هذا وسند الخبر غير صحيح، ولفظه في البداية: (قال أبو زرعة الدمشقي حدثني محمد بن زرعة الرعيني حدثنا مروان بن محمد حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبد الله بن السائب… إلخ) ومحمد بن زرعة لم أجد له ترجمة، والمجهول لا تقوم به حجة، وكذا إسماعيل إلا أن يكون الصواب إسماعيل بن عبيد الله (بالتصغير) ابن أبي المهاجر فثقة معروف لكن لا أدري أسمع من السائب أم لا؟ وفي البداية عقبه: (قال أبو زرعة: وسمعت أبا مسهر يذكره عن سعيد بن عبد العزيز نحوًا منه لم يسنده). أقول: وسعيد لم يدرك عمر ولا السائب، هذا ومخرج الخبر شامي،111ومن الممتنع أن يكون عمر نهى أبا هريرة عن الحديث البتة ولا يشتهر ذلك في المدينة ولا يلتفت إلى ذلك الصحابة الذين أثنوا على أبي هريرة ورووا عنه وهم كثير كما يأتي، منهم ابن عمر وغيره كما مر (ص106)، هذا باطل قطعًا. على أن أبا رية يعترف أن كعبًا لم يزل يحدث عن الأول حياة عمر كلها، وكيف يعقل أن يرخص له عمر ويمنع أبا هريرة؟ هذا باطل حتمًا، وأبو هريرة كان مهاجرًا من بلاد دوس والمهاجر يحرم عليه أن يرجع إلى بلده فيقيم بها، فكيف يهدد عمر مهاجرًا أن يرده إلى البلد التي هاجر منها؟ وقد بعث عمر في أواخر إمارته أبا هريرة إلى البحرين على القضاء والصلاة كما في فتوح البلدان للبلاذري (ص92-93)، وبطبيعة الحال كان يعلمهم ويفتيهم ويحدثهم.
قال أبو رية (ص16): (ومن أجل ذلك كثرت أحاديثه بعد وفاة عمر وذهاب الدرة، إذ أصبح لا يخشى أحدًا بعده).
أقول: لم يمت الحق بموت عمر، وسيأتي تمام هذا.
قال: (ومن قوله في ذلك: «إني أحدثكم أحاديث لو حدثت بها زمن عمر لضربني بالدرة، وفي رواية: لشج رأسي»).
أقول: يروى هذا عن يحيى بن أيوب عن ابن عجلان عن أبي هريرة، وابن عجلان لم يدرك أبا هريرة. فالخبر منقطع غير صحيح.
قال: (وعن الزهري عن أبي سلمة سمعت أبا هريرة يقول: «ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله حتى قبض عمر»، ثم يقول: «أفكنت محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله إذًا لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري، فإن عمر كان يقول: اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله»).
أقول: إنما رواه عن الزهري إنسان ضعيف يقال له: صالح بن أبي الأخضر، قال فيه الجوزجاني -وهو من أئمة الجرح والتعديل-: (اتهم في حديثه). وهناك أخبار وآثار تعارض هذا وأشباهه، إلا أن في أسانيدها مقالًا فلم أنشط لذكرها وبيان عللها تجد بعضها في ترجمة أبي هريرة من الإصابة.
وبعد فإن الإسلام لم يمت بموت عمر، وإجماع الصحابة بعده على إقرار أبي هريرة على الإكثار، مع ثناء جماعة منهم عليه، وسماع كثير منهم منه، وروايتهم عنه كما يأتي؛ يدل على بطلان المحكي عن عمر من منعه، بل لو ثبت المنع ثبوتًا لا مدفع له لدل إجماعهم على أن المنع كان على وجه مخصوص أو لسبب عارض أو استحسانًا محضًا لا يستند إلى حجة ملزمة. وعلى فرض اختلاف الرأي فإجماعهم بعد عمر أولى بالحق من رأي عمر.
ثم حكى أبو رية عن صاحب المنار قال: (لو طال عُمر عمر حتى مات أبو هريرة، لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة).
112أقول: وما يدريك لعل عمر لو طال عمره حتى يستحر الموت بحملة العلم من الصحابة لأمر أبا هريرة وغيره بالإكثار وحث عليه، وحفظُ الله تبارك وتعالى لشريعته وتدبيره بمقتضى حكمته فوق عمر وفوق رأي عمر في حياة عمر وبعد موت عمر.
ثم قال أبو رية (ص164): (كيف سوغ كثرة الرواية؟ كان أبو هريرة يسوغ كثرة الرواية عن النبي بأنه ما دام لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا فإنه لا بأس من أن يروي).
أقول: هذه دعوى من أبي رية، فهل من دليل؟
قال: (وقد أيد صنيعه هذا بأحاديث رفعها إلى النبي، ومنها ما رواه الطبراني في الكبير عن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إذا لم تحلوا حرامًا ولا تحرموا حلالا وأصبتم المعنى فلا بأس»).
أقول: ههنا مآخذ:
الأول: أن هذا لم يروه أبو هريرة ولا رواه الطبراني عنه، إنما رواه الطبراني من طريق يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن أكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال: «أتينا النبي فقلنا له: بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، إنا نسمع منك الحديث فلا نقدر أن نؤديه كما سمعنا. فقال: إذا لم… إلخ») وهو في مجمع الزوائد (1: 154) وقال: (رواه الطبراني في الكبير، ولم أر من ذكر يعقوب ولا أباه).
الثاني: أن هذا الخبر إنما يدل على إجازة الرواية بالمعنى لقوله فيه: «وأصبتم المعنى» وقد تقدم الكلام في الرواية بالمعنى (ص52) فما بعدها، ودعوى أبي رية هنا شيء آخر كما يأتي.
الثالث: أن الخبر لا يثبت عن صحابيه لجهالة يعقوب وأبيه، ولهذا أعرضت عنه فلم أستشهد به في فصل الرواية بالمعنى وإن كان موافقًا لقولي.
قال: (وقال أيضًا إنه سمع النبي يقول: «من حدث حديثًا هو لله عز وجل رضا فأنا قلته، وإن لم أكن قلته» روى ذلك ابن عساكر في تاريخه).
أقول: أخذ أبو رية هذا من كنز العمال (5: 223) وهناك أن ابن عساكر أخرجه عن البختري بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة. أقول: البختري كذاب، وأبوه مجهول.
قال أبو رية: (وفي الإحكام…. لابن حزم) (2: 78) أنه روى عن رسول الله :113«إذا حُدثتم عني بحديث يوافق الحق فخذوا به، حدثت به أو لم أحدث»).
أقول: إنما ذكره ابن حزم من طريق أشعث بن براز، ثم قال ابن حزم في ذلك الموضع نفسه: (و أشعث بن براز كذاب ساقط).
قال: (وروى عن رسول الله: «إذا بلغكم عني حديث يحسن بي أن أقوله فأنا قلته، وإذا بلغكم حديث لا يحسن بي أقوله فليس مني ولم أقله»).
أقول: عزاه إلى توجيه النظر (ص278) وهناك عقبه قول أبي حاتم: (الحديث منكر، الثقات لا يرفعونه) يريد لا يصلونه، فإنه ذكره من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، وقد جاء من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن النبي ص مرسلا، ذكره البخاري في التاريخ (2/1/434) ثم ذكر أن بعضهم قال: (عن أبي هريرة) قال البخاري: (وهو وهم، ليس فيه أبو هريرة). ورواه بعضهم عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة. ذكره ابن حزم في الإحكام عقب الحديث السابق وقال: (عبد الله بن سعيد كذاب مشهور). وفي ألفاظه في الروايات اختلاف، وسأشرح بقية حاله في التعليق على موضوعات الشوكاني إن شاء الله تعالى.
هذه أدلة أبي رية على دعواه، وعلق على خبر البختري قوله (ارجع إلى ص101) وكان قد ذكر هناك بعض هذه الأخبار تحت عنوان: (كيف استجازوا وضع الأحاديث؟) وبهذا يعرف حاصل دعواه هنا ومناسبتها لأدلتها، فإن تكذيب الصديقين لا يتم إلا بتصديق الكذابين.
قال: (روى ذلك وغيره).
أقول: أما (ذلك) أي: الأخبار المتقدمة فقد تبين أن أبا هريرة لم يرو شيئًا منها، وأما غيره فما هو؟
قال: (على حين أن الثابت عن النبي أنه قال: «من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار»).
أقول: كذا ذكر الحديث هنا و ص 40، والثابت: «من يقل عليَّ ما لم أقل… إلخ» رواه أحمد من حديث أبي هريرة، وكذا من حديث سلمة بن الأكوع، وكذا جاء في أثناء حديث لأبي قتادة، وكما أن هذا هو الثابت عن النبي فكذلك هو الثابت عن أبي هريرة عنه كما ترى، وفي صحيح البخاري وغيره من حديث مالك عن الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة قال: «إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله114ما حدثت حديثًا ثم يتلو: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى } إلى قوله { الرحيم } » الحديث. وذكر مسلم سنده ولم يسق متنه. وفي الإصابة: (أخرج أحمد من طريق عاصم بن كليب عن أبيه سمعت أبا هريرة يبتدئ حديثه بأن يقول: قال رسول الله الصادق المصدوق أبو القاسم : «من كذب عليَّ متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار») وذكره ابن كثير في البداية (8: 107) وقال: (وروي مثله من وجه آخر).
قال أبو رية: (وقد اضطر عمر أن يذكره بهذا الحديث لما أوغل في الرواية).
أقول: يريد ما روي عن أبي هريرة قال: («بلغ عمر حديثي فأرسل إليَّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله في بيت فلان؟ قال: قلت: نعم. وقد علمت لم تسألني عن ذلك. قال: ولم سألتك؟ قلت: إن رسول الله قال يومئذ: من كذب عليَّ متعمدًا فليتبؤا مقعده من النار. قال أما إذًا فاذهب فحدث». البداية (8: 107). وهذا يدل على بطلان ما حكي من منعه أو على أنه أذن له بعد منع ما، وهذا الخبر من جملة الأخبار التي قدمتُ (ص111) أني أعرضت عنها؛ لأن في أسانيدها مقالًا، وذكرته هنا لإشارة أبي رية إليه… وحديث: «من كذب عليَّ… إلخ» ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة.
حقيقة التدليس وانتفاؤها عن الصحابة
قال أبو رية آخر ص 164: (تدليسه).
أقول: قال الخطيب في الكفاية (ص357): (تدليس الحديث الذي لم يسمعه الراوي ممن دلسه عنه بروايته إياه على وجه يوهم أنه سمعه منه) ومثال هذا أن قتادة كان قد سمع من أنس، ثم سمع من غيره عن أنس ما لم يسمعه من أنس، فربما بعض ذلك بقوله: (قال أنس…. ) ونحو ذلك، ثم ذكر الخطيب (ص358) ما يؤخذ على المدلس، وهاك تلخيصه بتصرف:
أولًا: إيهامه السماع ممن لم يسمع منه.
ثانيًا: إنما لم يبين لعلمه أن الواسطة غير مرضي..
ثالثًا: الأنفة من الرواية عمن حدثه.
رابعًا: إيهام علو الإسناد.
خامسًا: عدوله عن الكشف إلى الاحتمال.
أقول: هذه الأمور منتفية فيما كان يقع من الصحابة رضي الله عنهم من قول أحدهم فيما سمعه من115صحابي آخر عن النبي ص: (قال النبي ص). أما الأول فلأن الإيهام إنما نشأ منذ عني الناس بالإسناد، وذلك عقب حدوث الفتنة، وفي مقدمة صحيح مسلم: (عن ابن سيرين قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم…) فمن حينئذ التزم أهل العلم الإسناد فأصبح هو الغالب حتى استقر في النفوس وصار المتبادر من قول من قد ثبت لقاؤه لحذيفة: (قال حذيفة سمعت النبي ص يقول…) أو نحو ذلك أنه أسند، ومعنى الإسناد أنه ذكر من سمع منه فيفهم من ذاك القول أنه سمع من حذيفة، فلو قال قائل مثل ذلك مع أنه لم يسمع ذاك الخبر من حذيفة وإنما سمعه ممن أخبر به عن حذيفة كان موهمًا خلاف الواقع.
وهذا العرف لم يكن مستقرًا في حق الصحابة لا قبل الفتنة ولا بعدها، بل عرفهم المعروف عنهم أنهم كانوا يأخذون من النبي ص بلا واسطة، ويأخذ بعضهم بواسطة بعض، فإذا قال أحدهم: (قال النبي ص…. ) كان محتملًا أن يكون سمع النبي ص وأن يكون سمعه من صحابي آخر عن النبي ص. فلم يكن في ذلك إيهام.
وأما الثاني: فلم يكن ثم احتمال؛ لأن يكون الواسطة غير مرضي؛ لأنهم لم يكن أحد منهم يرسل إلا ما سمعه من صحابي آخر -يثق به وثوقه بنفسه- عن النبي ص، ولم يكن أحد منهم يرسل ما سمعه من صبي أو من مغفل أو قريب العهد بالإسلام أو من مغموص بالنفاق أو من تابعي.
وأما الثالث: فلم يكن من شأنهم رضي الله عنهم.
وأما الرابع: فتبع الأول.
وأما الخامس: فلا ضرر في الاحتمال مع الوثوق بأنه إذا كان هناك واسطة فهو صحابي آخر.
قال أبو رية: (ذكر علماء الحديث أن أبا هريرة كان يدلس).
أقول: إنما جاء في ذلك كلمة شاذة يغلب على ظني أنها مصحفة سيأتي الكلام عليها.
وذكر (ص165) ما حكي عن شعبة في ذم التدليس وقال: (ومن الحفاظ من جرح من عرف بهذا التدليس من الرواة فرد روايته مطلقًا وإن أتى بلفظ الاتصال).
أقول: بعد أن استحكم العرف الذي مر بيانه نشأ أفراد لا يلتزمونه، وهم ضربان:
الضرب الأول: من بين عدم التزامه فصار معروفًا عند الصحابة والآخذين عنه أنه إذا قال: (قال فلان…) ونحو ذلك، وسمى بعض شيوخه احتمل أن يكون سمع الخبر من ذاك الشيخ وأن يكون سمعه من غيره عنه. فهؤلاء هم المدلسون الثقات. وكان الغالب أنه إذا دلس أحدهم خبرًا مرة أسنده على وجهه أخرى. وإذا دلس فسئل بين الواقع. والضرب الثاني: من لم يبين بل يتظاهر بالالتزام ومع ذلك يدلس عمدًا.
وتدليس هذا الضرب الثاني حاصله إفهام السامع خلاف الواقع، فإن كان المدلس مع ذلك يتظاهر بالثقة كان ذلك حملًا للسامع ومن يأخذ عنه على التدين بذاك الخبر عملًا وإفتاء وقضاء، فأما تدليس الضرب الأول فغايته أن يكون الخبر عند السامع محتملًا للاتصال وعدمه، وما يقال: إن فيه إيهام الاتصال إنما هو بالنظر إلى العرف الغالب بين المحدثين، فأما النظر إلى عرف المدلس نفسه فما ثم إلا الاحتمال، فالضرب الثاني هو اللائق بكلمات شعبة ونحوها، وبالجرح وإن صرح بالسماع، فأما الضرب الأول فقد عد منهم: إبراهيم النخعي وإسماعيل بن أبي خالد وحبيب بن أبي ثابت والحسن البصري والحكم بن عتيبة وحميد الطويل وخالد بن معدان وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وسليمان التيمي والأعمش وابن جريج وعبد الملك بن عمير وأبو إسحاق السبيعي وقتادة وابن شهاب والمغيرة بن مقسم وهشيم بن بشير ويحيى بن أبي كثير ويونس بن عبيد، وهؤلاء كلهم ثقات أثبات أمناء مأمونون عند شعبة وغيره متفق على توثيقهم والاحتجاج بما صرحوا فيه بالسماع. قال ابن القطان: (إذا صرح المدلس الثقة بالسماع قبل بلا خلاف، وإن عنعن ففيه الخلاف [36] فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا مدخل لهم في التدليس كما تقدم.
قال: (ولو لم يعرف أنه دلس إلا مرة واحدة، نص على ذلك الشافعي رحمه الله).
أقول: عبارته تعطي أن الشافعي يرى جرح المدلس مطلقًا ولو صرح بالسماع، وهذا كذب، وعبارة الشافعي في الرسالة (ص379): «ومن عرفناه دلس فقد أبان لنا عورته في روايته، وليست تلك العورة بالكذب فنرد بها حديثه، ولا النصيحة في الصدق فنقبل منه ما قبلنا من أهل النصيحة في الصدق، فقلنا: لا نقبل من مدلس حديثًا حتى يقول فيه: حدثني أو سمعت».
117قال: (وروى مسلم بن الحجاج عن بسر بن سعيد قال: «اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدث عن رسول الله ، ويحدثنا عن كعب الأحبار، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله، وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله، وما قاله رسول الله عن كعب، فاتقوا الله وتحفظوا في الحديث».
أقول: إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من ضعفاء الضبط ومن لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثقهم الأئمة ولا يحتجون بأخبارهم ولابد أن ينتبهوا لغلطهم، وعلى كل حال فلا ذنب لأبي هريرة في هذا، ولم يزل أهل العلم يذكر أحدهم في مجلسه شيئًا من الحديث، ويذكر معه مفصولًا عنه ما هو من كلام بعض أهل العلم أو غيرهم وما هو من كلام نفسه، والحكاية نفسها تدل على أن أبا هريرة كان يبين، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين.
قال: (وقال يزيد بن هارون سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلس، أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله ولا يميز هذا عن هذا، ذكره ابن عساكر).
أقول: هذه عبارة ابن كثير في البداية، ساق كلمة بسر المتقدمة ووصلها بهذه الحكاية، وهي حكاية شاذة لا أدري كيف سندها إلى يزيد، ويقع في ظني إن كان السند صحيحًا أنه وقع فيها تحريف، فقد يكون الأصل (أبو حرة) فتحرفت على بعضهم فقرأها أبو هريرة؛ وأبو حرة معروف بالتدليس كما تراه في طبقات المدلسين لابن حجر (ص17)، وقوله: (أي يروي…. ) أراه من قول ابن عساكر بناه على قصة بسر السابقة. فقوله: (لا يميز هذا من هذا) يعني لا يفصل بين قوله: (قال النبي …. ) وقوله: (زعم كعب…. ) مثلًا بفصل طويل حتى يؤمن أو يقل الالتباس على ضعفاء الضبط، وتسمية هذا تدليسًا غريب، فلذلك قال ابن كثير وحكاه أبو رية (وكأن شعبة يشير بهذا إلى حديث: «من أصبح جنبًا لا صيام له». فإنه لما حوقق عليه قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله ).
أقول: يعني أنه قال أولًا: (قال رسول الله …) مع أنه إنما سمعه من بعض الصحابة عن النبي . وهذا هو إرسال الصحابي الذي تقدم أنه ليس بتدليس، ولكنه على صورته. والله أعلم
ثم قال أبو رية (ص166): (قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص50): وكان أبو هريرة يقول قال رسول الله كذا، وإنما سمعه من الثقة عنه فحكاه).
أقول: تتمة كلام ابن قتيبة (وكذلك كان ابن عباس يفعل وغيره من الصحابة، وليس في118هذا كذب بحمد الله، ولا على قائله إن لم يفهمه السامع جناح إن شاء الله). والمراد بالثقة الثقةُ من الصحابة على ما قدمت، وقدمت أن مثل ذلك من الصحابة كان عند السامعين محتملًا على السواء لأن يكون بلا واسطة وأن يكون بواسطة صحابي آخر، والمخبر الذي أخبر أبا هريرة صحابي كما يأتي.
ثم قال أبو رية: (أول راوية اتهم في الإسلام. قال ابن قتيبة إنه لما أتى أبو هريرة من الرواية عنه ما لم يأتِ بمثله من صحبه من جلة أصحابه والسابقين الأولين اتهموه وأنكروا عليه وقالوا: كيف سمعت هذا وحدك؟ ومن سمعه معك؟ وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكارًا عليه لتطاول الأيام بها وبه)
أقول: تتمة كلام ابن قتيبة: (فلما أخبرهم أبو هريرة بأنه كان ألزمهم لرسول الله لخدمته وشبع بطنه… فعرف ما لم يعرفوا وحفظ ما لم يحفظوا، أمسكوا عنه). وكلمة (اتهموه) كلمة نابية يتبرأ منها الواقع، فإنه لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه اعترض على شيء من حديث أبي هريرة إلا عائشة وابن عمر، فأما عائشة فيأتي قريبا قولها: «إنك لتحدث حديثًا ما سمعته» فأجابها ذاك الجواب الصريح فأقرت، وقد تتبع أبو رية الأحاديث التي انتقدتها عائشة على أبي هريرة ويأتي الجواب الواضح عنها وأن أكثرها قد ثبت من رواية غير أبي هريرة من الصحابة، على أن انتقاد عائشة لها ليس على وجه الاتهام بكذب ونحوه -معاذ الله- وإنما فيه الاتهام بالخطأ وقد اتهمت عائشة بالخطأ عمر وابن عمر كما مر (ص51) ويأتي. وقد عد الحاكم في المستدرك عائشة في الصحابة الذين رووا عن أبي هريرة كما يأتي، وأما ابن عمر فإنما استغرب حديثًا واحدًا من حديث أبي هريرة فاستشهد أبو هريرة عائشة
فشهدت فعاد ابن عمر بطيب الثناء على أبي هريرة وقال له: «يا أبا هريرة! كنت ألزمنا لرسول الله وأعلمنا بحديثه» وممن روى هذا الحاكم في المستدرك (3: 510) وصححه وأقره الذهبي. وفي تهذيب التهذيب والإصابة: (وقال ابن عمر: «أبو هريرة خير مني وأعلم» زاد في الإصابة: "بما يحدث". وفي الإصابة: أخرج مسدد من طريق عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: «كان ابن عمر إذا سمع أبا هريرة يتكلم قال: إنا نعرف ما يقول، لكنا نجبن ويجترئ» وعاصم وأبوه ثقتان. وفي المستدرك (3: 510) من طريق119(… جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رجل لابن عمر: «إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله فقال ابن عمر: أعيذك بالله أن تكون في شك مما يجيء به، ولكنه اجترأ وجبنا» هكذا ذكره الذهبي في تلخيص المستدرك: (جرير عن الأعمش…) وقد سمع أبو وائل من ابن عمر فأخشى أن يكون ذكر حذيفة مزيدًا على سبيل الوهم. والله أعلم. وفي الإصابة (روينا في فوائد المزكي تخريج الدارقطني من طريق عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رفعه: «إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه» فقال له مروان: «أما يكفي أحدنا ممشاه إلى المسجد حتى يضطجع؟ قال: لا. فبلغ ذلك ابن عمر فقال: أكثر أبو هريرة. فقيل لابن عمر: هل تنكر شيئًا مما يقول؟ قال: لا. ولكنه اجترأ وجببنا. فبلغ ذلك أبا هريرة فقال: ما ذنبي إن كنت حفظت ونسوا»، وقد روى ابن عمر عن أبي هريرة كما في التهذيب وغيره. قال أبو رية: (وممن اتهم أبا هريرة بالكذب عمر وعثمان وعلي).
أقول: هذا أخذه من كتاب ابن قتيبة، وإنما حكاه ابن قتيبة عن النظام بعد أن قال ابن قتيبة: (وجدنا النظام شاطرًا من الشطار، يغدو على سكر ويروح على سكر ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش والشائنات… ثم ذكر أشياء من آراء النظام المخالفة للعقل والإجماع، وطعنه على أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة. فمن كان بهذه المثابة كيف يقبل نقله بلا سند؟ ومن الممتنع أن يكون وقع من عمر وعثمان وعلي وعائشة أو واحد منهم رمي لأبي هريرة بتعمد الكذب أو اتهام به ثم لا يشتهر ذلك ولا ينقل إلا بدعاوى من ليس بثقة ممن يعادي السنة والصحابة كالنظام وبعض الرافضة. وقد تقدم ويأتي ثناء بعض أكابر الصحابة على أبي هريرة وسماع كثير منهم منه وروايتهم عنه. وأطبق أئمة التابعين من أبناء أولئك الأربعة وأقاربهم وتلاميذهم على تعظيم أبي هريرة والرواية عنه والاحتجاج بأخباره. وعند أهل البدع من المعتزلة والجهمية والرافضة والناصبة حكايات معضلة مثل هذه الحكاية تتضمن الطعن القبيح في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعائشة وغيرهم، وفي كثير منها ما هو طعن في النبي . والحكم في ذلك واحد، وهو تكذيب تلك الحكايات البتة.
120قال أبو رية: (ولما قالت له عائشة: «إنك لتحدث حديثًا ما سمعته من النبي -أجابها بجواب لا أدب فيه ولا وقار إذ قال لها... - شغلك عنه المرآة والمكحلة. وفي رواية: ما كانت تشغلني عنه المكحلة والخضاب، ولكن أرى ذلك شغلك»).
أقول: تتمة الرواية الأخيرة كما في البداية: («فقالت: لعله»). والذي أنكره أبو رية من جواب أبي هريرة عظيم الفائدة للباحث المحقق، وذلك أن أبا هريرة كان شديد التواضع، وقد تقدم أمثلة من ذلك، وعائشة معروفة بالصرامة وقوة العارضة، فجوابه يدل على قوة إدلاله بصدقه ووثوقه بحفظه، ولو كان عنده أدنى تردد في صدقه وحفظه لاجتهد في الملاطفة، فإن المريب جبان، وسكوت عائشة بل قولها («لعله»): أي لعل الأمر كما ذكرت يا أبا هريرة. يدل دلالة واضحة أنه لم يكن عندها ما يقتضي اتهام أبي هريرة، هذا وحجة أبي هريرة واضحة فإن عائشة لم تكن ملازمة للنبي بل انفردت عن الرجال بصحبته في الخلوة، وقد انفردت بأحاديث كثيرة تتعلق بالخلوة وغيرها فلم ينكرها عليها أحد، ولم يقل أحد -ولا ينبغي أن يقول-: إن سائر أمهات المؤمنين قد كان لهن من الخلوة بالنبي مثل ما لها فما بال الرواية عنهن قليلة جدًا بالنسبة إلى رواية عائشة.
قال: على أنه لم يلبث أن عاد فشهد بأنها أعلم منه… ذلك أنه لما روى حديث: «من أصبح جنبًا فلا صوم عليه». أنكرت عليه عائشة هذا الحديث فقالت: «إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، وبعثت إليه بأن لا يحدث بهذا الحديث عن رسول الله ، فلم يسعه إزاء ذاك إلا الإذعان والاستخذاء وقال: إنها أعلم مني، وأنا لم أسمعه من النبي، وإنما سمعته من الفضل بن العباس».
أقول: لم أجد حديث أبي هريرة هذا بلفظ: «فلا صوم عليه» وإنما وجدته بلفظ: «فلا يصم» ونحوه، ولا ريب أنه كان في رمضان يلزمه قضاء ذاك اليوم. هذا وقوله: «هي أعلم» لا يناقض جوابه المتقدم، وإنما المعنى هي أعلم بذاك الشأن الذي تتعلق به المسألة ووجه ذلك واضح. وقد عرفت صرامة عائشة وشدة إنكارها ما ترى أنه خطأ. وسيأتي طرف من ذلك، وشدتها على أبي هريرة خاصة، فاقتصارها إذ بلغها حديثه هذا على أن بعثت إليه أن لا يحدث بهذا الحديث121وذكرها فعل النبي ص يدل دلالة قوية أنها عرفت الحديث ولكنها رأت أنه منسوخ بفعل النبي ص. ويؤيد هذا أن ابن اختها وأخص الناس بها وأعلمهم بحديثها عروة بن الزبير استمر قوله على مقتضى الحديث الذي ذكره أبو هريرة، وهذا ثابت عن عروة، وانظر فتح الباري (4: 124)، وذكر مثله أو نحوه عن طاوس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي، وهؤلاء من كبار فقهاء التابعين بمكة والمدينة والبصرة والكوفة. والنظر يقتضي هذا، وشرح ذلك يطول. وكأن عروة حمل فعل النبي ص الذي ذكرته عائشة على الخصوصية أو غيرها مما لا يقتضي النسخ، واستدل الجمهور على النسخ بقول الله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } قالوا: فهذه الآية نسخت بالإجماع ما كان قبل ذلك من تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم وهي تتضمن إحلاله في آخر جزء من الليل بحيث ينتهي بانتهاء الليل، ومن ضرورة ذلك أن يصبح جنبًا، فهذان شاهدا عدل بصحة حديث أبي هريرة وصدقه: الأول اقتصار عائشة على ما اقتصرت عليه؛ الثاني مذهب تلميذها وابن اختها عروة؛ وثمّ شاهد ثالث، وهو أن المتفق عليه بين أهل العلم وعليه دل القرآن أنه كان الحكم أولًا تحريم الجماع في ليالي رمضان بعد النوم، وأن من فعل ذلك لم يصح صومه ذلك اليوم، والحكمة من ذلك -والله أعلم- أن يطول الفصل بين الجماع وبين طلوع الفجر، ولما كان من المحتمل أن يلجأ بعض الناس إلى السهر طول الليل ويجامع قبيل الفجر بحجة أنه إنما جامع قبل النوم ناسب ذلك أنه يحرم كونه جنبًا عند طلوع الفجر ليضطر من يريد الجماع ممن يسهر إلى أن يقدمه قبل الفجر بمدة تتسع له وللغسل بعده فيحصل بذلك المقصود من طول الفصل، وهذا هو مقتضى حديث أبي هريرة. وشاهد رابع: وهو أنّا مع علمنا بصدق أبي هريرة وأمانته لو فرضنا جدلًا خلاف ذلك فأي غرض شخصي لأبي هريرة في أن يرتكب الكذب على النبي ص ليحمل الناس على ما تضمنه حديثه؟ لا غرض له البتة، وإذًا فلا بد أن يكون كان عنده دليل فهم منه ذلك، وقد عرفنا أنه قلما يلجأ إلى الاستنباط الدقيق وإنما يتمسك بالنصوص، وقد نص هو على أن دليله هو ذاك الحديث فبان أن الحديث كان عنده، فهذه أربعة شهود على صدق أبي هريرة في هذا الحديث.122وفوق ذلك ما ثبت من دينه وأمانته ودل عليه الكتاب والسنة كما يأتي في فصل عدالة الصحابة، وشهد به جمع من الصحابة وأجمع عليه أهل العلم، فهذا هو الحق، وما بعد الحق إلا الضلال.
قال أبو رية: (فاستشهد ميتًا، وأوهم الناس أنه سمع الحديث من رسول الله ص كما قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث).
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)