« ولدك كثير. » قال: « ليس فيهم خير. »
ابن سنباط يكتب الخبر إلى الأفشين وما كان بعد ذلك
وكان يثق بابن اصطفانوس. فلمّا أصبح عبد الله مضى إلى حصن اصطفانوس وأقام بابك عند ابن سنباط. فكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أنّ بابك عنده في حصنه. فكتب إليه:
« إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أعزّه الله - الذي تحبّ. » وكتب يجزّيه خيرا.
ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصّته ممّن يثق به ووجّه به إلى ابن سنباط، وكتب إليه يعلمه أنّه وجّه إليه برجل من خاصّته يحبّ أن يرى بابك ليحكى للأفشين ذلك. فكبره ابن سنباط ذلك إشفاقا من أن يوحش ذلك بابك. فقال للرجل:
« ليس يمكنك أن تراه إلّا في الوقت الذي يكون منكبّا على طعامه يتغدّى. فإذا رأيتنا قد دعونا بالطعام فالبس ثياب الطبّاخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنّك تقدّم الطعام أو تتناول شيئا، فإنّه يكون متّكئا على الطعام فتفقّد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك. » ففعل به ذلك في وقت الطعام فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره وقال:
« من هذا الرجل؟ » فقال له ابن سنباط:
« هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان، نصراني. » فقال له بابك:
« منذ كم أنت هاهنا؟ »
قال: « منذ كذا وكذا سنة. » قال: « وكيف أقمت ها هنا؟ » قال: « تزوّجت ها هنا. » فقال له:
« صدقت، إذا قيل للرجل من أين أنت، قال: من حيث امرأتى. » ثم رجع إلى الأفشين فأخبره ووصف له بابك:
ووجّه الأفشين أبا سعيد وبو زبازه إلى ابن سنباط وكتب إليه معهما وأمرهما إذا صار إلى بعض الطريق قدّما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج. وأمرهما إلّا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما.
ففعلا ذلك فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع قد سمّاه ووصفه لهما إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين في الموضع الذي وصفه لهما، ووجّه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد حتى تحرّك بابك للخروج إلى الصيد فقال له:
« ها هنا واد طيّب وأنت مغموم في جوف هذا الحصن، فلو خرجت، ومعنا باز وباشق وما تحتاج إليه فنتفرّج إلى وقت الغداء بالصيد. » فقال له بابك:
« إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداء. » وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زبازه يعلمهما ما عزم عليه ويأمرهما أن يوافياه: واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر، وأن يسيرا متكمّنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي فانحدرا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلمّا ركب ابن سنباط وبابك وجّه ابن سنباط رسولا إلى هذا ورسولا إلى هذا وأراد أن يشبّه على بابك ويقول:
« هذه خيل قد جاءتنا فأخذتنا ولم يحبّ أن يدفعه إليهما من منزله. » فأشرفا على الوادي فإذا هما ببابك وابن سنباط وكان على بابك درّاعة بيضاء. فانحدرا وأصحابهما عليه هذا من ها هنا وهذا من ها هنا. فأخذاهما ومعهما البواشيق. فلمّا نظر بابك إلى العساكر قد أحدقت به وقف ينظر إليهم.
فقالا له:
« انزل. » فقال: « ومن أنتما؟ » قال أحدهما:
« أنا أبو سعيد. » وقال الآخر:
« أنا بو زبازه. » فقال: « نعم. » وثنّى رجله فنزل - وكان ابن سنباط ينظر إليه - فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه وقال:
« إنّما بعتني من اليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال مني وطلبته لأعطيتك أكثر ممّا يعطيك هؤلاء. »
بابك يحمل إلى الأفشين
ثم أركبوه وحملوه وجاءوا به إلى الأفشين. فجلس له الأفشين ببرزند في خيمة بين يديها فازة، فاصطفّ الناس له صفّين، فأمر الأفشين ألّا يتركوا غريبا من الصفّين فرقا أن يجرحه إنسان أو يقتله ممّن قتل أولياءه أو صنع به داهية.
وقد كان صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان ذكروا أنّ بابك كان أسرهم وأنّهم أحرار من العرب والدهاقين. فأمر الأفشين بإفرادهم في حظيرة وأجرى عليهم أقواتهم وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم وكل من جاءه فعرف امرأة أو صبيّا أو صبيّة وأقام شاهدين يعرفان أنّها حرمة له أو قرابة دفعها إليه. فكان قد ذهب خلق كثير وبقي ناس كثير منهم ينتظرون أن تجيء أولياؤهم.
فلمّا كان ذلك اليوم وصار بين بابك وبين الأفشين قدر نصف ميل أنزل بابك، فمشى بين الصفّين في درّاعته وعمامته وخفّيه حتى وقف بين يدي الأفشين. فنظر إليه الأفشين ثم قال:
« انزلوا به إلى العسكر. » فنزلوا به راكبا.
فلمّا نظر النساء والصبيان الذين كانوا أفردهم الأفشين في حظيرة لطموا وجوههم وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم.
فوجّه الأفشين إليهم:
« أنتم بالأمس تقولون أسرنا وأنتم اليوم تبكون عليه، لعنكم الله. » قالوا: « إنّه كان محسنا إلينا. » فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكّل به جماعة من ثقاته. وكان عبد الله أخو بابك مقيما عند عيسى بن اصطفانوس، فأعلم الأفشين بمكانه فكتب إليه يأمره أن يوجّه بعبد الله. فوجّه به عيسى بن اصطفانوس إلى الأفشين.
فلمّا صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد ووكّل بهما قوما يحفظونهما. وكتب إليه المعتصم يأمره بالقدوم بهما عليه.
فلمّا أراد أن يصير إلى العراق وجّه إلى بابك:
« أنظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان. » قال: « أشتهى أن أنظر إلى مدينتي. » فوجّهه مع قوم في ليلة مقمرة إلى البذّ حتى دار فيه ونظر إلى البيوت والقتلى فيه إلى وقت الصبح ثم ردّ. فيظنّ أنّه تأمّل مواضع كنوزه.
ودخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
قدوم الأفشين ببابك على المعتصم وما فعل المعتصم به
فقدم فيها الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه سرّ من رأى. وكان المعتصم يوجّه إلى الأفشين كلّ يوم منذ فصل من برزند إلى أن وافى سرّ من رأى فرسا وخلعة، وكان المعتصم لعنايته بأمر بابك وفساد الطريق بالثلج وغيره رتّب بين سرّ من رأى وبين عقبة حلوان خيلا مضمّرة على رأس كلّ فرسخ فرسا معه مجر، وكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤدّيه واحد إلى واحد يدا بيد.
ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ولا يخرجهم منه. فقال الأدلّاء:
« هذا الرجل يدور بنا. » فسأله عمّا قال الأدلّاء. فقال الشيخ:
« صدقوا ولكنّ القوم الذين نريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم تر أحدا قتلتني. فأنا أدوّر بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم فأريتك إيّاهم. » فقال له:
« ويحك فأنزلنا في الجبل حتى نستريح. » فقال: « رأيك. » فنزلنا على الصخر وأمسكنا لجم دوابّنا حتى الفجر. فلمّا طلع الفجر قال:
« وجّهوا رجلين يصعدان هذا الجبل فيبصران ما فوقه ويأخذان من أدركا فيه. » فصعد أربعة فأصابوا رجلا وامرأة فأنزلوهما وسائلهما العلج عن أهل أنقرة: « أين باتوا. » فسمّيا الموضع. فقال الشيخ:
« خلّوا عن هذين فإنّا قد أعطيناهما الأمان حتى دلّونا. » فخلّى عنهما وسار بهم العلج إلى الموضع. فأشرف بهم على عسكر أهل أنقرة. فلمّا رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان فدخلوا الملّاحة ووقفوا على طرفها يقاتلون وأخذوا منهم عدّة أسرى وأصابوا في الأسرى قوما بهم جراحات فسألوهم عنها فقالوا:
« كنّا مع الملك في وقعة الأفشين. » فقالوا لهم:
« فحدّثونا بالقصّة. » فأخبروا أنّ الملك كان معسكرا بلامس حتى جاءه رسول فأخبره أنّ عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الارمنياق فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته وأمره بالقيام في موضعه، فإن ورد عليه مقدّمة ملك الروم واقعه، إلى أن يذهب هو فيواقع هذا العسكر - يعنى عسكر الأفشين.
فقال أميرهم:
« نعم وكنت ممّن سار مع الملك فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم وقتلنا رجّالتهم كلّهم وتقطّعت عساكرنا في طلبهم. فلمّا كان الظهر رجع فرسانهم فقاتلونا قتالا شديدا حتى اختلطوا بنا فلم ندر أين الملك ولم نزل كذلك إلى العصر، ثم رجعنا إلى موضع معسكر الملك باللّامس فلم نصادفه، ووجدنا العسكر قد انتقض وانصرف الناس عن قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا ليلتنا.
فلمّا كان الغد فإذا الملك في جماعة يسيرة فوجد عسكره قد اختلّ فطلب الذي كان استخلفه وضرب عنقه وكتب إلى المدن والحصون: لا يأخذوا رجلا [ ممن انصرف ] من عسكر الملك إلّا ضربوه بالسياط حتى يرجع إلى موضع سمّاه لهم الملك. حتى إذا اجتمع الناس ناهض ملك العرب وأنفذ الملك خصيّا له إلى عمّوريّة إلى أن يلحقه بها. »
لحوق أشناس ثم المعتصم ثم الأفشين بأنقرة
فانصرف المسلمون بما أخذوا وتركوا السبيّ والمقاتلة يريدون عسكر أشناس وساقوا في طريقهم غنما وبقرا كثيرا، وأطلقوا ذلك الشيخ الأسير، وسار أشناس بالأسرى حتى لحق بأنقرة فمكث أشناس يوما واحدا ثم لحقه المعتصم من غد فأخبره بجميع ما ذكره الأسير فسرّ المعتصم. فلمّا كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة وأنّه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
ثم ورد الأفشين فأقاموا أيّاما ثم ساروا إلى عمّوريّة وقد صيّر المعتصم العسكر ثلاثة عساكر وبين عسكر وعسكر فرسخان، فساروا يخرّبون ويسبون ما بين أنقرة إلى عمّوريّة وبينهما سبع مراحل. ثم توافت العساكر بعمّوريّة فكان أوّل من وردها أشناس فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش. ولمّا كان من الغد جاء المعتصم فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث فقسّمها أمير المؤمنين بين القوّاد كما يدور وصيّر إلى كلّ واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلّتهم.
وتحصّن أهل عمّوريّة وتحرّزوا، وكان بعموّريّة رجل من المسلمين أسره قديما أهل عمّوريّة فتنصّر وتزوّج فيهم فحبس نفسه عند دخولهم الحصن.
فلمّا رأى أمير المؤمنين ظهر وجاء إلى المعتصم فأعلمه أنّ موضعا من المدينة حمل عليه الوادي من سيل عظيم فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمّوريّة أن يبنى ذلك الموضع فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من قسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوّف الوالي أن يمرّ الملك على الناحية فيمرّ بالسور فلا يراه بنى فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا وصيّر وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان.
فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف فأمر المعتصم بضرب مضربه في ذلك الموضع ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع.
فلمّا رأى أهل عمّورية انفراج السور علّقوا عليه الخشب الكبار المضمومة بعضها إلى بعض فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسّر، فعلّقوا فوق الخشب البراذع.
فلمّا ألحّت المجانيق على ذلك الموضع لم ينفع فيها شيء وتصدّع السور.
فكتب ياطس والخصيّ إلى ملك الروم كتابا يعلمانه أمر السور ووجّها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي فعبرا الخندق ووقعا إلى ناحية عمر الفرغاني، فوجّه بهما إلى أشناس. فحين سألوهما:
« من أنتما؟ » لم يعرفا أحدا من القوّاد بالعسكر يسمّيانه لهم. ففتّشا فوجد معهما الكتاب. فقرئ وإذا فيه:
« إنّ العسكر قد أحاط بالمدينة وأنّه قد عزم على أن يركب ويحمل خاصّة أصحابه على الدوابّ التي في الحصن ويفتح الأبواب ليلا غفلة ويخرج عن العسكر، كائنا فيه ما كان أفلت من أفلت وأصيب من أصيب، حتى يصير إلى الملك. » فلمّا قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلّم بالعربية وللغلام الرومي بيده فأسلما وخلع عليهما وأمر بهما حين طلعت الشمس فأدارهما حول عمّوريّة فقالا:
« ياطس يكون في هذا القصر. » - يعنون البرج. » فوقفا بحذاءه طويلا وعليهما الخلع وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم ومعهما الكتاب حتى عرف خبرهما جميع الروم وسمعا شتمهم إيّاهما ثم نحّوهما.
ثم أمر المعتصم بحراسة الأبواب نوائب يحصرها الفرسان يبيتون على دوابّهم في السلاح لئلّا يفتح الباب ليلا فيخرج إنسان. فلم يزالوا كذلك حتى انهدم ما بين برجين في الموضع الذي وصف للمعتصم ممّا لم يحكم عمله، فسمع أهل العسكر الوجبة، فارتاعوا وظنّوا العدوّ قد احتال بحيلة وخرج، حتى أرسل المعتصم من طاف على العسكر يعلمهم أنّ ذلك صوت السور قد سقط فطيبوا نفسا.
تدبير حربي فاشل
وكان المعتصم اتّخذ مجانيق كبارا وجعلها على كراسيّ تحتها عجل وعملها كأوثق ما تكون، ثم فرّق غنما مما استاقه على أهل العسكر ليأكلوا لحمها ويحشوا جلدها ترابا ثم أتى بالجلود مملوءة ترابا فطرحت في الخندق، وعمل دبّابات كبارا تسع كلّ دبّابة عشرة رجال على أن يدحرجوها على تلك الجلود حتى يمتلئ الخندق. فلمّا طرحت الجلود وقعت مختلفة فلم يمكن تسويتها خوفا من حجارة المنجنيق، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدّمت دبّابة فدحرجوها. فلمّا صارت من الخندق في نصفه تعلّقت بتلك الجلود وبقي القوم فيها فما تخلّصوا إلّا بعد جهد، ثم مكثت تلك العجلة مقيمة باقية هناك لا يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمّورية وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم حتى أحرقت. فلمّا كان من الغد قاتلهم على الثلمة وكان المعتصم واقفا على دابّته بإزاء الثلمة وأشناس والأفشين وقوف رجّالة.
ذكر اتفاق سيء من كلام سبق
فقال المعتصم:
« ما كان أحسن الحرب اليوم؟ » فقال عمر الفرغاني:
« الحرب اليوم أجود منها أمس. » فسمعها أشناس وأمسك. فلمّا انصرف المعتصم وانصرف أشناس وقرب من مضاربه ترجّل له القوّاد على عادتهم وفيهم عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام فلمّا مشوا بين يديه قال لهم أشناس:
« يا أولاد الزنا، أيّ شيء تمشون بين يديّ؟ كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث كان يقاتل غيركم. انصرفوا إلى مضاربكم. » فلمّا انصرفا قال أحدهما لصاحبه:
« أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة - يعنى أشناس - ما صنع بنا اليوم، أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه؟ » فقال عمر الفرغاني لأحمد بن الخليل:
« سيكفيك الله أمره عن قريب. » فأوهم أحمد أنّ عنده خبرا، فالحّ عليه أحمد يسأله فأخبره بما هم فيه، وقال العباس بن المأمون:
« قد تمّ أمره وسيبايع له طاهر أو نقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب. » ثم قال:
« وأنا أشير عليك أن يأتى العباس فتقدّم فتكون في عداد من قد مال إليه. » فقال له أحمد:
« هذا أمر لا أحسبه يتمّ. » فقال عمر:
« قد تمّ وفرغ منه. » وأرشده إلى الحارث السمرقندي، وكان المتولّى لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم، فقال له عمر:
« أنا أجمع بينك وبين الحارث. » فقال أحمد:
« إن كان هذا الأمر يتمّ فيما بيننا وبين عشرة أيّام فأنا معكم، وإن تجاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل. » فذهب الحارث فأعلم العباس أنّ عمر قد أدخل أحمد بن الخليل بيننا.
فقال:
« ما كنت أحبّ أن يطّلع الخليلي على شيء ممّا نحن فيه، فأمسكوا عنه ودعوه. بهما، » فتركوه.
فلمّا كان الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين. ثم أحسّ ايتاخ والمغاربة والأتراك، والقيّم بذلك ايتاخ، فاتسع لهم الموضع المنثلم وكثرت الجراحات في الروم وكان القائد الموكّل بالموضع الذي انثلم يقال له: وندوا، وتفسيره بالعربية ثور. فقاتل قتالا شديدا هو وأصحابه وكثر القتلى فيهم. فاستمدّ ياطس فلم يمدّه هو ولا غيره وقال كلّ واحد:
« نحن نحفظ ما يلينا، فاحفظ أنت ما يليك. » فقال:
« يا قوم إنّ الحرب إنّما هي اليوم عليّ وعلى أصحابي ولم يبق معي أحد إلّا وقد جرح، فصيّروا أصحابكم على الثلمة يرمون، وإلّا افتضحتم وذهبت المدينة. » فلم يلتفتوا إليه فاعتزم هو وأصحابه أن يخرجوا إلى أمير المؤمنين ويسألوه الأمان على الذريّة حتى يسلّموا إليه الحصن بما فيه من السلاح والأثاث وغير ذلك. فلمّا أصبح أمر أصحابه ألّا يحاربوا حتى يخرج ويعود إليهم فخرج بأمان حتى صار إلى العسكر وحمل إلى المعتصم فصار بين يديه وقد أمسك الروم عن المحاربة أعنى أصحاب وندوا والناس يتقدّمون إلى الثلمة ووندوا جالس بين يدي المعتصم.
فدعا المعتصم بفرس فحمله عليه وقاتل حتى صار الناس معهم على حرب الثلمة وعبد الوهّاب بن علي بين يدي المعتصم فأومأ إلى الناس بيده أن: ادخلوا.
فدخل الناس المدينة. فالتفت وندوا وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم:
« ما لك؟ » قال: « جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي فغدرت بي. » فقال المعتصم:
« كلّ شيء تريد أن تقوله فهو لك عليّ. قل ما شئت، فلست أخالفك. » قال: « كيف لا تخالفني وقد دخلوا المدينة؟ » فقال المعتصم:
« احتكم وقل ما شئت فانّى أعطيكه. »
وصار خلق من الروم إلى كنيسة لهم عظيمة، فقاتلوا هناك قتالا شديدا.
فأحرق المسلمون الكنيسة فاحترقوا عن آخرهم وبقي ياطس في برجه حوله بقية الروم وأصحابه وقد أخذتهم السيوف. فجاء المعتصم حتى وقف حذاء ياطس فكان ممّا يلي أشناس، فصاحوا:
« يا ياطس هذا أمير المؤمنين واقف. » فصاح الروميّ من فوق البرج:
« ليس ياطس ها هنا. » قالوا: « بلى، فلينزل إلى أمير المؤمنين. » قالوا « لا، ما هو ها هنا. » فمرّ المعتصم مغضبا، فصاح الروم:
« هذا ياطس، هذا ياطس. » فنصبت بعض تلك السلاليم المعمولة حتى صعد عليه الحسن الروميّ وهو غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف فكلّمه ياطس وقال له:
« هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه. » فنزل الحسن فأخبر المعتصم أنّه رءاه وكلّمه. فقال المعتصم:
« فاصعد إليه وقل له فلينزل. » فصعد الحسن ثانية فخرج ياطس من البرج متقلّدا سيفا حتى وقف على البرج قائما والمعتصم ينظر إليه فخلع سيفه من عنقه فدفعه إلى الحسن ثم نزل فوقف بين يديّ المعتصم فقنّعه سوطا وانصرف إلى مضربه فقال:
« هاتوه. » فمشى قليلا ثم جاءه رسول يقول:
« احملوه. » فحمل إلى مضرب أمير المؤمنين. ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كلّ وجه فأمر المعتصم أن يميّز الأسرى فيعزل منهم أهل الشرف في ناحية، ثم أمر بالمقاسم أن ينادى عليها كلّ صاحب عسكر في ناحيته ووكّل مع كلّ قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن أبي دؤاد يحصى عليه فبعث المقاسم في خمسة أيّام يبيع منها ما استباع وأمر بالباقي فضرب بالنار.
ولمّا همّ المعتصم بالرحيل وثب الناس على مغنم ايتاخ الذي كان يبيعه وهو اليوم الذي عجيف وعد فيه الناس أن يثب بالمعتصم، فركض المعتصم بنفسه ركضا وسلّ سيفه فتنحّى الناس من بين يديه وكفّوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه وأمر من الغد أن لا ينادى على الشيء إلّا ثلاثة أصوات وإلّا بيع العلق. فكان ينادى على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة وعلى المتاع الكبير جملة واحدة.
وكان ملك الروم قد وجّه رسولا في أوّل ما نزل المعتصم عمّوريّة، فأنزله المعتصم على ثلاثة أميال حتى فتح عمّورية. فلمّا فتحها أذن له في الانصراف ولم يصل إليه.
حبس العباس بن المأمون
وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
ذكر السبب في ذلك
كان السبب في ذلك أنّ عجيف بن عنبسة حين وجّهه المعتصم إلى بلاد الروم مع عمر الفرغاني لم يطلق يده في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله وحقد عجيف ذلك، فقال للعباس بن المأمون:
« ما كان أضعف همّتك عند وفاة أبيك المأمون حين بايعت أبا إسحاق؟ » ويذمّه على تفريطه، وشجّعه على أن يتلافى ما كان منه. فقبل العباس ذلك.
وكان الحارث السمرقندي أديبا له عقل ومداراة وكان العباس يأنس به فصيّره واسطة بينه وبين القوّاد، فلم يزل يدور في العسكر حتى بايعه جماعة من القوّاد والخواصّ، وسمّى لكلّ واحد من قوّاد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممّن بايعه وقال:
« إذا أمرنا فليثب كلّ رجل منكم على من ضمنّاه أن يقتله. » فوكّل من خاصّة الأفشين بالأفشين ومن خاصّة أشناس بأشناس وخاصّة المعتصم بالمعتصم، فضمنوا ذلك جميعا. فلمّا أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمّورية ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس أن يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلّة من الناس وقد تقطّعت عنه العساكر، فيقتله ويأمر الناس بالقفول إلى بغداد فإنّ الناس يفرحون بانصرافهم، فأبى العباس عليه وقال:
« لا أفسد هذه الغزاة. » فلمّا فتحوا عمّورية قال عجيف للعباس: « يا نائم كم تنام؟ قد فتحت عمّورية والرجل ممكن، دسّ قوما ينتهبون هذا الخرثيّ، فإنّه إذا بلغه ذلك ركب من ساعته، فتأمر من يقتله هناك. » فأبى عليه العباس وقال:
« أنتظر حتى أصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا. » وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع فانتهب الخرثيّ في عسكر ايتاخ وركب المعتصم وجاء ركضا فسكن الناس ولم يطلق العباس لأحد من أولئك الناس أن يتحرّكوا.
ذكر سوء تحفظ في القول عاد بهلكة
كان عمر الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وكان له قرابة غلام أمرد في خاصّة المعتصم. فجاء الغلام إلى أولاد عمر يشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم أنّ أمير المؤمنين ركب مستعجلا وأنّه كان يعدو بين يديه وقال:
« إنّ أمير المؤمنين غضب فأمرنى أن أسلّ سيفي. » وقال: « لا يستقبلك أحد إلّا ضربته. » فسمع عمر ذلك من الغلام فأشفق عليه أن يصاب فقال له:
« يا بنيّ أنت أحمق أقلّ من الكينونة عند أمير المؤمنين والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة فلا تبرح من خيمتك، فإنّك غلام غرّ. » وارتحل المعتصم من عمّوريّة يريد الثغر ووجّه الأفشين صاحبا له في خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سمّاه له وأن يوافيه في بعض الطريق، وكان عسكر الأفشين على حدة من عسكر المعتصم بينهما قدر ميلين. فتوجّه صاحب الأفشين حتى أغار وسبى وغنم وأتى عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم.
واعتلّ أشناس فركب المعتصم يعوده ولم يكن الأفشين لحقه بعد. فلمّا عاده وانصرف تلقّاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
« امض إلى أبي جعفر. » وكان عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجّها إلى ناحية الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس، فترجّلا له وسلّما عليه وراءهما حاجب أشناس من بعيد. فلمّا دخل الأفشين إلى أشناس وخرج توجّها إلى عسكر الأفشين لشراء السبي ولم يكن السبي أخرج بعد ووقفا ناحية ينتظران أن ينادى على السبي فيشتريا، ودخل حاجب أشناس على أشناس فقال له:
« رأيت عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فلقيا الأفشين وهما يريدان عسكره فترجّلا له وسلّما عليه وتوجّها إلى عسكره. فدعا أشناس محمد بن سعيد وقال له:
« اذهب فانظر هل ترى هناك عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل، وانظر عند من نزلا وأيّ شيء قصّتهما. » فجاء محمد بن سعيد فأصابهما واقفين على ظهور دوابّهما فقال:
« ما وقّفكما هاهنا؟ » قالا: « وقفنا ننتظر سبى ابن الأقطع فنشتري بعضه. » فقال لهما محمد بن سعيد:
« وكّلا وكيلا يشترى لكما. »
فقالا: « لا نحبّ أن نشتري إلّا ما نراه. » فرجع محمد فأخبر أشناس بذلك فقال لحاجبه:
« قل لهؤلاء: الزموا عسكركم خير لكم - يعنى عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل - لا تدوروا ها هنا وها هنا. » فذهب الحاجب إليهما فأعلمهما واغتمّا لذلك واتّفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر فيستعفيا من أشناس فصار إلى صاحب الخبر فقالا:
« نحن عبيد أمير المؤمنين يضمّنا إلى من شاء، فإنّ هذا الرجل يستخفّ بنا، قد شتمنا وتوعّدنا ونحن نخاف أن يقدم علينا. » فأنهى صاحب الخبر ذاك إلى المعتصم من يومه ذلك، واتفق الرحيل من الغد وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها وسار أشناس والأفشين وجميع القوّاد في عسكر أمير المؤمنين ووكّلوا حلفاءهم بعساكرهم. فلمّا ذهب أشناس إلى المعتصم قال له:
« أحسن أدب عمر الفرغاني وأحمد بن الخليل فإنّهما قد حمّقا أنفسهما. » فجاء أشناس ركضا إلى معسكره فسأل عن عمر وأحمد بن الخليل فأصاب عمر وكان ابن الخليل قد مضى فأحضر عمر الفرغاني وقال:
« هاتوا سياطا. » فمكث طويلا مجرّدا ليس يؤتى بالسياط فتقدّم عمّه إلى أشناس وكلّمه فيه وكان عمّه أعجميّا فقال:
« احملوه وألبسوه قباطاق واحملوه على بغل في قبة. » وساروا به وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض فقال:
« احبسوا هذا معه. » فأنزل عن دابّته وصيّر عديله فبقيا كذلك يسار بهما على كرامة وأثقالهما وغلمانهما في العسكر لم يحرّك لهما شيء حتى سمع الغلام الفرغاني قرابة عمر بحبس عمر، فذكر للمعتصم ما دار بينه وبين عمر من الكلام في تلك الليلة وقوله: إذا سمعت صوتا مثل هذا فالزم خيمتك.
فقال المعتصم لبغا:
« لا ترحل غدا حتى يجيء أشناس فتأخذ منه عمر وتلحقني به. » وكان هذا بالصفصاف. ففعل بغا ذلك ومضى بعمر إلى المعتصم. فلمّا أفرد أحمد بن الخليل قلق وأنفذ غلاما له ليتبع عمر وينظر ما يصنع به.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)