فصل
الاسم الرابع: الباطل والباطل: ضد الحق يراد به المعدوم الذي لا وجود له والموجود الذي مضرة وجوده أكثر من منفعته
فمن الأول: قول الموحد: كل إله سوى الله باطل ومن الثاني قوله: السحر باطل والكفر باطل قال تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء: 81 ]
فالباطل إما معدوم لا وجود له وإما موجود لا نفع له فالكفر والفسوق والعصيان والسحر والغناء واستماع الملاهي: كله من النوع الثاني
قال ابن وهب: أخبرني سليمان بن بلال عن كثير بن زيد: أنه سمع عبيدالله يقول للقاسم بن محمد: كيف ترى في الغناء فقال له القاسم: هو باطل فقال: قد عرفت أنه باطل فكيف ترى فيه فقال القاسم: أرأيت الباطل أين هو قال: في النار قال: فهو ذاك
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ما تقول في الغناء أحلال هو أم حرام فقال: لا أقول حراما إلا ما في كتاب الله فقال: أفحلال هو فقال: ولا أقول ذلك ثم قال له: أرأيت الحق والباطل إذا جاءا يوم القيامة فأين يكون الغناء فقال الرجل: يكون مع الباطل فقال له ابن عباس: اذهب فقد أفتيت نفسك
فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما عن غناء الأعراب الذي ليس فيه مدح الخمر والزنا واللواط والتشبيب بالأجنبيات وأصوات المعازف والآلات المطربات فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك ولو شاهدوا هذا الغناء لقالوا فيه أعظم قول فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير وأعظم من فتنته
فمن أبطل الباطل أن تأتي شريعة بإباحته فمن قاس هذا على غناء القوم فقياسه من جنس قياس الربا على البيع والميتة على المذكاة والتحليل الملعون فاعله على النكاح الذي هو سنة رسول الله وهو أفضل من التخلي لنوافل العبادة فلو كان نكاح التحليل جائزا في الشرع لكان أفضل من قيام الليل وصيام التطوع فضلا أن يلعن فاعله
فصل
وأما اسم المكاء والتصدية فقال تعالى عن الكفار: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية.
قال ابن عباس وابن عمر وعطية ومجاهد والضحاك والحسن وقتادة: المكاء: الصفير والتصدية: التصفيق
وكذلك قال أهل اللغة: المكاء: الصفير يقال: مكا يمكو مكاء إذا جمع يديه ثم صفر فيهما ومنه: مكت است الدابة إذا خرجت منها الريح بصوت ولهذا جاء على بناء الأصوات كالرغاء والعواء والثغاء قال ابن السكيت: الأصوات كلها مضمومة إلا حرفين: النداء والغناء
وأما التصدية: فهي في اللغة: التصفيق يقال: صدى يصدى تصدية إذا صفق بيديه قال حسان بن ثابت يعيب المشركين بصفيرهم وتصفيقهم:
إذا قام الملائكة انبعثتم... صلاتكم التصدي والمكاء
وهكذا الأشباه يكون المسلمون في الصلوات الفرض والتطوع وهم في الصفير والتصفيق
قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة ويصفرون ويصفقون
وقال مجاهد: كانوا يعارضون النبي في الطواف ويصفرون ويصفقون يخلطون عليه طوافه وصلاته ونحوه عن مقاتل
ولا ريب أنهم كانوا يفعلون هذا وهذا
فالمتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق أشباه النوع الأول وإخوانهم المخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة أشباه النوع الثاني
قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا مكان الصلاة التي أمروا بها: المكاء والتصدية فألزمهم ذلك عظيم الأوزار وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة
والمقصود: أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار ونحوه فيهم شبه من هؤلاء ولو أنه مجرد الشبه الظاهر فلهم قسط من الذم بحسب تشبههم بهم وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم والله سبحانه لم يشرع التصفيق للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح لئلا يتشبهوا بالنساء فكيف إذا فعلوه لا لحاجة وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا
فصل
وأما تسميته رقية الزنى فهو اسم موافق لمسماه ولفظ مطابق لمعناه فليس في رقى الزنى أنجع منه وهذه التسمية معروفة عن الفضيل بن عياض قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا الحسين بن عبد الرحمن قال: قال فضيل بن عياض: الغناء رقية الزنى
قال: وأخبرنا إبراهيم بن محمد المروزي عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنى
قال: وأخبرني محمد بن الفضل الأزدي قال: نزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني فقال: وما تكره من ذلك فقال: إن الغناء رائد من رادة الفجور ولا أحب أن تسمعه هذه يعني ابنته فإن كففته والإ خرجت عنك ثم ذكر عن خالد بن عبد الرحمن قال: كنا في عسكر سليمان بن عبد الملك فسمع غناء من الليل فأرسل إليهم بكرة فجىء بهم فقال: إن الفرس ليصهل فتستودق له الرمكة وإن الفحل ليهدر فتضبع له الناقة وإن التيس لينب فتستحرم له العنز وأن الرجل ليتغنى فتشتاق إليه المرأة ثم قال: اخصوهم فقال عمر بن عبد العزيز: هذه المثلة ولا تحل فخل سبيلهم قال: فخلى سبيلهم
قال: وأخبرنا الحسين بن عبد الرحمن قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: جاور الحطيئة قوما من بني كلب فمشى ذو الدين منهم بعضهم إلى بعض وقالوا: يا قوم إنكم قد رميتم بداهية هذا الرجل شاعر والشاعر يظن فيحقق ولا يستأني فيتثبت ولا يأخذ الفضل فيعفو فأتوه وهو في فناء خبائه فقالوا: يا أبا مليكة إنه قد عظم حقك علينا يتخطيك القبائل إلينا وقد أتيناك لنسألك عما تحب فنأتيه وعما تكره فنزدجر عنه فقال: جنبوني ندي مجلسكم ولا تسمعوني أغاني شبيبتكم فإن الغناء رقية الزنى فإذا كان هذا الشاعر المفتون اللسان الذي هابت العرب هجاءه خاف عاقبة الغناء وأن تصل رقيته إلى حرمته فما الظن بغيره ولا ريب أن كل غيور يجنعب أهله سماع الغناء كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى فهم أعلم بالإثم الذي يستحقه
ومن الأمر المعلوم عند القوم: أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يسمعها صوت الغناء فحينئذ تعطي الليان
وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت ومن جهة معناه ولهذا قال النبي لانجشة حادية: يا أنجشة رويدك رفقا بالقوارير يعني النساء
فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان أو الصبايا وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والحشايا وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا وكم أهدى للمشغوف به من أشجان وأحزان فلم يجد بدا من قبول تلك الهدايا وكم جرع من غصة وأزال من نعمة وجلب من نقمة وذلك منه من إحدى العطايا وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة
فسل ذا خبرة ينبيك عنه... لتعلم كم خبايا في الزوايا
وحاذر إن شغفت به سهاما... مريشة بأهداب المنايا
إذا ما خالطت قلبا كئيبا... تمزق بين أطباق الرزايا
ويصبح بعد أن قد كان حرا... عفيف الفرج: عبدا للصبايا
ويعطي من به يغني غناء... وذلك منه من شر العطايا
فصل
وأما تسميته: منبت النفاق فقال علي بن الجعد: حدثنا محمد بن طلحة عن سعيد بن كعب المروزي عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع
وقال شعبة: حدثنا الحكم عن حماد عن إبراهيم قال: قال عبد الله بن مسعود الغناء ينبت النفاق في القلب
وهو صحيح عن ابن مسعود من قوله وقد روى عن ابن مسعود مرفوعا رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذمع الملاهي
قال: أخبرنا عصمة بن الفضل حدثنا حرمي بن عمارة حدثنا سلام بن مسكين حدثنا شيع عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل
وقد تابع حرمي بن عمارة عليه بهذا الإسناد والمتن مسلم بن إبراهيم
قال أبو الحسين بن المنادي في كتاب أحكام الملاهي: حدثنا محمد بن علي بن عبد الله ابن حمدان المعروف بحمدان الوراق حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا سلام بن مسكين فذكر الحديث فمداره على هذا الشيخ المجهول وفي رفعه نظر والموقوف أصح
فإن قيل: فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي
قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس
فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء
فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا لما بينهما من التضاد فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي وينهى عن اتباع خطوات الشيطان والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغى فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح فهو والخمررضيعا لبان وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان فإنه صنو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يفسخ وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ وهو جاسوس القلب وسارق المروءة وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن فإذا استمع الغناء ومال إليه نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه وشكا إلى الله تعالى إيمانه وثقل عليه قرآنه وقال: يارب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه وأبدى من سره ما كان يكتمه وانتقل من الوقار والسكينة إلى كثرة الكلام والكذب والزهزهة والفرقعة بالأصابع فيميل برأسه ويهز منكبيه ويضرب الأرض برجليه ويدق على أم رأسه بيديه ويثب وثبات الدعباب ويدور دوران الحمار حول الدولاب ويصفق بيديه تصفيق النسوان ويخور من الوجد ولا كخوار الثيران وتارة يتأوه تأوه الحزين وتارة يزعق زعقات المجانين ولقد صدق الخبير به من أهله حيث يقول:
أتذكر ليلة وقد اجتمعنا... على طيب السماع إلى الصباح
ودارت بيننا كأس الأغاني... فأسكرت النفوس بغير راح
فلم تر فيهم إلا نشاوى... سرورا والسرور هناك صاحي
إذا نادى أخو اللذات فيه... أجاب اللهو: حى على السماح
ولم نملك سوى المهجات شيئا... أرقناها لألحاظ الملاح
وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم والعناد في قوم والكذب في قوم والفجور في قوم والرعونة في قوم
وأكثر ما يورث عشق الصور واستحسان الفواحش وإدمانه يثقل القرآن على القلب ويكرهه إلى سماعه بالخاصية وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة
وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا وأيضا فإن أساس النفاق: أن يخالف الظاهر الباطن وصاحب الغناء بين أمرين إما أن يتهتك فيكون فاجرا أو يظهر النسك فيكون منافقا فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة وقلبه يغلي بالشهوات ومحبة ما يكرهه الله ورسوله: من أصوات المعازف وآلات اللهو وما يدعو إليه الغناء ويهيجه فقلبه بذلك معمور وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله وكراهة ما يكرهه قفر وهذا محض النفاق
وأيضا فإن الإيمان قول وعمل: قول بالحق وعمل بالطاعة وهذا ينبت على الذكر وتلاوة القرآن والنفاق قول الباطل وعمل البغى وهذا ينبت على الغناء
وأيضا فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله والكسل عند القيام إلى الصلاة ونقر الصلاة وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه وأيضا: فإن النفاق مؤسس على الكذب والغناء من أكذب الشعر فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به ويقبح الحسن ويزهد فيه وذلك عين النفاق
وأيضا فإن النفاق غش ومكر وخداع والغناء مؤسس على ذلك
وأيضا فإن المنافق يفسد من حيث يظن أنه يصلح كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه والمغنى يدعو القلوب إلى فتنة الشهوات والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات قال الضحاك: الغناء مفسدة للقلب مسخطة للرب
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب على الماء
فالغناء يفسد القلب وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق
وبالجملة فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء وحال أهل الذكر والقرآن تبين له حذق الصحابة ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها وبالله التوفيق
فصل
وأما تسميته قرآن الشيطان فمأثور عن التابعين وقد روى في حديث مرفوع قال قتادة: لما أهبط إبليس قال: يا رب لعنتني فما عملي قال: السحر قال: فما قرآني قال: الشعر قال: فما كتابي قال: الوشم قال: فما طعامي قال: كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه قال: فما شرابي قال: كل مسكر قال: فأين مسكني قال: الأسواق قال: فما صوتي قال: المزامير قال: فما مصايدي قال: النساء
هذا والمعروف في هذا وقفه وقد رواه الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة مرفوعا إلى النبي
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب مكايد الشيطان وحيله: حدثنا أبو بكر التميمي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب قال حدثنا ابن زجر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن رسول الله قال: إن إبليس لما أنزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيما فاجعل لي بيتا قال: الحمام قال: فاجعل لي مجلسا قال: الأسواق ومجامع الطرقات قال: فاجعل لي طعاما قال: كل ما لم يذكر اسم الله عليه قال: فاجعل لي شرابا قال: كل مسكر قال: فاجعل لي مؤذنا قال: المزمار قال: فاجعل لي قرآنا قال: الشعر قال: فاجعل لي كتابا قال: الوشم قال: فاجعل لي حديثا قال: الكذب قال: فاجعل لي رسلا قال: الكهنة قال: فاجعل لي مصايد قال: النساء وشواهد هذا الأثر كثيرة فكل جملة منه لها شواهد من السنة أو من القرآن
فكون السحر من عمل الشيطان شاهده قوله تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقرة: 102 ]
وأما كون الشعر قرآنه فشاهده: ما رواه أبو داود في سننه من حديث جبير بن مطعم: أنه رأى رسول الله يصلي فقال: الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الله أكبر كبيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا الحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من نفخه ونفثه وهمزه قال: نفثه الشعر ونفخه: الكبر وهمزه: الموتة
ولما علم الله رسوله القرآن وهو كلامه صانه عن تعليم قرآن الشيطان وأخبر أنه لا ينبغي له فقال: وما علمناه الشعر وما ينبغي له [ يس: 69 ]
وأما كون الوشم كتابه فإنه من عمله وتزيينه ولهذا لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة فلعن الكاتبة والمكتوب عليها
وأما كون الميتة ومتروك التسمية طعامه فإن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر عليه اسم الله تعالى ويشارك آكله والميتة لا يذكر عليها اسم الله تعالى فهي وكل طعام لا يذكر عليه اسم الله تعالى من طعامه ولهذا لما سأل الجن الذين آمنوا برسول الله الزاد قال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه فلم يبح لهم طعام الشياطين وهو متروك التسمية
وأما كون المسكر شرابه فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان [ المائده: 90 ] فهو يشرب من الشراب الذي عمله أولياؤه بأمره وشاركهم في عمله فيشاركهم في عمله وشربه وإثمه وعقوبته
وأما كون الأسواق مجلسه ففي الحديث الآخر: أنه يركز رايته بالسوق ولهذا يحضره اللغو واللغط والصخب والخيانة والغش وكثير من عمله وفي صفة النبي في الكتب المتقدمة: أنه ليس صخابا بالأسواق
وأما كون الحمام بيته فشاهده كونه غير محل للصلاة وفي حديث أبي سعيد: الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ولأنه محل كشف العورات وهو بيت مؤسس على النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها
وأما كون المزمار مؤذنه ففي غاية المناسبة فإن الغناء قرآنه والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية صلاته فلابد لهذه الصلاة من مؤذن وإما ومأموم فالمؤذن المزمار والإمام المغني والمأموم الحاضرون
وأما كون الكذب حديثه فهو الكاذب الآمر بالكذب المزين له فكل كذب يقع في العالم فهو من تعليمه وحديثه
وأما كون الكهنة رسله فلأن المشركين يهرعون إليهم ويفزعون إليهم في أمورهم العظام ويصدقونهم ويتحاكمون إليهم ويرضون بحكمهم كما يفعل أتباع الرسل بالرسل فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب ويخبرون عن المغيبات التي لا يعرفها غيرهم فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرسل فالكهنة رسل الشيطان حقيقة أرسلهم إلى حزبه من المشركين وشبههم بالرسل الصادقين حتى استجاب لهم حزبه ومثل رسل الله بهم لينفر عنهم ويجعل رسله هم الصادقين العالمين بالغيب ولما كان بين النوعين أعظم التضاد قال رسول الله من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة وأتباع رسل الله فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء بل يبعد عن رسول الله بقدر قربه من الكاهن ويكذب الرسول بقدر تصديقه للكاهن
وقوله: اجعل لي مصايد قال: مصايدك النساء فالنساء أعظم شبكة له يصاد بهن الرجال كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفصل الذي بعد هذا
والمقصود: أن الغناء المحرم قرآن الشيطان
ولما أراد عدو الله أن يجمع عليه نفوس المبطلين قرنه بما يزينه من الألحان المطربة وآلات الملاهي والمعازف وأن يكون من امرأة جميلة أو صبي جميل ليكون ذلك أدعى إلى قبول النفوس لقرآنه وتعوضها به عن القرآن المجيد
فصل
وأما تسميته بالصوت الأحمق والصوت الفاجر فهي تسمية الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى
فروى الترمذي من حديث ابن أبي ليلى عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله مع عبد الرحمن بن عوف إلى النخل فإذا ابنه ابراهيم يجود بنفسه فوضعه في حجره ففاضت عيناه فقال عبد الرحمن: أتبكي وأنت تنهى الناس قال: إني لم أنه عن البكاء وإنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة: لهو ولعب ومزامير شيطان وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة وهذا هو رحمة ومن لا يرحم لا يرحم لولا أنه أمر حق ووعد صدق وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا وإنا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب قال الترمذي: هذا حديث حسن
فانظر إلى هذا النهي المؤكد بتسميته صوت الغناء صوتا أحمق ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور ولم يقتصر على ذلك حتى سماه من مزامير الشيطان وقد أقر النبي ص أبا بكر الصديق على تسمية الغناء مزمور الشيطان في الحديث الصحيح كما سيأتي فإن لم يستفد التحريم من هذا لم نستفده من نهي أبدا
وقد اختلف في قوله: لا تفعل وقوله نهيت عن كذا أيهما أبلغ في التحريم، والصواب بلا ريب: أن صيغة نهيت أبلغ في التحريم لأن لا تفعل يحتمل النهي وغيره بخلاف الفعل الصريح
فكيف يستحيز العارف إباحة ما نهى عنه رسول الله ص وسماه صوتا أحمق فاجرا ومزمور الشيطان وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا
وقال الحسن: صوتان ملعونان: مزمار عند نغمه ورنة عند مصيبة
وقال أبو بكر الهذلي: قلت للحسن: أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم قال: لا ولكن ههنا خمش وشق جيوب ونتف أشعار ولطم خدود ومزامير شيطان صوتان قبيحان فاحشان: عند نغمة إن حدثت وعند مصيبة إن نزلت ذكر الله المؤمنين فقال: والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ المعارج: 24 ] وجعلتم أنتم في أموالكم حقا معلوما للمغنية عند النغمة والنائحة عند المصيبة
فصل
وأما تسميته صوت الشيطان فقد قال تعالى للشيطان وحزبه اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاءكم جزاء موفورا واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ الاسراء: 63 ]
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء: 63 ] قال: كل داع إلى معصية
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية ولهذا فسر صوت الشيطان به
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد واستفزز من استطعت منهم بصوتك [ الاسراء: 63 ] قال: استزل منهم من استطعت قال وصوته الغناء والباطل
وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال: صوته هو المزامير
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: صوته هو الدف
وهذه الإضافة إضافة تخصيص كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك فكل متكلم بغير طاعة الله ومصوت بيراع أو مزمار أو دف حرام أو طبل فذلك صوت الشيطان وكل ساع في معصية الله على قدميه فهو من رجله وكل راكب في معصية الله فهو خيالته كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: رجله كل رجل مشت في معصية الله
وقال مجاهد: كل رجل يقاتل في غير طاعة الله فهو من رجله
وقال قتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس
فصل
وأما تسميته مزمور الشيطان ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل على النبي ص وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني وقال: مزمار الشيطان عند النبي ص فأقبل عليه رسول الله ص فقال: دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا
فلم ينكر رسول الله على أبي بكر تسمية الغناء مزمار الشيطان وأقرهما لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل في يوم حرب بعاث من الشجاعة والحرب وكان اليوم يوم عيد فتوسع حزب الشيطان في ذلك إلى صوت امرأة جميلة أجنبية أو صبي أمرد صوته فتنة وصورته فتنة يغني بما يدعو إلى الزنى والفجور وشرب الخمور مع آلات اللهو التي حرمها رسول الله في عدة أحاديث كما سيأتي مع التصفيق والرقص وتلك الهيئة المنكرة التي لا يستحلها أحد من أهل الأديان فضلا عن أهل العلم والإيمان ويحتجون بغناء جويريتين غير مكلفتين بنشيد الأعراب ونحوه في الشجاعة ونحوها في يوم عيد بغير شبابة ولا دف ولا رقص ولا تصفيق ويدعون المحكم الصريح لهذا المتشابه وهذا شأن كل مبطل
نعم نحن لا نحرم ولا نكره مثل ما كان في بيت رسول الله ص على ذلك الوجه وإنما نحرم نحن وسائر أهل العلم والإيمان السماع المخالف لذلك وبالله التوفيق
فصل
وأما تسميته بالسمود فقد قال تعالى: أفمن هكذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون [ النجم: 59 ] قال عكرمة عن ابن عباس: السمود: الغناء في لغة حمير يقال: اسمدى لنا أي غنى لنا وقال أبو زبيد:
وكأن العزيف فيها غناء... للندامى من شارب مسمود
قال أبو عبيدة: المسمود: الذي غنى له وقال عكرمة: كانوا إذا سمعوا القرآن تغنوا فنزلت هذه الآية
وهذا لا يناقض ما قيل في هذه الآية من أن السمود الغفلة والسهو عن الشيء قال المبرد: هو الاشتغال عن الشيء بهم أو فرح يتشاغل به وأنشد:
رمى الحدثان نسوة آل حرب... بمقدار سمدن له سمودا
وقال ابن الأنباري: السامد اللاهي والسامد الساهي والسامد المتكبر والسامد القائم
وقال ابن عباس في الآية: وأنتم مستكبرون وقال الضحاك أشرون بطرون وقال مجاهد: غضاب مبرطمون وقال غيره: لا هون غافلون معرضون
فالغناء يجمع هذا كله ويوجبه فهذه أربعة عشر اسما سوى اسم الغناء
فصل في بيان تحريم رسول الله ص الصريح لآلات اللهو والمعازف وسياق الأحاديث في ذلك
عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري رضي الله عنهما أنه سمع النبي ص يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف هذا حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به وعلقه تعليقا مجزوما به فقال: باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه وقال هشام ابن عمار: حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعرى قال حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني أنه سمع النبي ص يقول ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة فيقولوا: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة
ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي وزعم أنه منقطع لأن البخاري لم يصل سنده به وجواب هذا الوهم من وجوه:
أحدها: أن البخاري قد لقى هشام بن عمار وسمع منه فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام
الثاني: أنه لو لم يسمع منه فهو لم يستجز الجزم به عنه إلا وقد صح عنه أنه حدث به وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس
الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به فلولا صحته عنده لما فعل ذلك
الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم دون صيغة التمريض فإنه إذا توقف في الحديث أو لم يكن على شرطه يقول: ويروى عن رسول الله ص ويذكر عنه ونحو ذلك: فإذا قال: قال رسول الله ص فقد جزم وقطع بإضافته إليه
الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا فالحديث صحيح متصل عند غيره
قال أبو داود في كتاب العباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس قال: سمعت عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال حدثنا أبو عامر أو أبو مالك فذكره مختصرا ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا فقال: أبو عامر ولم يشك
ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر والخز فإن كان بالحاء والراء المهملتين فهو استحلال الفروج الحرام وإن كان بالخاء والزاى المعجمتين فهو نوع من الحرير غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه إذ الخز نوعان أحدهما: من حرير والثاني: من صوف وقد روى هذا الحديث بالوجهين
وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد الله بن سعيد عن معاوية بن صالح عن حاتم ابن حريث عن ابن أبي مريم عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رءوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير وهذا إسناد صحيح وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض ويمسخهم قردة وخنازير وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال فلكل واحد قسط في الذم والوعيد
وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي وعمران بن حصين وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي وعائشة أم المؤمنين وعلي ابن أبي طالب وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سابط والغازي بن ربيعة
ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان
فأما حديث سهل بن سعد فقال ابن أبي الدنيا: أخبرنا الهيثم بن خارجة حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله ص يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قيل: يا رسول الله متى قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمرة
وأما حديث عمران بن حصين فرواه الترمذي من حديث الأعمش عن هلال بن يساف عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله ص يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ فقال رجل من المسلمين: متى ذاك يا رسول الله قال: إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور قال الترمذي: هذا حديث غريب
وأما حديث عبد الله بن عمرو فروى أحمد في مسنده وأبو داود عنه أن النبي ص قال: إن الله تعالى حرم على أمتي الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام
وفي لفظ آخر لأحمد: إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين
وأما حديث ابن عباس ففي المسند أيضا: عنه أن رسول الله ص قال: إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام والكوبة الطبل قاله سفيان وقيل: البربط والقنين هو الطنبور بالحبشية والتقنين: الضرب به قاله ابن الأعرابي
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فرواه الترمذي عنه قال: قال رسول الله ص إذا اتخذ الفىء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمر ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمى حدثنا سليمان بن سالم أبو داود حدثنا حسان بن أبي سنان عن رجل عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ص يمسخ قوم من هذه الأمة في آخر الزمان قردة وخنازير قالوا: يا رسول الله أليس يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال: بلى ويصومون ويصلون ويحجون قيل: فما بالهم قال: اتخذوا المعازف والدفوف والقينات فباتوا على شربهم ولهوهم فأصبحوا وقد مسخوا قردة وخنازير
وأما حديث أبي أمامة الباهلي فهو في مسند أحمد والترمذي عنه عن النبي ص قال: يبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب ثم يصبحون قردة وخنازير ويبعث على أحياء من أحيائهم ريح فينسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات في إسناده فرقد السبخي وهو من كبار الصالحين ولكنه ليس بقوى في الحديث وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن عمر الجشمي حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا فرقد السبخي حدثنا قتادة عن سعيد بن المسيب قال: حدثني عاصم بن عمرو والبجلي عن أبي أمامة عن رسول الله ص قال: يبيت قوم من هذه الأمة على طعم وشرب ولهو فيصبحون وقد مسخوا قردة وخنازير وليصيبنهم خسف وقذف حتى يصبح الناس فيقولون: خسف الليلة بدار فلان خسف الليلة ببني فلان وليرسلن عليهم حجارة من السماء كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها وعلى دور فيها وليرسلن عليهم الريح العقيم التي أهلكت عادا بشربهم الخمر وأكلهم الربا واتخاذهم القينات وقطيعتهم الرحم
وفي مسند أحمد من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي ص قال: إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية
قال البخاري: عبيدالله بن زحر ثقة وعلى بن يزيد ضعيف والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ثقة
وفي الترمذي ومسند أحمد بهذا الإسناد بعينه: أن النبي ص قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام وفي مثل هذا نزلت هذه الآية 31: 6 ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله الآية
وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقال ابن أبي الدنيا حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت قال رسول الله ص يكون في أمتي خسف ومسخ وقذف قالت عائشة يا رسول الله وهم يقولون لا إله إلا الله فقال إذا ظهرت القينات وظهر الزنى وشربت الخمر ولبس الحرير كان ذا عند ذا
وقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا محمد بن ناصح حدثنا بقية بن الوليد عن يزيد بن عبد الله الجهني حدثني أبو العلاء عن أنس بن مالك أنه دخل على عائشة رضي الله عنها ورجل معه فقال لها الرجل يا أم المؤمنين حدثينا عن الزلزلة فقال إذا استباحوا الزنى وشربوا الخمر وضربوا بالمعازف غار الله في سمائه فقال تزلزلي بهم فإن تابوا وفزعوا وإلا هدمتها عليهم قال قلت يا أم المؤمنين أعذاب لهم قالت بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين ونكال وعذاب وسخط على الكافرين قال أنس ما سمعت حديثا بعد رسول الله ص أنا أشد به فرحا مني بهذا الحديث
وأما حديث علي فقال ابن أبي الدنيا أيضا حدثنا الربيع بن تغلب حدثنا فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن علي عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ص إذا عملت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل يا رسول الله وما هن قال إذا كان المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان ولعن آخر هذه الآمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وخسفا ومسخا
حدثنا عبد الجبار بن عاصم قال حدثنا أبو طالب قال حدثنا اسمعيل بن عياش عن عبد الرحمن التميمي عن عباد بن أبي علي عن علي رضي الله عنه عن النبي ص أنه قال تمسخ طائفة من أمتي قردة وطائفة خنازير ويخسف بطائفة ويرسل على طائفة الريح العقيم بأنهم شربوا الخمر ولبسوا الحرير واتخذوا القيان وضربوا بالدفوف
وأما حديث أنس رضي الله عنه فقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو عمرو هرون بن عمر القرشي حدثنا الخصيب بن كثير عن أبي بكر الهذلي عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله ص ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذاك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف
قال وأنبأنا أبو إسحق الأزدي حدثنا إسمعيل بن أبي أويس حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أحد ولد أنس بن مالك وعن غيره عن أنس بن مالك قال قال رسول الله ص ليبيتن رجال على أكل وشرب وعزف فيصبحون على أرائكهم ممسوخين قردة وخنازير
وأما حديث عبد الرحمن بن سابط فقال ابن أبي الدنيا حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا جرير عن أبان بن تغلب عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال قال رسول الله ص يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ قالوا فمتى ذاك يا رسول الله قال إذا أظهروا المعازف واستحلوا الخمور
وأما حديث الغازي بن ربيعة فقال ابن أبي الدنيا حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا إسمعيل بن عياش عن عبيدالله بن عبيد عن أبي العباس الهمداني عن عمارة بن راشد عن الغازي بن ربيعة رفع الحديث قال ليمسخن قوم وهم على أريكتهم قردة وخنازير بشربهم الخمر وضربهم بالبرابط والقيان
قال ابن أبي الدنيا وحدثنا عبد الجبار بن عاصم قال حدثني المغيرة بن المغيرة عن صالح بن خالد رفع ذلك إلى النبي ص أنه قال ليستحلن ناس من أمتي الحرير والخمر والمعازف وليأتين الله على أهل حاضر منهم عظيم بجبل حتى ينبذه عليهم ويمسخ آخرون قردة وخنازير
قال ابن أبي الدنيا حدثنا هارون بن عبيدالله حدثنا يزيد بن هرون حدثنا أشرس أبو شيبان الهذلي قال قلت لفرقد السبخي أخبرني يا أبا يعقوب من تلك الغرائب التي قرأت في التوراة فقال يا أبا شيبان والله ما أكذب على ربي مرتين أو ثلاثا لقد قرأت في التوراة ليكونن مسخ وخسف وقذف في أمة محمد ص في أهل القبلة قال قلت يا أبا يعقوب ما أعمالهم قال باتخاذهم القينات وضربهم بالدفوف ولباسهم الحرير والذهب ولئن بقيت حتى ترى أعمالا ثلاثة فاستيقن واستعد واحذر قال قلت ما هي قال إذا تكافأ الرجال بالرجال والنساء بالنساء ورغبت العرب في آنية العجم فعند ذلك قلت له العرب خاصة قال لا بل أهل القبلة ثم قال والله ليقذفن رجال من السماء بحجارة يشدخون بها في طرقهم وقبائلهم كما فعل بقوم لوط وليمسخن آخرون قردة وخنازير كما فعل ببني إسرائيل وليخسفن بقوم كما خسف بقارون
وقد تظاهرت الأخبار بوقوع المسخ في هذه الأمة وهو مقيد في أكثر الأحاديث بأصحاب الغناء وشاربي الخمر وفي بعضها مطلق
قال سالم بن أبي الجعد ليأتين على الناس زمان يجتمعون فيه على باب رجل ينتظرون أن يخرج إليهم فيطلبون إليه حاجة فيخرج إليهم وقد مسخ قردا أو خنزيرا وليمرن الرجل على الرجل في حانوته يبيع فيرجع إليه وقد مسخ قردا أو خنزيرا
وقال أبو هريرة رضي الله عنه لا تقوم الساعة حتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيمسخ أحدهما قردا أو خنزيرا فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمضي إلى شأنه ذلك حتى يقضي شهوته وحتى يمشي الرجلان إلى الأمر يعملانه فيخسف بأحدهما فلا يمنع الذي نجا منهما ما رأى بصاحبه أن يمشي لشأنه ذلك حتى يقضي شهوته منه
وقال عبد الرحمن بن غنم سيكون حيان متجاورين فيشق بينهما نهر فيستقيان منه قبسهم واحد يقبس بعضهم من بعض فيصبحان يوما من الأيام قد خسف بأحدهما والآخر حي
وقال عبد الرحمن بن غنم أيضا يوشك أن يقعد اثنان على رحا يطحنان فيمسخ أحدهما والآخر ينظر
وقال مالك بن دينار بلغني أن ريحا تكون في آخر الزمان وظلم فيفزع الناس إلى علمائهم فيجدونهم قد مسخوا
قال بعض أهل العلم إذا اتصف القلب بالمكر والخديعة والفسق وانصبغ بذلك صبغا تاما صار صاحبه على خلق الحيوان الموصوف بذلك من القردة والخنازير وغيرهما ثم لا يزال يتزايد ذلك الوصف فيه حتى يبدو على صفحات وجهه بدوا خفيا ثم يقوى ويتزايد حتى يصير ظاهرا على الوجه ثم يقوى حتى يقلب الصورة الظاهرة كما قلب الهيئة الباطنة ومن له فراسة تامة يرى على صور الناس مسخا من صور الحيوانات التي تخلقوا بأخلاقها في الباطن فقل أن ترى محتالا مكارا مخادعا ختارا إلا وعلى وجهه مسخة قرد وقل أن ترى رافضيا إلا وعلى وجهه مسخة خنزير وقل أن ترى شرها نهما نفسه نفس كلبية إلا وعلى وجهه مسخة كلب فالظاهر مرتبط بالباطن أتم ارتباط فإذا استحكمت الصفات المذمومة في النفس قويت على قلب الصورة الظاهرة ولهذا خوف النبي ص من سابق الإمام في الصلاة بأن يجعل الله صورته صورة حمار لمشابهته للحمار في الباطن فإنه لم يستفد بمسابقة الإمام إلا فساد صلاته وبطلان أجره فإنه لا يسلم قبله فهو شبيه بالحمار في البلادة وعدم الفطنة
إذا عرف هذا فأحق الناس بالمسخ هؤلاء الذين ذكروا في هذه الأحاديث فهم أسرع الناس مسخا قردة وخنازير لمشابهتهم لهم في الباطن وعقوبات الرب تعالى نعوذ بالله منها جارية على وفق حكمته وعدله
وقد ذكرنا شبه المغنين والمفتونين بالسماع الشيطاني ونقضناها نقضا وإبطالا في كتابنا الكبير في السماع وذكرنا الفرق بين ما يحركه سماع الأبيات وما يحركه سماع الآيات
وذكرنا الشبه التي دخلت على كثير من العباد في حضوره حتى عدوه من القرب فمن أحب الوقوف على ذلك فهو مستوفى في ذلك الكتاب وإنما أشرنا ههنا إلى نبذة يسيرة في كونه من مكايد الشيطان وبالله التوفيق
فصل
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)