وفي الليلة الواحدة والتسعين
قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت من أخيها الشعر دعت الخادم الكبير وقالت له اذهب وائتني بمن ينشد هذه الأشعار فقال لها: إني لم أسمعه ولم أعرفه والناس كلهم نائمون، فقالت له: كل من رأيته مستيقظاً فهو الذي ينشد الأشعار ففتش فلم ير مستيقظاً سوى الرجل الوقاد، وأما ضوء المكان فإنه كان في غشيته، فلما رأى الوقد الخادم واقفاً على رأسه خاف منه فقال له الخادم: هل أنت الذي كنت تنشد الأشعار وقد سمعتك سيدتنا؟ فاعتقد الوقاد أن السيدة اغتاظت من الإنشاد فخاف وقال: والله ما هو أنا، فقال له الخادم: ومن الذي كان ينشد الشعر فدلني عليه فإنك تعرفه لأنك يقظان، فخاف الوقاد على ضوء المكان وقال في نفسه: ربما يضره الخادم بشيء فقال له: لم أعرفه فقال له الخادم: والله إنك تكذب فإنه ما هنا قاعدة إلا أنت فأنت تعرفه، فقال له الوقاد: أنا أقول لك الحق، إن الذي كان ينشد الأشعار رجل عابر طريق وهو الذي أزعجني وأقلقني فالله يجازيه فقال له الخادم: فإذا كنت تعرفه فدلني عليه وأنا أمسكه وآخذه إلى باب المحفة التي فيها سيدتنا وأمسكه أنت بيدك، فقال له اذهب أنت حتى آتيك به. فتركه الخادم وانصرف ودخل وأعلم سيدته بذلك وقال: ما أحد يعرفه لأنه عابر سبيل فسكتت.
ثم إن ضوء المكان لما أفاق من غشيته رأى القمر قد وصل إلى وسط السماء وهب عليه نسيم الأسحار فهيج في قلبه البلابل والأشجان فحسس صوته وأراد أن ينشد فقال له الوقاد : ماذا تريد أن تصنع ? فقال : أريد أن أنشد شيئاً من الشعر لأطفئ به نيران قلبي . قال له : أما علمت بما جرى لي وما سلمت من القتل إلا بأخذ خاطر الخادم . فقال له ضوء المكان : وماذا جرى فأخبرني بما وقع ? فقال : يا سيدي قد أتاني الخادم وأنت مغشي عليك ومعه عصا طويلة من اللوز وجعل يتطلع في وجوه الناس وهم نائمون ويسأل على كل من ينشد الأشعار فلم يجد من هو مستيقظ غيري فسألني فقلت له : إنه عابر سبيل فانصرف وسلمني الله منك وإلا كان قتلني . فقال لي : إذا سمعته ثانياً فإت به عندنا . فلما سمع ضوء المكان ذلك بكى وقال : من يمنعني من الإنشاد فأنا أنشد ويجري علي ما يجري فإني قريب من بلادي ولا أبالي بأحد . فقال له الوقاد : أنت ما مرادك إلا هلاك نفسك . فقال له ضوء المكان : لابد من إنشاد . فقال له الوقاد : قد وقع الفراق بيني وبينك من هنا وكان مرادي أن لا أفارقك حتى تدخل مدينتك وتجتمع بأبيك وأمك وقد مضى لك عندي سنة ونصف وما حصل لك مني ما يضرك فما سبب إنشادك الشعر ونحن متعبين من المشي والسهر والناس قد هجعوا يستريحون من المشي ومحتاجون إلى النوم . فقال ضوء المكان : لا أعود عما أنا فيه . ثم هزته الأشجان فباح بالكتمان وأخذ ينشد هذه الأبيات : قف بالديار وحي الأربع الدرسـا ........ ونادها فعساها أن تجيب عـسـا فإن أجنك ليل من تـوحـشـهـا ........ أوقد من الشوق في ظلماتها قبسا إن صل عذاريه فـلا عـجـب ........ أن يجن لسعا وأن أجتني لعسـا يا جنة فارقتها النفس مـكـرهة ........ لولا التأسي بدار الخلد مت أسى وأنشد أيضاً هذين البيتين : كنـا وكـانـت الأيام خــادمة ........ والشمل مجتمع في أبهج الوطن من لي بدار أحباب وكان بـهـا ........ ضوء المكان وفيها نزهة الزمن فلما فرغ من شعره صاح ثلاث صيحات ثم وقع مغشياً عليه فقام الوقاد وغطاه ، فلما سمعت نزهة الزمان ما أنشده من الأشعار المتضمنة لذكر اسمها واسم أخيها ومعاهدهما بكت وصاحت على الخادم وقالت : ويلك إن الذي أنشد أولاً أنشد ثانياً وسمعته قريباً مني ، والله إن لم تأتني به لأنبهن عليك الحاجب فيضربك ويطردك ، ولكن خذ هذه الألف دينار وائتني به برفق فإن أبى فادفع له هذا الكيس الذي فيه ألف دينار فإن أبى فاتركه واعرف مكانه وصنعته ومن أي بلاد هو وارجع بسرعة .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة المكان أرسلت الخادم يفتش عليه وقالت له : إذا وجدته فلاطفه وائتني به برفق . فخرج الخادم يتأمل في الناس ويدوس بينهم وهم نائمون فلم يجد أحد مستيقظاً ، فجاء إلى الوقاد فوجده قاعداً مكشوف الرأس فدنا منه وقبض على يده وقال له : أنت الذي كنت تنشد الشعر . فخاف على نفسه وقال : لا يا مقدم القوم ما هو أنا . فقال الخادم : لا أتركك حتى تدلني على من كان ينشد الشعر لأني لا أقدر الرجوع إلى سيدتي من دونه . فلما سمع الوقاد كلام الخادم خاف على ضوء المكان وبكى بكاء شديداً وقال للخادم : والله ما هو أنا وإنما سمعت إنساناً عابر سبيل ينشد فلا تدخل في خطيئتي فإني غريب وجئت من بلاد القدس . فقال الخادم للوقاد : قم أنت معي إلى سيدتي وأخبرها بفمك فإني ما رأيت أحداً مستيقظاً غيرك . فقال الوقاد : أما جئت ورأيتني في الموضع الذي أنا قاعد فيه وعرفت مكاني وما أحد يقدر في هذه الساعة ينشد شيئاً من الشعر سواء كان بعيداً أو قريباً لا تعرفه إلا مني . ثم باس رأس الخادم وأخذ بخاطره فتركه الخادم ودار دورة وخاف أن يرجع إلى سيدته بلا فائدة فاستتر في مكان غير بعيد من الوقاد فقام الوقاد إلى ضوء المكان ونبهه وقال له : اقعد حتى أحكي لك ما جرى . وحكى له ما وقع فقال له : دعني فإني لا أبالي بأحد فإن بلادي قريبة . فقال الوقاد لضوء المكان : لأي شيء أنت مطاوع نفسك وهواك ولا تخاف من أحد وأنا خائف على روحي وروحك ، بالله عليك أنك لا تتكلم بشيء من الشعر حتى ندخل بلدك وأنا ما كنت أظنك على هذه الحالة ، أما علمت أن زوجة الحاجب تريد زجرك لأنك أقلقتها وقد كانت ضعيفة وتعبانة من السفر ، وكم مرة قد أرسلت الخادم يفتش عليك . فلم يلتفت ضوء المكان إلى كلام الوقاد بل صاح ثالثاً وأنشد هذه الأبيات : تركـت كــل لائم ........ ملامه أقلـقـنـي يعذلنـي ومـا درى ........ بابه حـرضـنـي قال الوشاة قد سـلا ........ قلت لحب الوطـن قالوا فمـا أحـنـه ........ قلت فما أعشقنـي قالوا فـمـا أعـزه ........ قلت فمـا أذلـنـي هيهات أن أتـركـه ........ لو ذقت كأس الشجن وما أطعـت لائمـاً ........ في الهوى يعذلنـي وكان الخادم يسمعه وهو مستخف فما فرغ من شعره إلا والخادم على رأسه فلما رآه الوقاد فر ووقف بعيداً ينظر ما يقع بينهما ، فقال الخادم : السلام عليكم يا سيدي . فقال ضوء المكان : عليكم السلام ورحمة الله وبركاته . فقال الخادم : يا سيدي .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح . الليلة الثالثة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الخادم قال لضوء المكان : يا سيدي إني أتيت إليك في هذه الليلة ثلاث مرات لأن سيدتي تطلبك عندها . قال ضوء المكان : ومن أين هذه الكلبة حتى تطلبني مقتها الله ومقت زوجها معها . ونزل في الخادم شتماً فما قدر الخادم أن يرد عليه لأن سيدته أوصته أن لا يأتي به إلا بمراده هو فإن لم يأت معه يعطيه الألف دينار ، فجعل الخادم يلين له الكلام ويقول له : يا ولد أنا ما أخطأت معك ولا جرنا عليك ، فالقصد أن تصل بخواتك الكريمة إلى سيدتنا وترجع في خير وسلامة ، ولك عندنا بشارة . فلما سمع ذلك الكلام قام ومشى بين الناس والوقاد ماشي خلفه ، ونظر إليه وهو يقول في نفسه : يا خسارة شبابه في الغد يشنقونه . وما زال الوقاد ماشياً حتى قرب من مكانهم وقال : ما أخسه إن كان يقول علي هو الذي قال لي أنشد الأشعار . هذا ما كان من أمر الوقاد . وأما ما كان من أمر ضوء المكان فإنه ما زال ماشياً مع الخادم حتى وصل إلى المكان ودخل الخادم على نزهة الزمان وقال لها : قد جئت بما تطلبينه وهو شاب حسن الصورة وعليه أثر النعمة . فلما سمعت ذلك خفق قلبها وقالت له : أأمره أن ينشد شيئاً من الشعر حتى أسمعه ومن قرب وبعد ذلك أسأله عن اسمه ومن أي البلاد هو . فخرج الخادم إليه وقال له : أنشد شيئاً من الشعر حتى تسمعه سيدتي فإنها حاضرة بالقرب منك وأخبرني عن اسمك وبلدك وحالك . فقال : حباً وكرامة ولكن حيث سألتني عن اسمي فإنه محي ورسمي فني وجسمي بلي ولي حكاية تدون بالإبر على آفاق البصر وها أنا في منزلة السكران الذي أكثر الشراب وحلت به الأوصاب فتاه عن نفسه واحتار في أمره وغرق في بحر الأفكار . فلما سمعت نزهة الزمان هذا الكلام بكت وزادت في البكاء والأنين وقالت للخادم : قل له هل فارقت أحداً ممن تحب مثل أمك وأبيك ? فسأله الخادم كما أمرته نزهة الزمان فقال ضوء المكان : نعم فارقت الجميع وأعزهم عندي أختي التي فرق الدهر بيني وبينها . فلما سمعت نزهة الزمان منه هذا الكلام قالت : الله يجمع شمله بمن يحب .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن نزهة الزمان لما سمعت كلامه قالت : الله يجمع شمله بمن يعشق . ثم قالت للخادم : قل له أن يسمعنا شيئاً من الأشعار المتضمنة لشكوى الفراق . فقال له الخادم كما أمرته سيدته فصعد الزفرات وأنشد هذه الأبيات : ليت شعري لو دروا ........ أي قلب ملـكـوا وفـؤادي لـو درى ........ أي شعب سلكـوا أتراهم سـلـمـوا ........ أم تراهم هلـكـوا حار أرباب الهـوى ........ في الهوى وارتبكوا وأنشد أيضاً هذه الأبيات : أضحى التنائي بديلاً من تدانـينـا ........ وناب عن طيب لقيانا تجافـينـا بنتم وبنا فما ابتلت جـوانـحـنـا ........ شوقاً إليكم ولا جفت مـآقـينـا غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا ........ بأن نغص فقال الدهـر آمـينـا إن الزمان الذي ما زال يضحكنـا ........ أنا بقربكم قـد عـاد يبـكـينـا يا جنة الخلد بدلنا بسلـسـلـهـا ........ والكوثر العذاب زقوماً وغسلينـا ثم سكب العبرات وأنشد هذه الأبيات : لله نـذران أزر مـكـانـي ........ وفيه أختي نزهة الـزمـان لأقضين بالصفـا زمـانـي ........ ما بين غيدي خرد حـسـان وصوت عود مطرب الألحان ........ مع ارتضاع كأس بنت الحان ورشف اللمى فاتر الأجفـان ........ بشط نهر سال في بسـتـان فلما فرغ من شعره وسمعته نزهة الزمان كشفت ذيل الستارة عن المحفة ونظرت إليه فلما وقع بصرها على وجهه عرفته غاية المعرفة فصاحت قائلة : يا أخي يا ضوء المكان . فرفع بصره إليها فعرفها وصاح قائلاً : يا أختي يا نزهة الزمان . فألقت نفسها عليه فتلقاها في حضنه ووقع الاثنان مغشياً عليهما فلما رآهما الخادم على تلك الحالة تحير في أمرهما وألقى عليهما شيئاً سترهما به وصبر حتى أفاقا من غشيتهما ، وفرحت نزهة الزمان غاية الفرح وزال عنها الهم والترح وتوالت عليها المسرات وأنشدت هذه الأبيات : الدهر أقسـم لا يزال مـكـدري ........ حنثت يمينك يا زمان فـكـفـر السعد وافى والحبيب مسـاعـدي ........ فانهض إلى داعي السرور وشمر ما كنت أعتقد السـوالـف جـنة ........ حتى ظفرت من اللمى بالكوثـر فلما سمع ذلك ضوء المكان ضم أخته إلى صدره وفاضت لفرط سروره من أجفانه العبرات وأنشد هذه الأبيات : ولقد ندمت على تفرق شملنـا ........ ندماً أفاض الدمع من أجفاني ونذرت أن عاد الزمان يلمنـا ........ لا عدت أذكر فرقة بلسانـي هجم السرور علي حتى أنـه ........ من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع عندك عادة ........ تبكين من فرح ومن أحـزان وجلسا على باب المحفة ساعة ثم قالت : قم ادخل المحفة واحك لي ما وقع لك وأنا أحكي لك ما وقع لي . فقال ضوء المكان : احكي لي أنت أولاً . فحكت له جميع ما وقع لها منذ فارقته من الخان وما وقع لها من البدوي والتاجر وكيف اشتراها منه وكيف أخذها التاجر إلى أخيها شركان وباعها له وأن شركان أعتقها من حين اشتراها وكتب كتابه عليها ودخل بها وأن الملك إباها سمع بخبرها فأرسل إلى شركان يطلبها منه . ثم قالت له : الحمد لله الذي من علي بك ومثل ما خرجنا من عند والدنا سوية نرجع إليه سوية . ثم قالت له : إن أخي شركان زوجني بهذا الحاجب لأجل أن يوصلني إلى والدي وهذا ما وقع لي من الأول إلى الآخر ، فاحك لي أنت ما وقع لك بعد ذهابي من عندك . فحكى لها جميع ما وقع له من الأول إلى الآخر وكيف من الله عليه بالوقاد وكيف سافر معه وأنفق عليه ماله وأنه كان يخدمه في الليل والنهار فشكرته على ذلك ثم قال لها : يا أختي إن هذا الوقاد فعل معي من الإحسان فعلاً لا يفعله أحد مع أحد من أحبابه ولا الوالد مع ولده حتى أنه كان يجوع ويطعمني ويمشي ويركبني وكانت حياتي على يديه . فقالت نزهة الزمان : إن شاء الله تعالى نكافئه بما نقدر عليه . ثم إن نزهة الزمان صاحت على الخادم فحضر وقبل يد ضوء المكان فقالت له نزهة الزمان : خذ بشارتك يا وجه الخير لأن جمع شملي بأخي على يديك ، فالكيس الذي معك وما فيه لك ، فاذهب وائتني بسيدك عاجلاً . ففرح الخادم وتوجه إلى الحاجب ودخل عليه ودعاه إلى سيدته فأتى به ودخل على زوجته نزهة الزمان فوجد عندها أخاها فسأل عنه فحكى له ما وقع لهما من أوله إلى آخره ثم قالت : اعلم أيها الحاجب أنك ما أخذت جارية وإنما أخذت بنت الملك عمر النعمان فأنا نزهة وهذا أخي ضوء المكان . فلما سمع الحاجب القصة منها تحقق ما قالته وبان له الحق الصريح وتيقن أنه صار صهر الملك عمر النعمان فقال في نفسه : مصيري أن آخذ نيابة على قطر من الأقطار . ثم أقبل على ضوء المكان وهنأه بسلامته وجمع شمله بأخته ، ثم أمر خدمه في الحال أن يهيئوا لضوء المكان خيمة ركوبه من أحسن الخيول فقالت له زوجته : إنا قد قربنا من بلادنا ، فأنا أختلي بأخي ونستريح مع بعضنا ونشبع من بعضنا قبل أن نصل إلى بلادنا ، فإن لنا زمناً طويلاً ونحن متفرقان . فقال الحاجب : الأمر كما تريدان . ثم أرسل إليهما الشموع وأنواع الحلاوة وخرج من عندهما وأرسل إلى ضوء المكان ثلاث بدلات من أفخر الثياب وتمشى إلى أن جاء إلى المحفة وعرف مقدار نفسه ، فقالت له نزهة الزمان : أرسل إلى الخادم وأمره أن يأتي بالوقاد ويهيئ له حصاناً ويركبه ويرتب له سفرة طعام في الغداة والعشي ويأمره أن لا يفارقنا . فعند ذلك أرسل الحاجب إلى الخادم وأمره أن يفعل ذلك فقال : سمعاً وطاعة . ثم إن الخادم أخذ غلمانه وراح يفتش على الوقاد إلى أن وجده في آخر الركب وهو يشد حماره ويريد أن يهرب ودموعه تجري على خده من الخوف على نفسه ومن حزنه على فراق ضوء المكان وصار يقول : نصحته في سبيل الله فلم يسمع مني ، يا ترى كيف حاله . فلم يتم كلامه إلا والخادم واقف فوق رأسه ورأى الغلمان حوله فاصفر لونه وخاف .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح . الليلة الخامسة والتسعين
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الوقاد لما أراد أن يشد حماره ويهرب وصار يكلم نفسه ويقول : يا ترى كيف حاله . فما أتم كلامه إلا والخادم واقف فوق رأسه والغلمان حوله ، فالتفت الوقاد فرأى الخادم واقفاً على رأسه فارتعدت فرائصه وخاف وقال وقد رفع صوته بالكلام : إنه ما عرف مقدار ما عملته معه من المعروف فأظن أنه غمز الخادم وهؤلاء الغلمان علي وأنه أشركني معه في الذنب . وإذا بالخادم صاح عليه وقال له : من الذي كان ينشد الأشعار ، يا كذاب ? كيف تقول لي أنا ما أنشد الأشعار ولا أعرف من أنشدها وهو رفيقك فأنا لا أفارقك من هنا إلى بغداد والذي يجري على رفيقك يجري عليك . فلما سمع الوقاد كلامه قال في نفسه : ما خفت منه وقعت فيه ثم أنشد هذا البيت : كان الذي خفت أن يكونا ........ إنا إلى الله راجعـونـا ثم إن الخادم صاح على الغلمان وقال لهم : أنزلوه عن الحمار . فأنزلوا الوقاد عن حماره وأتوا له بحصان فركبه ومشى صحبة الركب والغلمان حوله محدقون به وقال لهم الخادم : إن عدم منه شعرة كانت بواحد منكم ولكن أكرموه ولا تهينوه . فلما رأى الوقاد الغلمان حوله يئس من الحياة والتفت إلى الخادم وقال له : يا مقدم أنا ما لي أخوة ولا أقارب وهذا الشاب لا يقرب لي ولا أنا اقرب له وإنما أنا رجل وقاد في حمام ووجدته ملقى على المزبلة مريضاً . وصار الوقاد يبكي ويحسب في نفسه ألف حساب والخادم ماش بجانبه ولم يعرفه بشيء بل يقول له : قد أقلقت سيدتنا بإنشادك الشعر أنت وهذا الصبي ولا تخف على نفسك . وصار الخادم يضحك عليه سراً ، وإذا نزلوا أتاهم الطعام فيأكل هو والوقاد في آنية واحدة فإذا أكلوا أمر الخادم الغلمان أن يأتوا بقلة سكر فشرب منها ويعطيها للوقاد فيشرب لكنه لا تنشف له دمعة من الخوف على نفسه والحزن على فراق ضوء المكان وعلى ما وقع لهما في غربتهما وهما سائران والحاجب تارة يكون من باب المحفة لأجل خدمة ضوء المكان ابن الملك عمر النعمان ونزهة الزمان وتارة يلاحظ الوقاد وصارت نزهة الزمان وأخوها ضوء المكان في حديث وشكوى . ولم يزالا على تلك الحالة وهم سائرون حتى قربوا من البلاد ولم يبق بينهم وبين البلاد إلا ثلاثة أيام فنزلوا وقت المساء واستراحوا ولم يزالوا نازلين إلى أن لاح الفجر فاستيقظوا وأرادوا أن يحملوا وإذا بغبار عظيم قد لاح فهم وأظلم الجو منه حتى صار كالليل الداجي ، فصاح الحاجب قائلاً : أمهوا ولا تحملوا . وركب هو ومماليكه وساروا نحو ذلك الغبار ، فلما قربوا منه بان من تحته عسكر جرار كالبحر الزخار وفيه رايات وأعلام وطبول وفرسان وأبطال فتعجب الحاجب من أمرهم ، فلما رآهم العسكر افترقت منه فرقة قدر خمسمائة فارس وأتوا إلى الحاجب هو ومن معه وأحاطوا بهم وأحاط كل خمسة من العسكر بمملوك من مماليك الحاجب فقال لهم الحاجب : أي شيء الخبر ومن أين هذه العساكر حتى تفعل معنا هذه الأفعال ? فقالوا له : من أنت ومن أين أتيت وإلى أن تتوجه ? فقال لهم : أنا حاجب أمير دمشق الملك شركان ابن الملك عمر النعمان صاحب بغداد وأرض خراسان أتيت من عنده بالخراج والهدية متوجهاً إلى والده ببغداد . فلما سمعوا كلامه أرخوا مناديلهم على وجوههم وبكوا وقالوا : إن الملك عمر النعمان قد مات وما مات إلا مسموماً ، فتوجه وما عليك بأس حتى تجتمع بوزيره الأكبر الوزير دندان . فلما سمع الحاجب ذلك الكلام بكى بكاء شديداً وقال : واخيبتاه في هذه السفرة . وصار يبكي هو ومن معه إلى أن اختلطوا بالعسكر فاستأذنوا له الوزير دندان فأذن له وأمر الوزير بضرب خيامه وجلس على سرير في وسط الخيمة وأمر الحاجب بالجلوس ، فلما جلس سأله عن خبره فأعلمه أنه حاجب أمير دمشق وقد جاء بالهدايا وخراج دمشق . فلما سمع الوزير دندان ذلك بكى عند ذكر الملك عمر النعمان ، ثم قال له الوزير دندان : أن عمر النعمان قد مات مسموماً وبسبب موته اختلف الناس فيمن يولونه بعده حتى أوقعوا القتل في بعضهم ولكن منعهم عن بعضهم الأكابر والأشراف والقضاة الأربعة واتفق جميع الناس على أن ما أشار به القضاة الأربعة لا يخالفهم فيه أحد ، فوقع الاتفاق على أننا نسير إلى دمشق ونقصد ولده الملك شركان ونجيء به ونسلطنه من مملكة أبيه ، وفيهم جماعة يريدون ولده الثاني وقالوا أنه يسمى ضوء المكان وله أخت تسمى نزهة الزمان وكانا قد توجها إلى أرض الحجاز ومضى لهما خمسن سنين ولم يقع لهما أحد على خبر . فلما سمع الحاجب ذلك علم أن القضية التي وقعت لزوجته صحيحة فاغتم لموت الملك غماً عظيماً ولكنه فرح فرحاً شديداً وخصوصاً بمجيء ضوء المكان لأنه يصير سلطاناً ببغداد مكان أبيه .
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)