وورد الخبر بذلك إلى الراضي فأنكره وتقدّم إلى الوزير أبي عليّ بالتأهّب للخروج إلى الموصل والإيقاع بالحسن بن عبد الله بن حمدان والنائب عنه بالحضرة. فذكر أنّ عليّ بن عيسى كتب إلى الحسن بن عبد الله بن حمدان بخطّه عن أمير المؤمنين الراضي بالله بالانفراج عن ضمانه وألّا يحمل شيئا إلى الحضرة من ماله وأن يمنع من حمل الميرة إلى بغداد فأخذ أبو عليّ ابن مقلة خطّة بذلك وأحضر جماعة من الشهود حتى شهدوا عليه.
وسلّم الوزير الكتاب إلى ابن سنجلا ليعرضه على الراضي بالله. فلمّا كان من غد وهو يوم الأربعاء انحدر الوزير أبو عليّ إلى دار السلطان وانصرف إلى منزله. فوجّه الراضي براغب وبشرى خادميه إلى عليّ بن عيسى فحملاه إلى الوزير أبي عليّ فلم يوصله إليه واعتقله في حجرة من داره وراسله عليّ بن أحمد بن عليّ النوبختي وعرّفه ما أشهد به سهل بن هاشم على نفسه وأنّ الخليفة أنكر فعله. وما زالت المراسلات تتردد بينهما إلى أن ألزمه أبو عليّ مصادرة خمسين ألف دينار على أن يجعل في باب أبي جعفر بن شيرزاد صاحب ديوان النفقات للأتراك عشرة آلاف دينار وتؤخذ منه عقار وضياع بعشرة آلاف دينار فالتزم أبو الحسن ذلك.
فيقال: إنّ طليبا الهاشمي كان قال لعليّ بن عيسى عن الراضي بالله أن يكاتب الحسن بن عبد الله عنه ويتوسّط بينهما على أن يحمل إليه سرّا سبعين ألف دينار في نجوم، وشرط عليه الحسين أن يحميه ويمنع منه ومن تشعيث أمره ويقرّه على ضمانه ولا يقبل زيادة عليه فحمل بعض تلك النجوم وأخّر باقيها وأنكر الخليفة كلّ ما جرى في هذا الباب وذكر أنّه لم يصل إليه شيء.
وأخرج مضرب الوزير أبي عليّ وخرج على مقدمته نقيط الصغير وابن بدر الشرابي وجماعة من الحجريّة وغيرهم وخلّف ابنه الوزير أبا الحسين بالحضرة في خدمة السلطان وتدبير الأمور. وقبل شخوصه أطلق أبا الحسن عليّ بن عيسى وأخرجه إلى ضيعته بالصافية وأحلفه على أنّه لا يسعى في مكروهه ولا يتكلّم فيه بما يقدح في حاله ولا فيما يفسد أمره ولا يسعى في الوزارة لنفسه ولا لغيره من سائر الناس. فحلف وخرج من وقته إلى الصافية.
ولمّا قرب الوزير أبو عليّ من الموصل رحل عنها أبو محمّد وتبعه الوزير إلى أن صعد جبل التنين ودخل بلد الزوزان فعاد حينئذ أبو عليّ إلى الموصل وأقام بها يستخرج مال البلد ويستسلف من التجّار المجهزين للدقيق مالا على أن يطلق لهم به غلّات البلد فاجتمع له من ذلك أربعمائة ألف دينار.
ولمّا طال مقام الوزير بالموصل احتال سهل بن هاشم كاتب أبي محمّد بن حمدان فبذل للوزير أبي الحسين ابن الوزير أبي عليّ عشرة آلاف دينار حتى كتب إلى أبيه بأنّ الأمور بالحضرة قد اضطربت عليه وأنّه متى تأخّر وروده الحضرة لم يأمن حدوث حادثة يبطل بها أمرهم.
فانزعج الوزير من ذلك وقلّد عليّ بن خلف بن طناب أعمال الخراج والضياع بالموصل وديار ربيعة وقلّد أعمال المعاون بها ماكرد الديلمي من الساجيّة وتقدّم بتوفية التجّار ما استسلفه منهم من المال، وانحدر إلى الحضرة وخرج لتلقّيه الأمير أبو الفضل وأصحاب الدواوين والقوّاد ولقي الخليفة وانصرف إلى منزله وخلع عليه من الغد وعلى ابنه خلع منادمة وحمل إليهما ألطاف وشراب وطيب وبلّور.
وكان الوزير أبو عليّ كتب إلى الوزير ابنه قبل أن ينحدر من الموصل بإزالة التوكيل عن أبي الحسن عليّ بن عيسى وأن يكتب إليه أجمل خطاب ويخيّره بين الانصراف إلى مدينة السلام وبين المقام بالصافية، فكتب إليه الوزير أبو الحسين بذلك.
وكان السبب فيما كتب به الوزير أبو عليّ من ذلك أنّه كان كتب إلى أبي محمّد الحسن بن عبد الله بن حمدان كتابا يدعوه فيه إلى الطاعة ويبذل له الأمان فقبل الكتاب وقال للرسول:
« ليس بيني وبين هذا الرجل عمل - يعنى ابن مقلة - ولا أقبل ضمانه لأنّه لا عهد له ولا وفاء ولا ذمّة ولا أسمع منه شيئا. اللهم إلّا أن يتوسّط أبو الحسن عليّ بن عيسى بيني وبينه ويضمن لي عنه فاسكن إلى ذلك وأقبله. » وكان أبو عبد الله أحمد بن علي الكوفي مقيما بالحضرة في وقت خروج أبي على ابن مقلة إلى الموصل ويلزم مجلس الوزير أبي الحسين يظهر له النصيحة والموالاة ويجتهد في التخلّص منه والبعد عنه إلى أن ورد كتاب أبي عبد الله البريدي يوئس فيه من حمل مال إلى الحضرة في ذلك الوقت. فغلظ على الوزير أبي الحسين ذلك لأنّه كان أعدّ ما يحمله لوجوه فأقرأ أبا عبد الله الكوفي كتاب البريدي فاستعظم ما فيه وأشار بأن يخرج هو إلى الأهواز ليواقف البريدي على أمر الرجال الذين أحال بصرف المال إليهم ويعرضهم ويطلق ما يجب لهم ثم يحمل إلى الحضرة مالا عظيما ويحمل ساعة وصوله مائة ألف دينار.
فكتب الوزير أبو الحسين إلى أبي عبد الله البريدي بأنّه لا يقبل في تأخّر المال عنه عذره وقد أحوجه إلى إنفاذ أبي عبد الله أحمد بن عليّ الكوفي لمواقفته على أمر المال ومطالبته بحمله ونفذ الكتاب وتبعه أحمد بن عليّ إلى الأهواز. فلمّا حصل عند أبي عبد الله البريدي لم يمكنه مخالفته على ما يريد وكتب أنّه لم يتمكّن من عرض الرجال ولا المواقفة على أمر المال، وأقام عنده إلى أن انظر أبو بكر ابن رائق في الأمور بالحضرة.
واستوحش أبو عبد الله الكوفي من البريدي وخافه وأراد البعد منه وخاف بوادره فأطمعه في إفساد أمر الحسين بن عليّ النوبختي مع ابن رائق.
وكان الحسين بن عليّ من أعدى الناس للبريديين فقبل منه وأطلقه وواقفه على ما يعمل به ويبذله من المال لإزالة أمر الحسين بن عليّ النوبختي. وكان أبو عبد الله الكوفي عند مقامه عند أبي عبد الله البريدي يصغّر في نفسه أمر الحضرة ويصف له إدبارها بسوء تدبير ابن مقلة وإبطاله مال واسط والبصرة بابن رائق وبإيقاعه ببني ياقوت وما دبّر في أمر الحسن ابن عبد الله بن حمدان وباجتثاثه أصل الخلافة دفعة واحدة وقال في ذلك وأكثر وقال في عرض ذلك:
« هو الذي جرّأ الغلمان الحجريّة على ابن ياقوت فهم بعد أشدّ جرأة عليه وأنّ هلاكه ليس يبعد. » فوقع ذلك من البريدي أحسن موقع واختصّ الكوفي ولم يستكتبه بل كان يشاوره ويكرمه ويعاشره.
فذكر أبو الفرج ابن أبي هشام أنّ أبا عبد الله الكوفي قال له بواسط في أيّام سيف الدولة:
« ما مرّ لي عيش أطيب من عيشي مع البريدي فإني أقمت عنده نحو سنة غير متصرّف ولا داخل تحت تبعة ولا تعب بنظر في عمل ولقد عاشرنى أجمل عشرة ووصل إليّ منه عينا وورقا ومن قيمة العروض التي أنفذها إليّ خمسة وثلاثون ألف دينار ولم أخرج من الأهواز إلّا وأنا متقلّد كتابة ابن رائق وقد كفيت أمر ابن مقلة بالقبض عليه وكان غير مأمون.
والحمد لله الذي لم يخرجه من الدنيا حتى دمّر عليه كتدميره على الدنيا.
ألحق الله ابنه به فإنّه شرّ منه لأنّ ما كان في أبيه فهو فيه من وقاحة وقساوة وخسّة وكان الأب على عيوبه ربّما رحم وأكرم على حاشيته وأهل داره دون الغرباء ولكنّ هذا ناصر الدولة مجتهد في أن يغرّه ويحصّله وإن حصل رجوت أن يسمله، فإنّ في نفسه عليه وعلى ابنه العظائم. » وأطلق الكوفي لسانه بهذا كلّه في مجلسه وليس بين يديه غيري وغير أبي عليّ ابن صفيّة كاتبه النصراني.
وأظهر أبو عبد الله البريدي بالأهواز كتابا من أبي عليّ ابن مقلة بخطّة إليه يقول فيه:
« الويل للكوفيّ العاضّ مني أنفذته ليصلحك لي فأفسدك عليّ وأطمعك وأصغيت بالشره إليه والله لأقطعنّ يديه ورجليه فأمّا أنت فأرجو ألّا تصرّ على كفر نعمتي وإحسانى إليك وأنت تنيب بك الرؤية إلى رعاية حقوق اصطناعى لك فترضينى من نفسك وتعينني في مثل هذه الحالة الصعبة التي لم يدفع من جلس مجلسي في دولة من الدول إلى مثلها وأن تجيرني ممّا قد أظلّنى بمال تحمله فتحفظ به نعمتك التي إحداهما في يدي والأخرى في يدك إن شاء الله. » ولمّا انحدر أبو عليّ ابن مقلة من الموصل عاد أبو محمّد عن الزوزان إليها وحارب ماكرد الديلمي وانهزم الحسن بن عبد الله ثم عاود محاربته وكانت الوقعة بينهما على باب الروم من أبواب نصيبين فانهزم ماكرد إلى الرقّة وانحدر منها في الفرات إلى بغداد وانحدر عليّ بن خلف بن طناب وتمكّن الحسن بن عبد الله من الموصل وديار ربيعة وكتب إلى السلطان يسأل الصفح عنه وأن يضمن نواحيه فأجيب إلى ذلك وضمنها.
ووافى التجّار الذين استسلف أبو عليّ مالهم ولم يوفوا الغلّات التي ابتاعوها فطالبوا أبا عليّ بردّ أموالهم عليهم فدفعته الضرورة إلى أن يسبّب لهم على عمّال السواد بعض مالهم ودافعهم ثم باع عليهم بالباقي ضياعا سلطانيّة فلم يحصل لخرجته كبير فائدة بعد الذي ردّ على التجّار وبعد الذي أنفق على سفره والجيش الخارج معه.
اعتراض أبي طاهر القرمطي للحاج
وفي هذه السنة حجّ الناس فلمّا بلغوا القادسيّة اعترضهم أبو طاهر القرمطي وكان مع الحاجّ من قبل السلطان لؤلؤ غلام المتهشّم. فظنّ لؤلؤ أنّهم أعراب فحاربهم أهل القوافل شيئا كثيرا وسأل عمر بن يحيى العلوي فيمن دخل القادسيّة فآمنهم ثم تسلّلوا من القادسيّة وبطل الحجّ في هذه السنة.
وصار أبو طاهر إلى الكوفة وأقام بها.
انقضاض الكواكب
وفي تلك الليلة بعينها انقضّت الكواكب من أوّل الليل إلى آخره ببغداد والكوفة وما والاهما انقضاض مسرفا جدا لم يعهد مثله ولا ما يقاربهما.
وشغب الجند وصاروا إلى دار الوزير فنقبوا عدّة مواضع ولم يصلوا لأنّ غلمان الوزير دفعوهم ورموهم بالنشّاب من فوق السور.
وفيها مات أبو بكر محمّد بن ياقوت في الحبس في دار السلطان بنفث الدمّ فأحضر القاضي أبو الحسين عمر بن محمّد ومعه جماعة وأخرج إليهم محمّد بن ياقوت حتى فتّشوه ومدّوا لحيته وعلموا أنّه مات حتف أنفه. ثم تسلّم إلى أهله وباع الوزير ضياعه وأملاكه وقبض على أسباب محمّد بن ياقوت كلّهم.
استيمان غلمان مرداويج
وفي هذه السنة قلّد الوزير أعمال الجبل أبا عليّ الحسن بن هارون وخرج إليها فلمّا حصل بها استأمن إليه غلمان مرداويج الأتراك الذين قتلوه في الحمّام فقبلهم وكانوا ثلاثمائة غلام. فلمّا كان بعد مدّة شغبوا عليه وطالبوه بالأرزاق وقبضوا عليه وقيّدوه ثم أطلقوه. ولمّا ورد الخبر بالقبض عليه قلّد الوزير مكانه أبا عبد الله محمّد بن خلف النيرمانى وبلغ ذلك الحسن بن هارون فخافه للعداوة بينهما واستتر وصار إلى بغداد مستترا وأقام على استتاره مدّة. ثم راسل الوزير أبا عليّ وقرّر أمره على مصادرة أوقعها بخمسة عشر ألف دينار فلمّا تقرّر أمره ظهر وأقام محمّد بن خلف في الجبل مديدة.
وأقبل غلمان مرداويج وفيهم بجكم إلى جسر النهروان وراسلوا السلطان فأمرهم بدخول الحضرة فدخلوا وعسكروا بالمصلّى. واضطربت الحجريّة وظنّوا أنّها حيلة عليهم فاجتمعوا وطالبوا الوزير أبا عليّ بأن يرضيهم ويردّهم فاستدعى جماعة من وجوههم وواقفهم على أن ينضمّوا إلى محمّد بن عليّ غلام الراشدي ويقلّده الجبل ويطلق لهم أربعة عشر ألف دينار نفقات لهم ثم بسبّب مالهم على أعمال الجبل فقالوا:
« ننصرف ونعلم باقى أصحابنا ذلك. »
فلمّا انصرفوا لم يقنعوا وكان خبرهم قد اتّصل بأبي بكر ابن رائق بواسط وهو متقلّد أعمال المعاون بها وبالبصرة فكاتبهم فراسلهم واستدعاهم ووعدهم الإحسان. فمالوا إليه واختاروه وساروا إليه فقبلهم وأثبتهم وأسنى لهم بالرزق ورأس عليهم بجكم وسمّاه: بجكم الرائقى، ورفع منه وموّله وأحسن إليه وأفراط في ذلك وضمّ جميع الغلمان إليه وتقدّم إليه بأن يكاتب كلّ من بالجبل من الأتراك والديلم بالمصير إليه ليثبتهم فصار إليه عدّة وافرة منهم فأثبتهم وضمّهم إلى بجكم.
ودخلت سنة أربع وعشرين وثلاثمائة
عدة حوادث
وفيها أطلق المظفّر بن ياقوت من حبسه في دار السلطان إلى منزله بمسألة الوزير أبي عليّ فيه، وحلف الوزير بالأيمان الغليظة على أنّه يواليه ولا ينحرف عنه ولا يسعى له في مكروه.
وفيها قلّد الوزير محمّد بن طغج أعمال المعاون بمصر مضافة إلى ما يتقلّد من أعمال معاون الشام وأدخل الراضي القضاة والعدول حتى عرّفهم تقليده محمّد بن طغج وأمرهم بمكاتبة أصحابهم وخلطائهم بذلك لئلّا ينازعه أحمد ابن كيغلغ فإنّه كان يتولّى مصر.
وفيها قطع محمّد بن رائق حمل مال ضمانه عن واسط والبصرة إلى الحضرة واحتجّ باجتماع الجيش عنده وحاجته إلى صرف المال إليهم.
وفيها تمّت حيلة المظفّر بن ياقوت حتى قبض على الوزير أبي عليّ ابن مقلة لأنّه صحّ عنده أنّه هو قتل أخاه وكان السبب في حبسهما وإزالة أمرهما.
ذكر هذه الحيلة على أبي علي ابن مقلة
لم يزل يحبّ التشفّى والأخذ بالثأر منذ أطلقه الوزير ولكنّه يكتم ذلك إلى أن واقف الحجريّة وضرّبهم عليه. وبلغ الوزير ذلك فأخذ يعتضد ببدر الخرشنى صاحب الشرطة فقوى أمر بدر وواقفه على أن يستولى على دار السلطان فيحصل فيها ويمنع الغلمان الحجريّة منها لأنّه بلغه أنّهم قد عملوا على المصير إلى الدار والمقام ففعل بدر ذلك وحصل هو وأصحابه بالسلاح في الدار ومنع الغلمان الحجريّة من دخولها ولم يظهر الوزير أنّ الذي فعله بدر كان عن رأيه. ثم جمع بين الساجيّة وبين بدر حتى تحالفوا على معاونة بعضهم بعضا.
فلمّا وقف المظفّر بن ياقوت على ذلك ضعفت نفسه وأشار الحجريّة بالخضوع للوزير والتذلّل له ولم يزالوا يلطفون للوزير ويتحققون بخدمته إلى أن أنس بهم وسألوه صرف بدر وبذلوا له كلّ ما أراد من الطاعة والموالاة له إلى أن انخدع وصرف بدرا وأصحابه. فلمّا خلت دار السلطان منهم ومن الساجيّة تحالف الحجريّة على أن تكون كلمتهم واحدة فصاروا بأجمعهم إلى دار السلطان وضربوا خيمهم فيها وحولها وملكوها وصار الراضي في أيديهم وحزبهم. فندم الوزير وعلم أنّ الحيلة تمّت عليه فتقدّم إلى بدر بأن يخرج إلى المصلّى في أصحابه من غير أن يعلم أحد أنّه فعل ذلك برأى الوزير وأمره فخرج بدر وأثبت زيادة من الرجّالة.
وبلغ ذلك الحجريّة فطالبوا الراضي بالله أن يخرج معهم إلى المسجد الجامع في داره فيصلّى بالناس ليراه الناس معهم فيعلمون أنّه في حيّزهم.
فخرج الراضي يوم الجمعة إلى المسجد الجامع الذي في داره ومشى الغلمان بأسرهم بين يديه وحوله بالسلاح رجّالة وصلّى بالناس وصعد المنبر وخطب وقال في خطبته:
« اللهم إنّ هؤلاء الغلمان بطانتى وظهارتى فمن أرادهم بسوء فأراده به ومن كادهم فكده. » وقلّد بدر الخرشنى دمشق وأمره بالخروج إليها من المصلّى وألّا يدخل البدر.
وكان المظفّر بن ياقوت في هذا كلّه يظهر للوزير أنّه مجتهد في الصلح ويظهر له الخضوع وهو في الباطن يسعى في حنقه وقد قوى أمره بما فعله الراضي. ثم إنّ الصلح تمّ بين بدر الخرشنى وبين الحجريّة فدخل من المصلّى إلى منزله وأقرّ بدر على الشرطة.
فلمّا انقضت هذه القصّة أشار الوزير على الراضي بالله سرّا أن يخرج بنفسه ومعه الجيش والحجريّة والساجيّة ليدفع محمّد بن رائق عن واسط والبصرة وقال له:
« قد انغلقت عليك هذه البلدان وهي بلدان المال بما فعله محمّد بن رائق من الامتناع من حمل مال ضمانه ومتى رأى غيره أنّ ذلك قد تمّ له واحتمال عليه تأسّى به فذهب مال الأهواز فبطلت المملكة. فعمل الراضي على ذلك وتقدّم إليه بالعمل عليه فافتتح الوزير الأمر مع ابن رائق بأن ينفذ إليه ينال الكبير من الحجريّة وماكرد الديلمي من الساجيّة برسالة من الراضي بالله يأمره فيها أن يبعث بالحسين بن عليّ النوبختي ليواقف على ما جرى على يده من ارتفاع واسط والبصرة.
فلم يستجب ابن رائق إلى إنفاذ الحسين ووهب للرسولين مالا وأحسن إليهما وسألهما أن يتحمّلا له إلى الخليفة رسالة في السرّ وهي: أنّه إن استدعى إلى الحضرة وفوّض إليه التدبير قام بكلّ ما يحتاج إليه من نفقات السلطان وأرزاق الجند ومشّى الأمور أحسن تمشئة وكفى أمير المؤمنين الفكر في شيء من أمره.
فلمّا قدم الرسولان خلوا بالراضى بالله بعد تأدية الرسالة الظاهرة فأدّيا الرسالة السرّية فلم ينشط الراضي لتسليم وزيره وأمسك.
ولمّا رأى الوزير امتناع ابن رائق من تسليم الحسين بن عليّ عمل على القاضي أبا الحسين برسالة من الراضي ليعرّفه ذلك وأنّه لم يأمن أن يقع له أنّ الخروج إنّما هو إليه فيستوحش وأنّه أنفذ القاضي ليكشف ما في نفسه وعزمه، وتوثّق له بما يسكن إليه.
فلمّا كان يوم الاثنين لأربع عشر ليلة بقيت من جمادى الأولى وانحدر الوزير إلى دار الراضي بالله ومعه القاضي أبو الحسين ليوصله فيسمع من الراضي بالله الرسالة فلمّا حصل في دهليز التسعينى قبل أن يصل إلى الخليفة وثب الغلمان الحجريّة ومعهم المظفّر بن ياقوت به فقبضوا عليه ووجّهوا إلى الراضي بالله يعرّفونه قبضهم عليه إذ كان هو المفسد المضرّب ويسألونه أن يستوزر غيره. فوجّه إليهم يستصوب فعلهم ويعرّفهم أنّهم لو لم يفعلوا ذلك لفعله هو وردّ الخيار إليهم فيمن يستوزره فذكروا عليّ بن عيسى ووصفوه بالأمانة والكفاءة وأنّه ليس في الزمان مثله. فاستحضره الراضي بالله وخاطبه في تقلّد الوزارة فامتنع وتكرّه ذلك فراجعه الراضي بالله وخاطبه الغلمان فيه وطال الخطب معه فأقام على الامتناع فقالوا:
« فنشير بمن تراه. » فأومأ إلى أخيه عبد الرحمن. فأنفذ الراضي بالله المظفّر بن ياقوت إلى عبد الرحمن فأحضره وأوصله إلى الراضي وعرّفه أنّه قلّده وزارته ودواوينه وخلع عليه وركب في الخلع ومعه الجيش إلى داره وأحرقت دار أبي عليّ.
وزارة عبد الرحمن بن عيسى
لمّا تقلّد عبد الرحمن غلب عليّ بن عيسى على التدبير فعلم أبو العبّاس الخصيبي وأبو القاسم سليمان بن الحسن وقد كنّا ذكرنا أمرهما وما كان من نفى عليّ بن مقلة إيّاهما إلى عمان وتقدّمه إلى يوسف بن وجيه صاحب عمان بحبسهما وأنّ يوسف بن وجيه أطلقهما فصارا إلى بغداد واستترا بها إلى أن قبض أبو عليّ ابن مقلة.
فلمّا كان في هذا الوقت أكرمهما عبد الرحمن الوزير وكانا يصلان معه إلى الراضي بالله مع أبي جعفر محمّد بن القاسم الكرخي وأبي عليّ الحسن بن هارون وعليّ بن عيسى لا يتأخّر أيضا عن الحضور معهم وسلّم أبو عليّ ابن مقلة إلى الوزير عبد الرحمن فضربه بالمقارع وأخذ خطّه بألف ألف دينار ثم سلّمه إلى أبي العبّاس الخصيبي فجرت عليه من المكاره والضرب والرهق أمر عظيم وحضر أبو بكر ابن قرابة بعد مدّة فتوسّط أمره وضمن ما عليه وتسلّمه وكان أدّى إلى الخصيبي نيّفا وخمسين ألف دينار.
وصرف بدر الخرشنى عن الشرطة لانحراف الحجريّة عنه وولّى أعمال المعاون بإصبهان وفارس لأنّ الحجريّة كرهوا مقامه بالحضرة فخلع عليه وأخرج مضاربه إلى ميدان الإشنان وأنفذ إليه اللواء وضمّ إليه الحسن بن هارون لتدبير أمر الخراج بهذه النواحي ثم توقّف عن إمضاء هذا الرأي فبطل خروجه.
وعجز عبد الرحمن عن تمشية الأمور وضاق المال حتى استعفى عبد الرحمن عن تمشية الأمور للراضى بالله ومن الوزارة وسأله أن يقرضه عشرة آلاف دينار إذ كانت وجوه المال قد تعذّرت عليه فقبض عليه الراضي في هذه السنة وقلّد وزارته الكرخي.
ذكر وزارة أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي
لمّا قلّد أبو جعفر الكرخي الوزارة وخلع عليه وانصرف إلى منزله ومعه الجيش كلّف مناظرة عليّ بن عيسى وأخيه عبد الرحمن وحملا إلى داره فصادر عليّ بن عيسى على مائة ألف دينار وصادر أخاه على سبعين ألف دينار وأقاما على حال صيانة وتكرمة إلى أن أدّى عليّ بن عيسى سبعين ألف دينار وأدّى أخوه ثلاثين ألف دينار ثم صرفا إلى منازلهما.
وكان الوزير أبو جعفر الكرخي قصيرا فاحتيج بسبب قصره إلى أن ينقص من ارتفاع سرير الملك فنقص منه أربع أصابع مفتوحة.
وفيها قتل ياقوت بعسكر مكرم.
ذكر مقتل ياقوت
قد ذكرنا أمر ياقوت في خروجه إلى أرجان لحرب عليّ بن بويه في قضّه وقضيضه وديلمه وأتراكه وسائر خيله. وكان معه من الرجّالة السودان ثلاثة آلاف رجل وانهزم من بين يدي عليّ بن بويه بباب أرجان بعسكره كلّه وكان على الساقة في الهزيمة لأنّه ثبت وسار عليّ بن بويه خلفه إلى رامهرمز وحصل ياقوت بعسكر مكرم في غربيّها وقطع الجسر المعقود على المسرقان وأقام عليّ بن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصلح بينه وبين السلطان.
وكتب أبو عبد الله البريدي إلى ياقوت أن يقيم بعسكر مكرم إلى أن يستريح ويقع التدبير لأمره من بعد وكان غرضه ألّا يجمعه وإيّاه بلد فقبل ياقوت. وأتاه أبو يوسف البريدي متوجّعا بما جرى عليه من الهزيمة ومهنّئا له بالسلامة وتوسّط بينه وبين أخيه أبي عبد الله يعلّل بها عسكره إلى أن يكتب إلى السلطان ويستأمره فيما يطلقه له ولرجاله وعرّفه أنّ الرجال المقيمين بالأهواز فيهم كثرة ويطالبون بمالهم وهم البربر والشفيعية والنازوكيّة واليلبقيّة والهارونيّة وكان أبو عليّ ابن مقلة ميّز هؤلاء وأنفذهم إلى الأهواز لتخفّ مؤونتهم عن الحضرة وتتوفّر أموال الساجيّة والحجريّة. فذكر أبو يوسف أنّ هؤلاء لا يطلقون مالا يخرج من الأهواز إلى سواهم وأنّهم إن أحسّوا شغبوا فاحتاج أبو عبد الله إلى مفارقة الأهواز إشفاقا على نفسه منهم.
ثم تؤول الحال إلى حرب تقع بعد الهزيمة الأرجانيّة ولا يدرى كيف تكون الحال فيها وأنّ السلطان مع ذلك مطالب بحمل مال إليه وقال له:
« إنّ رجالك مع سوء أثرهم وقبح بلائهم وهزيمتهم دفعة إذا أعطوا اليسير قنعوا به وصبروا عليه. » فقبل ياقوت ذلك وسبّب له بهذا المال على عسكر مكرم وتستر فأرضى ببعضه الحجريّة وببعضه وجوه القوّاد وأنفق في سودانه في المسجد الجامع بعسكر مكرم ثلاثة دراهم لكلّ رجل ومضى الأمر على ذلك شهورا.
وأفتتح مال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة فضجّ رجاله وطالبوه وقالوا:
« إنّه لا صبر لهم على الضرّ وإنّ المنافسة على خيرات الدنيا في الطبع والجبلّة لو كانوا أغنياء فكيف بهم مع اختلالهم وأنّهم لا يرضون أن يقبض نظراؤهم بالأهواز على الإدرار ويحرموا هم وأن يتجرّعوا الأسف والحسرات وأنّهم قد سئموا الفقر ومعاناة المجاعة. » وقد كان استأمن من أصحاب عليّ بن بويه إلى ياقوت طاهر الجيلي وكان ممّن يرشّح نفسه للأمور الكبار ويرى أنّه نظير لشيرج وطبقته واجتمع إليه نحو ثمانمائة رجل من العجم. فشغب على ياقوت ثم رحل مع أصحابه وانصرف عنه وقدّر أنّه يملك ماه البصرة وماه الكوفة فكبسه عليّ بن بويه ثم سجنه فلجأ بنفسه مع بعض غلمانه وأبو جعفر الصيمري كاتبه في الأسر وخلّصه الحنّاط فخرج إلى كرمان فكان سببا لإقباله واتصاله بالأمير أبي الحسين أحمد بن بويه فضعفت نفس ياقوت بخروج طاهر الجيلي وأصحابه واستطال باقى رجاله عليه وخاف أن يعقدوا لبعض قوّاده الرئاسة وينصرفوا عنه فكاتب أبا عبد الله البريدي بالصورة وأعلمه أنّه كاتبه ومدبّر أمره وأنّه قد فوّض إليه الرأي والتدبير في رجاله ليمضى عليه وعليهم ما يستصوبه.
ذكر الخديعة التي نفذت على ياقوت
كان ياقوت واثقا برجل ساقط يعرف بأبي بكر النيلي يجريه مجرى الأب وينحطّ إلى رأيه وقوله مع ضعة في النيلي وخساسة في همّته وقدره.
فاستصلحه أبو عبد الله البريدي ووسّع عليه فكان النيلي رسول ياقوت إلى أبي عبد الله بما قد ذكرته فكتب أبو عبد الله البريدي أنّ عسكره قد فسدوا وفيهم من ينبغي أن يميّز ويخرج لأنّ عليّ بن خلف بن طناب خانه واقتطع أموالا باسم هؤلاء القوم وزاد قوم زيادات كثيرة وأنّ الصواب أن ينفذوا إليه ليعرّفهم أنّ هذه الزيادات تفوّتهم الأصول السلطانيّة ويشافههم بأنّ الصواب أن يسقطوها ليتوفّر عليهم الأصول وقال:
« إنّما يتمّ هذا بالأهواز لأنّهم يردونها أفواجا وزمرا فإن أساءوا آدابهم وامتنعوا قوّموا بالجيش المقيمين بالأهواز وأنّهم إن خوطبوا بهذا الكلام وهم بعسكر مكرم تظاهروا وتضافروا وتعاقدوا فلم يتمّ عليهم ردّهم من الكثير إلى القليل. » وأكثر في هذا المعنى حتى قال:
« يا أبا بكر سبيل العرض أن يقع بحيث الهيبة والخوف لا بحيث الحكم والاستطالة. » فما قال له النيلي:
« الهيبة حيث يكون الأمير لا أنت ولا كانت له منّة لأن يردّ عليه شيئا. » وسأل أبو عبد الله البريدي أن ينفذ إليه أبا الفتح ابن أبي طاهر وأبا أحمد السجستاني ليشاورهما في التقرير ويتعرّف منهما منازل الرجال واستدعى أبا بكر النقيب الذي كان مع أبي طاهر محمّد بن عبد الصمد ليعرف منه أحوالهم. وأنفذ إليه ياقوت من التمس وتقدّم إلى رجاله بالخروج للعرض. فلمّا حصلوا عند البريدي استصلح الرجال لنفسه وانتخب منهم من أراد ووعدهم أن يجريهم مجرى من معه بالأهواز فأجابوه وصاروا إلى عسكره وردّوا الأرذال إلى ياقوت بعد أن أسقط زياداتهم. فلمّا استتمّ العرض وجد نصف الياقوتيّة قد انحازوا عنه. فقيل لياقوت ذلك ووبّخ وعذّل فقال:
« قد اجتمع لي بمقام من أقام بالأهواز خفّة المطالبة عني وحصولهم مع كاتبي وليس يصلح ابن البريدي لما أصلح له فأخافه وإن احتجت أو احتيج إلى حرب فالجماعة بالضرورة يعودون إليّ وهم عدّة لي عنده. » وعاد رجال ياقوت إليه فقالوا له:
« ما حصلنا من الغرض إلّا على أن خرج شطرنا وهيض جناحنا وضعفت شوكتنا فاكتب إلى البريدي أن يحمل ما قرره لنا. » فكتب ياقوت بذلك فأجابه أبو عبد الله بأنّه يحتال ويحمل.
ثم زاد الإلحاح على ياقوت فخرج بنفسه إلى الأهواز في ثلاثمائة رجل وقلّل العدّة لئلّا يستوحش البريدي وقدّر أنّه إلى كاتبه يمضى. فتلقاه أبو عبد الله البريدي بالسواد الأعظم وأخرج معه كلّ من بالأهواز من الجيش فلمّا رأى ياقوتا ترجّل له وانكبّ ياقوت عليه حتى كاد ينزل عن دابّته ثم سار وأنزله داره وخدمه بنفسه وقام بين يديه إلى أن طعم وغسل يده فناوله الماورد والمنديل وبخّره بيده فهو في ذلك قبل أن يفاوضه، إذ ارتفعت ضجّة عظيمة وشغب الجند وقالوا:
« إنّما وافى ياقوت إليه. » فقال البريدي: « أيّها الأمير الله الله اخرج وبادر وإلّا قتلنا جميعا. » فخرج ياقوت من وقته خائفا يترقّب من طريق يخالف طريق المشغّبين وعاد إلى عسكر مكرم كما بدأ منها.
ثم ورد عليه كتاب البريدي بأنّ الرجال بالأهواز قد استوحشوا منه وأنّ الوجه أن يخرج إلى تستر فإنّ بينها وبين الأهواز ستّة عشر فرسخا. وعسكر مكرم فهي على ثمانية فراسخ وإذا نأت الدار زال الاستيحاش وسبّب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار فخرج إليها. فقال له مونس - وكان مونس هذا تربية ياقوت وثقته -:
« أيّها الأمير، إنّ البريدي يحزّ مفاصلنا مفصلا مفصلا ويسخر منّا وأنت مغترّ به وقد حاز شطر رجالنا ووجوه قوّادنا إلى نفسه وضمن لنا اليسير من المقرّر وليس يطلق ذلك أيضا ليستأمن إليه الباقون ثم يأتى على أنفسنا وقد اتّصلت كتب الحجريّة إليك بأنّه لم يبق لهم شيخ غيرك. فإمّا دخلت بغداد وجميع من بها يسلّم لك الرئاسة وأوّلهم محمّد بن رائق بالضرورة لسنّك وأنّك نظير أبيه، وإمّا خرجت إلى الأهواز حتى تطرد البريدي عنها وتقيم أنت بها فإنّا وإن كانت عدّتنا يسيرة دون عدّته فهو كاتب ونحن في خمسمائة رجل وهو في عشرة آلاف رجل وقد أحصيت من عندنا فوجدتهم نحو خمسة آلاف رجل وفيهم كفاية والعسكر بصاحبه وأنت أنت.
وقد قال عدوّك عليّ ابن بويه: لو كان في عسكر ياقوت مائة رجل مثله ما قاومته. فالله الله يا مولاي، لم تضيّع نفسك وتضيّعنا؟ » فقال: « سأنظر وأفكر. » فخرج مونس مغضبا من عنده وركب في ثلاثة آلاف رجل شاذّا عن مولاه ياقوت ووافى عسكر مكرم يريد الأهواز وقال لنا.
« لا أعصى مولاي، فإنّه اشترانى وربّانى واصطنعني ولكني أفتح الأهواز وأسلّمها إليه. » فما استقرّ بعسكر مكرم ثلاث ساعات من النهار حتى ورد كتاب ياقوت على درك - وكان والى الشرطة بعسكر مكرم - يعرّفه أنّ مونسا غلامه خرج بغير إذنه وشرح له صورته وسأله أن يجتمع معه ويخوّفه الله عز وجل ويحذّره كفر نعمته ويستوقفه إلى أن يلحق به. فعبر درك من شرقيّ عسكر مكرم إلى غربيّها ووعظ مونسا وعظا كثيرا وخاطبه خطابا بليغا وكان درك شيخا مقدّما إلّا أنّ السنّ قد أخذت منه وحضر بحضوره أصحابه. فقال لمونس خادم كان معه مكينا منه وكان معقّلا:
« يا مونس إنّ مولاك قبض على ابنيه وهما تاجان ودرّتان فلم يستحلّ أن يعصى مولاه ولا يكفر نعمته وسلّمهما ولم يحارب فيهما ولا طلب بهما أفأنت تعصى مولاك فترسل يدك عن طاعته؟ أما تخاف العقوبة؟
وإن تخذل في هذه الحرب ويظفر بك فتخسر الدنيا والآخرة ولا سيّما وقد بذل أن يوافيك ويساعدك على ما تريده. انتظر ريث ورود كتابنا وورود جوابه. » فأقام مونس لما أخذه العذل والتأنيب من درك وأصحابه ووافى ياقوت في اليوم الثاني واجتمع مع غلمانه. ووافى عسكر البريدي بأسره فنزلوا في صحراء خان طوق ومعهم غلام البريدي يرؤسهم ومعه القوّاد الكبار وأكبرهم أبو الفتح ابن أبي طاهر. ووقعت المنازلة بين ياقوت وأبي جعفر الجمّال وتثبّت ياقوت بعسكر مكرم عن المسير إلى الأهواز وتهيّب الصورة وقال لمونس:
« السلطان لنا على النيّة التي عرفناها وكان منه إلى ابني ما لا يجوز أن يصلح لي أبدا وفارس فقد عرفت صورتنا بها ولا مذهب لنا في الدنيا ولا لنا موضع نأويه إلّا هذا البلد والحرب سجال وقد كثر عسكر الرجل فإن نحن حاربناه وانهزمنا كنّا بين الأسر والحمل إلى الحضرة وشهرت بها وأركبت الفيل ثم يظنّ أنّى كفرت نعمة مولاي فيلعننى الناس وبين أن أقتل. والوجه المداراة والمقاربة لهذا الرجل وأن نعود إلى تستر ونصير منها إلى الجبل فإن استقام لنا بها أمر وإلّا لحقنا بخراسان. » وشاع هذا الكلام فضعفت نفوس أصحابه وطالت الأيّام في منازلة عسكر البريدي فكان كلّ يوم يستأمن عدّة من أصحابه إلى البريدي فكان مونس يبكّر إليه في كلّ يوم ويقول له:
« يا مولاي مضى البارحة من أصحابنا ثلاثمائة أو أكثر أو أقلّ. » فلا يزيده على أن يقول:
« إلى كاتبنا يمضون وإذا كانت هذه نيّاتهم لنا فما الانتفاع بهم؟ ولأن يبقى معنا ألف رجل فنمضى بهم إلى حيث نقصد أصلح من جميع هذا اللفيف الذي هم كلّ في الرخاء وأعداء يوم اللقاء وقد جرّبناهم بباب فارس وباب أرجان. » فلم يزل كذلك حتى بقي في ثمانمائة رجل.
فلمّا علم البريدي أنّه قد استظهر الاستظهار التامّ راسله في الموادعة بأبي القاسم التنوخي القاضي وقال:
« إني لك على العهد والميثاق. » وأنّه كاتبه وأنّ الإمارة لا تصلح له وأنّ البلوى والشقاء قد حلّا به وصارت مطالبة الرجال عليه وأنّه يلاقي الموت صباح مساء ويخاف على نفسه منهم وأنّه لا رغبة له في ارتباطهم وإنّما جرّ سبب سببا حتى اجتمعوا عنده وأنّه يصاهره حتى يزداد ثقة به.
ووكلّ القاضي في تزويج ابنته من أبي العباس أحمد بن ياقوت فوافاه القاضي أبو القاسم التنوخي وأدّى إليه الرسالة وقبلها وانعقد الصهر ورحل للوقت إلى تستر. ووافاه بعقب ذلك غلام للسلطان من الحجريّة ومعه المظفّر ابنه بكتاب إليه يذكر فيه أنّه قد وهب ابنه هذا له ومن به عليه. فالتقيا بتستر فأشار عليه ابنه المظفّر بالخروج إلى حضرة السلطان ليشكره على إنفاذه ويقيم بدير العاقول ويستأذنه في الدخول. فإن أذن له فقد تمّ له ما يحبّ ووجد الحجريّة مسرعين إليه، وإن لم يأذن له تقلّد الموصل وديار ربيعة وخرج إليها، وإن منع من ذلك جعل مقصده الشام. فخالف ابنه ولم يرتض رأيه وقال:
« أنا أتأمّل ما ذكرته فأقم عندي لنتشاور. » فاستعفاه من ذلك وسأله أن يأذن له في المقام بعسكر مكرم فأذن له.
فأطمع البريدي المظفّر في أن يجعله اسفهسلار عسكره وأن يتدبّر بتدبيره حتى فارق أباه واستأمن إليه فحصل في بستانه المشهور بالأهواز وأحاط بالبستان من يراعيه ويحفظه من حيث لا يعلم.
ولمّا استوثق البريدي لنفسه واستظهر، تخوّف من الياقوتيّة الذين عنده وأن يراسلوه بلون من الألوان المنكرة من التدبير عليه أو أن يتداخلهم التعصّب له فيشغبوا عليه ويدعوا بشعار ياقوت.
وكتب إلى ياقوت بأنّ السلطان قد أمره بالخروج عن تستر إلى الحضرة في خمسة عشر غلاما أو النفوذ إلى الجبل متقلّدا لها وبأن يقصده إلى تستر ويخرجه منها قهرا فتحيّر ودعا مونسا غلامه فقال له:
« أيّ شيء ترى؟ » فقال له:
« الآن وقد مضى ما مضى والله لا صحبك إلى الحضرة ولا إلى الجبل أحد ممّن معك ولا لهم نفقات تنهضم. فإن أردت أن تمضى في عشرين غلاما إلى السلطان فذاك إليك. »
فأجاب البريدي عن كتابه بأنّه يروى ويذكر له ما عنده بعد أن استمهله شهرا ليتأهّب للسفر الذي يقصده. فعاد إليه من جواسيسه واحد كذبه فأخبره بأنّ الجيش وافى عسكر مكرم ونزلوا الدور وانبسطوا في المدينة فأحضر غلامه مونسا وقال له:
« ظفرنا والحمد لله بعدوّنا وكافر نعمتنا فنسير من تستر وقت عتمة ونصبّح عسكر مكرم والقوم غارّون في الدور فنكبسهم ونشرّدهم ونمتدّ إلى الأهواز فلا يثبت لنا البريدي بل يكون همّه الهرب لوجهه. » فقال مونس:
« أرجو أن يكون هذا صوابا. » وسار ياقوت ووصل إلى عسكر مكرم وقد بدأت الشمس من مطلعها وامتدّ مشتقّا للبلد إلى ناعورة السبيل ونهر جارود فلم ير لرجال البريدي أثرا فخيّم ونزل عند النهر ومضى يومه إلى آخره وهو متعجّب من الغرور الذي غرّه جاسوسه.
فلمّا كان وقت العصر ظهرت الطلائع ثم أقبل العسكر وأميرهم أبو جعفر الجمّال فنزل على فرسخ من ياقوت وحجز الليل بين العسكرين وأصبح فكانت بينهم مناوشة ومبارزة واتّعدوا للحرب في اليوم الذي يليه لأنّ عسكر البريدي كان منتظرا عسكرا قد سيّره البريدي على طريق دجيل ليدخل من ضفّته كمينا على ياقوت حتى يصير وراءه. ثم أصبحوا في اليوم الثالث من ورود ياقوت عسكر مكرم فابتدأت الحرب منذ وقت طلوع الشمس إلى وقت الظهر وثبت ياقوت ومعه ممّن نصره مثل مونس وآذريون ومشرق وغيرهم في دون ألف رجل. فأعيا من بإزائه من أبي جعفر الجمال وغيره على كثرة عددهم حتى كادت البريديّة تنهزم.
وجاءت الظهر وقد بلغت القلوب الحناجر فطلع الكمين وهم ثلاثة آلاف رجل جامّين. فأبلس ياقوت وقال:
« لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم. » وأومأ مونس أن يقصدهم ويكفيه إيّاهم فعدل مونس مع ثلاثمائة رجل إليهم وبقي ياقوت في خمسمائة رجل فما مضت ساعة حتى وافى منهزما فرمى ياقوت نفسه من دابّته ونزع سلاحه وما عليه من ثيابه حتى بقي بسراويل وقميص سينيزيّ. ثم أوى إلى رباط يعرف برباط الحسين بن دبار فاستند إليه ولو دخل الرباط واستتر فيه لانستر أمره ولجنّه الليل ولجاز أن يسلم.
فجلس بحيث ذكرت وهو بقرب ناعورة السبيل وغطّى وجهه ومدّ يده يسأله ليقدّر فيه أنّه من أرباب النعم افتقر وهو يطلب هديّة فركب إليه قوم من البربر ورأوه بهذه الصورة فطلبوه بكشف وجهه فامتنع وأومأ إليه أحدهم بمزراق فقال:
« أنا ياقوت احملونى إلى البريدي. » فاجتمعوا عليه وحزّوا رأسه وانهزم مونس ومشرق وآذريون إلى تستر واتّبعهم الأعراب والبربر فأسروهم وردّوهم. وأطلق أبو جعفر الجمال طائرا بالخبر إلى البريدي يستأذن في رأس ياقوت. فردّ إليه في الجواب مع غلام يركض بأن يجمع الرأس والجثّة ويدفن الجميع في الموضع الذي قتل فيه.
طغيان البريدي بعد مقتل ياقوت
وقبض البريدي على المظفّر ابنه مدّة ثم أنفذه إلى الحضرة.
وطغى البريدي بعد ذلك وشهّر نفسه بالعصيان وقد كانت نفسه ضعيفة فيما ارتكبه من أمر ياقوت فقوّاها أخوه أبو يوسف حتى جهّز إليه العساكر وقتله.
فحكى أبو زكريا يحيى بن سعيد السوسي أنّه سمع أبا يوسف البريدي يخاطب أبا عبد الله أخاه فقال أبو عبد الله:
« يا أخي أخاف أن تتعصّب الحجريّة علينا فيقتلونا إن دخلنا الحضرة يوما وفي العاجل لست آمن على أخي أبي الحسين وهو بالحضرة أن يقتل بثأره. » فقال أبو يوسف:
« أمّا أبو الحسين فنحن نكتب إليه بالخبر حتى يأخذ لنفسه ويستظهر، وأمّا الحجريّة ودخولنا الحضرة، بعد أن وسمنا بمصادرة اثنى عشر ألف ألف درهم، فهيهات من ذلك. أبعد تخلّصنا من القاهر ومن الخصيبي الملعون وسلامة أرواحنا نحدّث أنفسنا بدخول الحضرة؟ بلى ستهدم منازلنا وإلى لعنة الله، ما نعود إلى الحضرة فنحتاج إليها وقد أدبرت. ودع يا أبا عبد الله ما اعتدت فإنك لا ترى مثله مع خلوقة الزمان وإدبار الملك وفقر الخلافة. وقد كنّا نتكسّب من السلطان وهو اليوم مثلنا نحن بل نحن مكسب له يريد أن يجتاحنا ويأخذ مالنا ومتى لم نعتصم بهذه العساكر المجتمعة ونخرج ياقوتا منها سقطنا ثم يطول علينا أن نجد من أيّامنا يوما. والله ما أشرت عليك بما نسمع إلّا بعد أن استعددت له ما يعينني عليه وقد واقفتك على هذا سرّا وجهرا وأبو زكريا ممّن لا نحتشمه. » قال أبو زكريا: وإنّما أومأ أبو يوسف بهذا القول إلى مال السوس وجنديسابور فإنّ أبا عبد الله كان أجمّه عنده استظهارا وأناخ في النفقات وأرزاق الأولياء وما كان يعلّل به السلطان على أموال كور الأهواز الباقية.
وكان يجتذب القطعة فالقطعة منها ويجعل ذلك وراءه ولم يكن له نفقة ولا بذخ حينئذ.
وما وهب قطّ لطارق ولا شاعر ولا ولد نعمة شيئا وكان عارفا بورود الأموال وخرجها وجميعها تجرى على يده فإن شذّ منها شيء عنه إلى إسرائيل بن صلح وسهل بن نظير الجهبذين لم يخف عليه مبلغه.
قال: واستخرج أبو عبد الله وأخوه أبو يوسف من كور الأهواز بعد تقليد الراضي إيّاهما لسني اثنتين وثلاث وأربع وعشرين وثلاثمائة وإلى شعبان من سنة خمس - فإن بجكم هزمهم وأخرجهم عنها في هذا الشهر - ثمانية آلاف ألف دينار وجميع ما خرج عنها في جميع وجوه النفقات دون أربعة آلاف ألف دينار حاصلة.
وسمعت يعقوب الصيرفي اليهودي يقول: سمعت أبا عبد الله يقول:
« نمضي إلى البصرة فإن تمّ لنا بها أمر فقد كفينا وإن حزبنا أمر لا نطيقه قصدنا عمان واستجرنا بصاحبها - يعنى يوسف بن وجيه - فإنّه حرّ ودبّرنا أمرنا فإمّا أن عبرنا إلى فارس واستجرنا بعليّ بن بويه فإنّ دولة الديلم قوية والحضرة مدبّرة، وإمّا أن عبرنا إلى التيز ومكران وقصدنا صاحب خراسان. فالطريق إليها جدد. »
عود إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها
وعدنا إلى ذكر أخبار الحضرة وتدبير الوزراء لها. كان الوزير غير ناهض بالوزارة وما زالت الإضافة تزيد ومن في يده مال من المعاملين يطمع وقطع ابن رائق الحمل من واسط والبصرة والبريديون من الأهواز وعليّ ابن بويه قد تغلّب على فارس وابن الياس على كرمان فتحيّر أبو جعفر الكرخي واعتدت المطالبات عليه وانقطعت الموادّ عنه ونقصت هيبته فاستتر بعد ثلاثة أشهر ونصف من وقت تقلّده، ووجد في خزانته سفاتج لم تفضّ وما يجرى هذا المجرى من العجز وقلّة النفاذ في العمل.
وزارة سليمان بن يحيى
ولمّا استتر الكرخي استحضر الراضي سليمان بن الحسن أبا القاسم فقلّده الوزارة والدواوين. فكان في التحيّر وانقطاع المواد عنه على مثل حال الكرخي فدفعت الضرورة الراضي بالله إلى أن راسل أبا بكر محمّد بن رائق وهو بواسط وأذكره بما ضمن من القيام بالنفقات وإزاحة علّة الجيش والحشم ومسألته عمّا عنده من المقام على ذلك أو الانصراف عنه. فتلقّى أبو بكر محمّد بن رائق الرسول بالجميل ووصله بألف دينار وأجاب عن الكتاب بأنّه مقيم على ما ضمنه.
ذكر استيلاء ابن رائق على الخلافة وسائر الممالك
فأنفذ إليه الراضي ماكرد الديلمي من الساجيّة وعرّفه أنّه قلّده الإمارة ورئاسة الجيش وجعله أمير الأمراء وردّ إليه تدبير أعمال الخراج والضياع وأعمال المعاون في جميع النواحي وفوّض إليه تدبير المملكة وأمر بأن يخطب له على جميع المنابر في الممالك وبأن يكنّى، وأنفذ إليه الخلع واللواء مع ماكرد الديلمي وخادم من خدم السلطان وانحدر إليه أصحاب الدواوين كلّهم وجميع قوّاد الساجيّة والحسن بن هارون. فلمّا حصلوا بواسط قبض على الساجيّة وعلى الحسن بن هارون قبل أن يصلوا إليه وحبس الساجيّة ونهبت رحالاتهم وقيل للحجريّة:
« إنّما فعلنا ذلك بالساجيّة لتتوفّر أموالكم. » وورد الخبر بذلك إلى بغداد وكان قد بقي من الساجيّة ببغداد خلق فخرجوا إلى الموصل وإلى الشام. واستوحش الحجريّة ببغداد لما جرى على الساجيّة بواسط فقصدوا دار السلطان وأحدقوا بها وضربوا خيمهم حولها ووجّه ابن رائق بمونس الأفلحى وبارس الحاجب إلى بغداد فضربوا خيمهم في باب الشمّاسيّة وقلّة لؤلؤ الشرطة ببغداد. ثم أصعد محمّد بن رائق من واسط يوم الجمعة لعشر بقين من ذي الحجة ومعه بجكم. فرتّب محمّد بن رائق فوق الوزير وخلع عليه وركب إلى مضربه في الحلبة وحمل إليه من دار السلطان الطعام والشراب والفواكه عدّة أيّام وخدمه في ذلك خدم السلطان.
واجتمع إليه الغلمان الحجريّة وسلّموا عليه وأمرهم بقلع خيمهم من دار السلطان والانصراف إلى منازلهم ففعلوا.
وبطل منذ يومئذ أمر الوزارة فلم يكن الوزير ينظر في شيء من أمر النواحي ولا الدواوين ولا الأعمال ولا كان له غير اسم الوزارة فقط وأن يحضر في أيّام المواكب. وصار ابن رائق وكاتبه ينظران في الأمر كلّه وكذلك كلّ من تقلّد الإمارة بعد ابن رائق إلى هذه الغاية وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء فيأمرون وينهون فيها وينفقون كما يرون ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون وبطلت بيوت الأموال.
وفي هذه السنة ملك ابن الياس كرمان وصفت له بعد حروب جرت له مع جيش خراسان.
إفضاء أمر أحمد بن بويه إلى ملك العراق
وفي هذه السنة جرت الحادثة على أبي الحسين أحمد بن بويه وأصيب بيده ووقع بين القتلى ثم تخلّص وأفضى أمره إلى ملك العراق.
ذكر السبب في ذلك
لمّا تمكّن عليّ بن بويه بفارس وتمكّن أخوه الحسن بن بويه بإصبهان نظر في أمر أخيه الأصغر أبي الحسين أحمد بن بويه فتقرّر الأمر بينهما مكاتبة ومراسلة على أن يتوجّه إلى كرمان فضمّ إليه عليّ بن بويه عسكرا فيه من كبار الديلم ومذكوريها ألف وخمسمائة رجل ونحو خمسمائة رجل من الأتراك ومن يجرى مجراهم.
وكان يكتب لأبي الحسين في ذلك الوقت رجل يعرف بأبي الحسين أحمد بن محمّد الرازي وكان ممتعا بإحدى عينيه ويعرف بكوردفير ولم تكن له صناعة ولكنّه كان واسع الصدر شجاعا. فورد السيرجان واستخرج منها مالا وأنفقه في عسكره وكان إبراهيم بن سمجور الدواتى من قبل صاحب خراسان محاصرا لمحمّد بن الياس بن اليسع الصغدي. فلمّا بلغ ابن سمجور خبر الديلم رجع إلى خراسان ونفّس عن خناق محمّد بن الياس فتخلّص وانتهز الفرصة وخرج عن القلعة التي كان فيها إلى مدينة بم وهي على مفازة تتصل بسجستان. فسار أحمد بن بويه إليه فرحل إلى سجستان من غير حرب فانصرف من هناك وتوجّه إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بم بعض قوّاده. فلمّا أشرف على جيرفت تلقّاه رسول عليّ بن الزنجي وكان رئيس القفص والبلوص وهو المعروف بعليّ بن كلويه.
وكان هو وأسلافه متغلبين على تلك الأعمال إلّا أنّهم يجاملون كلّ سلطان يرد عليهم ويذعنون له ويحملون إليه مالا معلوما ولا يطؤون بساطه.
فبذل لأحمد بن بويه ذلك المال على الرسم. فأجابه بأنّ الأمر في هذا إلى أخيه عليّ بن بويه وأنّه لا بدّ له من دخول جيرفت. فإذا دخلها كاتبه وراسله في ذلك وأمره أن يبعد عن البلد. فاستجاب ورحل إلى نحو عشرة فراسخ من البلد في موضع وعر صعب المسلك.
وتردّدت المراسلات بينهما إلى أن تقرّر الأمر بينهما على أن ينفذ إليه رهينته ففعل وقاطعه عن البلد على ألف ألف درهم يحملها في كلّ سنة وحمل في الوقت مائة ألف درهم منسوبة إلى الهدية وغير محسوبة من مال المقاطعة، وأقام له الخطبة. ثم حمل شيئا من مال التعجيل وسلك سبيل الوفاء معه. فأشار كوردفير الكاتب على أحمد ابن بويه بأن يسرى إليه ناقضا ما بينهما من العهود فإنّه سيجده غير متحرّز وأصحابه غارّين لسكونهم إلى وقوع الاتفاق وزوال الخلاف فيفوز بأموالهم وذخائرهم ويستولى على ديارهم ويتمّ له ما لا يتمّ لأحد قبله.
ذكر ما كان من عاقبة هذا الغدر والنكث
أصغى أبو الحسين أحمد بن بويه إلى كاتبه ووقع بوفاقه لحداثة سنّة واغتراره فحمل نفسه على مفارقة ما يجب عليه في الدين والمروءة وجمع صناديد عسكره وخلّف سواده وما يجرى مجراه وأسرى للوقت إلى القوم وذلك عند صلاة العصر ليصبّحهم بياتا.
وكان عليّ بن كلويه متيقّظا قد وضع عيونه عليه فسبق إليه الخبر فجمع أصحابه ورتّبهم على مضيق بين جبلين كان الطريق فيه. فلمّا توسّط أبو الحسين في الليل مع أصحابه ثاروا به من جميع الجوانب فقتلوا وأسروا رجال العسكر فلم يفلت منهم إلّا اليسير. ووقعت بأبي الحسين أحمد بن بويه ضربات كثيرة كانت ظاهرة فيه وطاحت يده
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 5 (0 من الأعضاء و 5 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)