وقال عدي بن مرينا للأسود: أما إذ لم تظفر فلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدي، الذي عمل بك ما عمل فقد كنت أخبرك أن معدًا لا ينام مكرهًا. أمرتك أن تعصيه فخالفتني. قال: فما تريد؟ قال: أريد ألا يأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي. ففعل.
وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يك في الدهر يوم إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه، وكان لا يقضي في مكله شيئًا إلا بأمر عدي بن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عنده أحسن عليه الثناء، وذكر فضله، وقال: إنه لا يصلح المعدي إلا أن يكون فيه مكر وخديعة. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عدي ابن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما تقول، ولكنه لا يسلم عليه أحد؛ وإنه ليقول: إن الملك - يعني النعمان - عامله، وإنه ولاه ما ولاه؛ فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه، وكتبوا كتابًا على لسان عدي إلى قهرمان لعدي ثم دسوا له، حتى أخذوا الكتاب، ثم أتى به النعمان فقرأه، فأغضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: عزمت عليك إلا زرتني، فإني قد اشتقت إلى رؤيتك! وهو عند كسرى فاستأذن كسرى، فأذن له، فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبس في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي بن زيد يقول الشعر وهو في السجن، فكان أول ما قال في السجن من الشعر:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ** ك بخبر الأنباء عطف السؤال
فقال أشعارًا، وكان كلما قال عدي من الشعر، بلغ النعمان وسمع ندم على حبسه إياه، فجعل يرسل إليه ويعده ويمنيه ويفرق أن يرسله فيبغيه الغوائل، فقال عدي:
أرقت لمكفهرٍ بات فيه ** بوارق يرتقين رءوس شيب
وقال أيضًا:
طال ذا الليل علينا واعتكر
وقال أيضًا:
ألا طال الليالي والنهار
وقال حين أعياه ما يتضرع إلى النعمان أشعارًا، يذكره فيها الموت، ويخبره من هلك من الملوك قبله، فقال:
أرواحٌ مودعٌ أم بكور
وأشعارًا كثيرة.
قال: وخرج النعمان يريد البحرين، فأقبل رجل من غسان، فأصاب في الحيرة ما أحب. ويقال: الذي أغار على الحيرة فحرق فيها، جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي:
سما صقرٌ فأشعل جانبيها ** وألهاك المروح والعزيب
فلما طال سجن عدي كتب إلى أخيه أبي، وهو مع كسرى بشعر فقال:
أبلغ أبيًا على نأيه ** وهل ينفع المرء ما قد علم!
بأن أخاك شقيق الفؤا ** د كنت به والهًا ما سلم
لدى ملكٍ موثق بالحدي ** د إما بحق وإما ظلم
فلا أعرفنك كدأب الغلا ** م ما لم يجد عارمًا يعترم
فأرضك أرضك إن تأتنا ** تنم نومةً ليس فيها حلم
فكتب إليه أخوه:
إن يكن خانك الزمان فلا عا ** جز باعٍ ولا ألف ضعيف
ويمين الإله لو أن جأوا ** ء طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رزٍ مجتابةً غمرة المو ** ت صحيحٌ سربالها مكفوف
كنت في حميها، لجئنك أسعى ** فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
أو بمالٍ سئلت دونك لم يمن ** نع تلادٌ لحاجةٍ أو طريف
أو بأرضٍ أسطيع آتيك فيها ** لم يهلني بعيدها أو مخوف
في الأعادي وأنت مني بعيدٌ ** عز هذا الزمان والتعريف
إن تفتني والله ظغلفًا فجوعًا ** لا يعقبك ما يصوب الخريف
فلعمري لئن جزعت عليه ** لجزوعٌ على الصديق أسوف
ولعمري لئن ملكت عزائي ** لقيلٌ شرواك فيما أطوف
فزعموا أن أبيًا لما قرأ كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه، فكتب وبعث معه رجلًا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه قد كتب إليك في أمره. فأتاه أعداء عدي من بني بقيلة من غسان، فقالوا: اقتله الساعة، فأبى عليهم وجاء الرجل، وقد تقدم أخو عدي إليه ورشاه، وأمره أن يبدأ بعدي، فدخل عليه وهو محبوس بالصنين، فقال: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به، فدخل الرسول على عدي، فقال: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك؟ قال: عندي الذي تحب، ووعده عدة. وقال: لا تخرجن من عندي، وأعطني الكتاب حتى أرسل به، فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن أتى الملك بالكتاب، فأدخله عليه، فانطلق مخبر حتى أتى النعمان، فقال: إن رسول كسرى قد دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل والله لم يستبق منا أحدًا، أنت ولا غيرك. فبعث إليه النعمان أعداءوه فغموه حتى مات، ثم دفنوه.
ودخل الرسول على النعمان بالكتاب. فقال: نعم وكرامة! وبعث إليه بأربعة آلاف مثقال وجارية، وقال له: إذا أصبحت فادخل عليه؛ فأخرجه أنت بنفسك. فلما أصبح ركب، فدخل السجن، فقال له الحرس: إنه قد مات منذ أيام، فلم نجترىء على أن نخبر الملك للفرق منه، وقد علمنا كراهته لموته. فرجع إلى النعمان فقال: إني قد دخلت عليه وهو حي، وجئت اليوم فجحدني اللسجان وبهتني. وذكر له أنه قد مات منذ أيام فقال له النعمان: يبعثك الملك إلي فتدخل إليه قبلي! كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث. فتهدده ثم زاده جائزة وأكرمه، واستوثق منه ألا يخبر كسرى؛ إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه.
فرجع الرسول إلى كسرى، فقال: إنه قد مات قبل أن أدخل عليه، وندم النعمان على موت عدي، واجترأ أعداء عدي على النعمان؛ وهابهم النعمان هيبة شديدة؛ فخرج النعمان في بعض صيده ذات يوم. فلقى ابنا لعدي، يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال: من أنت؟ قال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحًا شديدًا، وقربه وأعطاه، واعتذر إليه من أمر أبيه، وجهزه، ثم كتب إلى كسرى إن عديًا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لا بد منه، وانقضت مدته، وانقطع أكله، ولم يصب به أحد اشد من مصيبتي؛ وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلًا إلا جعل الله له منه خلفًا، لما عظم الله له من ملكه وشأنه، وقد أدرك له ابن ليس دونه، وقد سرحته إلى الملك، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه، فليفعل.
فلما قدم الغلام على كسرى جعله مكان أبيه، وصرف عمه إلى عمل آخر، فكان هو الذي يلي ما كتب به إلى أرض العرب، وخاصة الملك. وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران والكمأة الرطبة في حينها واليابسة، والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي بن زيد يلي ذلك، وكان هذا عمل عدي.
فلما وقع عند الملك بهذا الموقع، سأله كسرى عن النعمان، فأحسن عليه الثناء، فمكث سنوات يمنزلة أبيه، وأعجب به كسرى، وكان يكثر الدخول عليه، وكانت لملوك الأعاجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك غير أنهم لم يكونوا يتناولون أرض العرب بشيء من ذلك، ولا يريدونه.
فبدأ الملك في طلب النساء فكتب بتلك الصفة. ثم دخل على كسرى فكلمه فيما دخل فيه، ثم قال: إنى رأيت الملك كتب في نسوة يطلبن له، فقرأت الصفة، وقد كنت بآل المنذر عالمًا، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. قال: فتكتب فيهن. قال: أيها الملك؛ إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن عمن تبعث إليه، أو يعرض عليه غيرهن؛ وإن قدمت أنا عليه لم يقدر أن يغيبهن، فابعثني وابعث معي رجلا من حرسك يفقه العربية، حتى أبلغ ما تحبه. فبعث معه رجلا جليدًا، فخرج به زيد، فجعل يكرم ذلك الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة.
فلما دخل عليه أعظم الملك، وقال: إنه قد احتاج إلى نساءٍ لأهله وولده، وأراد كرامتك بصهره، فبعث إليك. فقال: وما هؤلاء النسوة؟ فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها.
وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية، كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر الغساني بن أبي شمر، فكتب إلى أنوشروان يصفها له، وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء، قمراء، وطفاء، كحلاء دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، زجاء، برجاء، أسيلة الخد، شهية القد، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاشة المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، لطيفة طي البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح القبل، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، عظيمة الركبة مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعًا للسيد، ليست بخنساء، ولا سعفاء، ذليلة الأنف، عزيزة النفر، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمةً ركينةً، كريمة الخال، تقتصر بنسب أبيها دون فصيلتها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، فطيعة اللسان، رهوة الصوت، تزين البيت، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحمر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست.
فقبلها كسرى، وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز، فقرأ عليه زيد هذه الصفة، فشق عليه، فقال لزيد - والرسول يسمع: أما في عين السواد وفارس ما تبلغون حاجتكم! فقال الرسول لزيد: ما العين. قال: البقر، فقال زيد للنعمان: إنما أراد كرامتك؛ ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به.
فأنزلهما يومين، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عنده، فلما رجع إلى كسرى، قال زيد للرسول الذي جاء معه: اصدق الملك الذي سمعت منه، فإني سأحدثه بحديثك ولا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه، فقرأه عليه، فقال له كسرى: فأين الذي كنت خبرتني به؟ قال: قد كنت أخبرتك بضنهم بنسائهم على غيرهم، وأن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، واختيارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى أنهم ليسمونها السجن؛ فسل هذا الرسول الذي كان معي عن الذي قال، فإني أكرم الملك عن الذي قال ورد عليه أن أقوله، فقال للرسول: وما قال؟ قال: أيها الملك، أما في بقر السواد وفارس، ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا! فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، ولكنه قد قال: رب عبدٍ قد أراد ما هو أشد من هذا، فيصير أمره إلى التباب.
وشاع هذا الكلام، فبلغ النعمان، وسكت كسرى على ذلك أشهرًا، وجعل النعمان يستعد ويتوقع؛ حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك إليك حاجة؛ فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه، وما قوى عليه، ثم لحق بجبلي طيىء. وكانت فرعة ابنة سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلًا وامرأة، وكانت أيضًا عنده زينب ابنة أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئًا على أن يدخلوه بين الجبلين، ويمنعوه. فأبوا ذلك عليه، وقالوا: لو لا صهرك لقاتلناك، فإنه لا حاجة لنا في معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به. فأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد من الناس يقبله، غير أن بني رواحة بن سعد من بني عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك - لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ - قال: لا أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى.
فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سرًا، فلقي هانىء بن مسعود ابن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان سيدًا منيعًا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين، لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الجدين. وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئًا مانعه مما يمنع منه نفسه.
وتوجه النعمان إلى كسرى، فلقي زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال: انج نعيم إن استطعت النجاء، فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن انفلت لأفعلن بك ما فعلت بأبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخية لا يقطعها المهر الأرن، فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى خانقين، فلم يزل في السجن حتى وقع الطاعون فمات فيه، والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى:
فذاك وما أنجى من الموت ربه ** بساباط حتى مات، وهو محرزق
وإنما هلك بخانقين، وهذا قبيل الإسلام، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى بعث الله نبيه ، وكان سبب وقعة ذي قار بسبب النعمان.
وحدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، قال: حدثنا أبو المختار فراس بن خندق، وعدة من علماء العرب قد سماهم، أن النعمان لما قتل عديًا كاد أخو عدي وابنه النعمان عند كسرى، وحرفا كتاب اعتذاره إليه بشيء غضب منه كسرى، فأمر بقتله، وكان النعمان لما خاف كسرى استودع هانىء بن مسعود بن عامر الخصيب بن عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة، حلقته ونعمه وسلاحًا غير ذلك، وذاك أن النعمان كان بناه ابنتين له.
قال أبو عبيدة: وقال بعضهم: لم يدرك هانىء بن مسعود هذا الأمر، إنما هو هانىء بن قبيصة بن هانىء بن مسعود. وهو الثبت عندي - فلما قتل كسرى النعمان، استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة وما كان عليه النعمان. قال أبو عبيدة: كان كسرى لما هرب من بهرام مر بإياس بن قبيصة فأهدى له فرسًا وجزورًا، فشكر ذلك له كسرى.
فبعث كسرى إلى إياس: أين تركة النعمان؟ قال: قد أحرزها في بكر بن وائل، فأمر كسرى إياسًا أن يضم ما كان للنعمان ويبعث به إليه فبعث فبعث إياس إلى هانىء: أن أرسل إلي ما استودعك النعمان من الدروع وغيرها - والمقلل يقول: كانت أربعمائة درع، والمكثر يقول: كانت ثمانمائة درع - فأبى هانىء أن يسلم خفارته. قال: فلما منعها هانىء، غضب كسرى وأظهر أن يستأصل بكر بن وائل - وعنده يومئذ النعمان بن زرعة التغلبي؛ وهو يحب هلاك بكر بن وائل - فقال لكسرى: يا خير الملوك، أدلك على غرة بكر؟ قال نعم، قال أمهلها حتى تقيظ، فإنهم لو قد قاظوا تساقطوا على ماء لهم يقال له ذو قار، تساقط الفراش في النار، فأخذتهم كيف شئت، وأنا أكفيكهم، فترجموا له قوله: " تساقطوا تساقط الفراش في النار "، فأقرهم حتى إذا قاظوا، جاءت بكر بن وائل فنزلت الحنو، حنو ذي قار؛ وهي من ذي قار على مسيرة ليلة، فأرسل إليهم كسرى النعمان بن زرعة: أن اختاروا واحدة من ثلاث خصال، فنزل النعمان على هانىء ثم قال له: أنا رسول الملك إليكم أخيركم ثلاث خصال: إما أن تعطوا بأيديكم فيحكم فيكم الملك بما شاء، وإما أن تعروا الديار، وإما أن تأذنوا بحرب.
فتوامروا فولوا أمرهم حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وكانوا يتيمنون به فقال لهم: لا أرى إلا القتال؛ لأنكم إن أعطيتم بأيديكم قتلتم وسبيت ذراريكم، وإن هربتم قتلكم العطش، وتلقاكم تميم فتهلككم. فآذنوا الملك بحرب. فبعث الملك إلى أياس وإلى الهامرز التستري - وكان مسلحه بالقطقطانة - وإلى جلابزين - وكان مسحله ببارق - وكتب كسرى إلى قيس بن مسعود ابن قيس بن خالد بن ذي الجدين - وكان كسرى استعمله على طفّ سفوان - أن يوافوا إياسًا، فإذا اجتمعوا فإياس على الناس. وجاءت الفرس معها الجنود والفيول عليها الأساورة، وقد بعث النبي ورق أمر فارس، وقال النبي : " اليوم انتصفت العرب من العجم "، فحفظ ذلك اليوم؛ فإذا هو يوم الوقعة. فلما دنت جيوش الفرس بمن معهم انسل قيس بن مسعود ليلًا فأتى هانئًا، فقال له: أعط قومك سلاح النعمان فيقووا. فإن هلكوا كان تبعًا لأنفسهم، وكنت قد أخذت بالحزم، وإن ظفروا ردوه عليك. ففعل وقسم الدروع والسلاح في ذوي القوى والجلد من قومه. فلما دنا الجمع من بكر. قال لهم هانىء: يا معشر بكر، إنه لا طاقة لكم بجنود كسرى ومن معهم من العرب، فاركبوا الفلاة. فتسارع الناس إلى ذلك، فوثب حنظلة بن ثعلبة بن سيار فقال له: إنما أردت نجاتنا فلم تزد على أن ألقيتنا في الهلكة، فرد الناس وقطع وضن الهوادج لئلا تستطيع بكر أن تسوق نساءهم إن هربوا - فسمي مقطع الوضن، وهي حزم الرجال.
ويقال: مقطع البطن، والبطن حزم الأقتاب - وضرب حنظلة على نفسه قبة ببطحاء ذي قار، وآلى ألا يفر حتى تفر القبة. فمضى من مضى من الناس، ورجع أكثرهم، واستقوا ماء لنصف شهر، فأتتهم العجم، فقاتلهم بالحنو، فجزعت العجم من العطش، فهربت ولم تقم لمحاصرتهم، فهربت إلى الجبابات، فتبعتهم بكر، وعجل أوائل بكر، فتقدمت عجل، وأبلت يومئذ بلاء حسنًا، واضطمت عليهم جنود العجم، فقال الناس: هلكت عجل، ثم حملت بكر فوجدوا عجلًا ثابتة تقاتل، وامرأة منهم تقول:
إن يظفروا يحرزوا فينا الغرل ** إيهًا فداءٌ لكم بني عجل!
وتقول أيضًا تحضض الناس:
إن تهزموا نعانق ** ونفرش النمارق
أو تهربوا نفارق ** فراق غير وامق
فقاتلوهم بالجبابات يومًا. ثم عطش الأعاجم فمالوا إلى بطحاء ذي قار، فأرسلت إياد إلى بكر سرًا - وكانوا أعوانًا على بكر مع إياس بن قبيصة: أي الأمرين أعجب إلأيكم؟ أن نطير تحت ليلتنا فنذهب، أو نقيم ونفر حين تلاقوا القوم؟ قالوا: بل تقيمون، فإذا التقى القوم انهزمتم بهم. قال: فصبحتهم بكر بن وائل، والظعن واقفة يذمرن الرجال على القتال. وقال يزيد بن حمار السكوني - وكان حليفًا لبني شيبان -: يا بني شيبان، أطيعوني وأكمنوني لهم كمينًا. ففعلوا، وجعلوا يزيد بن حمار رأسهم فكمنوا في مكان من ذي قار، يسمى إلى اليوم الجب، فاجتلدوا، وعلى ميمنة إياس بن قبيصة الهامرز، وعلى مسيرته الجلابزين، وعلى ميمنة هانىء بن قبيصة رئيس بكر بن يزيد بن مسهر الشيباني، وعلى مسيرته حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي، وجعل الناس يتحاضون ويرجزون، فقال حنظلة بن ثعلبة:
قد شاع أشياعكم فجدوا ** ما علتي وأنا مؤدٍ جلد!
والقوس فيها وترٌ عرد ** مثل ذراع البكر أو أشد
قد جعلت أخبار قومي تبدو ** إن المنايا ليس منها بد
هذا عميرٌ تحته ألد ** يقدمه ليس له مرد
حتى يعود كالكميت الورد ** خلوا بني شيبان واستبدوا
نفسي فداكم وأبي والجد
وقال حنظلة أيضًا:
يا قوم طيبوا بالقتال نفسًا ** أجدر يومٍ أن تفلوا الفرسا
وقال يزيد بن المكسر بن حنظلة بن ثعلبة بن سيار:
من فر منكم فر عن حريمه ** وجاره، وفر عن نديمه
أنا ابن سيارٍ على شكيمه ** إن الشراك قد من أديمه
وكلهم يجري على قديمه ** من قارح الهجنة أو صميمه
قال فراس: ثم صيروا الأمر بعد هانىء إلى حنظلة، فمال إلى مارية ابنته - وهي أم عشرة نفر؛ أحدهم جابر بن أبجر - فقطع وضينها فوقعت إلى الأرض وقطع وضن النساء، فوقعن إلى الأرض، ونادت ابنة القرين الشيبانية حين وقعت النساء إلى الأرض:
ويهًا بني شيبان صفًا بعد صف ** إن تهزموا يصبغوا فينا القلف
فقطع سبعمائة من بني شيبان أيدي أقبيتهم من قبل مناكبهم؛ لأن تخف أيديهم بضرب السيوف، فجالدوهم.
قال: ونادى الهامرز: مرد مرد، فقال برد بن حارثة اليشكري: ما يقول؟ قالوا: يدعوا إلى البراز رجل ورجل، قال: وأبيكم لقد أنصف. فبرز له فقتله برد، فقال سويد بن أبي كاهل:
ومنا بريدٌ إذ تحدى جموعكم ** فلم تقربوه المرزبان المسورا
أي لم تجعلوه. ونادى حنظلة بن ثعلبة بن سيار: يا قوم لا تقفوا لهم فيستغرقكم النشاب، فحملت ميسرة بكر وعليها حنظلة على ميمنة الجيش، وقد قتل برد منهم رئيسهم الهامرز، وحملت ميمنة بكر وعليها يزيد بن مسهر عبلى ميسرة الجيش، وعليهم جلابزين، وخرج الكمين من جب ذي قار من ورائهم، وعليهم يزيد بن حمار، فشدوا على قلب الجيش، وفيهم إياس ابن قبيصة، وولت إياد منهزمة كما وعدتهم، وانهزمت الفرس.
قال سليط: فحدثنا أسراؤنا الذين كانوا فيهم يومئذ، قالوا: فلما التقى الناس، ولت بكر منهزمة، فقلنا: يريدون الماء. فلما قطعوا الوادي فصاروا من ورائه، وجاوزوا الماء. قلنا: هي الهزيمة، وذاك في حر الظهيرة وفي يوم قائظ، فأقبلت كتيبة عجل كأنهم طن قصب، لا يفوت بعضهم بعضًا، لا يمعنون هربًا، ولا يخالطون القوم. ثم تذمروا فزحفوا فرموهم بجباههم، فلم تكن إلا إياها، فأمالوا بأيديهم، فولوا، فقتلوا الفرس ومن معهم؛ ما بين بطحاء ذي قار، حتى بلغوا الراخصة.
قال فراس: فخبرت أنه تبعه تسعون فارسًا، ولم ينظروا إلى سلب ولا إلى شيء حتى تعارفوا بأدم موضع قريب من ذي قار، فوجد ثلاثون فارسًا من بني عجل، ومن سائر بكر ستون فارسًا، وقتلوا جلابزين؛ قتله حنظلة بن ثعلبة. وقال ميمون بن قيس يمدح بني شيبان خاصة في قوله:
فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي ** وراكبها يوم اللقاء، وقلت
هم ضربوا بالحنو، حنو قراقرٍ ** مقدمة الهامرز حتى تولت
وأفلتنا قيسٌ وقلت لعله ** هنالك لو كانت به النعل زلت
فهذا يدل على أن قيسًا قد شهد ذا قار.
وقال بكير، أصم بني الحارث بن عباد، يمدح بني شيبان:
إن كنت ساقية المدانة أهلها ** فاسقي على كرمٍ بني همام
وأبا ربيعة كلها ومحلمًا ** سبقًا بغاية أمجد الأيام
ضربوا بني الأحرار يوم لقومهم ** بالمشرفي على مقيل الهام
عربًا ثلاثة آلفٍ وكتيبةً ** ألفين أعجم من بني الفدام
شد ابن قيس شدةً ذهبت لها ** ذكرى له في معرقٍ وشآم
عمروٌ وما عمروٌ بقحمٍ دالهٍ ** فيها، ولا غمرٍ ولا بغلام
فلما مدح الأعشى والأصم بني شيبان خاصة غضبت اللهازم، فقال أبو كلبة، أحد بني قيس يؤنبها بذلك:
جدعتما شاعري قوم أولى حسبٍ ** حزت أنوفهما حزًا بمنشار
أعني الأصم وأعشانا إذا اجتمعا ** فلا استعانا على سمعٍ بإبصار
لو لا فوارس لا ميلٌ ولا عزلٌ ** من اللهازم ما قاظوا بذي قار
نحن أتيناهم من عند أشملهم ** كما تلبس ورادٌ بصدار؟
قال أبو عمرو بن العلاء: فلما بلغ الأعشى قول أبي كلبة، قال: صدق. وقال معتذرًا مما قال:
متى يقرن أصم بحبل أعشى ** يتيها في الضلال وفي الخسار
فلست بمبصرٍ ما قد يراه ** وليس بسامعٍ أبدًا حواري
وقال الأعشى في ذلك اليوم:
أتانا عن بني الأحرا ** ر قولٌ لم يكن أمما
أرادوا نحت أنلتنا ** وكنا نمنع الخطما
وقال أيضًا لقيس بن مسعود:
أقيس بن مسعود بن قيسٍ بن خالدٍ ** وأنت امرؤٌ ترجو شبابك وائل
أتجمع في عامٍ غزاةٍ ورحلةً ** ألا ليت قيسًا غرقته القوابل!
وقال أعشى بني ربيعة:
ونحن غداة ذي قارٍ أقمنا ** وقد شهد القبائل محلبينا
وقد جاءوا بها جأواء فلقًا ** ململمة كتائبها طحونا
ليوم كريهةٍ حتى تجلت ** ظلال دجاه عنا مصلتينا
فولونا الدوابر واتقونا ** بنعمان بن زرعة أكتعينا
وذدنا عارض الأحرار وردًا ** كما ورد القطا الثمد المعينا
ذكر من كان على ثغر العرب من قبل ملوك الفرس بالحيرة بعد عمرو بن هند
قد مضى ذكرنا من كان يلي ذلك من قبل ملوك الفرس من آل نصر ابن ربيعة إلى حين هلاك عمرو بن هند، وقدر مدة ولاية كل من ولي منهم ذلك، ونذكر الآن من ولي ذلك لهم بعد عمرو بن هند، إلى أن ولي ذلك لهم النعمان بن المنذر، والذي ولي لهم ذلك بعد عمرو بن هند أخوه قابوس بن المنذر، وأمه هند ابنة الحارث بن عمرو، فولي ذلك أربع سنين؛ من ذلك في زمن أنوشروان ثمانية أشهر، وفي زمن هرمز بن أنوشروان ثلاث سنين وأربعة أشهر.
ثم ولي بعد قابوس بن المنذر السهرب.
ثم ولي بعده المنذر أبو النعمان أربع سنين.
ثم ولي بعده النعمان بن المنذر أبو قابوس اثنتين وعشرين سنة، من ذلك زمن هرمز بن أنوشروان سبع سنين وثمانية أشهر، وفي زمن كسرى أبرويز ابن هرمز أربع عشرة سنة وأربعة أشهر.
ثم ولي إياس بن قبيصة الطائي ومعه النخيرجان، تسع سنين في زمن كسرى ابن هرمز. ولسنة وثمانية أشهر من ولاية إياس بن قبيصة بعث النبي فيما زعم هشام بن محمد.
ثم استخلف آزاذبه بن هامان بن مهر بنداذ الهمذاني سبع عشرة سنة، من ذلك في زمن كسرى بن هرمز أربع عشرة سنة وثمانية أشهر، وفي زمن شيرويه بن كسرى ثمانية أشهر، وفي زمن أردشير بن شيرويه سنة وسبعة أشهر، وفي زمن بوران دخت بنت كسرى شهرًا ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر - وهو الذي تسميه العرب الغرور، الذي قتل بالبحرين يوم جؤاثى، إلى أن قدم خالد بن الوليد الحيرة - ثمانية شهر.
فكان آخر من بقي من آل نصر بن ربيعة، فانقرض أمرهم مع زوال ملك فارس.
فجميع ملوك آل نصر - فيما زعم هشام - ومن استخلف من العباد والفرس عشرون ملكًا. قال: وعدة ما ملكوا خمسمائة سنة واثنتان وعشرون سنة وثمانية أشهر.
رجع الحديث إلى ذكر المرزان وولايته اليمن، من قبل هرمز وابنه أبرويز، ومن وليها بعده: حدثت عن هشام بن محمد، قال: عزل هرمز بن كسرى وين عن اليمن، واستعمل مكانه المروزان، فأقام باليمن، حتى ولد له بها، وبلغ ولده. ثم إن أهل جبل من جبال اليمن يقال له المصانع خالفوه، وامتنعوا من حمل الخراج إليه - والمصانع جبل طويل ممتنع، إلى جانبه جبل آخر قريب منه، بينهما فضاء ليس بالبعيد، إلا أنه لا يرام ولا يطمع فيه - فسار المروزان إلى المصانع، فلما انتهى إليه نظر إلى جبل لا يطمع في دخوله إلا من باب واحد، يمنع ذلك الباب رجل واحد؛ فلما رأى أن لا سبيل له إليه، صعد الجبل الذي يحاذي حصنهم، فنظر إلى أضيق مكان منه وتحته هواء ذاهب، فلم ير شيئًا أقرب إلى افتتاح الحصن من ذلك الموضع، فأمر أصحابه أن يصطفوا له صفين، ثم يصيحوا به صيحة واحدة، وضرب فرسه فاستجمع حضرًا، ثم رمى به فوثب المضيق، فإذا هو على رأس الحصن. فلما نظرت إليه حمير وإلى صنيعه قالوا: هذا أيم - والأيم بالحميرية شيطان - فانتهرهم وزبرهم بالفارسية، وأمرهم أن يكتف بعضهم بعضًا، فاستنزلهم من حصنهم، وقتل طائفة منهم وسبى بعضهم، وكتب بالذي كان من أمره إلى كسرى ابن هرمز. فتعجب من صنيعه، وكتب إليه: أن استخلف من شئت، وأقبل إلي.
قال: وكان للمرزوان ابنان: أحدهما تعجبه بالعربية، ويروي الشعر؛ يقال له خر خسرة، والآخر أسوارٌ يتكلم بالفارسية، ويتدهقن، فاستخلف المرزوان ابنه خر خسرة - وكان أحب ولده إليه - على اليمن، وسار حتى إذا كان في بعض بلاد العرب هلك، فوضع في تابوت، وحمل حتى قدم به على كسرى، فأمر بذلك التابوت فوضع في خزانته، وكتب عليه في هذا التابوت: فلان الذي صنع كذا وكذا، قصته في الجبلين. ثم بلغ كسرى تعرب خر خسرة وروايته الشعر، وتأدبه بأدب العرب، فعزله، وولى باذان، وهو آخر من قدم اليمن من ولاة العجم.
وكان كسرى قد طغى لكثرة ما قد جمع من الأموال وأنواع الجوهر والأمتعة والكراع وافتتح من بلاد العدو، وساعده من الأمور، ورزق من مؤاتاته، وبطر، وشره شرها فاسدًا، وحسد الناس على ما في أيديهم من الأموال، فولى جباية البقايا علجًا من أهل قرية تدعى خندق من طسوج بهرسير؛ يقال له: فرخزاذ بن سمي، فسام الناس سوء العذاب، وظلمهم واعتدى عليهم، وغصبهم أموالهم في غير حلة، بسبب بقايا الخراج، واستفسدهم بذلك، وضيق عليهم المعاش، وبغض إليهم كسرى وملكه.
وحدثت عن هشام بن محمد، أنه قال: كان أبرويز كسرى هذا قد جمع من الأموال ما لم يجمع أحدٌ من الملوك، وبلغت خيله القسطنطينية وإفريقية، وكان يشتو بالمدائن، ويتصيف ما بينها وبين همذان، وكان يقال: إنه كانت له اثنتا عشرة ألف امرأة وجارية، وألف فيل إلا واحدًا، وخمسون ألف دابة بين فرس وبرذون وبغل، وكان أرغب الناس في الجوهر والأواني وغير ذلك.
وأما غير هشام فإنه قال: كان له في قصره ثلاثة آلاف امرأة يطؤهن، وألوف جوارٍ اتخذهن للخدمة والغناء وغير ذلك، وثلاثة آلاف رجل يقومون بخدمته، وكانت له ثمانية آلاف وخمسمائة دابة لمركبه، وسبعمائة وستون فيلًا، واثنا عشر ألف بغل لثقله، وأمر فبنيت بيوت النيران، وأقام فيها اثني عشر ألف هربذ للزمزمة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)