وقيل: إن امرأة لباغر كانت مطلقة منه، سعت إلى أم المستعين وإلى بغا بذلك، وبكّر دليل إلى بغا، وحضر وصيف إلى منزل بغا ومع وصيف أحمد بن صالح كاتبه؛ فاتفق رأيهم على أخذ باغر واثنين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم فيهم، فأحضروا باغر، فأقبل في عدة حتى دخل الدار إلى بغا.
فذكر عن بشر بن سعيد المرثدي أنه قال: كنت حاضرًا دخوله، فمنع من الوصول إلى بغا ووصيف، وعُطف به إلى حمام لبغا، ودعي له بالقيود؛ فامتنع عليهم؛ فحبسوه في الحمام؛ وبلغ ذلك الأتراك في الهاروني والكرخ والدور، فوثبوا على إسطبل السلطان، فأخذوا ما كان فيه من الدواب فانتهبوها وركبوها، وحضروا الجوسق بالسلاح؛ فلما أمسوا أمر وصيف وبغا رشيد بن سعاد أخت وصيف أن يقتل باغر، فأتاه في عدة؛ فشدخوه بالطبرزينات حتى أسكنوه؛ فلما علم المستعين باجتماعهم، ركب ووصيف وبغا حراقة، وصاروا إلى دار وصيف جميعًا، وتراكض الناس يومهم - وهو يوم الثلاثاء وليلته - بالسلاح جائين وذاهبين؛ فقال لهم وصيف: ترفقوا حتى تنظروا؛ فإن ثبتوا على المقاومة رمينا إليهم برأسه. فلما انتهى قتله إلى الأتراك المشغبة، أقاموا على ما هم عليه من الشغب حتى عملوا أن المستعين وبغا ووصيف قد انحدروا إلى بغداد؛ وقد كان وصيف أعطى قومًا من المغاربة فرسانًا ورجالة السلاح والرماح، ووجه بهم إلى هؤلاء المشغبة، وبعث إلى الشاكرية أن يكونوا على عدة إن احتيج إليهم، وسكن الناس عند الظهر، وهدأت الأمور؛ وقد كان عدةٌ من قواد الأتراك صاروا إلى هؤلاء المشغبين وسألوهم الانصراف، فقالوا: يوق يوق، أي لا لا.
فذكر عن بشر بن سعيد عن جامع بن خالد - وكان أحد خلفاء وصف من الأتراك - أنه كان المتولى مخاطبتهم مع عدة ممن يعرف التركية، فأعلموهم أن المستعين وبغا ووصيف قد خرجوا إلى بغداد، فأظهروا التندم، وانصرفوا منكسرين؛ فلما انتشر الخبر بخروج المستعين صار الأتراك إلى دور دليل بن يعقوب ودور أهل بيته ممن قرب منه وجيرانه؛ فانتبهوا ما فيها حتى صاروا إلى الخشب والدروندات؛ وقتلوا ما قدروا عليه من البغال، وانتهبوا علف الدواب والخمر التي في خزانة الشراب؛ ودفع عن دار سلمة بن سعيد النصراني جماعة كان وكلهم بها؛ من المصارعين وغيرهم من جيرانهم، ومنعوهم من دخول الدار؛ لأنهم أرادوا دار إبراهيم بن مهران النصراني العسكري، فدفعوهم عنها، وسلم سلمة وإبراهيم من النهب.
وقال في قتل باغر والفتنة التي هاجت بسببه بعض الشعراء، ذكر أن قائله أحمد بن الحارث اليمامي:
لعمري لئن قتلوا باغرًا ** لقد هاج باغر حربًا طحونا
وفرّ الخليفة والقائدا ** ن بالليل يلتسمان السفينا
وصاحوا بميسان ملاحهم ** فجاءهم يسبق الناظرينا
فألزمهم بطن حراقةٍ ** وصرت مجاذيفهم سائرينا
وما كان قدر ابن مارمةٍ ** فتسكب فيه الحروب الزبونا
ولكن دليلٌ سعى سعيةً ** فأخزى الإله بها العالمينا
فحل ببغداد قبل الشروق ** فحل بها منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ** وغرقها الله والراكبينا
وأقبلت الترك والمغربون ** وجاء الفراغنة الدارعونا
تسير كراديسهم في السلاح ** يروحون خيلًا ورجلًا ثبينا
فقام بحربهم عالمٌ ** بأمر الحروب تولاه حينا
فجدد سورًا على الجانب ** ين حتى أحاطهم أجمعينا
وأحكم أبوابها المصمتات ** على السور بها المستعينا
وهيا مجانيق خطارةً ** تفيت النفوس وتحمي العرينا
وعبى فروضًا وجيشية ** ألوف ألوفٍ إذ تحسبونا
وعبى المجانيق منظومةً ** على السور حتى أغار العيونا
فذكر أنهم لما قدموا بغداد اعتل ابن مارمة، فعاده دليل بن يعقوب، فقال له، ما سبب علتك؟ قال: عقر القيد انتقض علي، فقال دليل: لئن عقرك القيد؛ لقد نقضت الخلافة، وبعثت فتنة. ومات ابن مارمة في تلك الأيام؛ فقال أبو علي اليمامي الحنفي في شخوص المستعين إلى بغداد:
ما زال إلا لزوال ملكه ** وحتفه من بعده وهلكه
ومنع الأتراك الناس من الانحدار إلى بغداد، فذكر أنهم أخذوا ملاحًا قد أكرى سفينته، فضربوه مائتي سوط، وصلبوه على دقل سفينته، فامتنع أصحاب السفن من الانحدار إلا سرًا أو بمؤنة ثقيلة.
وقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان
وفي هذه السنة هاجت الفتنة ووقعت الحرب بين أهل بغداد وجند السلطان الذين كانوا بسامرا، فبايع كل من كان بسامرا منهم المعتز، وأقام من ببغداد منهم على الوفاء ببيعة المستعين.
ذكر الخبر عن سبب هيج هذه الفتنة وسبب بيعة من كان بسامرا من الجند المعتز وخلعهم المستعين ونصبهم الحرب لمن أقام على الوفاء ببيعته
قال أبو جعفر: قد ذكرنا قبل موافاة المستعين وشاهك الخادم ووصيف وبغا وأحمد بن صالح بن شيرزاد بغداد؛ وكانت موافاتهم إياها يوم الأربعاء لثلاث ساعات مضين من النهار لأربعة أيام - وقيل لخمسة أيام - خلون من المحرم من هذه السنة؛ فلما وافاها، نزل المستعين على محمد ين بن عبد الله بن طاهر في داره، ثم وافى بغداد خليفة لوصيف على أعماله، يعرف بسلام؛ فاستعلم ما عنده، ثم انصرف راجعًا إلى منزله بسامرا، فوافى القواد خلا جعفر الخياط وسليمان بن يحيى بن معاذ بغداد مع جلة الكتاب والعمال وبني هاشم، ثم وافى بعد ذلك من قواد الأتراك الذين في ناحية وصيف كلباتكين القائد وطيغج الخليفة، تركي، وابن عجوز الخليفة، نسائي؛ وممن في ناحية بغا بايكباك القائد من غلمان الخدمة مع عدة من خلفاء بغا.
وكان - فيما ذكر - وجّه إليهم وصيف وبغا قبل قدومهم رسولًا، يأمرانهم أن يصيروا إذا قدموا بغداد إلى الجزيرة التي حذاء دار محمد بن عبد الله بن طاهر، ولا يصيروا إلى الجسر، فيرعبوا العامة بدخولهم، ففعلوا وصاروا إلى الجزيرة، فنزلوا عن دوابهم، فوجهت إليهم زواريق حتى عبروا فيها، فصعد كلباتكين وبايكباك والقواد من أهل الدور وأرناتجور التركي، فدخلوا على المستعين، فرموا بأنفسهم بين يديه، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللًا وخضوعًا، وكلموا المستعين وسألوه الصفح عنهم والرضا، فقال لهم: أنتم أهل بغي وفساد واستقلال للنعم؛ ألو ترفعوا إلي في أولادكم، فألحقتهم بكم؛ وهم نحو من ألفي غلام، وفي بناتكم فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات وهن نحو من أربعة آلاف امرأة في المدركين والمولودين! وكل هذا قد أجبتكم إليه، وأدررت لكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضة، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها؛ كل ذلك إرادةً لصلاحكم ورضاكم؛ وأنتم تزدادون بغيًا وفسادًا وتهددًا وإبعادًا!.
فتضرعوا، وقالوا: قد أخطأنا، وأمير المؤمنين الصادق في كل قوله، ونحن نسأله العفو عنا والصفح عن زلتنا! فقال المستعين: قد صفحت عنكم ورضيت؛ فقال له بايكباك: فإن كنت قد رضيت عنا وصفحت، فقم فاركب معنا إلى سامرا؛ فإن الأرتاك ينتظرونك؛ فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكن في حلق بايكباك. وقال له محمد بن عبد الله: هكذا يقال لأمير المؤمنين؛ قم فاركب معنا! فضحك المستعين من ذلك. وقال: هؤلاء قوم عجم؛ ليس لهم معرفة بحدود الكلام. وقال لهم المستعين، تصيرون إلى سامرا؛ فإن أرزاقكم دارة عليكم، وأنظر في أمري ها هنا ومقامي.
فانصرفوا آيسين منه، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله، وأخبروا من وردوا عليه من الأتراك خبرهم، وخالفوا فيما رد عليهم تحريضًا لهم على خلعه والاستبدال به، وأجمع رأيهم على إخراج المعتز والبيعة له؛ وكان المعتز والمؤيد في حبس في الجوسق في حجرة صغيرة، مع كل واحد منهما غلام يخدمه؛ موكلٌ بهم رجل من الأتراك يقال له عيسى خليفة بليار ومعه عدة من الأعوان، فأخرجوا المعتز من يومهم، فأخذوا من شعره، وقد كان بويع له بالخلافة؛ وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة، فلم يتم المال، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم.
وكان المستعين خلف بسامرا في بيت المال مما كان طمجور وأساتكين القائدان قدما به من ناحية الموصل من مال الشأم نحوًا من خمسمائة ألف دينار؛ وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار، وفي بيت مال العباس بن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار؛ فذكر أن نسخة البيعة التي أخذت:
بسم الله الرحمن الرحيم. تبايعون عبد الله الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين بيع طوع واعتقاد، ورضًا ورغبة وإخلاص من سرائركم، وانشراح من صدوركم، وصدق من نياتكم؛ لا مكرهين ولا مجبرين؛ بل مقرين عالمين بما في هذه البيعة وتأكيدها من تقوى الله وإيثار طاعته، وإعزاز حقه ودينه؛ ومن عموم صلاح عباد الله واجتماع الكلمة، ولم الشعث، وسكون الدهماء، وأمن العواقب، وعز الأولياء، وقمع الملحدين؛ على أن أبا عبد الله المعتز بالله عبد الله وخليفته المفترض عليكم طاعته ونصيحته والوفاء بحقه وعهده؛ لا تشكون ولا تدهنون، ولا تميلون ولا ترتابون، وعلى السمع والطاعة، والمشايعة والوفاء، والاستقامة والنصيحة في السر والعلانية، والخفوف والوقوف عند كل ما يأمر به عبد الله وأبو عبد الإمام المعتز بالله أمير المؤمنين؛ من موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه؛ من خاص وعام، وقريب وبعيد، متمسكين ببيعته بوفاء العقد وذمة العهد؛ سرائركم في ذلك كعلانيتكم، وضمائركم فيه كمثل ألسنتكم، راضين بما يرضى يه أمير المؤمنين بعد بيعتكم هذه على أنفسكم، وتأكيدكم إياها في أعناقكم صفقةً، راغبين طائعين؛ عن سلامة من قلوبكم وأهوائكم ونياتكم، وبولاية عهد المسلمين لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين، وعلى ألا تسعوا في نقض شيء مما أكد عليكم، وعلى ألا يميل بكم في ذلك مميل عن نصرة وإخلاص وموالاة؛ وعلى ألا تبدلوا ولا تغيروا، ولا يرجع منكم راجع عن بيعته وانطوائه على غير علانيته؛ وعلى أن تكون بيعتكم التي أعطيتموها بألسنتكم وعهودكم بيعةً يطلع الله من قلوبكم على اجتبائها واعتمادها. وعلى الوفاء بذمة الله فيها، وعلى إخلاصكم في نصرتها وموالاة أهلها؛ لا يشوب ذلك منكم نفاق ولا إدهان ولا تأول؛ حتى تلقوا الله موفين بعهده، مؤدين حقه عليكم، غير مستريبين ولا ناكثين؛ إذ كان الذين يبايعون منكم أمير المؤمنين بيعة خلافته وولاية العهد من بعده لإبراهيم المؤيد بالله أخي أمير المؤمنين: " إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرًا عظيمًا ".
عليكم بذلك وبما أكدت عليكم به هذه البيعة في أعناقكم، وأعطيتم بها من صفقة أيمانكم، وبما اشترط عليكم من وفاء ونصرة، وموالاة واجتهاد. وعليكم عهد الله إن عهده كان مسئولا، وذمة الله عز وجل وذمة محمد ، وما أخذ الله على أبيائه ورسله، وعلى أحد من عباده من مواكيده ومواثيقه؛ أن تسمعوا ما أخذ عليكم في هذه البيعة ولا تبدلوا ولا تميلوا، وأن تمسكوا بما عاهدتم الله عليه تمسك أهل الطاعة بطاعتهم، وذوي الوفاء والعهد بوفائهم، ولا يلفتكم عن ذلك هوى ولا ميلٌ، ولا يزيغ قلوبكم فتنة أو ضلالة عن هدىً، باذلين في ذلك أنفسكم واجتهادكم، ومقدمين فيه حق الدين والطاعة والوفاء بما جعلتم على أنفسكم؛ لا يقبل الله منكم في هذه البيعة إلّا الوفاء بها.
فمن نكث منكم ممّ بايع أمير المؤمنين وولّى عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين هذه البيعة على ما أخذ عليكم، مسرًّا أو معلنًا، مصرّحًا أو محتالًا أو متأوّلًا؛ وادّهن فيما أعطى الله من نفسه، وفيما أخذ عليه من مواثيق الله وعهوده، وزاغ عن السبيل التي يعتصم بها أولو الرأي؛ فكلّ ما يملك كلّ واحد منكم ممن خير في ذلك منكم عهده، من مال أو عقار أو سائمة أو زرع أو ضرع صدقةٌ على المساكين في وجوه سبيل الله، محبوس محرّم عليه أن يرجع شيئًا من ذلك إلى ماليه؛ عن حيلة يقدمها لنفسه، أو يحتال له بها؛ وما أفاد في بقية عمره من فائدة مال يقلّ خطرها أو يجلّ؛ فذلك سبيلها، إلى أن توافيه منيّته، ويأتي عليه أجله. وكلّ مملوك يملكه اليوم وإلى ثلاثين سنة؛ ذكر أو أنثى، أحرار لوجه الله، ونساؤه يوم يلزمه فيه الحنث ومن يتزوّج بعدهنّ إلى ثلاثين سنة طوالق طلاق الحرج؛ لا يقبل الله منه إلا الوفغاء بها؛ وهو بريء من الله ورسوله، والله ورسوله منه بريئان؛ ولا قبل الله منه صرفًا ولا عدلًا؛ والله عليكم بذلك شهيد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأحضر - فيما ذكر - البيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه النقرس محمولًا في محفّة؛ فأمر بالبيعة فامتنع؛ وقال للمعتزّ: خرجت إلينا خروج طائع فخلعتها، وزعمت أنك لا تقوم بها؛ فقال المعتز: أكرهت على ذلك وخفت السيف. فقال أبو أحمد: ما علينا أنك أكرهت؛ وقد بايعنا هذا الرجل؛ فتريد أن نطلّق نساءنا، ونخرج من أموالنا، ولا ندري ما يكون! إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس؛ وإلا فهذا السيف. فقال المعتزّ اتركوه، فردّ إلى منزله من غير بيعة.
وكان مم بايع إبراهيم الديرج وعتذاب بن عتّاب، فهرب فصار إلى بغداد، وأما الديرج فخلع عليه، وأقرّ على الشرطة، وخلع على سليمان بن يسار الكاتب، وصيّر على ديوان الضياع، وأقام يومه يأملار وينهى وينفّذ الأعمال، ثم توارى في الليل، وصار إلى بغداد.
ولما بايع الأتراك المعتزّ ولىّ عما له، فولّى سعيد بن صالح الشرطة، وجعفر ابن دينار الحرس، وجعفر بن محمود الوزارة، وأبا الحمار ديوان الخراج؛ ثم عزل وجعل مكانه محمد بن براهيم منقار، وولى ديوان جيش الأتراك المعروف بأبي عمر، كاتب سيما الشرابي، وولّى مقلّدًا كيد الكلب أخا أبي عمر بيوت الأموال وإعطاء الأتراك والمغاربة والشاكريّة، وولّى بريد الآفاق والخاتم سيما السارباني، واستكتب أبا عمر؛ فكان في حدّ الوزارة.
ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر البيعة للمعتزّ وتوجيه العمال، أمر بقطع الميرة عن أهل سامرّا، وكتب إلى مالك بن طوق في المصير إلى بغداد هو وم معه من أهل بيته وجنده، وإلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في جمع أهل بيته ومنع الشسفن أو شيء من الميرة أن ينحدر إلى سامرّا، ومنع أن يصعد شيء من الميرة من بغداد إلى سامرا، وأخذت سفينة فيها أرز وسقط، فهرب الملاح منها وبقيت السفينة حتى غرقت، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر بتحصين بغداد؛ فتقدم في ذلك؛ فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء حتى أورده دجلة وم دجلة من باب قطيعة أم جعفر، حتى أورده قصر جميد بن عبد الحميد، ورتب على كل باب قائدًا في جماعة من أصحابه وغيرهم وأمر بحفر الخنادق حول السورين كما يدوران في الجانبين جميعًا ومظلات يأوي إليها الفرسان في الحر والأمطار؛ فبلغت النفقة - فيما ذكر - على السورين وحفر الخنادق والمظلات ثلثمائة ألف دينار وثلاثين ألف دينار؛ وجعل على باب الشماسية خمس شداخات بعرض الطريق؛ فيها العوارض والألواح والمسامير الطوال الظاهرة، وجعل من خارج الباب الثاسي باب معلق بمقدار الباب ثخين، قد ألبس بصفائح الحديد، وشد بالحبال كي إن وافى أحدٌ ذلك الباب أرسل عليه الباب المعلق، فقتل من تحته، وجعل على الباب الداخل عرادة، وعلى الباب الخارج خمسة مجانيق كبار؛ وفيها واحدٌ كبير سموة الغضبان، وست عرادات ترمى بها إلى ناحية رقة الشماسية؛ وصير على باب البردان ثماني عرادات، في كل ناحية أربع، وأربع شداخات وكذلك على كل باب من أبواب بغداد في الجانب الشرقي والغربي، " وجعل على كل باب من أبوابها قوادًا برجالهم " وجعل لكل باب من أبوابها دهليزًا بسقائف تسع مائة فارس ومائة راجل؛ ولكل منجنيق وعرادة رجالًا مرتبين يمدون بحباله. وراميًا يرمي إذا كان القتال. وفرض فروضًا ببغداد ومر قوم من أهل خراسان قدموا حجاجًا، فسألوا المعونة على قتال الأتراك فأعينوا. وأمر محمد بن عبد الله بن طاهر أن يفرض من العيارين فرض، وأن يجعل عليهم عريف، ويعمل لهم تراس من البواري المقيرة، وأن يعمل لهم مخال تملأ حجارة. ففعل ذلك وتولى - فيما ذكر - عمل البواري المقيرة محمد بن أبي عون. وكان الرجل منهم يقوم خلف البارية فلا يرى منها. عملت نسائجات، أنفق عليها زيادة على مائة دينار، وكان العريف على أصحاب البواري المثيرة من العيارين رجلًا يقال له ينتويه. وكان الفراغ من عمل السور يوم الخميس لسبع بقين من المحرم.
وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة وموضع أن يكون حملهم ما يحملون من الأموال إلى السلطان إلى بغداد، ولا يحملون إلى سامرا شيئًا؛ وإلى عماب المعاون في رد كتب الأتراك. وأمر بالكتاب إلى الأتراك والجند الذين بسامرا يأمرهم بنقض بيعة المعتز ومراجعة الوفاء ببيعتهم إياه، ويذكرهم أياديه عندهم، وينهاهم عن معصيته ونكث بيعته؛ وكان كتابه بذلك إلى سيما الشرابي.
ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله بن طاهر مكاتبات ومراسلات يدعو المعتز محمدًا إلى الدخول فيما دخل فيه من بايعه بالخلافة وخلع المستعين ويذكره ما كان أبوه المتوكل أخذ له عليه بعد أخيه المنتصر من العهد وعقد الخلافة، ودعوة محمد بن عبد الله المعتز إلى ما عليه من الأوبة إلى طاعة المستعين، واحتجاج كل واحد منهما على صاحبه فيما يدعوه إليه من ذلك بما يراه حجة له؛ تركت ذكرها كراهة الإطالة بذكرها.
وأمر محمد بن عبد الله بكسر القناطير وبثق المياه بطسوج الأنبار وما قرب منه من طسوج بادرويا، ليقطع طريق الأتراك حين تخوف من ورودهم الأنبار. وكان الذي تولى ذلك نجوبة بن قيس ومحمد بن حمد بن منصور السعدي. وبلغ محمد بن عبد الله توجيه الأتراك لاستقبال الشمسة التي كانت مع البينوق الفرغاني من يحميها من أصحابه. فوجه محمد ليلة الأربعاء لعشر بقين من المحرم خالد بن عمران وبندار الطبري إلى ناحية الأنبار.
ثم وجه بعدها رشيد بن كاوس، فصادفوا البينوق ومن معه من الأتراك والمغاربة، وطالبهم خالد بن وبندار بالشمسة فصار البينوق وأصحابه مع خالد وبندار إلى بغداد إلى المستعين.
وكان محمد بن الحسن بن جياويه الكردي يتولى معونة عكبراء؛ وكان على الراذان رجل من المغاربة قد اجتمع عنده مال، فتوجه إليه ابن جيلويه، ودعاه إلى حمل مال الناحية، فامتنع عليه، ونصب له الحرب؛ فأسر ابن جيلويه المغربي، وحمله إلى باب محمد بن عبد الله ومعه من مال الناحية اثنا عشر ألف دينار وثلاثون ألف درهم، فأمر محمد بن عبد الله لابن جيلويه بعشرة آلاف درهم. وكتب كل ولاحد من المستعين والمعتز إلى موسى بغا وهو مقيم بأطراف الشام قرب الجزيرة وكان خرج إلى حمص لحرب بأهلها - يدعوه إلى نفسه، وبعث كلّ واحد منهما إليه بعدة ألوية يعقدها لمن أحب ويأمره المستعين بالإنصراف إلى مدينة السلام، ويستخلف على عمله من رأى فانصرف إلى المعتز وصار معه. وقدم عبد الله بن بغا الصغير بغداد على أبيه؛ وكان قد تخلف بسامرا حين خرج أبوه منها مع المستعين، وصار إلى المستعين، فاعتذر إليه وقال لأبيه: إنما قدمت إليك لأموت تحت ركابك. وأقام ببغداد أيامًا، ثم استأذن ليخرج إلى قرية بقرب بغداد على طريق الأنبار، فأذن له؛ فأقام فيها إلى الليل، ثم هرب من تحت ليلته، فمضى في الجانب الغربي إلى سامرا مجانيًا لأبيه وممالئًا عليه؛ واعتذر إلى المعتز من مصره إلى بغداد، وأخبره أنه إنما صار إليها ليعرف أخبارهم، وليصير إليه فيعرفه صحتها. فقبل ذلك منه، ورده إلى خدمته.
وورد الحسن بن الأفشين بغداد، فخلع عليه المستعين، وضم إليه من الأشروسنية وغيرهم جماعة كثيرة، وزاد في أرزاقه ستة عشر ألف درهم في كل شهر.
ولم يزل أسد بن داودسياه مقيمًا بسامرا، حتى هرب منها، فذكر أن الأتراك بعثوا في طلبه إلى ناحية الموصل والأننار والجانب الغربي في كل ناحية خمسين فارسًا، فوافى مدينة السلام؛ فدخل على محمد بن عبد الله فضم إليه من أصحاب إبراهيم الديرج مائة فارس ومائتي راجل، ووكله بباب الأنبار مع عبد الله بن موسى بن أبي خالد.
وعقد المعتز لأخيه أبي حمد بن المتوكل يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة - وهي سنة إحدى وخمسين ومائتين - على حرب المستعين وابن طاهر؛ وولاه ذلك، وضم إليه الجيش، وجعل إليه الأمر والنهي، وجعل التدبير إلى كلباتكين التركي، فعسكر بالقاطول في خمسة آلاف من الأتراك والفراعنة وألفين من المغاربة، وضم المغاربة إلى محمد بن راشد المغربي، فوافوا عكبراء ليلة الجمعة لليلة بقيت من المحرم؛ فصلى أبو أحمد ودعا للمعتز بالخلافة؛ وكتب بذلك نسخًا إلى المعتز؛ فذكر جماعة من أهل عكبراء أنهم رأوا الأتراك والمغاربة وسائر أتباعهم؛ وهم على خوف شديد، يرون أن محمد بن عبد الله قد خرج إليهم فسبقهم إلى حربهم، وجعلوا ينتبهون القرى ما بين عكبراء، وبغداد وأوانا وسائر القرى من الجانب الغربي، تخوفًا على أنفسهم وخلوا عن الغلات والضياع؛ فخربت الضياع، وانتهبت الغلات والأمتعة وهدمت المنازل، وسلب الناس في الطريق.
ولما وافى أبو أحمد عكبراء ومن معه خرج جماعة من الأتراك الذين كانوا مع بغا الشرابي بمدينة السلام من مواليه والمضمومين إليه، فهربوا ليلًا، فاجتازوا بباب الشماسية؛ وكان على الباب عبد الرحمن بن الخطاب، ولم يعلم بخبرهم؛ وبلغ محمد بن عبد الله ذلك، فأنكره عليه وعنقه، وتقدم في حفظ الأبواب وحراستها والنفقة على من يتولاها.
ولما وافى الحسن بن الأفشين مدينة السلام وكل بباب الشماسية.
ثم وافى أبو أحمد وعسكره الشماسيّة ليلة الأحد لسبع خلون من صفر، ومعه كاتبه محمد بن عبد الله بن بشر بن سعد المرثدي، وصاحب خبر العسكر من قبل المعتزّ الحسن بن عمرو بن قماش ومن قبله، صاحب خبر له يقال له جعفر بن أحمد البناتي، يعرف بابن الخبازة، فقال رجل من البصريتيّن كان في عسكره ويعرف بباذنجانة:
يا بني طاهر أتتكم جنود الل ** ه والموت بينها منثور
وجيوشٌ أما مهنّ أبو أحم ** د نعم المولى ونعم النصير
ولمّا صار أبو أحمد بباب الشماسيّة ولّى المستعين الحسين بن إسماعيل باب الشماسية، وصيّر من هناك من القواد تحت يده؛ فلم يزل مقيمًا هناك مدّة الحرب إلى أن شخص إلى الأنبار؛ فولّى مكانه إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم؛ ولثلاث عشرة مضت من صفر؛ صار إلى محمد بن عبد الله جاسوس له؛ فأعلمه أن أبا أحمد قد عبّى قومًا يحرقون ظلال الأسواق من جانبي بغداد، فكشطت في ذلك اليوم.
وذكر أن محمد بن عبد الله وجّه محمد بن موسى المنجم والحسين بن إسماعيل، وأمرهما أن يخرجا من الجانب الغربي، وأن يرتفعا حتى يجاوزا عسكر أبي أحمد ويجزرا: كم في عسكره؟ فزعم محمد بن موسى أنه حزرهم ألفى إنسان، معهم ألف دابة؛ فلما كان يوم الاثنين لعشر خلون من صفر وافت طلائع الأتراك إلى باب الشماسيّة، فوقفوا بالقرب منه؛ فوجّه محمد بن عبد الله الحسين بن إسماعيل والشاه بن ميكال وبندار الطبري فيمن معهم؛ وعزم على الركوب لمقاتلتهم، فانصرف إليه الشاه، فأعلمه أنه وافى بمن معه باب الشماسيّة.
فلمّا عاين الأتراك الأعلام والرايات وقد أقبلت نحوهم انصرفوا إلى معسكرهم؛ فانصرف الشاه والحسين، وترك محمد الركوب يومئذ.
فلمّا كان يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر عزم بن محمد بن عبد الله على توجيه الجيوش إلا القفص ليعرض جنده هنالك، ويرهب بذلك الأتراك؛ وركب معه وصيف وبغا في الدروع، وعلى محمد درع، وفوق الدرع صدرة من درع طاهر؛ وعليه ساعد حديد؛ ومضى معه بالفقهاء والقضاة، وعزم على دعائهم إلى الرجوع عمّا هم عليه من التمادي في الطغيان واللجاج والعصيان، وبعث يبذل لهم الأمان على أن يكون أبو عبد الله ولىّ العهد بعد المستعين؛ فإن قبلوا الأمان وإلّا باكرهم بالقتال يوم الأربعاء لاإثنتي عشرة ليلة تخلو من صفر؛ فمضى نحو باب قطربل، فنزل على شاطىء دجلة هو ووصيف وبغا، ولم يمكنه التقدّم لكثرة الناس؛ وعارضهم من جانب دجلة الشرقي محمد بن راشد المغربي.
ثم انصرف محمد؛ فلما كان من الغد وافته رسل عبد الرحمن بن الخطاب وجه الفلس وعلك القائد ومن معهما من القواد، يعلمونه أنّ القوم قد دنوا منهم، وأنهم قد رجعوا إلى عسكرهم إلى رقة الشماسيّة، فنزلوا وضربوا مضاربهم فأرسل إليهم ألا تبدءوهم، وإن قاتلوكم فلا تقتلوهم؛ وادفعوهم اليوم. فوافى باب الشماسية اثنا عشر فارسًا من عسكر الأتراك - وكان على باب الشماسية باب وسرب، وعلى السرب باب فوقف الإثنا عشر الفارس بإزاء الباب، وشتموا من عليه، ورموا بالسهام، ومن بباب الشماسية سكوت عنهم، فلما أكثروا أمر علك صاحب المنجنيق أن يرميهم؛ فرماهم فأصاب منهم رجلًا فقتله؛ فنزل أصحابه إليه، فحملوه وانصرفوا إلى عسكرهم بباب الشماسية. وقدم عبد الله بن سليمان خليفة وصيف التركي الموجه إلى طريق مكة لضبط الطريق مع أبي الساج في ثلثمائة رجل من الشاكرية، فدخل على محمد بن عبد الله، فخلع عليه خمس خلع، وعلى الآخر ممن معه أربع خلع.
ودخل أيضًا في هذا اليوم رجل من الأعراب من أهل الثعلبية يطلب الفرض معه خمسون رجلًا، وورد الشاكرية القادمون من سامرا من قيادات شتى؛ وهم أربعون رجلًا، فأمر بإعطائهم وإنزالهم فأعطوا.
ووافى الأتراك في هذا اليوم باب الشماسية، فرموا بالسهام والمجنيق والعرادات؛ وكان بينهم قتلى وجرحى كثير؛ وكان الأمير الحسين بن إسماعيل لمحاربتهم، ثم أمدّ بأربعمائة رجلمن الملطيينّ مع رجل يعرف بأبي السنا الغنوي " وهو ابن أخت الهيثم الغوي " ثم أمدّ بقوم من الأعراب نحو من ثلثمائة رجل، وحمل في هذا اليوم من الصلاة لم أبلى في الحرب خمسة وعشرين ألف درهم، وأطوقة وأسورة من ذهب فصار ذلك إلى الحسين ابن إسماعيل وعبد الرحمن بن الخطاب وعلك ويحيى بن هرثمة والحسن بن الأفشين وصاحب الحرب الحسين بن إسماعيل؛ فكان الجرحى من أهل بغداد أكثر من مائتي إنسان، والقتلى عدة، وكذلك الجراحات في الأتراك والقتلى أكثرهم بالمجانيق؛ وانهزم أكثر عامة أهل بغداد، وثبت أصحاب البواري وانصرفوا جميعًا، وهم في القتلى والجرحى شبيه بالسواء؛ وجرح من هؤلاء - فيما ذكر - مائتان، ومن هؤلاء مائتان، وقتل جماعة من الفريقين.
وجاء كردوس من الفراعنة والأتراك في هذا اليوم إلى باب خراسان من الجانب الشرقي ليدخلوا منه، وأتى الصريخ محمد بن عبد الله، وثبت لهم المبيضة والغوغاء فردوهم. وقد كان محمد أمر أن يمخر تلك الناحية؛ فلما أرادوا الإنصراف، وحلت عامة دوابهم، ونجا أكثرهم، أحضر الأتراك منجنيقًا، فغلبهم الغوغاء عليه والمبيضة، وكسروا قائمة من قوائمه، وقتل اثنان من الشاشية من الحجاج، وأمر بحمل الآجر من قصر الطين وتلك الناحية إلى باب الشماسية؛ وفتحوا باب الشماسية، وأخرجوا إلى الآجر من لقطه وردوه إلى هذا الجانب من السور.
وكان محمد بن عبد الله اتصل به أن جماعة من الأتراك قد صاروا إلى ناحية النهروان، فوجه قائدين من قواده يقال لهما عبد الله بن محمود السرخسي ويحيى بن حفص المعروف بحبوس في خمسمائة من الفرسان والرجالة إلى هذه الناحية، ثم أردفهم بسبعمائة رجل أيضًا، وأمرهم بالمقام هناك؛ ومنع من أراده من الأتراك؛ فتوجّه آخرهم إلا هذه الناحية يوم الجمعة لسبع خلون من صفر.
فلما كان ليلة الاثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، صار قوم من الأتراك إلى النهّروان، فخرج جماعة ممن كان مع عبد الله بن محمود، فرجعوا هرابًا، وأخذت دوابّهم، وانصرف من نجا منهم ألى مدينة السلام مفلولين، وقتل زهاء خمسين رجلًا، وأخذوا ستين دابة، وعدّة من البغال قد كانت جاءت من ناحية حلوان عليها الثلج، فوجّهوا بها إلى سامرّا، ووجهوا برءوس من قتلوا من الجند، فكانت أول روءس وافت في تلك الحرب سامرّا.
وانصرف عبد الله بن محمود مفلولًا في شرذمة، وصار طريق خراسان في أيدي الأتراك، وانقطع الطريق من بغداد إلى خراسان.
وكان إسماعيل بن فراشة وجّه إلى همذان للمقام بها، فكتب إليه بلانصراف، فانصرف، فأعطى هو وأصحابه استحقاقاتهم.
ووجّه المعتزّ عسكرًا من الأتراك والمغاربة والفراعنة ومن هو في عدادهم. وعلى الأتراك والفراعنة الدرغمان الفرعاني، وعلى المغاربة ربلة المغربي، فساروا إلى مدينة السلام من الجانب الغربي، فجاوزوا قطربّل إلى بغداد، وضربوا عسكرهم بين قطربل وقطيعة أم جعفر؛ وذلك عشيّة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر.
فلما كان يوم الأربعاء من غدة هذه الليلة، وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الشاه بن ميكال من باب القطيعة وبندارًا وخالد بن عمران فيمن معهم من أصحابهم من الفرسان والرجالة. فصافهم الشاه وأصحابه، فتراموا بالحجارة والسهام، وألجئوا الشاه إلى مضيق عند باب القطيعة، وكثر المبيضة من أهل بغداد، ثم حمل الشاه والمبيضة جملة واحدة أزالوا بها الأتراك والمغاربة وم معهم عن موضعهم، وحمل عليهم المبيضة، وأصحروا بهم، وحمل عليهم الطبرية فخالهطوهم؛ وخرج عليهم بندار وخالد بن عمران من الكمين؛ وكانوا كمنوا في ناحية قطربل، فوضعوا في أصحاب أبي أحمد الأتراك منهم وغيرهم السيف، فقتلوهم أبرح قتل؛ فلم يفلت منهم إلا القليل، وانتهب المبيضة عسكرهم وما كان فيه من المتاع والأهل والأثقال والمضارب والحرثى، فكل من أفلت منهم من السيف رمى بنفسه في دجلة ليعبر إلى عسكر أبي أحمد؛ فأخذه أصحاب الشبارات، وكانت الشبارات قد شحنت بالمقاتلة - فقتلوا وأسروا وجعل القتلى والرءوس من الأتراك والمغاربة وغيرهم في الزواريق، فنصبت بعضها في الجسرين؛ وعلى باب محمد بن عبد الله؛ فأمر محمد بن عبد الله لمن أبلى في هذا اليوم بالأسورة، فسور قوم كثير من الجند وغيرهم، فطلب المنهزمة فبلغ بعضهم أوأنا، وبلغ بعضهم ناحية عسكر أبي أحمد عبر دجلة، وبعضهم نفذ إلى سامرا.
وذكر أن عسكر الأتراك يوم هزموا بباب القطيعة كانوا أربعة آلاف، فقتل منهم يوم الوقعة هنالك ألفان؛ وكان وضع فيهم بالسيف من باب القطيعة إلى القفص، فقتلوا من قتلوا، وغرّق من غرّق، وأسر منهم جماعة، فخلع محمد بن عبد الله على بندار أربع خلع ملحم، ووشى وسواد وخزّ، وطوّقه طوقًا من ذهب وخلع على أبي السنا أربع خلع، وعلى خالد بن عمران وجميع القوّاد، كلّ رجل أربع خلع. وكان انصرافهم من الوقعة مع المغرب، وسخّرت البغال، وأخذ لها الجواليق لتحمل فيها الروءس إلى بغداد.
وكان كلّ من وافى دار محمد برأسٍ تركي أو مغربي أعطوه خمسين درهمًا، وكان أكثر ذلك العمل للمبيّضة والعيّارين؛ ثم وافى عيّارو بغداد قطربّل، فانتهبوا ما تركه الأتراك من متاع أهل قطربّل وأبواب دورهم؛ فوجّه محمد في آخر هذا اليوم أخاه أبا أحمد عبيد الله بن عبد الله والمظفّر بن سيسل في أثر النهزمين حياطة لأهل بغداد؛ لأنه لم يأمن رجعتهم عليه فبلغا القفص، وانصرفا سالمين، وزعجا من أقام من الرجّالة والعيارين بناحية قطربل، وأشير على محمد بن عبد الله أن يتبعهم بعسكر في اليوم الثاني وفي تلك الليلة، ليوغل في آثارهم، فأبى ذلك ولم يتبع موليًّا، ولم يأمر أن يجهز على جريح، وقبل أمان من استأمن، وأمر سعيد بن حميد فكتب كتابًا يذكر فيه هذه الرقعة؛ فقرىء على أهل بغداد في مسجد جامعها، نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد؛ فالحمد لله المنعم فلا يبلغ أحد شكر نعمته، والقادر فلا يعارض في قدرته، والعزيز فلا يغالب في أمره، والحكم العدل فلا يردّ حكمه، والناصر فلا يكون نصره إلّا للحق وأهله، والمالك لكلّ شيء فلا يخرج أحد عن أمره، والهادي إلى الرحمة فلا يضلّ من انقاد لطاعته، والمقدّم إعذاره ليظاهر به حجته؛ الذي جعل دينه لعبادة رحمة، وخلافه لدينه عصمة، وطاعة خلافائه فرضًا واجبًا على كافة الأمة؛ فهم المستحفظون في أرضه على ما بعث به رسله، وأمناؤه على خلقه فيما دعاهم إليه من دينه، والحاملون لهم على منهاج حقه؛ لئلا يتشعّب بهم الطرق إلى المخالفة لسبيله، والهادي إلى صراطه؛ ليجمعهم على الجادّة التي ندب إليها عباده الذين بهم يحمى الدين من الغواة والمخالفين؛ محتجّين على الأمم بكتاب الله الذي استعملهم به، ودعا الأمة بحقّ الله الذي اختارهم له؛ إن جاهدوا كانت حجة الله معهم، وإن حاربوا حكم بالنصر لهم، وإن بغاهم عدوّ كانت كفاية الله حائلةً دونهم ومعقلًا لهم، وإن كادهم كائد فلله من وراء عونهم، نصبهم الله لإعزاز دينه؛ فمن عاداهم فإنما عادى الدين الذي أعزّه وحرسه بهم، ومن ناوأهم فإنما طعن على الحقّ الذي يكلؤه بحراستهم؛ جيوشهم بالنّصر والعزّ منصورة، وكتائبهم بسلطان الله من عدّوهم محفوظة، وأيديهم عن دين الله دافعة، وأشياعهم بتناصرهم في الحقّ علية، وأحزاب أعدائهم ببغيهم مقموعة، وحجتهم عند الله وعند خلقه داحضة، ووسائلهم إلى النصر مردودة؛ تجمعهم مواطن التحاكم، وأحكام الله بخذلانهم واقعة، وأقداره بإسلامهم إلى أوليائه جارية، وعاداتهم في الأمم السالفة والقرون الخالية ماضية؛ ليكون أهل الحق على ثقة من إنجاز سابق الوعد، وأعداؤه محجوبون بما قدم إليهم من الإنذار، معجلة لهم نقمة الله بأيدي أوليائه، معد لهم العذاب عند ربهم، والخزي موصول بنواصيهم في دنياهم، وعذاب الآخرة من ورائهم وما الله بظلام للعبيد.
وصلى الله على نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، والمنقذ من الضلالة إلى الهدى، صلاة تامة نامية بركاتها، دائمة اتصالها، وسلم تسليمًا 0 والحمد لله تواضعًا لعظمته، والحمد لله إقرارًا بربوبيته، والحمد لله اعترافًا بقصور أقصى منازل الشكر عن أدنى منزلة من منازل كرامته. والحمد لله الهادي إلى حمده والموجب له مزيده، والمحصي به عوائده إحسانه، حمدًا يرضاه ويتقلبه، ويوجب طوله وإفضاله. والحمد لله الذي حكم بالخذلان على من بغى على أهل دينه، وسبق وعده بالنصر لمن بغى عليه من أنصار حقه وأنزل بذلك كتابه العزيز، موعظة للباغين؛ فإن أقلعوا كانت التذكرة نافعة لهم، والحجة عند الله لمن قام بهم فيهم، ثم أوجب بعد التذكرة والإصرار جهادهم، فقال فيما قدم من وعده، وأبان من برهانه: " ثم بغى عليه لينصرنه الله " وعدًا من الله حقًا نهى به أعداءه عن معصيته، وثبت به أولياءه على سبيله؛ والله لا يخلف الميعاد.
ولله عند أمير المؤمنين في رئيس دعوته، وسيف دولته، والمحامي عن سلطانه ومحل ثقته، والمتقدم في طاعته ونصيحته لأوليائه، والذاب عن حقه، والقائم بمجاهدة أعدائه؛ محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين، نعمة يرغب إلى الله في إتمامها، والتوفيق لشكرها، والتطول بمن أراد المزيد فيها؛ فإن الله قدر لآبائه القيام بالدعوة الأولى لآباء أمير المؤمنين، ثم جمع له آثارهم بقيامه بالدولة الثانية؛ حين حاول أعداء الله أن يطمسوا معالم دينه ويعفوها؛ فقام بحق الله وحق خليفته، محاميًا عنها، مراميًا من ورائها، متناولًا للبعيد برأيه ونظره، مباشرًا للقريب بإشرافه وتفقده، باذلًا نفسه في كل ما قربه من الله، وأوجب له الزلفى عنده، وسيمتع الله أمير المؤمنين به وليًا، مكانفًا على الحق، وناصرًا موازرًا على الخير، وظهيرًا مجاهدًا لعدو الدين.
وقد علمتم ما كان كتاب أمير المؤمنين تقدم به إليكم فيما أحدثته الفرقة الضالة عن سبيل ربها، المفارقة لعصمة دينها، الكافرة لنعم الله ونعم خليفته عندها، المباينة لجماعة الأمة التي ألف الله بخلافته نظامها، المحاولة لتشتيت الكلمة بعد اجتماعها، الناكثة لبيعته، الخالعة لربقة الإسلام من أعناقها، الموالي الأتراك، وما صارت إليه من نصر الغلام المعروف بأبي عبد الله بن المتوكل لإقامتها عند مصير أمير المؤمنين إلى مدينة السلام، محل سلطانه، ومجتمع أنصاره وأبناء أنصار آبائه؛ وما قابل به أمير خيانتهم وآثره من الأناة في أمرهم.
ثم إن هؤلاء الناكثين جمعوا جمعًا من الأتراك والمغاربة، ومن ولج في سوادهم، ودخل في غمارهم، مواتيًا للفتنة من ألفاف الغي، ورأسوا عليهم المعروف بأبي أحمد بن المتوكل، ثم ساروا نحو مدينة السلام في الجانب الشرقي، معلنين للبغي والإقتدار، مظهرين للغي والإصرار؛ فتأناهم أمير المؤمنين، وفسح لهم في النظرة لهم، وأمر بالكتاب إليهم بما فيه تبصيرهم الرشد، وتذكيرهم بما قدموا من البيعة، وإفهامهم ما لله عليهم وله في ذلك من الحق، وأن خروجهم مما دخلوا فيه من بيعتهم طوعًا، الخروج من دين الله والبراءة منه ومن رسوله، وتحريمهم أموالهم ونساءهم عليهم، وأن في تمسكهم به سلامة أديانهم وبقاء نعمتهم، والاحتراس من حلول النقم بهم، وأن يبين لهم ما سلف من بلائه عندهم؛ من أسنى المواهب، وأرفع الرغائب، والاختصاص بسني المراتب، والتقدم في المحافل؛ فأبوا إلا تماديًا ونفارًا، وتمسكًا بالغي وإصرارًا.
فقلد أمير المؤمنين نصيحه المؤتمن ووليه محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين تدبير أمورهم ودعائهم إلى الحق ما كانت الإنابة أو محاربتهم إن جنح بهم غيهم، وتتابعوا في ضلالهم فلم يألهم نظرًا وإفهامًا، وتبيينًا وإرشادًا، وهم في ذلك رافعون أصواتهم بالتوعد لأهل لمدينة السلام؛ بسفك دمائهم وسبى نسائهم وتغنم أموالهم، وقبل ذلك ما كانوا في مسيرهم على السبيل التي يستعملها أهل الشرك في غاراتهم، ويميلون إليها عند إمكان النهزة لهم، لا يجتازون بعامر إلا أخربوه، ولا بحريم لمسلم ولا غيره إلا أباحوه، ولا بمسلم يعجز عنهم إلا قتلوه، ولا بمال لمسلم ولا ذمى إلا أخذوه؛ حتى انتقل كثير ممن سبقت إليه أخباره ممن أمامهم عن أوطانهم، وفارقوا منازلهم ورباعهم، وفزعوا إلى باب أمير المؤمنين تحصنًا من معرتهم، لا يمرون بغني إلا خلعوا عنه لباس الغنى؛ ولا بمستور إلا هتكوا عن الذرية والنساء ستره، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يتوقفون عن مسلم بهتك ولا مثلة، ولا يرغبون عما حرم الله من دم ولا حرمة.
ثم تلقوا التذكرة بالحرب، وقابلوا الموعظة بالإصرار على الذنب، وعارضوا التبصير بالاستبصار في الباطل؛ فذلفوا نحو باب الشماسية، وقد رتب محمد ابن عبد الله مولى أمير المؤمنين بذلك الباب والأبواب التي سبيلها سبيله من أبواب مدينة السلام الجيوش في العدة الكاملة، والعدة المتظاهرة، معاقلهم التوكلّ على ربّهم، وحصونهم الاعتصام بطاعته، وشعارهم التكبير والتهخليل أمام عدوهم. ومحمد بن عبد الله ولي أمير المؤمنين، يأمرهم بتحصين ما يليهم والإمساك عن الحرب ما كانت مندوحة لهم؛ فبادأهم الأولياء بالوعظة، وبدأهم الغواة الناكثون بحربهم، وعادوهم أيامًا بجموعهم وعدادهم، مدلّين بعدّتهمومقدذرين ألا غالب لهم؛ ولا يعلمون بالله أنّ قدرته فوق قدرتهم، وأن أقداره نافذة بخلاف إرادتهم، وأحكامكه عادلة ماضية لأهل الحقّ عليهم؛ حتى إذا كان يوم السبت للنصف من صفر وافوا باب الشماسيّة بأجمعهم، قد نشروا أعلامهم، وتنادوا بشعارهم، وتحصّنوا بأسلحتهم، وبدا الأمر منهم لمن عاينهم، ليس لهم دون سفك الدماء، وسبى النساء، واستباحة الأموال؛ فبدأهم الأولياء بالموعظة فلم يسمعوا، وقابلوهم بالتذكرة فلم يصغوا إليها، وبدءوا بالحرب منابذين لها، فتسرّع الأولياء عند ذلك إليهم، واستنصروا عليهم، واستحكمت بالله ثقتهم، ونفذت به بصائرهم؛ فلم تزل الحرب بينهم إلى وقت العصر من هذا اليوم؛ فقتل الله من حماتهم وغرسانهم ورؤسائهم وقادة باطلهم جماعة كثيرًا عددها، ونالت الجراحة المثخنة التي تأتي على من نالته أكثر عامتهم.
فلما رأى أعداء الله وأعداء دينه أن قد أكذب ظنونهم، وحال بينهم وبين أمانيهم، وجعل عواقبها حسرات عليهم؛ استنهضوا جيشًا من سامرّا من الأتراك والمغاربة في العتاد والعدّة والجلد والأسلحة في الجلنب الغربي، طالبين المعرّة ومؤملين أن ينالوا نيلاص من أهله باشتغال إخوانهم في الجانب الشرقي يأعدائهم.
وقد كان محمد بن عبد الله مولى أمير المؤمنين شحن الجانبين جميعًا بالرجال والعدة، وكل بكل ناحية من يقوم بحفظها وحراستها، ويكف عن الرغبة بواثق أعدائهم، ووكل بكل باب من الأبواب قائدًا في جمع ليعرف أخبار أعداء الله في حركاتهم ونهوضهم ومقامهم وتصرفهم، فيعامل كل حال لهم بحال يفت الله في أعضادهم بها.
فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر، وافى الجيش الذي أنهضوه من الجانب الغربي الباب المعروف بباب قطربل، فوقفوا بإزاء الناكثين المعسكرين بالجانب الشرقي من دجلة في عدد لا يسعه إلا الفضاء، ولا يحمله إلا المجال الفسيح، وقد تواعدوا أن يكون دونهم من الأبواب معًا لشغل الأولياء بحربهم من الجهات، فيضعفوا عنهم ويغلبوا حقهم بباطلهم؛ أملًا كاذبًا كادهم الله فيه غير صادق، وظنًا خائبًا لله فيه قضاء نافذ. وأنهض محمد بن عبد الله نحوهم محمد بن أبي عون وبندار بن موسى الطبري مولى أمير المؤمنين وعبد الله بن نصر بن حمزة من باب قطربل. وأمرهم بتقوى الله وطاعته، والاتباع لأمره والتصرف مع كتابه، والتوقف عن الحرب حتى تسبق التذكرة الأسماع، وتزول الحجة بالتتابع منهم والإصرار، فنفذوا في جمع يقابل جمعهم، مستبصرين في حق الله عليهم، مسارعين إلى لقاء عدوهم، محتسبين خطاهم ومسيرهم، واثقين بالثواب الآجل والجزاء العاجل فتلقاهم ومن معهم أعداء الله، قد أطلقوا نحوهم أعنتهم، وأشرعوا لنحورهم أسنتهم، لا يشكون أنهم نهزة المختلس، وغنيمة المنتهب؛ فنادوهم بالموعظة نداء مسمعًا، فمجتها أسماعهم، وعميت عنها أبصارهم، وصدقهم أولياء الله في لقائهم؛ بقلوب مستجمعة لهم، وعلم بأن الله لا يخلف وعده فيهم؛ فجالت الخيل بهم جولة، وعاودت كرة بعد كرة عليهم، طعنًا بالرماح، وضربًا بالسيوف، ورشقًا بالسعام؛ فلما مسهم ألم جراحها، وكلمتهم الحرب بأنيابها، ودارت عليهم رحاها، وصمم عليهم أبناؤها، ظمأ إلى مائهم؛ ولوا أدبارهم، ومنح الله أكتافهم، وأوقع بأسه بهم، فقتلت منهم جماعة لم يحترسوا من عذاب الله بتوبة، ولم يتحصنوا من عقابه بأمانة، ثم ثابت ثانية؛ فوقفوا بإزاء الأولاء، وعبر إليهم أشياعهم الغاوون من عسكرهم بباب الشماسية ألف رجل من أنجادهم في السفن، معاونين لهم على ضلالتهم؛ فأنهض لهم محمد بن عبد الله خالد بن عمران والشاه بن ميكال مولى طاهر نحوهم، فنفذوا ببصيرة لا يتخونها فتور، ونية لا يلحقها تقصير؛ ومعهما العباس بن قارن مولى أمير المؤمنين.
فلما وافى الشاه فيمن معه أعداء الله، وكل بالمواضع التي يتخوف منها مدخل الكمناء، ثم حمل من توجه معه من القواد المسمين ماضين لا يغويهم الوعيد، ولا يشكون من الله في النصر والتأييد، فوضعوا أسيافهم فيهم، تمضى أحكام الله عليهم؛ حتى ألحقوا بالمعسكر الذي كانوا عسكروا فيه وجاوزوه، وسلبوهم كل ما كان من سلاح وكراع وعتاد الحرب؛ فمن قتيلٍ غودرت جثته بمصرعه، ونقلت هامته إلى مصرٍ فيه معتبرٌ لغيره، ومن لاجىء من السيف إلى الغرق لم يجره الله من حذاره، ومن أسير مصفود يقاد إلى دار اولياء الله وحزبه، ومن هاربٍ بحشاشة نفسه، قد أسكن الله الخوف قلبه؛ فكانت النقمة بحمد الله واقعة بالفريقين ممن وافى الجانب الغربي قادمًا، ومن عبر إليهم من الجانب الشرقي منجدًا، لم ينج منهم ناجٍ، ولم يعتصم منهم بالتوبة معتصم، ولا أقبل إلى الله مقبل؛ فرقًا أربعًا يجمعها النار، ويشملها عاجل النكال، عظةً ومعتبرًا لأولي الأبصار؛ فكانوا كما قال الله عز وجل " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار، جهنم يصلونها وبئس القرار ".
ولم تزل الحرب بين الأولياء وبين الفرقة التي كانت في الجانب الشرقي والقتل محتفل في أعلامهم، والجراح فاشية فيهم؛ حتى إذا عاينوا ما أنزل الله بأشياعهم من البوار، وأحل بهم من النقمة والاستئصال؛ ما لهم من الله من عاصم، ولا من أوليائه ملجأ ولا موئل؛ ولوا منهزمين مفلولين منكوبين، قد أراهم الله العبر في إخوانهم الغاوية، وطوائفهم المضلة، وضل ما كان في أنفسهم لما رأوا من نصر الله لجنده، وإعزازه لأوليائه؛ والحمد لله رب العالمين، قامع الغواة الناكبين عن دينه، والبغاة الناقضين لعهده، والمراق الخارجين من جملة أهل حقه؛ حمدًا مبلغًا رضاه، وموجبًا أفضل مزيدة؛ وصلى الله أولًا وآخرًا على محمد عبده ورسوله، الهادي إلى سبيله، والداعي إليه بإذنه، وسلم تسليمًا.
وكتب سعيد بن حميد يوم السبت لسبع خلون من صفر سنة إحدى وخمسين ومائتين.
وركب محمد بن عبد الله بن طاهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر إلى باب الشماسية، وأمر بهدم ما وراء سور بغداد من الدور والحوانيت والبساتين وقطع النخل والشجر من باب الشماسية إلى ثلاثة أبواب؛ لتتسع الناحية على من يحارب فيها؛ وكان وجه من ناحية فارس والأهواز نيفٌ وسبعون حمارًا بمال إلى بغداد، قدم به - فيما ذكر - منكجور بن قارن الأشروسني القائد، فوجه الأتراك وأبو أحمد بن بابك إلى طرارستان في ثلثمائة فارس وراجل؛ ليلتقي ذلك المال إذا صار إليها. فوجه محمد بن عبد الله قائدًا له يقال له يحيى بن حفص، يحمل ذلك المال، فعدل به عن طرارستان، خوفًا من ابن بابك؛ فلما علم ابن بابك أن المال قد فاته ثار بم معه إلى النهروان؛ فأوقع من كان معه من الجند بأهلها، وأخرج أكثرهم، وأحرق سفن الجسر؛ وهي أكثر من عشرين سفينة، وانصرف إلى سامرا.
وقدم محمد بن خالد بن يزيد - وكان المستعين قلده الثغور الجزرية، وكان مقيمًا بمدينة بلد ينتظر من يصير إليه من الجند والمال - فلما كان اضطراب أمر الأتراك ودخول المستعين بغداد ما كان، لم يمكنه المصبر إلى بغداد إلا من طريق الرقة، فصار إليها بمن معه من خاصيته وأصحابه؛ وهم زهاء أربعمائة فارس وراجل؛ ثم انحدر منها إلى مدينة السلام، فدخلها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، فصار إلى دار محمد بن عبد الله بن طاهر؛ فخلع عليه خمس خلع: دبيقي، وملحم وخز، ووشى، وسواد، ثم وجهه في جيش كثيف لمحاربة أيوب بن أحمد؛ فأخذ على ظهر الفرات فحاربه في نفر يسير، فهزم وصار إلى ضيعته بالسواد.
فذكر عن سعيد بن حميد أنه قال: لما انتهى خبر هزيمة محمد بن عبد الله، قال: ليس يفلح أحدٌ من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره به.
وفي هذا اليوم كانت للأتراك وقعة بباب الشماسية، كانوا صاروا إلى الباب، فقاتلوا عليه قتالًا شديدًا حتى كشفوا من عليه، ورموا المنجنيق المنصوب بسرة الباب بالنفط والنار، فلم يعمل فيه نارهم، وكثرهم من على الباب من الجند حتى أزالوهم عن موقفهم، ودفعوهم عن الباب بعد قتلهم عدة يسيرة من أهل بغداد، وجرحهم منهم جماعةً كثيرة بالسهام. فوجه محمد بن عبد الله إليهم عند ذلك العرادات التي كانت تحمل في السفن والزواريق، فرموهم بها رميًا شديدًا، فقتلوا منهم جماعة كثيرة نحوًا من مائة إنسان، فتنحوا عن الباب؛ وكان بعض المغاربة صاروا في هذا اليوم إلى سور الشماسية؛ فرمى كلاب إلى السور، وتعلق به وصعد، فأخذه الموكلون بالسور فقتلوه، ورموا برأسه في المنجشنيق إلى عسكر الأتراك؛ وانصرفوا عند ذلك إلى معسكرهم.
وذكر أن بعض الموكلين بسور باب الشماسية من الأنباء هاله ما رأى من كثرة من ورد باب الشماسية في هذا اليوم من الأتراك والمغاربة؛ وكانوا قربوا من الباب بأعلامهم وطبولهم، ووضع بعض المغاربة كلابًا على السور؛ فأراد بعض الموكلين بالسور أن يصيح: يا مستعين، يا منصور، فغلظ؛ فصاح: يا معتز، يا منصور؛ فظنه بعض الموكلين بالباب من المغاربة، فقتلوه وبعثوا برأسه إلى دار محمد بن عبد الله؛ فأمر بنصبه، فجاءت أمه وأخوه في عشية هذا اليوم بجثته في محمل يصيحان ويطلبان رأسه؛ فلم يدفع إليهما؛ ولم يزل منصوبًا على الحسر إلى أن أنزل مع ما أنزل من الرءوس.
ووافى ليلة الجمعة لسبع بقين من صفر جماعة من الأتراك باب البردان؛ وكان الموكل به محمد بن رجاء؛ وذلك قبل شخوصه إلى ناحية واسط؛ فقتل منهم ستة نفر، وأسر أربعة، وكان الدرغمان شجاعًا بطلًا، وصار في بعض الأيام مع الأتراك إلى باب الشماسية، فرمى بحجر منجنيق، فأصاب صدره؛ فانصرف به إلى سامرا، فمات بين بصرى وعكبراء؛ فحمل إلى سامرا؛ فذكر يحيى بن العكي القائد المغربي أنه كان إلى جنب الدرغمان في يوم من أيامهم؛ إذ وافاه ناوكي، فأصاب عينه، ثم أصابه بعد ذلك حجر فأطار رأسه، فحمل ميتًا.
وذكر عن علي بن حسن الرامي، أنه قال: كنا قد جمعنا على السور على باب الشماسية من الرماة جماعة، وكان مغربي يجيء حتى يقرب من الباب، ثم يكشف استه ثم يضرط ويصيح؛ قال: فانتخبت له سهمًا فأنفذته في دبره حتى خرج من حلقه، وسقط ميتًا. وخرج من الباب جماعة فنصبوه كالمصلوب، وجاءت المغاربة بعد ذلك، فاحتملوه.
وذكر أنّ الغوغاء اجتمعوا بسامرّا بعد هزيمة الأتراك يوم قطربّل، ورأوا ضعف أمر المعتزّ، فانتهبوا سوق أصحاب الحلي والسيوف والصيلرقة، وأخذوا جميع ما وجدوا فيها من متاع وغيره، فاجتمع التجار إلى إبراهيم المؤيد أخي المعتزّ، فشكوا ذلك إليه، وأعلموه أنهم قد كانوا ضمنوا لهم أموالهم وحفظها عليهم. قال: فقال لهم: كان ينبغي لكم أن تحوّلوا متاعكم إلى منازلكم؛ وكبر عنده ذلك.
وقدم بحونة بن قيس بن أبي السعدي يوم السبت لثمان بقين من صفر بمن فرض من الأعراب وهم ستمائة ومائتا فارس. وقدم في هذا اليوم عشرة نفر من وجوه أهل طرطوس يشكون بلكاجور، ويزعمون أن بيعة المعتزّ وردت عليه، فخرج بعد ساعتين من وصول الكتاب، ودعا إلى بيعة المعتزّ، وأخذ القوّاد وأهل الثغر بذلك؛ فبايع أكثرهم، وامتنع بعض، فأقبل على من امتنع بالضرب والقيد والحبس. وذكر أنهم امتنعوا وهربوا لمّا أخذهم بالبيعة كرهًا، فقال وصيف: ما أظن الرجل إلّا " اغترّ وموّه عليه " وأن الوارد عليه بكتاب المعتزّ هو الليث بن بابك، وذكر له أنّ المستعين مات، وأقاموا المعتزّ مكانه؛ فتكلّم هؤلاء النفر يشكون بلكاجور، ونسبوه إلى أه فعل ذلك على عمد، ورفعوا عليه أنه كان يرى في بني الواثق، وقد ورد كتاب بلكاجور يوم الأربعاء لأربع بقين من صفر مع رجل يقال له علي الحسين المعروف بابن الصعّلوك؛ يذكر فيه أنه ورد عليه كتاب من أبي عبد الله بن المتوكل، أنه قد ولي الخلافة، وبايع له. فلما ورد عليه كتاب المستعين بصحة الأمر، جدّد أخذ البيعة على من قبله، وأنه على السمع والطاعة له. فأمر للرسول بألف درهم فقبضها، وقد كان أمر بالكتاب إلى محمد بن علي الأرمني المعروف بأبي نصر بولايته على الثغور الشأمية. فلما ورد كتاب بلكاجور بالطاعة أمسك عن إنفاذ كتاب محمد بن علي الأرمني بالولاية.
وفي يوم الاثنين لست بقين من صفر من هذه السنة قدم إسماعيل بن فراشة من ناحية همذان في نحو ثلثمائة فارس، وكان جنده ألفًا وخمسمائة، فتقدّم بعضهم وتأخر بعض، وتفرّقوا، وقد معه برسول للمعتزّ، كان وجّه إليه لأخذ البيعة، فقيّد الرسول وصار به إلى مدينة السلام على بغل بلا إكاف، فخلع على إسماعيل خمس خلع. وورد برجل ذكر أنه علوي أخذ بناحية الري وطبرستان، متوجهًا إلى من هناك من العلوية؛ وكان معه دوابّ وغلمان؛ فأمر به فحبس في دار العامة أشهرًا، ثم أخذ منه كفيل وأطلق.
وقرىء في هذا اليوم كتاب موسى بن بغا يذكر فيه أنه ورد كتاب المعتزّ، وأنه دعا أصحابه، وأخبلارهم بما حدث، وأمرهم بتلانصراف معه أللى مدينة السلام؛ فامتنعوا، وأجابه الشاكريّة والأبناء، واعتزله الأتراك ومن كانفهم، وحاربوه فقتل منهم جماعة وأسر أسرى؛ فهم قادمون معه. فكبّروا في دار ابن طاهر عند فراءتهم كتابه.
ولخمس بقين من صفر دخل من البصرة عشر سفائن بحريّة؛ تسمّى البوارج، في كل سفينة اشتيام وثلاثة نفاطين ونجاروخباز وتسعة وثلاثون رجلًا من الجذافين والمقاتلة فذلك في كل سفينة خمسة وأربعون رجلًا. فمدت إلى الجزيرة الشماسية في هذه الليلة، فرمى من فيها من الأتراك بالنيران، فعزموا على الانتقال من معسكرهم برقة الشماسية إلى بستان أبي جعفر بالخير، ثم بدا لهم فارتفعوا فوق عسكرهم في موضع لا ينالهم شي من النار.
ولليلة بقيت من صفر صار الأتراك والمغاربة إلى أبواب مدينة السلام من الجانب الشرقي، فأغلقت الأبواب في وجوههم، ورموا بالسهام والمنجنيقات والعرادات، فقتل من الفريقين وجرح جماعة كثيرة، فلم يزالوا كذلك إلى العصر.
وفي هذه السنة كر سليمان بن عبد الله راجعًا من جرجان إلى طبرستان وشخص من آمل، وخرج بجمع كثير وخيل وسلاح، فتنحى الحسن بن زيد ولحق بالديلم، فكتب إلى السلطان ابن إخيه محمد بن طاهر بدخوله طبرستان، فقرئ كتابه ببغداد، وكتب نسخة ذلك المستعين إلى بغا الصغير مولى أمير المؤمنين بفتح طبرستان على يدي محمد بن طاهر وهزيمة الحسن ابن زيد، وأن سليمان بن عبد الله دخل سارية على حال من السلامة، وأنه ورد عليه ابنان لقارن بن شهريار مولى أمير المؤمنين، يقال لهما مازيار ورستم، في خمسمائة رجل، إلى ما ذكر من غير ذلك في الفتح، وأن أهل آمل أتوه منيبين مظهرين إنابتهم، مستقلين عثراتهم؛ فلقيهم بما زاد في سكونهم وثقتهم، ونهض بعسكره على تعبيته، مستقرئًا للقرى والطرق، وتقدم بالنهي عن القتل، وترك العرض لأحد في سلب وغيره، وتوعد من جاوز ذلك؛ زأن كتاب أسد بن جندان وافاه بهزيمة علي بن عبد الله الطالبي المسمى بالمرعشي فيمن كان معه؛ وهم أكثر من ألفي رجل ورجلين من رؤساء الجبل، في جمع عظيم عند تأدي الخبر إليهم بانهزام الحسن بن زيد ودخوله بالأولياء إلى تلك الناحية، وأنه دخل مدينة آمل في أحسن هيئة، وأظهر عزة وسلامة شاملة، انقطعت عنه أسباب الفتنة.
ولخمس بقين من المحرم من هذه السنة ورد كتاب العلاء بن أحمد عامل بغا الشرابي على الخراج والضياع بإرمينية، بما كان من خروج رجلين بتلك الناحية؛ سماهما وذكر إيقاعه بهما، وأنهما التجآ إلى قلعة، فوضع عليها المجانيق حتى جهدها، وأنهما خرجا من القلعة هاربين، وخفي أمرهما وصارت القلعة في أيدي الأولياء.
وفيها أيضًا ورد كتاب مؤرخ لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم بانتقاض أهل أردبيل، وكتاب الطالبي إليهم، وأنه بعث أربعة عساكر على أربعة أبواب مدينتهم ليحاصرهم.
وفيها ورد كتاب مخبر عن الحرب التي كانت بين عيسى بن الشيخ والموفق الخارجي وأسر عيسى الموفق، ومسألة عيسى المستعين توجيه ما يحتاج إليه من السلاح؛ ليكون عدة له في البلد، يقوى به الجند على الغزو، وأن يكتب إلى صاحب الصور في توجيه أربع مراكب إليه بجميع آلتها؛ تكون قبله مع ما قبله منها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)