عسكر محمّد ابن ياقوت إلى هارون بن غريب مستأمنة إليه فتبيّن أبو جعفر من هارون أنّه اتّهمه بالميل إلى محمّد بن ياقوت وابن مقلة. فلمّا رأى منه ذلك استأذنه في الانصراف بالجواب فقال:
« إني أخاف عليك منه أن يعتقلك وإنّما بيننا وبين الوقعة وانكشاف الأمر بيننا ليلة واحدة. »
تزاحف العسكرين
فلمّا كان في يوم الثلاثاء لستّ بقين من جمادى الآخرة تزاحف العسكران وكان المبدأ من أصحاب هارون واشتدّ القتال واستظهر أصحاب هارون لأنّ عددهم أضعاف عدد ابن ياقوت وانهزم أكثر أصحاب ابن ياقوت وقطعة من الغلمان الحجريّة ونهب أصحاب هارون أكثر سواد ابن ياقوت ونكّسوهم عن دوابّهم وأثخنوا فيهم الجراحات وقتلوا منهم عدّة. فركب حينئذ محمّد بن ياقوت وسار حتى عبر قنطرة نهربين ولم تزل الحرب غليظة إلى أن قارب انتصاف النهار وركب هارون بن غريب مبادرا وسار منفردا عن أصحابه على شاطئ نهربين يريد قنطرته لمّا بلغه أنّ ابن ياقوت قد عبر القنطرة وقدّر أنّه يقتله أو يأسره فتقطّر به فرسه فسقط منه في ساقيه فلحقه يمن غلامه فضربه حتى أثخنه بالطبرزينات ثم سلّ سيفه ليذبحه فقال له هارون:
« يا عبد السوء أنت تفعل هذا وتتولى بيدك قتلى أيّ شيء أذنبت به إليك؟ » فقال له:
« نعم أنا أفعل بك هذا. » وحزّ رأسه ورفعه وكبّر، فتبدّد رجال هارون ودخل بعضهم من طرق آخر إلى بغداد ونهب سواد هارون وأصحابه وأسر قوم. وسار محمّد بن ياقوت إلى موضع جثة هارون فأمر بحملها إلى مضربه فحملت وأمر بتكفينه ودفنه وأنفذ بمن يحفظ دار هارون من النهب ودخل بغداد وبين يديه رأس هارون وعدّة من قوّاده. فأمر الراضي بنصب الرؤوس على باب العامّة وخلع على ابن ياقوت وطوّق وسوّر.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة
تقليد الراضي ابنيه المشرق والمغرب
وفيها قلّد الراضي ابنيه الأمير أبا جعفر وأبا الفضل المشرق والمغرب واستكتب لهما أبا الحسين عليّ بن أبي عليّ ابن مقلة وخلع على أبي الحسين لذلك يوم الاثنين لخمس خلون من .
المحرّم واستخلف أبو الحسين على كتابتهما أبا الحسن سعيد بن عمرو بن سنجلا وكتبت به الكتب. قتل مرداويج في الحمام بإصبهان
وفيها ورد الخبر بغداد بأنّ غلمان مرداويج بن زيار الجبلي قتلوه في الحمّام بإصبهان فتبجّح محمّد بن ياقوت وزعم أنّ التدبير في ذلك كان له وأنّه كاتب غلاما كان له واستأمن إلى مرداويج بضعة عشر كتابا مع فيوج ذكرهم وسمّاهم من حيث لا يعلم أحد وأظهر كتبا من الغلام إليه في هذا المعنى وأنشأ كتبا قرئ بعضها في المسجد الجامع بهذا الخبر والشرح وكتب إلى أصحاب الأطراف وأعلمهم أنّ التدبير كان له وكلّ ذلك كذب فإنّا سمعنا من شرح الصورة ما اقتضاه الأمر من أوّله إلى آخره ما نعلم أنّه لم يكن من تدبير بشريّ.
ذكر السبب في قتل مرداويج وذكر ليلة الوقود المعروفة بالسذق
قال الأستاذ أبو عليّ أحمد بن محمّد مسكويه أدام الله نعمته: حدّثني الأستاذ الرئيس حقّا أبو الفضل ابن العميد رحمه الله أنّه لمّا حضرت ليلة الوقود التي تعرف بالسّذق كان تقدّم مرداويج قبل ذلك بمدّة طويلة أن تجمع له الأحطاب من الجبال والنواحي البعيدة وأن ينقل له في الوادي المعروف روذ وما قرب من الغياض والمحتطب. فكان يجمع ذلك من كلّ وجه وأمر بجمع النفط والنفّاطين والزرّاقات ومن يحسن معالجتها واللعب بها وتقدّم بإعداد الشموع العظام المجلّسة ولم يبق جبل مشرف على جرين إصبهان ولا تلّ ظاهر إلّا عبّئت عليه الأحطاب والشوك وعمل على مسافة بعيدة من مجلسه بحيث لا يمكن أن يتأذّى بالوقود كهيئة قصور عظيمة من الأجذاع وضبّبت بالحديد الكثير حتى تماسكت وحشيت بالشوك والقصب وصيدت له الغربان والحدأ وعلّق بمناقرها وأرجلها الجوز المحشوّ مشاقة ونفطا وعمل بمجلسه الخاصّ تماثيل من الشمع وأساطين عظام منه لم ير مثلها ليكون الوقود في ساعة واحدة على الجبال ورؤوس اليفاعات وفي الصحراء وفي المجلس على الطيور التي تطلق. ثم عمل له سماط عظيم في الصحراء التي يبرز إليها من داره وجمع فيه من الحيوانات والبقر والغنم ألوف كثيرة وزيّن واحتشد له بما لم تجر العادة بمثله فلمّا فرغ من جميع ذلك وضربت مضاربه قريبا من السماط وحضر الوقت الذي ينبغي أن يجلس فيه مع القوم للطعام ثم للشرب خرج من منزله وطاف على سماطه وعلى الآلات التي ذكرتها للوقود فاستحقرها كلّها واستصغر شأنها وذلك لأجل سعة الصحراء ولأنّ البصر إذا امتدّ في فضاء واسع ثم انقلب عنه إلى هذه الأشياء المصنوعة استحقرها وإن كانت عظيمة.
فاغتاظ وتداخله من النخوة والجبريّة ما سكت معه ولم يتكلّم بحرف ودخل إلى خركاه في خيمة عظيمة واضطجع ثم حوّل وجهه إلى خلاف الباب والتفّ بكسائه لئلّا يكلّمه أحد. واجتمع الأمراء والكبار والقوّاد وسائر الجند والنظّارة ولم يجسر على خطابه أحد ولا على تحريكه وأبطأ على الناس خروجه حتى فات الوقت.
وأخذ الناس في الإرجاف به فتحدّثوا سرّا وهمسا وخيفت الفتنة. فحينئذ مشى العميد حول الخركاه ودمدم بكلامه المقتضى للجواب فلم يتكلّم بحرف ولم يزل يدارى في الكلام ويدعو له إلى أن اضطرّه إلى الجلوس ثم دخل إليه فقال:
« أيّها الأمير ما هذا الكسل في وقت النشاط وحضور الأولياء وفرح الصديق وانخزال العدوّ؟ » فقال: « يا أبا عبد الله وأيّ نشاط يحضرني مع الاستخفاف والاستهانة وقصور الأمر؟ والله لقد افتضحت فضيحة لا يغسلها عني شيء أبدا. » قال [ العميد ]: ودهشت ساعة ثم قلت:
« أيّها الأمير وما ذلك؟ » فقال: « أما ترى نزارة ما أمرت به من الاستكثار منه وقلّته ووتاحته من الطعام والسماط ثم من جميع آلات الوقود والأشياء المتصلة بها. » فقلت: « والله أيّها الأمير لقد عمل من هذه الأشياء ما لم يسمع بمثله فضلا عن أن يرى، فقم إلى مجلس أنسك وعاود النظر. »
فأبى ولجّ إلى أن قلت:
« فإنّ الأعداء يرجفون بكيت وكيت، فاتقّ الله اركب وطف طوفة لتزول الأراجيف ثم اعمل ما بدا لك فإنّا سنعتذر عنك. » فزاده ما حكيته له من أراجيف الناس به غيظا وحنقا. ثم قام فركب كارها متحاملا وطاف مغضبا مغتاظا بقدر ما رآه الناس وانصرف إلى موضعه ولزم حالته الأولى وجمع الناس الذين دعوا على خبط فأبى أكثرهم وانصرف من كان حاضرا وقالوا:
« لا نأنس إلّا يأنس الأمير. » وبقي في معسكره ثلاثا لا يظهر ولا يرى إلّا أنّه يعلم أنّه حاصل في قصر أبي عليّ ابن رستم، فلمّا كان اليوم الثالث تقدّم بإسراج الدوابّ ليعود من جرين إلى داره وهي التي كانت لأبي عليّ ابن رستم بالمدينة ولها باب إلى الصحراء وباب إلى المدينة. فأسرج الغلمان واجتمعوا بالباب وذلك بعد الظهر فنعس نعسة
ونام فأبطأ ودخل وقت العصر واتفق أن شغبت دوابّ الغلمان وارتفعت أصواتها وأصوات من يزجرها ولم يمكن أن يفرّق بينها لازدحامها بالباب ولأنّ أكثرها بأيدي غلمان الغلمان. ينتظرون ركوب الأمير فركب الغلمان بركوبه. فانتبه مرداويج مذعورا لما كان في نفسه من إقدام الناس عليه بالأراجيف وسأل من يليه عن السبب فلم يعرفوا صورة الأمر. فقام بنفسه واطّلع على الدوابّ والشاكريّة وإذا هم بأسرهم يصيحون لزجر الدوابّ والدوابّ قد سقط بعضها على بعض ولها أصوات هائلة منكرة فارتاع ساعة حتى عرف حقيقة الأمر. ثم سكن فسأل عن أصحاب الدوابّ فقيل: هم الغلمان الأتراك. فأمر أن تحطّ السروج عن ظهور الدوابّ وتجعل على ظهور الغلمان مع جميع آلتها ويدفع الدوابّ بأرسانها إليهم ليقودوها بأنفسهم إلى الاصطبلات. ففعلوا ذلك وكانت صورة قبيحة يتطيّر من مثلها ويتشاءم بها.
ثم ركب هو بنفسه مع خاصّته وهو يتوعّد الغلمان حتى صار إلى منزله قرب العشاء وكانت طشّة من مطرة بلّته. فلمّا دخل داره كانت كالخالية ليس فيها إلّا صبيان أصاغر وخادم أسود كان أستاذ أولئك الغلمان. فدخل الحمّام يغيّر ثيابه وقد كان قبل ذلك بطش بغلمان أتراك كبار فحقدوه ولكن لم يكونوا يجدون أعوانا. فلمّا فعل بالجماعة ما فعل اغتنموا الصورة وانتهزوا الفرصة وقال بعضهم لبعض:
« ما وجه صبرنا على هذا الشيطان؟ » فاتفقوا على الفتك به. ولمّا دخل الحمّام سألوا الغلام الذي يلي خدمته في الحمّام ألّا يحمل معه سلاحه - وكان رسمه أن يدخل معه إلى الحمّام دشنيّا ملفوفا في منديل - فقال الغلام:
« لا أجسر أن أتقدّم بين يديه وليس معي الدشنيّ. فاتفقوا على أن يكسروا حديدته ويتركوا النصاب في الجفن ثم يلفّ في المنديل حتى لا ينكر الصورة ويتركه في زاوية الحمّام على الرسم. ثم هجم عليه جماعة والخادم الأسود جالس على كرسيّ بباب الحمّام. فلمّا رآهم ثار في وجوههم وصاح بهم فضربه بعضهم بسيفه فاتقاه بيده فطاحت من الذراع وسقط، وهجم القوم وارتفعت الضجّة فأحسّ مرداويج بالشرّ فبادر فسند الباب من داخل بسرير - وكان يجلس عليه - بعد أن طلب الدشنيّ فلم يجده ودفع الغلمان الباب فتعذّر عليهم فصعد نفر منهم إلى قبّة الحمّام فكسر الجامات ورموه بالنشّاب فدخل البيت الحار وأخذ في مداراتهم وضمن لهم كل جميل فكأنّهم تهيّبوه ساعة ثم علموا أنّ الغاية التي بلغوها منه ليس يجوز أن يكون بعدها صلح. فحمل بعضهم على ناحية الباب الذي وراءه السرير حتى كسروه ودخلوا عليه، فشقّ بعضهم جوفه بسكين معه وضرب هو وجه بعضهم بكرنيب فضّة في يده فأثّر فيه أثرا قبيحا وخرجوا من عنده وعندهم أنّه قد فرغوا منه. فقال لهم رفقاؤهم الذين كانوا خارج الحمّام:
« ما صنعتم؟ » قالوا: « شققنا جوفه. » فقال أحدهم:
« عودوا إليه فحزّوا رأسه. » وإنّما فعلوا ذلك لأنّه كان اتّفق في تلك الأيّام أنّ بعض الفرّاشين في الدار شقّ بطنه بجراحة فخيط الجرح وعولج فسلم فخافوا أن يجرى ذلك المجرى فحزّوا رأسه.
وقيل: إنّه لمّا عاودوه قد جمع حشوة بطنه وردّها وقبض عليها بشماله وقاتل بكرنيبه ساعة حتى فرغ منه. فلمّا طرحوا رأسه في الدار بادروا إلى الإصطبلات فأسرجوا الدوابّ وأوكفوا البغال واحتملوا من الخزائن ما أمكنهم من المال والسلاح ورحلوا.
وفي خلال ذلك تهيّأ لبعض من في الدار تسوّر الحيطان، فدخلوا المدينة وقد جنّهم الليل، فخبّروا الجند والقوّاد بما جرى وهم سكارى متفرقون واجتمع بعضهم وأوقدوا النيران وضربوا بالبوقات وأسرجوا الدوابّ وأخذوا السلاح وساروا إلى الصحراء لينقلبوا إلى الباب الذي منه المدخل فإلى أن يفعلوا ذلك فاتهم الغلمان ولم يجدوا غير غليمة أصاغر لا ذنب لهم فقتلوا منهم عدّة ثم كفّوا عنهم. وخشي أهل الرأي من حشمه أن تنتهب الخزائن.
فأشار العميد بإحراقها وهدم البنيان عليها فسلم المال وأكثر الذخائر لأنّ المتهمين حضروا والنار والدخان ثائره في الموضع فلم يصلوا إلى شيء.
هروب ركن الدولة
وكان ركن الدولة أبو عليّ الحسن بن بويه رهينة عند مرداويج من جهة أخيه عليّ بن بويه عماد الدولة. فلمّا أحسّ بالصورة دارى الموكلين به وضمن لهم ضمانات كثيرة فساعدوه حتى هرب بعد ليلة من قتل مرداويج.
اتفاق عجيب اتفق له في هربه
لمّا خرج بقيوده إلى الصحراء وجلس ليكسرها أقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه فنكسهم وركب هو ومن معه البغال وحثّها حتى سلم وفات الطلب.
افتراق الأتراك فرقتين
فأمّا الأتراك فافترقوا فرقتين: أمّا فرقة فسلكوا نحو فارس مستأمنين إلى عليّ بن بويه وفيهم خجخج الذي سملة توزون لمّا ملك العراق. وأمّا فرقة فسلكت الجبل وهي الأكثر عددا وفيهم بجكم الذي ملك الأمر بالعراق وتقلّد إمارة الأمراء بها في أيّام الراضي وسنذكر من أخباره ما يليق بهذا الكتاب.
ما كان من أمر أصحاب مرداويج
فأمّا ما جرى عليه أمر أصحاب مرداويج فانّ أبا مخلد كان يتحدّث - وكان من خدم مرداويج وصاحب دولته - أنّ تابوت مرداويج حمل إلى الريّ. وقال: فما رأيت يوما أعظم من اليوم الذي دخل فيه تابوته الريّ وذاك أنّ الجيل والديلم بأجمعهم ساروا مشاة حفاة معه أربعة فراسخ.
وذكر أنّه كان أخوه وشمكير ماشيا معهم ثم مضوا من إصبهان على بكرة أبيهم معه إلى الريّ وكان الناس لا يشكون أنّهم يستأمنون إلى عليّ بن بويه فبطل هذا الظنّ وقال:
« لم أر قطّ عسكرا هلك صاحبه فوفى له رجاله وجنده بغير درهم ولا دينار ذلك الوفاء فإنّهم صاروا إلى أخيه وشمكير على هذه الحال. » وعرف شيرج أن إصبهان خالية - وكان بالأهواز من قبله - فسار للوقت إلى عسكر مكرم وستر الخبر وكان بها هرجام الجيليّ فأسرّ إليه بالخبر وأخذه معه ثم سار إلى تستر وبها جيليّ وكان وجها كبيرا فحدّثه وأخذه معه وقصد جنديسابور وبها إسماعيل الجيلي وكلّ واحد من هؤلاء نظير لشيرج، فأطلعه على الأمر وسار بمسيره فصارت الجماعة إلى السوس وبها عبد الله بن وهبان القصباني البصري عامل كور الأهواز من قبل مرداويج والشابشتى الحاجب وكان ثقة مرداويج وكان رتّبهم مرداويج على ما ذكر أبو مخلد على أن يتوجّه شيرج إلى واسط ثم إلى بغداد وكان مرداويج ينتظر خروج الشتاء في سنة ثلاث وعشرين فيقصد أرجان أوّلا ثم يناجز عليّ بن بويه.
فإذا فرغ منه عدل إلى الأهواز ثم منها إلى السوس وينفذ معظم خيله إلى شيرج ليتقدّمه إلى واسط.
نوايا مرداويج
وكان في نفسه أن يملك بغداد ويعقد التاج على رأسه ويعيد ملك الفرس فعوجل بالقتل. فسار عسكره كلّه كما ذكرنا مع شيرج والشابشتى وابن وهبان من السوس إلى الريّ على طريق شابرخواست والكرج يريدون وشمكير أخاه ما عارضهم معارض ولا أقدم أحد على منابذتهم والإفساد عليهم. ولمّا حصلوا بها بايعوه واستوزر وشمكير ابن وهبان وشكر له حسن تصرّفه لأخيه بالأهواز.
وكان مرداويج يوم قلّده الأهواز أرزقه ألفى دينار في الشهر وقال له:
« إن نصحت وأدّيت الأمانة استوزرتك بالحضرة ونصّبت الرايات بين يديك إلى باب نصيبين، وإن خنتني وشرهت نفسك فإنّ كركرتك كبيرة ومعدتك عظيمة والحلاوات بالأهواز كثيرة فهذا دشنى ترى انبساطه وحدّه والله لاشقنّ به بطنك هذه الكبيرة. » فقال له:
« ستعلم أيّها الأمير كيف أنصح وأؤدّى الأمانة وأنّى مستحقّ لاصطناعك. » وكان هذا الرجل من أهل البصرة وله أب قصبانى وإنّما تقلّد في أيّام ابن الخال همذان. فلمّا انهزم ابن الخال من وقعة مرداويج وقصد الحضرة لانتزاع الرئاسة من محمّد بن ياقوت وجرى عليه ما جرى حصل مرداويج بهمذان ووقع في يده ابن وهبان فعفا عنه واستعمله فنفق عليه.
وكانت كتب مرداويج ترد على ابن وهبان أن يعدّ له ايوان كسرى منزلا إذا تقدّمه إلى الحضرة ويعمّره ويعيده كهيئته قبل الإسلام وأنّه معتقد للمقام بواسط إلى أن يستتمّ ذلك وأنّه يراه وشيرج مع من معهما أكفاء لمن بالحضرة من ابن ياقوت والحجريّة والساجيّة وسائر الأصناف وأنّه مستغن عن أن يلقاهم بنفسه.
وكان قد صاغ تاجا عظيما ورصّعه بالجوهر. وذكر أبو مخلد أنّه رآه قبل الحادثة بأيّام جالسا على سرير ذهب قد جعل عليه منصّة عظيمة وتفرّد بالجلوس عليه وجعل دونه سرير فضّة وعليه فرش مبسوط ودون ذلك كراسي كبار مذهّبة وغير ذلك ليرتّب أصحاب الأقدار مراتبهم في الإجلاس. قال: وكان الكافّة من الناس بالبعد قياما ينظرون إليه ما ينطقون إلّا همسا إعظاما له وإكبارا لقدره.
وفيها وقع بين أصحاب ياقوت ومحمّد بن رائق شرّ فاقتتلوا وقتل بينهم خلق.
وفيها قبض على المظفّر ومحمّد ابنيّ ياقوت بتدبير أبي عليّ بن مقلة
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ أبا عليّ كان قلقا من غلبة محمّد بن ياقوت على سير الأمور ونظره في جباية الأموال وحضور أصحاب الدواوين مجلسه وتفرّده بما يعمله الوزراء وعطلته هو، إلى أن تمّ تدبيره عليه. فلمّا كان يوم الاثنين لستّ خلون من جمادى الأولى ركب القوّاد إلى دار السلطان على رسمهم في أيّام المواكب وحضر الوزير أبو عليّ ابن مقلة وأظهر الراضي أنّه يريد أن يقلّد جماعة من القوّاد عدّة نواح من المملكة ويخلع عليهم. وحضر محمّد بن ياقوت للخدمة وأبو إسحاق القراريطي كاتبه معه وجلسوا على رسمهم في الصحن التسعينى. ثم خرج الخدم إلى محمّد بن ياقوت فعرّفوه أنّ الخليفة يطلبه فقام مبادرا. فلمّا دخل عدل به إلى حجرة قد أعدّت له وأخذ سيفه ومنطقته ووكّل به. ثم خرج الخدم إلى أبي إسحاق القراريطي فعرّفوه أنّ صاحبه يطلبه. فلمّا دخل عدل به إلى حجرة أخرى وحبس.
ووجّه بقوم إلى دار المظفّر بن ياقوت فقبض عليه وحمل إلى دار السلطان وحبس مع أخيه وكان وجد قريبا من السكر لأنّه كان يشرب ونفذت حيلة الوزير أبي عليّ عليهم وتقدّم إلى الغلمان الحجريّة والساجيّة أن يصيروا إلى دار السلطان وأن يضربوا مضاربهم في بابى الخاصّة والعامّة ليحفظوا الدار وأمر مفلح الأسود أن يصير إلى دار محمّد بن ياقوت.. وخلع عليه وسلّم القراريطي إلى الوزير أبي عليّ فأخذ خطّه بخمسمائة ألف دينار ثم تقرّر أمره على ثلاثة آلاف ألف درهم.
وانحدر ياقوت من واسط إلى السوس بجميع أصحابه وكتب إلى الراضي بالله كتابا في أمر ابنيه يستعطفه فيه لهما ويرقّق قلبه عليهما ويسأله الإحسان إليهما وتجديد الصنيعة عندهما وعنده فيهما وأن يلحقهما ليعاوناه على أمره ويكونان معه في حروبه.
ولمّا زال أمر محمّد بن ياقوت وتفرّد أبو عليّ بالتدبير استخلف ابنه أبا الحسين على جميع الدواوين والأعمال وصارت مكاتبة جميع أصحاب الدواوين له وإنفاذهم الأعمال إليه. فصار يعزل ويولّى ويحلّ ويعقد وصار إليه أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي وطرح نفسه عليه وارتسم بكتابته وكان يكتب لأبي إسحاق القراريطي وكان مستوليا عليه فقبله أبو عليّ واختصّ به وبابنه.
وشغب الجند وطالبوا بأرزاقهم وصاروا إلى دار الوزير أبي عليّ ونهبوا اصطبلاته وأخذوا من بابه من كان في مجلسه ونكسوا جماعة ممّن لقيهم من الكتّاب عن دوابّهم وأخذوها منهم فأطلق لهم أرزاقهم وسكنوا.
وفيها قوى أمر أبي عبد الله البريدي واستفحل أمره
ذكر أسباب ذلك
كان أبو عبد الله البريدي ضامنا أعمال الخراج والضياع بالأهواز. فلمّا وافاها شيرج بن ليلى الديلمي من قبل مرداويج خرج إلى البصرة بعد هزيمة ياقوت وغلامه مونس كما كتبناه قبل وأقام يدبّر أسافل الأهواز إلى أن قرر له محمّد كتابة ابنه. فخرج معه إلى واسط فبينا هو معه يدبّر أمره إذ ورد [ الخبر ] بالقبض على محمّد والمظفّر ابني ياقوت فارتاع ياقوت من ذلك ارتياعا شديدا.
وكتب أبو عليّ ابن مقلة إلى أبي عبد الله البريدي: أن يسكّنه ويعرّفه أنّ الجند اضطربوا وتطيّروا لهما وشغبوا مرارا كما بلغك. ثم أرسلوا للخليفة بأنّه إن لم يقبض عليهما أحدثوا في الملك حادثة عظيمة واضطرّ إلى أن يرضيهم بما أمضاه فيهما وأنّه يتلافى أمرهما عن قرب وينفذهما إليه وأنّ الرأي أن يبادر هو لفتح فارس.
فخرج ياقوت من واسط على طريق السوس إلى عسكر مكرم وأخرج أبو عبد الله البريدي معه أبا الحسن ابن حميد البصري ليخلفه على كتابته وكان صنيعته وأخرج أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي لخدمته في بلده، فدخل ياقوت عسكر مكرم وهما معه. ثم وافى أبو عبد الله البريدي من طريق الماء إلى الأهواز وورد بعده أبو يوسف أخوه وكان إليه السوس وجنديسابور شركة بينه وبين أخيه أبي الحسين. وادّعيا أنّ مال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة احتمله شيرج بن ليلى وأنّ النواحي معطّلة الارتفاع في السنة التي بعدها فأنفذ أبو عليّ ابن مقلة ابن عينويه لكشف ذلك وطابقهما وكتب يصدّقهما.
فكانت هذه الفتنة نعمة على أبي عبد الله وأبي يوسف البريديين فإنّه تحصّل لهما بها وممّا بعدها إلى وقت انهزامهما من الأهواز على ما حدّث به أبو الفرج ابن أبي هشام أربعة آلاف ألف دينار خرجا بها على السلطان ثم قصدا عسكر مكرم للاجتماع مع ياقوت فوافياها وتلقاهما في الموضع المعروف بفوهة النهرين وسيّراه إلى أرجان لفتح فارس.
خروج توقيع من الراضي بالله
وفيها خرج توقيع الراضي بالله بأن تكون المخاطبة والمكاتبة من جميع الناس لأبي الحسين عليّ بن محمّد بن مقلة بالوزارة وكان سنّة إذ ذاك ثماني عشرة سنة وأن يكون الناظر في الأمور صغيرها وكبيرها وتقدّم إلى جميع أصحاب الدواوين بذلك وخلع على أبي الحسين خلع الوزارة وخوطب بها وحمل على شهري وانصرف من دار السلطان على الظهر ومعه القوّاد والجيش والخدم وأصحاب الدواوين.
وانصرف أبو عليّ في طيّاره إلى منزله وصار إليه ابنه بالخلع وطرح له مصلّى في مجلس أبيه ودخل الناس معه وهنّئوا أبا عليّ وأنشده الشعراء وأمر أبو الحسين ونهى ووقع وصار طرح المصلّى في مجلس أبيه رسما له.
وخرج رسم أبيه إلى جميع أصحاب الدواوين ألّا ينفذوا توقيعا له إلّا بعد عرضهم إيّاه على ابنه أبي الحسين واستيماره فيه وأخذ توقيعه بخطّه فيه بامتثاله.
وشغب الفرسان شغبا بعد شغب وكانوا يأخذون دوابّ الناس من باب الوزير.
وفيها ركب بدر الخرشنى فنادى في جانبي بغداد في أصحاب أبي محمّد البربهارى الحنبليّة ألّا يجتمع منهم نفسان في موضع واحد وحبس جماعة منهم واستتر البربهارى وكان سبب ذلك كثرة تشرّطهم على الناس وإيقاعهم الفتن المتصلة.
وخرج توقيع الراضي بالله إلى الحنبليين بما نسخته:
« بسم الله الرحمن الرحيم. من نافق بإظهار الدين وتوثّب على المسلمين وأكل به أموال المعاهدين كان قريبا من سخط ربّ العالمين وغضب الله وهو من الضالين. وقد تأمّل أمير المؤمنين أمر جماعتكم وكشفت له الخبرة عن مذهب صاحبكم [ فوجده كإبليس اللعين ي ] زيّن لحزبه المحظور ويدلّى لهم حبل الغرور. فمن ذلك: تشاغلكم بالكلام في ربّ العزّة تباركت أسماؤه وفي نبيه والعرش والكرسيّ، وطعنكم على خيار الأمّة ونسبكم شيعة أهل بيت رسول الله إلى الكفر والضلال، وإرصادهم بالمكاره في الطرقات والمحالّ، ثم استدعاؤكم المسلمين إلى الدين بالبدع الظاهرة، والمذاهب الفاجرة التي لا يشهد بها القرآن، ولا يقتضيها فرائض الرحمن، وإنكاركم زيارة قبور الأئمة صلوات الله عليهم، وتشنيعكم على زوّارها بالابتداع، وإنّكم مع إنكاركم ذلك تتلفّقون وتجتمعون لقصد رجل من العوامّ ليس بذي شرف ولا نسب ولا سبب برسول الله ، وتأمرون بزيارة قبره والخشوع لدى تربته والتضرّع عند حفرته.
« فلعن الله ربّا حملكم على هذه المنكرات ما أرداه، وشيطانا زيّنها لكم ما أغراه، وأمير المؤمنين يقسم الله قسما جهد أليّة يلزمه الوفاء به، لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم ومعوّج طريقتكم ليوسعنّكم ضربا وتشريدا وقتلا وتبديدا وليستعملنّ السيف في رقابكم، والنار في محالّكم ومنازلكم فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فقد أعذر من أنذر، وما توفيق أمير المؤمنين إلّا بالله، عليه يتوكّل وإليه ينيب. »
شغب الجند
وفيها شغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فوقع النهب في خزانة له فيها زجاج مخروط وبلور وصينى وغير ذلك فدخلوا الدار وشغبوا فيها وخرج الوزيران عن دورهما وصارا إلى الجانب الغربي.
وكان الوزير أبو عليّ نفى الخصيبي وسليمان بن الحسن إلى عمان وكاتب صاحب عمان بحبسهما والتضييق عليهما فأطلقهما ووردا بغداد مستترين فورد على الوزير من ذلك ما أقلقه وكبس عليهما عدّة مواضع فلم يظفر بهما.
خروج ابن مقلة إلى الموصل
وفيها قتل الحسن بن عبد الله بن حمدان عمّه أبا العلاء سعيد بن حمدان وخرج لذلك أبو عليّ ابن مقلة إلى الموصل.
ذكر السبب في ذلك
كان أبو العلاء شرع في تضمّن الموصل وديار ربيعة فضمّن ذلك سرّا وخلع عليه وأظهر أنّه ينفذ إلى الموصل لمواقفة ابن أخيه أبي محمّد على ما عليه من مال الضمان ومطالبته بحمله وشخص في نحو خمسين غلاما من غلمانه. فدخل الموصل وعرف ابن أخيه خبر موافاته فخرج نحوه مظهرا لتلقّيه واعتمد أن يخالفه الطريق فلا يراه ومضى أبو العلاء إلى دار أبي محمّد فنزلها وسأل عن خبره فعرّف أنّه خرج ليتلقّاه فجلس ينتظره. فلمّا علم أبو محمّد أنّ عمّه قد حصل في داره وجّه بغلمانه فدخلوا إلى أبي العلاء إلى البيت الذي كان فيه فقبضوا عليه وقيّدوه. ثم وجّه بقوم علوه بأسيافهم وقتلوه ولم يقع بينه وبين ابن أخيه لقاء.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)