هنالك لوحات هي من السذاجة والبرودة بحيث تخلق عندك عقدة رجولة.. وليس فقط عقدة إبداع!
ورغم ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي وهزائمي السرية أحدٌ.
فالآخرون لن يروا غير انتصاراتي، معلّقة على الجدران في إطار جميل. وأما سلال المهملات، فستبقى دائماً في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة عن الأضواء.
فالذي يجلس أمام مساحة بيضاء للخلق، لا بدّ أن يكون إلهاً أو عليه أن يغّير مهنته.
أأكون إلهاً؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، لم يبق منها قائماً غير الأعمدة الشاهقة المتآكلة الأطراف؟
هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من الداخل كل يوم؟ شهران.. ولا شي سوى رقم هاتفي مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجفّ لها الفرشاة.
وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل.
كنت أدرى جدلية الرسم والكتابة كما أردتها أنت.
كنت تفرغين من الأشياء كلما كتبتِ عنها، وكأنك تقتلينها بالكلمات. وكنت كلما رسمت امتلأت بها أكثر، وكأنني أبعث الحياة في تفاصيلها المنسية. وإذا بي أزداد تعلقاً بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران الذاكرة.
أن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضاً، بعدما أسكنتك قلبي؟
حماقة قرّرت في البدء ألا أرتكبها. ولكنني اكتشفت ليلا بعد آخر عبثية قراري.
لماذا كان الليل هزيمتي؟
ألأنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم لأن للفن طقوس الشهوة السرية التي تولد غالباً ليلاً في ذلك الزمان الخارج عن الزمن..
والخارج عن القانون؟
على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل..
كنت أقترفك..
كنت أرسم بشفتي حدود جسدك.
أرسم برجولتي حدود أنوثتك.
أرسم بأصابعي كل ما لا تصله الفرشاة..
بيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعرّيك وألبسك وأغيّر تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي.
يا امرأة على شاكلة وطن..
امنحيني فرصة بطولة أخرى. دعيني بيدِ واحدة أغير مقاييسك للرجولة ومقاييسك للحب.. ومقاييسك للذّة! كم من الأيدي احتضنتك دون دفء! كم من الأيدي تتالت عليك.. وتركت أظافرها على عنقك، وإمضاءها أسفل جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ.
أحبك السراق والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم تقطع أيديهم.
ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل، أصبحوا ذوي عاهات.
لهم كل شيء، ولا شيء غيرك لي.
أنت لي الليلة ككل ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية؟
أنت لذّتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطق.
كلّ ليلة تسقط قلاعك في يدي، ويستسلم حراسك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري، فأمرر يدي على شعرك الأسود الطويل المبعثر على وسادتي، فترتعشين كطائر بلّله القطر. ثم يستجيب جسدك النائم لي.
كيف حدث هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟
ترى صوتك الذي تعودت عليه حد الإدمان، صوتك الذي كان يأتي شلال حبّ وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة عليّ؟
حبك هاتف يسأل "واشك؟"
يدثرني ليلاً بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه قنديل شوق، عندما تنطفئ الأضواء.
يخاف عليّ من العتمة، يخاف عليّ من وحدتي ومن شيخوختي. فيعيدني إلى الطفولة دون استشارتي. يقصّ عليّ قصصاً يصدّقها الأطفال. يغنّي لي أغنيات ينام لسماعها الأطفال.
تُرى أكان يكذب؟ هل تكذب الأمهات أيضاً؟
هذا ما لا يصدقه الأطفال!
ما الذي أوصلني إلى جنوني؟
ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعل القبل كلّ هذا؟.
أذكر أنني قرأت عن قُبل غيرت عمراً ولم أصدّق..
كيف يمكن لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر طويلاً للجبروت والتفوق أن يقع صريع قبلة واحدة، سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى معبد، صحبة " Lou" المرأة التي أحبها أكثر من كاتب وشاعر في عصرها. كان أحدهم " أبولينير" الذي تغزّل فيها طويلاً وبكاها أمام هذا الجسر نفسه، واجداً في اسمها المطابق بالفرنسية تماماً لاسم الذئب " Loup" دليلاً قاطعا على قدره معها؟
أما (نيتشه) القائل "عندما تزور امرأة لا تنس أن تصحب معك العصا" فقد كان أمامها رجلاً محطما، ضعيفاً، وبدون إرادة. حتى إن أمه قالت يوماً "لم تترك هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثلاثة: إما أن يتزوجها.. أو ينتحر.. أو يصبح مجنوناً!".
كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل أخجل من ضعفي معك، وأنا لست فيلسوفاً للقوة، ولست شمشون الذي فقد شعره وقوته الأسطورية بسبب قبلة؟
هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأ عمري على شفتيك؟
لا أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هل انتحر أم أصبح مجنوناً؟
أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلّبات نفسية متناقضة، كدت ألامس فيها شيئاً يشبه الجنون، ذلك الجنون الذي كان يغريك، وكنت تتغزّلين لي به كثيراً، وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية.
فليكن.. سأعترف لك اليوم، بعد كل تلك السنوات، أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل.
أكان عشقاً فقط، أم لأهديك لا شعورياً اللعبة التي لم تكوني قد حصلت عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به.
حدث كثيراً وقتها، أن استعدت قصتي معك فصلا فصلا.
كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو لي حبك قصة أسطورية أكبر منك ومني. شيئاً ربما كان مقدراً مسبقاً منذ قرون، منذ.. كانت قسنطينة مدينة تدعى (سيرتا).
ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجلاً استوقفتك ذاكرته وأغراك جنونه بقصة ما؟
ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما، تحلمين بارتكابها في كتاب قادم؟
ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "الإجرامي" فيك، فأذكر أنني كنت أيضاً نسخة عن والدك. وأنني بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى الأبد ذاك الجسر السري الذي كان يجمعنا.
آنذاك، كنت أقرر الاعتذار منك. وأستيقظ من نومي وأتجه إلى مرسمي. أجلس طويلاً أمام لوحتك البيضاء وأتساءل: من أين أبدأك؟
أتأمل طويلاً صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها دون إهداء. أكتشف أن وجهك لا علاقة له بالصورة. فكيف أضع عمراً لوجهك الجديد والقديم معاً. كيف أنقل عنك نسخة دون أن أخونك؟
أتذكر وسط ارتباكي ( ليوناردو دافنشي)، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادراً على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان نفسه. بأي يد تراه رسم (الجوكندا) ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن أرسمك أنا؟
ماذا لو كنت المرأة التي لا ترسم إلا باليد اليسرى، تلك التي لم تعد يدي؟
خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس لأتفرج عليك عساني أكتشف أخيراً سرك. فربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهمك.
█║S│█│Y║▌║R│║█
فكرت حتى في إمكانية عرضتلك للوحة مقلوبة في معرض. سيكون اسمها "أنت".
سيتوقف أمامها الكثيرون. وقديعجبون بها، دون أن يتعرف أحدهم تماما عليك.
أليس هذا ما تريدين فيالنهاية؟!
***
مرّ أكثر من أسبوع، وأكثر من نشرة جوية قبل أنيأتي صوتك ذات صباح دون مقدمات:
- كيف أنت؟
اندهش القلب الذي لميتوقع هدية صباحية كتلك. وارتبك الكلام:
- وينك؟
كان صوتك يبدوقريباً أو هكذا خيّل لي. ولكنك أجبتني بضحكة أعرف مراوغتها:
- حاول أنتحزر!
أجبتك كمن يحلم:
- هل عدتِ إلى باريس؟
ضحكتوقلت:
- أي باريس.. أنا في قسنطينة. جئت هنا منذ أسبوع لأحضر زواج إحدىالقريبات.. وقلت لا بد أن أطلبك من هنا. طمّني عنك ماذا تفعل في هذا الصيف.. ألمتسافر إلى أيّ مكان؟
اختصرت عذابي في بضع كلمات قلت:
- إنني متعب.. جدّ متعب.. كيف لم تتصلي بي حتى الآن؟
فقلت وكأنك طبيب سيكتب وصفة لمريض، أوشيخ يطلب منه كتابة حجاب أو تعاويذ سحرية:
- سأكتب لك.. والله سأكتب لكقريباً.. يجب أن تعذرني. أنت لا تدري كم الحياة هنا مزعجة وصعبة. إن الواحد لا يخلولنفسه في هذه المدينة ولو لحظة. حتى الكلام على الهاتف مغامرة بوليسية..
- وماذا تفعلين؟
- لا شيء.. أنتقل من بيت إلى آخر، ومن دعوة إلى أخرى. حتىالمدينة لم أتجول فيها على قدمي، لقد عبرتها بالسيارة فقط..
ثم أضفت وكأنكتذكرت فجأة شيئاً هاماً:
- أتدري.. أنت على حق. إن أجمل ما في قسنطينة،جسورها لا غير. لقد ذكرتك وأنا أعبرها..
كنت أود تلك اللحظة لو سألتك "هلتحبينني؟" ولكنني سألتك بحمافة:
- هل تحبينها؟.
أجبتني بعد شيء منالصمت، وكأنني طرحت عليك سؤالاً يستدعي التفكير:
- ربما بدأتأحبها..
قلت:
- شكراً..
ضحكت.. قلت وأنت تنهينالمكالمة:
- أيها الأحمق.. لن تتغير!
***
المرء يفتح شباكه لينظر إلى الخارج.. ويفتح عينيه لينظر إلى الباطن.. وما النظر سوى تسلقك الجدار الفاصل بينك وبين الحرية..".
في ذلك الصباح، أشعلت سيجارة صباحية على غير عادتي. وجلست على شرفتي أمام فنجان قهوة، أتأمل نهر السين، وهو يتحرك ببطء تحت جسر ميرابو.
كانت زرقته الصيفية الجميلة، تستفزّني ذلك الصباح دون مبرر. تذكرني فجأة بالعيون الزرق التي لا أحبها.
أترى لأنه لا نهر في قسنطينة.. أعلنت العداء على هذا النهر؟
نهضت دون أن أكمل سيجارتي. كنت فجأة على عجل.
فليكن.. عفوك أيها النهر الحضاري. عفوك أيها الجسر التاريخي. عفوك صديقي (أبولينير). هذه المرة أيضاً سأرسم جسراً آخر غير هذا.
كنت هذه المرة ممتلئاً بك، بصوتك القادم من هناك، ليوقظ من جديد تلك المدينة داخلي.
ألم أكن قد لمست الفرشاة من ثلاثة أشهر. وكان داخلي شيء ما على وشك أن ينفجر بطريقة أو بأخرى. كل تلك الأحاسيس والعواطف المتضاربة، التي عشتها قبل رحيلك وبعده، والتي تراكمت داخلي كقنبلة موقوتة.
وكان لا بد أن أرسم لأرتاح أخيراً.
أرسم ملء يدي.. ملء أصابعي. أرسم بيدي الموجودة وبتلك المفقودة. أرسم بكل تقلباتي، بتناقضي وجنوني وعقلي، بذاكرتي ونسياني. حتى لا أموت قهرا ذات صيف، في مدينة فارغة إلا من السواح والحمام.
وهكذا بدأت ذلك الصباح لوحة لقنطرة جديدة، قنطرة سيدي راشد.
لم أكن أتوقع يومها وأنا أبدأها، أنني أبدأ أغرب تجربة رسم في حياتي، وأنها ستكون البداية لعشر لوحات أخرى، سأرسمها في شهر ونصف دون توقف، إلا لسرقة ساعات قليلة من النوم، أنهض منها غالباً مخطوفاً بشهية جنونية للرسم.
كانت الألوان تأخذ فجأة لون ذاكرتي، وتصبح نزيفاً يصعب إيقافه.
ما كنت أنتهي من لوحة حتى تولد أخرى، وما أنتهي من حيّ حتى يستيقظ آخر، وما أكاد أنتهي من قنطرة، حتى تصعد من داخلي أخرى..
كنت أريد أن أرضي قسنطينة حجراً.. حجراً، جسراً.. جسراً.. حياً.. حياً، كما يرضي عاشق جسد امرأة لم تعد له.
كنت أعبرها ذهاباً وإياباً بفرشاتي، وكأنني أعبرها بشفاهي. أقبّل ترابها.. وأحجارها وأشجارها ووديانها. أوزّع عشقي على مساحتها قُبلاً ملونة. أرشها بها شوقاً.. وجنوناً.. وحباً حتى العرق.
وكنت أسعد وذلك القميص يلتصق بي، بعد ساعات من الالتحام بها.
العرق دموع الجسد. ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة. ولا من أجل أية لوحة. الجسد يختار لمن يعرق.
وكنت سعيداً أن تكون قسنطينة، هي اللوحة التي بكى لها جسدي.
في ذلك الشهر الأخير من الصيف، كنت ما أزال أتوقع رسالة منك، تعطيني شيئاً من القوة والحماسة اللتين افتقدتهما خلال الشهرين الماضيين لغيابك. عندما فاجأتني رسالة من زياد.
كانت رسائله القادمة من بيروت تدهشني دائماً حتى قبل أن أفتحها.
كنت أتساءل كل مرة، كيف وصلت هذه الرسالة إلى هنا؟ من أي مخيم أو من أية جبهة، تحت أي سقف مدمر يكون قد كتبها؟ أي صندوق أودعها، وكم من ساعي بريد تناوب عليها حتى تصل هنا، داخل صندوق بريدي.. بالحي السادس عشر بباريس؟
كنت أعاملها دائماً بحب خاص. كانت تذكرني بزمن حرب التحرير، يوم كنا نبعث الرسائل لأهلنا مهربة تحت الثياب.
كم من الرسائل لم تصل، وماتت مع أصحابها! وكم من الرسائل وصلت بعد فوات الأوان. هنالك قصص تصلح لأكثر من رواية.
آخر رسالة لزياد كانت تعود لما يقارب السنة.
كان يحدث أن يكتب لي هكذا دون مناسبة، رسائل مطوّلة أحياناً، وموجزة أحياناً أخرى، كان يسمّيها "إشعار بالحياة".
في البدء ضحكت لهذه التسمية التي يريد أن يخبرني بها فقط أنه مازال على قيد الحياة.
█║S│█│Y║▌║R│║█
بعدها أصبحت أخافصمته الطويل، وانقطاع رسائله. فقد كان يحمل لي احتمال إشعار بشيء آخر.
هذهالمرة، كان يريد أن يخبرني أنه قد يحضر إلى باريس في بداية أيلول. وأنه ينتظرجواباً سريعاً مني ليتأكد من وجودي في باريس في هذه الفترة.
فاجأتنيرسالته.. وأسعدتني وأدهشتني.
ذهب تفكيري إليك وقلت "طويل عمر هذا الرجل.. ماكدت أذكره معكِ حتى حضر". ثم تساءلت تراك قرأت أشعاره؟ وهل أعجبتك؟ وماذا سيكون ردفعلك إذا قلت لك إنه سيحضر إلى باريس، أنت التي خفت أن يكون قد مات، وأبديتاهتماماَ بقصته؟
كان الصيف ينسحب تدريجياً. وكنت أستعيد توازني تدريجياًكذلك.
لقد أنقذتني تلك اللوحات من الانهيار. كان لا بد أن أرسمها لأخرج منتلك المطبات الجنونية التي وضعت عليها قدميّ معك.
كنت قدفقدت كثيراً منوزني. ولكن لم يكن ذلك يعنيني. أو ربما لم أكن وقتها لأنتبه له، بعدما أصبحت أنظرإلى اللوحات، وأنسى أن أنظر إلى نفسي في مرآة.
كنت أعتقد أن الذي خسرته منوزن في أيام، هو الذي ربحته من مجد إلى الأبد. ولذا كان يحلو لي أن أتأمل نزيفيوجنوني معلّقاً أمامي: إحدى عشرة لوحة لم تعد تكفيها جدران البيت.
وربما جاءتعلّقي بها، كذلك، لكوني كنت أدري وأنا أضع فرشاتي لآخر مرة وأنا أنتهي منها، أنهقد تمر عدة أشهر قبل أن أشعر برغبة جديدة في الرسم.
فقد كنت فرغت مرة واحدةمن ذاكرتي.. وارتحت.
كنا على أبواب أيلول. وكنت سعيدا أو ربما في حالة ترقّبللسعادة.
ستعودين أخيراً.. كنت أنتظر الخريف كما لم أنتظره من قبل. كانتالثياب الشتوية المعروضة في الواجهات تعلن عودتك. اللوازم المدرسية التي تملأ رفوفالمحلات، تعلن عودتك.
والريح، والسماء البرتقالية.. والتقلبات الجوية.. كلهاكانت تحمل حقائبك.
ستعودين..
مع النوء الخريفي، مع الأشجار المحمرة،مع المحافظ المدرسية.
ستعودين..
مع الأطفال العائدين إلى المدارس، معزحمة السيارات، مع مواسم الإضرابات، مع عودة باريس إلى ضوضائها.
مع الحزنالغامض.. مع المطر.
مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون.
ستعودينلي.. يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب اللياليالثلجية.
أكنت أحلم؟. كيف نسيت تلك المقولة الرائعة لأندريه جيد "لا تهيئأفراحك!" كيف نسيت نصيحة كهذه؟
كنتِ في الواقع امرأة زوبعة. تأتي وترحل وسطالأعاصير والدمار. كنتِ معطفاً لغيري وبرداً لي.
كنتِ الأحطاب التي أحرقتنيبدل أن تدفئني.
كنت أنتِ.
وكنت أنتظر أيلول إذن..
أنتظر عودتكلنتحدث أخيراً بصدق مطلق. ماذا تريدين مني بالتحديد. ومن أكون أنا بالنسبة إليك.. وما اسم قصتنا هذه؟
أخطأت مرة أخرى.
لم يكن الوقت للسؤال ولا للجواب. كان وقتا لجنون آخر.
كنت أنتظر الأمان. وجئت، زوبعة صادفت زوبعة أخرى، اسمهازياد..
وكانت الأعاصير.
لم يتغير زياد منذ آخر مرة رأيته فيها، منذ خمس سنوات بباريس. ربما أصبح فقط أكثر امتلاءً، أكثر رجولة مع العمر، من ذلك الوقت الذي زارني فيه لأول مرة في الجزائر سنة 1972 في مكتبي. يوم كان شاباً فارعاً بوزن أقل، وربما بهموم أقل أيضاً.
مازال شعره مرتباً بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوماً على ربطة عنق، مفتوحاً دائماً بزرٍ أو زرين. وصوته المميز دفئاً وحزناً، يوهمك أنه يقرأ شعراً، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو وكأنه شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو.
في كل مدينة قابلته فيها، شعرت أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر.
كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالساً على حقائبه. لم يكن يوماً مرتاحاً حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطاراً لا يدري متى يأتي.
ها هوذا.. كما تركته، محاطاً بأشيائه الصغيرة ومحملاً بالذاكرة، ومرتدياً سروال الجينز نفسه، كأنه هويته الأخرى.
كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزّة، من عمان.. ومن بيروت وموسكو.. ومن الجزائر وأثينا.
كان يشبه كلّ من أحب. فيه شيء من بوشكين، من السيّاب.. من الحلاج، من ميشيما.. من غسان كنفاني.. ومن لوركا وتيودوراكيس.
ولأنني كثيراً ما قاسمت زياد ذاكرته، حدث أن أحببت كل ما أحب ومن أحب، دون أن أدري.
كنت في حاجة إليه في تلك الأيام.
شعرت وأنا أستقبله، أنني افتقدته طوال هذه السنوات دون أن أدري، وأنني بعده لم ألتقِ بشخصٍ يمكن أن أدعوه صديقاً.
ها هو زياد. باعدتنا الأيام وباعدتنا القارات. ووحدها قناعاتنا القديمة ظلّت تجمعنا.
ولذلك لم تزل في القلب مكانته الأولى. فلم يحدث لزياد أن فقد احترامي لسبب أو لآخر خلال كل هذه السنوات.
أليس هذا أمراً نادراً هذه الأيام؟
جاء زياد..
واستيقظ البيت الذي ظلّ مغلقاً لشهرين في وجه الآخرين،حتى في وجه كاترين نفسها.
راح زياد يملأه بحضوره، بأشيائه وفوضاه، بضحكته العالية أحياناً، وبحضوره السري الغامض دائماً. فأكاد أشكره فقط، لأنه أشرع نوافذ هذا البيت، واحتل غرفة من غرفه.. وربما احتلّه كله.
عُدنا تلقائياً إلى عاداتنا القديمة التي تعود إلى خمس سنوات، عندما زارني لأول مرة في باريس.
رحنا من جديد إلى المطاعم نفسها تقريباً. جلسنا وتحدثنا في الموضوعات نفسها تقريباً، فلا شي تغيّر منذ ذلك الحين. لم يسقط نظامٌ عربي واحد من تلك الأنظمة التي كان زياد يراهن على سقوطها منذ عرفته. لم يحدث أيّ زلزال سياسي هنا أو هناك، ليغيّر خريطة هذه الأمة.
وحده لبنان أصبح وطناً للزلازل والرمال المتحركة. ولكن من تراه سيبتلع في النهاية؟
كان هذا هو السؤال الذي حاولنا أن نتنبأ به بأكثر من جواب. وكان النقاش يصبّ في النهاية دائماً في القضية الفلسطينية، وفي خلافات فصائلها، والمعارك التي حدثت بين عناصرها في لبنان، والتصفيات الجسدية التي راح ضحيتها أكثر من اسم فلسطيني في الخارج.
كان حديث زياد ينتهي كالعادة بشتم تلك الأنظمة التي تشتري مجدها بالدم الفلسطيني، تحت أسماء مستعارة كالرفض والصمود.. والمواجهة. فينعتها في فورة غضبه بكل النعوت الشرقية البذيئة، التي أضحك لها وأنا أكتشف بعضها لأول مرة.
وأكتشف أيضاً أن لكل ثوّار قاموسهم الخاص، الذي تفرزه ثورتهم ومعايشتهم الخاصة، فأستعيد بحنين، مفردات أخرى لزمنٍ آخر وثورة أخرى.
█║S│█│Y║▌║R│║█
ربما كان هذاالأسبوع هو أجمل الأيام التي قضيتها مع زياد، والتي حاولت بعد ذلك ولعدة سنوات ألاأذكر غيرها، حتى لا أشعر بالمرارة ولا بالحسرة على كل ما عشته بعدها عن خطأ أو عنصواب.
كل ما مرّ بي من ألم.. من غيرة ومن صدمات، وأنا أضعكما ذات يوم هكذاوجهاً لوجه، دون أية مقدمات أو توضيحات خاصة..
له قلت: "سنتغدّى غدا معصديقة كاتبة.. لا بد أن أعرفك عليها..".
لم يبد عليه اهتمام خاص بكلامي. قالعلى طريقته الخاصة وهو يعود لقراءة جريدته: " أنا أكره النساء عندما يحاولن ممارسةالأدب تعويضاً عن ممارسات أخرى.. أتمنى ألا تكون صديقتك هذه عانساً، أو امرأة في سناليأس.. فأنا لا صبر لي على هذا النوع من النساء!"
لم أجبه. رحت أتعمق فيفكرته.. وأبتسم!
على الهاتف قلت لك: "تعالي غداً للغداء في ذلك المطعمنفسه.. فأنا أحمل لك مفاجأة لا تتوقعينها.."
قلتِ:
"إنها لوحتي.. أليس كذلك؟"
أجبتك بعد شيء من التردد: "لا.. إنها شاعر!"
***
التقيتما إذن..
ويمكن أن أقول هذه المرة أيضاً:
"الذين قالوا وحدها الجبال لا تلتقي أخطأوا. والذين بنوا بينها جسوراً لتتصافح دون أن تنحني، لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل والهزات الأرضية الكبرى. وعندها لا تتصافح، بل تتحول إلى تراب واحد".
التقيتما إذن.. وكان كلاكما بركاناً.. فأين العجب، إذا كنت هذه المرة أيضاً أنا الضحية!
مازلت أذكر ذلك اليوم..
وصلتِ متأخرة بعض الشيء، وكنت مع زياد قد طلبنا مشروباً في انتظارك..
ودخلتِ..
كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.
فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.
ها أنت ذي أخيراً..
أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.
ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟
وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:
- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟
ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:
- كيف عرفتِ؟
استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:
- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..
ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:
- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟
تدخّل زياد ليقول ساخراً:
- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!
وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:
- ماذا رسم؟
أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:
- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..
صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:
- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!
ثم وجّهتِ كلامك إليّ:
- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟
كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"
ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:
- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..
رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.
كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.
كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.
بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.
كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.
كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.
سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"
ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.
لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!
ربما كان زياد يشبهك أيضاً..
اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.
كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.
ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟
لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.
قلتِ له:
- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..
ورحت تقرأين أمام دهشة زياد:
"تربّص بي الحزن لا تتركيني لحزن المساء
سأرحل سيدتي
أشرعي اليوم بابك قبل البكاء
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)