وإنه أمر أن يحصى ما اجتبى من خراج بلاده وتوابعه وسائر أبواب المال، سنة ثماني عشرة من ملكه، فرفع إليه أن الذي اجتبي في تلك السنة من الخراج وسائر أبوابه من الورق أربعمائة ألف ألف مثقال وعشرون ألف ألف مثقال؛ يكون ذلك وزن سبعة، ستمائة ألف ألف درهم، وأمر فحول إليى بيت مالٍ بني بمدينة طيسبون، وسماه بهار حفرد خسرو، وأموال له أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد وقباذ بن فيروز، اثنا عشر ألف بدرة، في كل بدرة منها من الورق أربعة آلاف مثقال، يكون جميع ذلك ثمانية وأربعين ألف ألف مثقال، وهو وزن سبعةٍ، ثمانية وستون ألف ألف وخمسمائة ألف وأحد وسبعون ألفًا وأربعمائة وعشرون درهمًا ونصف وثلث ثمن درهم، في أنواع لا يحصي مبلغها إلا الله، من الجواهر والكسى وغير ذلك.
وإن كسرى احتقر الناس، واستخف بما لا يستخف به الملك الرشيد الحازم، وبلغ من عتوه وجرأته على الله أنه أمر رجلا كان على حرس بابه الخاص - يقال له: زاذان فروخ - أن يقتل كل مقيد في سجن من سجونه، فأحصوا، فبلغوا ستة وثلاثين ألفًا، فلم يقدم زاذان فروخ على قتلهم، وتقدم لتأخير ما أمر به كسرى فيهم، لعلل أعدها له، فكسب كسرى عداوة أهل مملكته من غير وجه؛ أحد ذلك احتقاره إياهم، وتصغيره عظماءهم.
والثاني تسليط العلج فرخان زاد بن سمي عليهم، والثالث أمره بقتل من كان في السجن، والرابع إجماعه على قتل الفل الذين انصرفوا إليه إليه من قبل هرقل والروم؛ فمضى ناس من العظماء إلى عقر بابل، وفيه شيرى بن أبرويز مع إخوته بها، قد وكل بهم مؤدبون يؤدبونهم، وأساورة يحولون بينهم وبين براح ذلك الموضع، فأقبلوا به، ودخل مدينة بهرسير ليلا، فخلى عمن كان في سجونها، وخرج من كان فيها، واجتمع إليه الفل الذين كان كسرى أجمع على قتلهم، فنادوا قباذ شاهنشاه، وصاروا حين أصبحوا إلى رحبة كسرى، فهرب من كان في قصره من حرسه، وانحاز كسرى بنفسه إلى باغ له قريب من قصره، ويدعى باغ الهندوان فارًا مرعوبًا، وطلب فأخذ ماه آذر وروز آذر، وحبس في دار المملكة، ودخل شيرويه دار الملك، واجتمع إليه الوجوه، فملكوه وأرسل إلى أبيه يقرعه بما كان منه.
وحدثت عن هشام بن محمد، قال: ولد لكسرى أبرويز ثمانية عشر ولدًا ذكرًا، أكبرهم شهريار، وكانت شيرين تبنته، فقال المنجمون لكسرى: إنه سيولد لبعض ولدك غلام؛ ويكون خراب هذا المجلس وذهاب هذا الملك على يديه، وعلامته نقصٌ في بعض بدنه، فحصر ولده لذلك عن النساء، فمكثوا حينًا لا يصلون إلى امرأة، حتى شكا ذلك شهريار إلى شيرين، وبعث إليها يشكو الشبق، ويسألها أن تدخل عليه امرأة وإلا قتل نفسه؛ فأرسلت إليه: إني لا أصل إلى إدخال النساء عليك إلا أن تكون امرأة لا يؤبه لها، ولا يجمل بك أن تمسها، فقال لها: لست أبالي ما كانت، بعد أن تكون امرأة.
فأرسلت إليه بجارية كانت تحجمها، وكانت - فيما يزعمون - من بنات أشرافهم؛ إلا أن شيرين كانت غضبت عليها في بعض الأمور، فأسلمتها في الحجامين؛ فلما أدخلتها على شهريار وثب عليها، فحملت بيزدجرد، فأمرت بها شيرين فقصرت حتى ولدت، وكتمت أمر الولد خمس سنين. ثم إنها رأت من كسرى رقة للصبيان حين كبر، فقالت له: هل يسرك أيها الملك أن ترى ولدًا لبعض بنيك على ما كان في ذلك من المكروه؟ فقال: لاأبالي.
فأمرت بيزدجرد فطيب وحلي، وأدخلته عليه، وقالت: هذا يزدجرد بن شهريار، فدعا به فأجلسه في حجره، وقبله وعطف عليه، وأحبه حبًا شديدًا، وجعل يبيته معه؛ فبينا هو يلعب ذات يوم بين يديه؛ إذ ذكر ما قيل فيه، فدعا به فعراه من ثيابه، واستقبله واستدبره، فاستبان النقص في أحد وركيه، فاستشاط غضبًا وأسفًا، واحتمله ليجلد به الأرض، فتعلقت به شيرين، وناشدته الله ألا يقتله، وقالت له: إنه إن يكن أمرٌ قد حضر في هذا الملك فليس له مرد. قال: إن هذا المشئوم؛ الذي أخبرت عنه، فأخرجيه فلا أنظر إليه. فأمرت به فحمل إلى سجستان.
وقال آخرون: بل كان بالسواد عند ظؤورته في قرية يقال لها خمانية. ووثبت فارس على كسرى فقتلته، وساعدهم على ذلك ابنه شيرويه بن مريم الرومية.
وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة. ولمضي اثنتين وثلاثين سنة وخمسة أشهر وخمسة عشر يومًا من ملكه هاجر النبي من مكة إلى المدينة.
ذكر ملك شيرويه بن أبرويز
ثم ملك من بعده ابنه شيرويه، واسمه قباذ بن أبريز بن هرمز بن كسرى أنوشروان. فذكر أن شيرويه لما ملك دخل عظماء الفرس عليه بعد حبسه أباه، فقالوا له: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان اثنان، فإما أن تقتل كسرى ونحن خولك الباخعون لك بالطاعة، وإما أن نخلعك ونعطيه الطاعة على ما لم نزل نعطيه قبل أن تملك.
فهدت هذه المقالة شيرويه وكسرته، وأمر بتحويل كسرى من دار المملكة إلى دار رجل يقال له مارسفند. فحمل كسرى على برذون، وقنع رأسه، وسير به إلى تلك الدار، ومعه ناس من الجند، فمروا به في مسيرهم على إسكاف جالس في حانوت شارع على الطريق، فلما بصر بفرسان من الجند معهم فارس مقنع، عرف أن المقنع كسرى، فحذفه بقالب، فعطف إليه رجلٌ ممن كان مع كسرى من الجند، فاخترط سيفه فضرب عنق الإسكاف، ثم لحق بأصحابه.
فلما صار كسرى في دار مارسفند جمع شيرويه من كان بالباب من العظماء وأهل البيوتات، فقال: إنما قد رأينا أن نبدأ بالإرسال إلى الملك أبينا بما كان من إساءته ونوقفه على أشياء منها، ثم دعا برجل من أهل أردشير خرة يقال له أسفاذ جشنس، ولمرتبته رئيس الكتيبة، كان يلي تدبير المملكة، فقال له: انطلق إلى الملك أبينا، فقل له عن رسالتنا: إنا لم نكن للبلية التي أصبحت فيها ولا أحد من رعيتنا سببا، ولكن الله قضاها عليك جزاء منه لك بسيئ أعمالك؛ منها اجترامك إلى هرمز أبيك وفتكك به، وإزالتك الملك عنه، وسملك عينيه، وقتلك إياه شر قتلة، وما قارفت في أمره من الإثم العظيم.
ومنها سوء صنيعك إلينا معشر أبنائك في حظرك علينا مثافنة الأخيار ومجالستهم، وكل أمر يكون لنا فيه دعة وسرور وغبطة.
ومنها إساءتك كانت بمن خلدت السجون منذ دهر، حتى شقوا بشدة الفقر وضيق المعاش والغربة عن بلادهم وأهاليهم وأولادهم. ومنها سوء نظرك في استخلاصك كان لنفسك من النساء وتركك العطف عليهن بمودة منك والصرف لهن إلى معاشرة من كن يرزقن منه الولد والنسل، وحبسك إياهن قبلك مكرهات. ومنها ما أتيت إلى رعيتك عامة في اجتبائك إياهم الخراج، وما انتهكت منهم في غلظتك وفظاظتك عليهم. ومنها جمعك الأموال التي اجتبيتها من الناس في عنف شديد، واستفستد منك إياهم، وإدخالك البلاء والمضار عليهم فيه. ومنها تجميرك من جمرت في ثغور الروم وغيرهم من الجنود، وتفريقك بينهم وبين أهاليهم.
ومنها غدرك بموريق، ملك الروم، وكفرك إنعامه عليك فيما كان من إيوائه إياك، وحسن بلائه عندك، ودفعه عنك شر عدوك، وتنويهه باسمك في تزويجه إياك أكرم النساء من بناته عليه، وآثرهن عنده، واستخفافك بحقه، وتركك إطلابه ما طلب إليك من رد خشبة الصليب، التي لم يكن بك ولا بأهل بلادك إليها حاجة، علمته.
فإن كانت لك حجج تدلى بها عندنا وعند الرعية فأدل بها، وإن لم تكن لك حجة، فتب إلى الله من قريب، وأنب إليه حتى نأمر فيك بأمرنا.
فوعى أسفاذ جشنس رسالة كسرى شيرويه هذه، وتوجه من عنده إلى كسرى ليبلغه إياها، فلما توجه إلى الموضع الذي كان حبس فيه كسرى ألفى رجلا يقال له جيلنوس كان قائد الجند قد وكل بحراسة كسرى جالسا، فتحاورا ساعة، ثم سأل أسفاذ جشنس جلينوس أن يستأذن له على كسرى ليلقاه برسالة من شيرويه، فرجع جلينوس فرفع الستر الذي كان دون كسرى، فدخل عليه، وقال له: عمرك الله! إن أسفاذ جشنس بالباب، وذكر أن الملك شيرويه أرسله إليك في رسالة، وهو يستأذن عليك، فرأيك في الأمر فيه برأيك! فتبسم كسرى وقال مازحًا: يا جلينوس أسفاذان، كلامك مخالف كلام أهل العقل، وذلك أنه إن كانت الرسالة التي ذكرت من شيرويه الملك، فليس لنا مع ملكه إذن، وإن كان لنا إذن وحجب فليس شيرويه بملك؛ ولكن المثل في ذلك كما قيل: يشاء الله الشىء فيكون، ويأمر الملك بأمر فينفذ. فأذن لأسفاذ جشنس يبلغ الرسالة التي حملها. فلما سمع جلينوس هذه المقالة خرج من عند كسرى، وأخذ بيد إسفاذ جشنس، وقال له: قم فادخل إلى كسرى راشدًا.
فنهض أسفاذ جشنس، ودعا بعض من كان معه من خدمه، ودفع إليه كساء كان لابسه، وأخرج من كمه ششتقة بيضاء نقية، فمسح بها وجهه، ثم دخل على كسرى، فلما عاين كسرى، خر له ساجدًا، فأمره كسرى بالانبعاث، فانبعث وكفر بين يديه - وكان كسرى جالسا على ثلاثة أنماط من ديباج خسرواني منسوج بذهب، قد فرشت على بساط من إبريسم، متكئًا على ثلاث وسائد منسوجة بالذهب، وكان بيده سفرجلة صفراء شديدة الاستدارة. فلما عاين أسفاذ جشنس، تربع جالسا ووضع السفرجلة التي كانت بيده على تكأته، فتدحرجت من أعلى الوسائد الثلاث لشدة استدارتها واملساس الوسادة التي كانت عليها، بامتلاء حشوها إلى أعلى تلك الأنماط الثلاثة، ومن النمط إلى البساط، ولم تلبث على البساط أن تدحرجت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب، فتناولها أسفاذ جشنس فمسحها بكمه، وذهب ليضعها بين يدي كسرى، فأشار إليه أن ينحيها عنه، وقال له: أعز بها عني، فوضعها أسفاذ جشنس عند طرف البساط إلى الأرض، ثم عاد فقام مقامه، وكفر بيده، فنكس كسرى، ثم قال متمثلا: الأمر إذا أدبر فاتت الحيلة في الإقبال به، وإذا أقبل أعيت الحيلة في الإدبار به، وهذان الأمران متداولان على ذهاب الحيل فيهما، ثم قال لأسفاذ جشنس: إنه قد كان من تدحرج هذه السفرجلة وسقوطها حيث سقطت، وتلطخها بالتراب وهو عندنا كالإخبار لنا بما حملت من الرسالة، وما أنتم عاملون به وعاقبته، فإن السفرجلة التي تأويلها الخير، سقطت من علو إلى سفل، ثم لم تلبث على مفرشنا أن سقطت إلى الأرض، ووقعت بعيدا متلطخة بتراب؛ وذلك منها دليل في حال الطيرة: أن مجد الملوك قد صار عند السوق؛ وأنا قد سلبنا الملك، وأنه لا يلبث في أيدي عقبنا أن يصير إلى من ليس من أهل المملكة، فدونك فتكلم بما حملت من رسالة، وزودت من الكلام.
فاندفع أسفاذ جشنس في تبليغ الرسالة التي حمله إياها شيرويه، ولم يغادر منها كلمة، ولم يزلها عن نسقها. فقال كسرى في مرجوع تلك الرسالة: بلغ عنى شيرويه القصير العمر، أنه لا ينبغي لذي عقل أن يبث من أحد الصغير من الذنب، ولا اليسير من السيئة إلا بعد تحقق ذلك عنده، وتيقنه إياه منه، فضلًا عن عظيم ما بثثت ونشرت وادعيت منا، ونسبتنا إليه من الذنوب والجرائم؛ مع أن أولى الناس بالرد عن ذي ذنب، وتوبيخ ذي جرمة، من قد ضبط نفسه عن الذنوب والجرائم، ولو كنا على ما أضفتنا إليه لم يكن ينبغي أن تنشره وتؤنبنا به أيها القصير العمر القليل العلم؛ فإن كنت جاهلًا بما يلزمك من العيوب يبثك منا ما بثثت، ونسبتك إيانا إلى ما نسبت؛ فاستثنت عيوبك واقتصر في الزري علينا، والعيب لنا ما لا يزيدك بسوء مقالتك فيه إلا اشتهارًا بالجهل، ونقص الرأي.
أيها العازب العاقل، العديم العلم؛ فإنه إن كان لإجهادك نفسك في شهرك إيانا من الذنوب بما يوجب علينا القتل حقيقة، وكان لك على ذلك برهان، فقضاة أهل ملتك ينفون ولد المستوجب للقتل من أبيه، وينحونه عن مضامه الخيار ومجالستهم، ومخالطتهم إلا في أقل المواطن فضلًا عن أن يملك؛ مع أنه قد بلغ بحمد الله ونعمته من إصلاحنا أنفسنا ونيتنا فيما بيننا وبين الله وبيننا وبين أهل ملتنا وديننا، وبيننا وبينك وبين معشر أبنائنا ما ليس لنا في شيء من ذلك تقصير، ولا علينا فيه من أحد حجة ولا توبيخ؛ ونحن نشرح الحال فيما ألزمتنا من الذنوب، وألحقت بنا من الجرائم؛ عن غير التماس منا لذلك نقصًا فيما أدلينا به من حجة، أو أتينا عليه من برهان؛ لتزداد علمًا بجهالتك وعزوب عقلك، وسوء صنيعك.
أما ما ذكرت من أمر أبينا هرمز، فمن جوابنا فيه أن الأشرار والبغاة كانوا أغروا هرمز بنا حتى اتهمنا واحتمل غمرًا ووغرًا ورأيًا من ازواره عنا، وسوء رأيه فينا، ما تخوفنا ناحيته، فاعتزلتنا بابه لإشفاقنا منه، ولحقنا بأذربيجان، وقد استفاض، فانتهك من الملك ما انتهك. فلما انتهى إلينا خبر ما بلغ منه شخصًا من أذربيجان إلى بابه، فهجم علينا المنافق بهرام في جنود عظيمة من العصاة المستوحبة القتل، مارقًا من الطاعة، فأجلانا عن موضع المملكة فلحقنا ببلاد الروم، فأقبلنا منها بالجنود والعدة، وحاربناه فهرب منا، وصار من أمره في بلاد الترك من الهلكة والبوار إلى ما قد اشتهر في الناس؛ حتى إذا صفا لنا الملك، واستحكم لنا أمره، ودفعنا بعون الله عن رعيتنا البلاء والآفات التي كانوا أشفوا عليها، قلنا: إن من خير ما نحن بادئون به في سياستنا، ومفتتحون به ملكنا الانتقام لأبينا، والثأر به والقتل لكل من شرك في دمه؛ فإذا أحكمنا ما نوينا من ذلك، وبلغنا منه ما نريد تفرغنا لغيره من تدبير الملك، فقتلنا كل من شرك في دمه، وسعى فيه ومالًا عليه.
وأما ما ذكرت من أمر أبنائنا، فمن جوابنا أنه ليس من ولد ولدناه - ما خلا من استأثر الله به منهم - إلا صحيحة أعضاء جسده؛ غير أنا وكلنا بالحراسة لكم، وكفكم عن الانتشار فيما لا يعنيكم إرادة كف ما نتخوف من ضرركم على البلاد والرعية. ثم كنا أقمنا من النفقات الواسعة في كسوتكم ومراكبكم وجميع ما تحتاجون إليه ما قد علمت، وأما أنت خاصة، فمن قصتك أن المنجمين كانوا قضوا في كتاب مولدك أنك مثرب علينا، أو يكون ذلك بسببك؛ فلم نأمر بقتلك؛ ولكن ختمنا على كتاب قضية مولدك، ودفعناه إلى شيرين صاحبتنا.
ومع ثقتنا بتلك القضية وجدنا فرميشا ملك الهند كتب إلينا في سنة ست وثلاثين من ملكنا، وقد أوفدهم إلينا، فكتب في أمور شتى، وأهدى لنا ولكم - معشر أبنائنا - هدايا، وكتب إلى كل واحد منكم كتابتًا، وكانت هديته لك - فاذكرها - فيلا، وسيفًا، وبازيًا أبيض، وديباجة منسوجة بذهب؛ فلما نظرنا فيما أهدى لكم، وكتب إليكم وجدته قد وقع على كتابه إليك بالهندية: اكتم ما فيه، فأمرنا أن يصرف إلى كل واحد منكم ما بعث إليه من هدية أو كتاب، واحتسبنا كتابه إليك لحال التوقيع الذي كان عليه، ودعونا بكاتب هندي، وأمرنا بفض خاتم الكتاب وقراءته، فكان فيه: أبشر وقر عينًا، وانعم بالًا، فإنك متوج ماه آذر روز ديبا ذر سنة ثمان وثلاثين من ملك كسرى، ومملك على ملكه وبلاده؛ فوثقنا أنك لم تكن لتملك إلا بهلكنا وبوارنا، فلم ننتقصك - بما استقر عندنا من ذلك مما كنا أمرنا بإجرائه عليه من الأرزاق والمعاون والصلات وغير ذلك - شيئًا؛ فضلًا عن أمرنا بقتلك.
وأما كتاب فرميشا فقد ختمنا عليه بخاتمنا، واستودعناه شيرين صاحبتنا؛ وهي في الأحياء صحيحة العقل والبدن؛ فإن أحببت أن تأخذ منها قضية مولدك، وكتاب فرميشا إليك وتقرأهما لتكسبك قراءتك إياهما ندامة وثبورًا فافعل.
وأما ما ذكرت من حال من خلد السجن فمن جوابنا فيه أن الملوك الماضبين من لدن جيومرت إلى ملك بشتاسب، كانوا يدبرون ملكهم بالمعدلة؛ ولم يزللوا من لدن بشتاسب إلى ملكنا يدبرونه بمعدلة، معها ورع الدين؛ فسل إن كنت عديم عقل وعلم وأدب حملة الدين - وهم أوتاد هذه الملة - عن حال من عصى الملوك وخالفهم، ونكث عهدهم، والمستوجبين بذنوبهم القتل فيخبروك أنهم لا يستحقون أن يرحموا ويعفى عنهم.
واعلم من ذلك أنا لم نأمر بالحبس في سجوننا، ولا من قد وجب عليه في القضاء العدل أن يقتل أو تسمل عينه، وتقطع يده ورجله وسائر أعضائه. وكثيرًا ما كان الموكلون بهم وغيرهم من وزرائنا يذكرون استيجاب من استوجب منهم القتل، ويقولون: عاجلهم بالقتل قبل أن يحتالوا لأنفسهم حيلًا يقتلونك بها، فكنا لحبنا اسنبقاء النفوس وكراهتنا سفك الدمتاء نتأنى بهم، ونكلهم إلى الله، ولا نقدم على عقوبتهم بعد الحبس الذي اقتصرنا عليه؛ إلا على منعهم أكل اللحم وشرب الشراب، وشم الرياحين، ولم نعد في ذلك ما في سنن الملة من الحول بين الستوجبين للقتل، وبين التلذذ والتنعم بشيء مما منعناهم إياه؛ وكنا أمرنا لهم من المطعم والمشرب وسائر ما يقيمهم بالذي يصلحهم في اقتصاد، ولم نأمر بالحول بينهم وبين نسائهم والتوالد والتناسل في حال حبسهم. وقد بلغنا أنك أجمعت على التخلية عن أولئك الدعار المنافقين المستوجبين للقتل، والأمر بهدم محبسهم، ومتى تخل عنهم تأثم بالله ربك، وتسئ إلى نفسك، وتخل بدينك وما فيه من الوصايا والسنن التي فيها صرف الرحمة والعفو عن المستوجبين للقتل، مع أن أعداء الملوك لا يحبون الملك أبدًاُ، والعاصين لهم لا يمنحونهم الطاعة. وقد وعظ الحكماء وقالوا: لا تؤخرن معاقبة المستوجبي العقوبة؛ فإن في تأخيرها مدفعة للعدل، ومضرة على المملكة في حال التدبير؛ ولئن نالك بعض السرور إن أنت خليت عن أولئك الدعر المنافقين العصاة المستوجبين للقتل لتجدن غب ذلك في تدبيرك، ودخول أعظم المضرة والبلية على أهل الملة.
وأما قولك: إنا إنما كسبنا وجمعنا وادخرنا الأموال والأمتعة والبروز وغيرها من بلاد مملكتنا بأعنف اجتباء، وأشد إلحاح على رعيتنا، وأشد ظلم، لا من بلاد العدو بالمجاهدة لهم والقهر، عن غلبة منا إياهم على ما في أيديهم؛ فمن جوابنا فيه أن من إصابة الجواب في كل كلام يتكلم بجهل وعنجهية ترك الجواب فيه، ولكن لم ندع - إذ صار ترك الجواب كالإقرار، وكانت حجتنا فيما غشينا أن نحتاج به قوية، وعذرنا واضحًا - شرح ما سألتنا عنه من ذلك.
اعلم أيها الجاهل؛ أنه إنما يقيم ملك الملوك بعد الله الأموال والجنود وبخاصة ملك فارس، الذي قد اكتنفت بلاده أعداءٌ فاغرة أفواهم لالتقام ما في يديه، وليس يقدر على كفهم عنها، وردعهم عما يرويدون من اختلاس ما يرمون اختلاسه من؛ إلا الجنود الكثيفة، والأسلحة والعدد الكثيرة؛ ولا سبيل له إلى الكثيف من الجنود والكثير مما يحتاج إليه بكثرة الأموال ووفروها ولا يستكثر من الأموال ولا يقدر على جمعها لحاجة إن عرضت له إليها إلا بالجد والتشمير في اجتباء هذا الخراج. وما نحن ابتدعنا جمع الأموال؛ بل اقتدينا في ذلك بآبائنا والماضين من أسلافنا؛ فإنهم جمعوها كجمعنا إياها، وكثروها ووفروها لتكون ظهرًا لهم على تقوية جنودهم وإقامة أمورهم؛ وغير ذلك مما لم يستغنوا عن جمعها له.
فأغار على تلك الأموال وعلى جوهر كان في خزائننا، المنافق بهرام في عصابة مثله وفتاك مستوجبين للقتل، فشذبوها وبذروها وذهبوا بما ذهبوا به منها، ولم يتركوا في بيوت أموالنا وخزائننا إلا أسلحة من أسلحتنا لم يقدروا على تشذيبها والذهاب بها، ولم يرغبو فيها. فلما ارتجعنا بحمد الله ملكنا، واستحكمت أمورنا وأذعن لنا الرعية بالطاعة، ودفعنا عنهم البوائق التي كانت حلت بهم، ووجهنا إلى نواحي بلادنا أصبهبذين، وولينا دونهم على تلك النواحي فاذوسبانين، ولستعملنا على ثغورنا مرازبة وولاة ذوى صرامة ومضاء وجلد، وقوينا من ولينا من هؤلاء بالكثيف من الجنود، أثخن هؤلاء الولاة من كان بإزائهم من الملوك المخالفين لنا والعدو.
وبلغ من غاراتهم عليهم، وقتلهم من قتلوا، وأسرهم من أسروا منهم، من سنة ثلاث عشرة من ملكنا، ما لم يقدر الرجل من أولئك على إطلاع رأسه في حرم بلاده إلا بخفير، أو خائفًا، أو بأمان منا، فضلا عن الإغارة على شيء من بلادنا، والتعاطي لشيء مما كرهنا، ووصل، ووصل في مدة هذه السنين إلى بيوت أموالنا وخزائننا مما غنمنا من بلاد العدو من الذهب والفضة وأواع الجوهر، ومن النحاس والفرند والحرير والإستبرق والديباج والكراع والأسلحة والسبى والأسراء ما لم يخف عظم خطر ذلك وقدره على العامة، فلما أمرنا في آخر سنة ثلاث عشرة من ملكنا بنقش سكك حديثة، لنأمر فيستأنف ضرب الورق بها، وجد في بيوت أموالنا - وعلى ما رفع المحصون لما كان فيها من الورق سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جنودنا من الورق - مائتا ألف بدرة، فيها ثمانمائة ألف ألف مثقال. فلما رأينا أنا قد حصنا ثغورنا، وردعنا العدو عنها وعن رعيتنا، وجمعنا مشتت أمرنا، وكعمنا أفواهم الفاغرة كانت لالتقام ما في أيديهم، وبسطنا فيهم الأمن، وأمنا على نواحي بلادنا الأربع ما كان أهلها فيه من البوائق والمغار أمرنا باجتباء بقايا السنين، وما انتهب من أموالنا من ذهب وفضة، ومن خزائننا من جوهر أو
نحاس، ورد ذلك كله إلى موضعه؛ حتى إذا كان في آخر سنة ثلاثين من ملكنا أمرنا بنقش سكك حديثة، يضرب عليها الورق، فوجد في بيوت أموالنا سوى ما أمرنا بعزله من الأموال لأرزاق جندنا، والأموال التي أحصيت لنا قبل ذلك من الورق أربعمائة ألف بدرة، يكون ما فيها ألف ألف ألف مثقال وستمائة ألف ألف مثقال؛ وذلك سوى ما زادنا الله على تلك الأموال؛ مما أفاء الله بمنه وطوله علينا من أموال ملوك الروم، في سفن أقبلت بها إلينا الريح؛ فسميناها فئ الرياح؛ ولم تزل أموالنا من سنة ثلاثين من ملكنا إلى سنة ثمانٍ وثلاثين من ملكنا، التي هي هذه السنة تزداد كثرة ووفورًا، وبلادنا عمارة، ورعيتنا أمنًا وطمأنينة، وثغورنا وأطرافنا مناعة وحصانة؛ وقد بلغنا أنك هممت - لرذولة مروءتك - أن تبذر هذه الأموال وتتويها، عن رأى الأشرار العتاة المستوجبين للقتل. ونحن نعلمك أن هذه الكنوز والأموال لم تجمع إلا بعد المخاطرة بالنفوس، وبعد كد وعناء شديد، لندفع بها العدو المكتنفين لبلاد هذه المملكة، المتقلبين إلى غلبتهم على ما في أيديهم. وإنما يقدر على كف أولئك العدو في الأزمان والدهور كلها، بعد عون الله بالأموال والجنود، ولن تقوى الجنود إلا بالأموال، ولا ينتفع بالأموال إلا على كثرتها ووفورها؛ فلاتهمن بتفرقة هذه الأموال، ولا تجسرن عليها؛ فإنها كهف لملك وبلادك، وقوة لك على عدوك.
ثم انصرف إسفاذ جشنس إلى شيرويه فقص عليه ما قال له كسرى، ولم يسقط منه حرفًا، وإن عظماء الفرس عادوا فقالوا لشيرويه: إنه لا يستقيم أن يكون لنا ملكان، فإما أن تأمر بقتل كسرى، ونحن خولك، المانحوك الطاعة، وإنا أن نخلعك ونعطيه الطاعة. فهدت شيرويه هذه المقالة وكسرته، وأمر بقتل كسرى، فانتدب لقتله رجال كان وترهم كسرى، فكلما أتناه الرجل منهم شتمه كسرى وزبره. فلم يقدم على قتله أحد؛ حتى أتاه شابٌ يقال له مهرهرمز بن مردانشاه ليقتله، وكان مردانشاه فاذوسبانا لكسرى على ناحية نيمروذ، وكان من أطوع الناس لكسرى وأنصحهم له، وإن كسرى سأل قبل أن يخلع بنحو من سنتين منجميه وعافته عن عاقبة أمره. وأخبروه أن منيته آتية من قبل نيمروذ. فاتهم مردانشاه، وتخوف ناحيته لعظم قدره، وأنه لم يكن في تلك الناحية من يعد له في القوة والقدرة.
فكتب إليه أن يعجل القدوم عليه؛ حتى إذا قدم عليه أجال الرأي في طلب علة يقتله بها، فلم يجد عليه عثرة، وتذمم من قتله لما علم من طاعته إياه، ونصيحته له، وتحريه مرضاته. فرأى أن يستبقيه، ويأمر بقطع يمينه، ويعوضه منها أموالًا عظيمة يجود له بها. فبغى عليه من العلل ما قطع يمينه؛ وإنما كانت تقطع الأيدي والأرجل وتقطع الأعناق في رحبة الملك.
وإن كسرى أرسل يومًا أمر بقطع يده عينًا ليأتيه بخبر ما يسمع من مردانشاه وممن بحضرته من النظارة، وإن مردانشاه لما قطعت يمينه قبض عليها بشماله، فقبلها ووضعها في حجره، وجعل يندبها بدمع له دارّ ويقول: واسمحتاه! واراميتاه! واكاتبتاه! واضاربتاه! والاعبتاه! واكريمتاه!.
فانصرف إلى كسرى الرجل الذي كان وجهه عينًا عليه، فأخبره بما رأى وسمع منه، فرق له كسرى؛ وندم على إتيانه في أمره ما أتى، فأرسل إليه مع رجل من العظماء يعلمه ندامته على ما كان منه؛ وأنه لن يسأله شيئًا يجد السبيل إلى بذله له إلا أجابه إليه، وأسعفه به.
فأرسل كسرى مع ذلك الرسول يدعو له، ويقول: إني لم أزل أعرف تفضلك علي أيها الملك، وأشكره لك، وقد تيقنت أن الذي أتيت إلي مع كراهتك إياه؛ إنما كان سببه القضاء؛ ولكني سائلك أمرًا فأعطني من الأيمان على إسعافك إياي به ما أطمئن إليه، وليأتني بيقين حلفك على ذلك رجل من النساك، فأفرشك إياه وأبثه لك.
فانصرف رسول كسرى إلى كسرى بهذه الرسالة، فسارع إلى ما سأله مردانشاه، وحلف بالأيمان المغلظة ليجيبنه إلى ما هو سائله؛ ما لم تكن مسألته أمرًا يوهن ملكه. وأرسل إليه بهذه الرسالة مع رئيس المزمزمين؛ فأرسل إليه مردانشاه يسأله أن يأمر بضرب عنقه ليمتحي بذلك العار الذي لزمه، فأمر كسرى فضربت عنقه كراهة منه للخنث، زعم.
وإن كسرى سأل مهر هرمز بن مردانشاه، حين دخل عليه عن اسمه، وعن اسم أبيه ومرتبته. فأخبره أنه مهر هرمز بن مردانشاه، فاذوسبان نيمروذ، فقال كسرى: أنت ابن رجل شريف كثير الغناء؛ قد كافأناه على طاعته إيانا، ونصيحته لنا، وغنائه عنا بغير ما كان يستحقه، فشأنك وما أمرت به. فضرب مهر هرمز على حبل عاتقه بطبرزين كانت بيده ضربات فلم يحك فيه، ففتش كسرى فوجد قد شد عضده خرزة لا يحيك السيف في كل من تعلقها. فنزعت من عضده، ثم ضربه بعد ذلك مهر هرمز ضربة فهلك منها. وبلغ شيرويه فخرق جيبه وبكى منحبًا، وأمر بحمل جثته إلى الناووس فحملت، وشيعها العظماء وأفناء الناس.
وأمر فقتل قاتل كسرى، وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة؛ وكان قتله ماه آذر روزماه. وقتل شيرويه سبعة عشر أخًا له ذوي أدب وشجاعة ومروءة، بمشورة وزيره فيروز، وتحريض ابن ليزدين - والى عشور الآفاق كان لكسرى، يقال له شمطا - إياه على قتلهم، فابتلى بالأسقام ولم يلتذ بشيء من لذات الدنيا، وكان هلاكه بدسكرة الملك، وكان مشئومًا على آل ساسان؛ فلما قتل إخوته جزع جزعًا شديدًا.
ويقال: إنه لما كان اليوم الثاني من اليوم الذي قتلهم فيه، دخلت عليه بوران وآزر ميدخت أختاه فأسمعتاه وأغلظتا له، وقالتا: حملك الحرص على ملك لا يتم، على قتل أبيك وجميع إخوتك، وارتكبت المحارم! فلما سمع ذلك منهما بكى بكاء شديدًا، ورمى بالتاج عن رأسه، ولم يزل أيامه كلها مهمومًا مدنفًا. ويقال: إنه أباد من قدر عليه من أهل بيته؛ وإن الطاعون فشا في أيامه حتى هلك الفرس إلا قليلًا منهم. وكان ملكه ثمانية أشهر.
ذكر ملك أردشير بن شيرويه
ثم ملك أردشير بن شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكان طفلًا صغيرًا - قيل: إنه كان ابن سبع سنين لأنه لم يكن في أهل بيت المملكة محتنكٌ - فملكته عظماء فارس، وحضنه رجل يقال له مهآذرجشنس؛ وكانت مرتبته رياسة أصحاب المائدة، فأحسن سياسة الملك، فبلغ من إحكامه ذلك ما لم يحس معه بحداثة سن أردشير. وكان شهربراز بثغر الروم في جندٍ ضمهم إليه كسرى، وسماهم السعداء، وكان كسرى وشيرويه لا يزالان يكتبان إليه في الأمر يهمهما، فيستشيرانه فيه؛ فلما لم يشاوره عظماء فارس في تمليك أردشير، اتخذ ذلك ذريعة إلى التعتب والتبغي عليهم، وبسط يده في القتل، وجعله سببًا للطمع في الملك، والاعتلاء عند ذلك من ضعة العبودية إلى رفعة الملك، واحتقر أردشير لحداثة سنه واستطال عليهم، وأجمع على دعاء الناس إلى التشاور في الملك. ثم أقبل بجنده وقد عمد مهآذرجشنس؛ فحصن سور المدينة طيسبون وأبوابها؛ وحول أردشير، ومن بقي من نسل الملك ونسائهم، وما كان في بيت مال أردشير من ماله وخزائنه وكراعه إلى مدينة طيسبون. وكان الذين أقبل فيهم من الجند شهر براز ستة آلاف رجل من جند فارس بثغر الروم، فأناخ إلى جانب مدينة طيسبون، وحاصر من فيها وقاتلهم عنها، ونصب المجانيق عليها فلم يصل إليها.
فلما رأى عجزه عن افتتاحها أتاها من قبل المكيدة، فلم يزل يخدع رجلًا يقال له نيوخسروا، وكان رئيس حرس أردشير ونامدار جشنس بن آذرجشنس؛ أصبهبذ نيمروذ؛ حتى فتحا له باب المدينة فدخلها، فأخذ جماعة من الرؤساء فقتلهم، واستصفى أموالهم، وفضح نساءهم. وقتل ناس بأمر شهربراز أردشير بن شيرويه؛ سنة اثنتين ماه بهمن، ليلة روزآبان في إيوان خسروشاه قباذ.
وكان ملكه سنة وستة أشهر.
ذكر ملك شهر براز
ثم ملك شهر براز؛ وهو فرخان ماه إسفنديار، ولم يكن من أهل بيت المملكة، ودعا نفسه ملكًا. وإنه حين جلس على سرير الملك ضرب عليه بطنه، وبلغ من شدة ذلك عليه أنه لم يقدر على إتيان الخلاء، فدعا بطست فوضع أما ذلك السرير فتبرز فيه. وإن رجلًا من هل إصطخر، يقال له فسفروخ بن ما خرشيذان وأخوين له، امتعضوا من قتل شهربراز أردشير وغلبته على الملك، وأنفوا من ذلك، وتحالفوا وتعاقدوا على قتله، وكانوا جميعًا في حرس الملوك، وكان من السنة إذا ركب الملك أن يقف له حرسه سماطين، عليهم الدروع والبيض والترسة والسيوف، وبأيديهم الرماح؛ فإذا حاذى بهم الملك وضع كل رجل منهم نرسه على قربوس سرجه، ثم وضع جبهته عليه كهيئة السجود.
وإن شهربراز ركب بعد أن ملك بأيام فوقف فسفروخ وأخواه؛ قريبًا بعضهم من بعض؛ فلما حاذى بهم شهربراز طعنه فسفروخ، ثم طعنه أخواه، وكان ذلك إسفندارمذماه، وروزدى بدين، سقط عن دابته ميتًا، فشدوا في رجله حبلًا وجروه إقبالًا وإدبارًا، وساعدهم على قتله رجل من العظماء يقال له زادان فروخ بن شهر داران، ورجل يقال له ماهياى، كان مؤدب الأساورة، وكثير من العظماء وأهل البيوتات، وعاونهم على قتل رجال فتكوا بأردشير بن شيرويه، وقتلوا رجالًا من العظماء. وإنهم ملكوا بوران بنت كسرى.
وكان جميع ما ملك شهر براز أربعين يومًا.
ذكر ملك بوران بنت كسرى أبرويز
ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان، فذكر أنها قالت يوم ملكت: البر أنوى وبالعدل آمر؛ وصيرت مرتبة شهر براز لفسفروخ، وقلدته وزارتها، وأحسنت السيرة في رعيتها، وبسطت العدل فيهم، وأمرت بضرب الورق ورم القناطر والجسور، ووضعت بقايا بقيت من الخراج على الناس عنهم، وكتبت إلى الناس عامة كتبًا أعلمتهم ما هي عليه من الإحسان إليهم، وذكرت حال من هلك من أهل بيت المملكة؛ وأنها ترجو أن يريهم الله من الرفاهة والاستقامة بمكانها ما يعرفون به أنه ليس ببطش الرجال تدوخ البلاد، ولا ببأسهم تستباح العساكر، ولا بمكايدهم ينال الظفر وتطفأ النوائر؛ ولكن كل ذلك يكون بالله عز وجل، وأمرتهم بالطاعة وحضتهم على المناصحة، وكانت كتبها جماعة لكل ما يحتاج إليه؛ وإنها ردت خشبة الصليب على ملك الروم مع جاثليق يقال له إيشوعهب.
وكان ملكها سنة وأربعة أشهر.
ذكر ملك جشنسده
ثم ملك بعدها رجل يقال له: جشنسده، من بني أبرويز الأبعدين.
وكان ملكه أقل من شهر.
ذكر ملك آزرميدخت بنت كسرى أبرويز
ثم ملكت آزرميدخت بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنوشروان؛ ويقال له إنها كانت من أجمل نسائهم؛ وإنها قالت حين ملكت: منها جنا منهاج أبينا كسرى المنصور، فإن خالفنا أحد هرقنا دمه. ويقال إنه كان عظيم فارس يومئذ فرخهرمز إصبهبذ خراسان؛ فأرسل إليها يسألها أن تزوجه نفسها، فأرسلت إن التزويج للملكة غير جائز؛ وقد علمت أن دهرك فيما ذهبت إليه قضاء حاجتك وشهوتك مني، فصر إلى ليلة كذا وكذا. ففعل فرخهرمز وركب إليها في تلك الليلة، وتقدمت آزرميدخت إلى صاحب حرسها أن يترصده في الليلة التي تواعدا الالتقاء فيها حتى يقتله، فنفذ صاحب حرسها لأمرها، وأمرت به فجر برجله، وطرح في رحبة دار المملكة، فلما أصبحوا وجدوا فرخهرمز قتيلًا، فأمرت بجثته فغيبت، وعلم أن لم يقتل إلا لعظيمة. وكان رستم بن فرخهرمز صاحب يزدجرد الذي وجه بعد القتال العرب خليفة أبيه بخراسان، فلما بلغه الخبر أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن، وسمل عيني آزرميدخت، وقتلها، وقال بعضهم: بل سمت.
وكان ملكها ستة أشهر.
كسرى بن مهراجشنس
ثم أتى رجل من عقب أردشير بن بابك كان ينزل الأهواز يقال له: كسرى بن مهر جشنس، فملكه العظماء، ولبس التاج، وجلس على سرير الملك، وقتل بعد أن ملك بأيام.
ذكر ملك خرزا خسروا
وقيل إن الذي ملك بعد آزرميدخت خرزاذ خسروا منن ولد أبرويز. وقيل: إنه وجد بحصن يعرف بالحجارة بالقرب من نصيبين، فلما صار إلى المدائن مكث أيمًا يسيرة، ثم استعصوا عليه وخالفوه.
ذكر ملك فيروز بن مهراجشنس
وقال الذين قالوا: ملك بعد آزرميدخت كسرى بن مهراجشنس: لما قتل كسرى بن مهراجشنس، طلب عظماء فارس من يملكونه من أهل بيت المملكة، فطلبوا من له عنصر من أهل البيت ولو من قبل النساء، فأتوا برجل كان يسكن ميسان، يقال له فيروز بن مهرانجشنس، ويسمى أيضًا جشنسده قد ولدته صهاربخت بنت يزداندار بن كسرى أنوشروان، فملكوه كرهًا.
وكان رجلًا ضخم الرأس، فلما توج قال: ما أضيق هذا التاج! فتطير العظماء من افتتاحه كلامه بالضيق؛ وقتلوه بعد أن ملك أيامًا.
ومن الناس من يقول: قتل ساعة تكلم بما تكلم به.
ذكر ملك فرخزاذ خسروا
وقال قائل هذا القول: ثم شخص رجل من العظماء يقال له زاذى ولمرتبته رئيس الخول إلى موضع من ناحية المغرب قريب من نصيبين، يقال له: حصن الحجارة، فأقبل بابن كسرى لكسرى كان نجا إلى ذلك القصر حين قتل شيرويه بنى كسرى يقال له: فرخزاذ خسروا إلى مدينة طيسبون، فانقاد له الناس زمنًا يسيرًا، ثم استعصوا عليه وخالفوه، فقال بعضهم: قتلوه.
وكان ملكه ستة أشهر.
ذكر ملك يزدجرد بن شهريار
وقال بعضهم كان أهل إصطخر ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن كسرى بإصطخر، قد هرب به إليها حيث قتل شيرويه إخوته، فلما بلغ عظماء أهل إصطخر أن من بالمدائن خالفوا فرخزاذ خسروا، أتوا بيزدجرد بيت نار يدعى بينت نار أردشير، فتوجوه هنالك، وملكوه - وكان حدثًا - ثم أقبلوا به إلى المدائن، وقتلوا فرخزاذ خسروا بحيل احتالوها لقتله بعد أن ملك سنة.
وساغ الملك ليزدجرد؛ غير أن ملكه كان عند ملك آبائه كالخيال والحلم، وكانت العظماء والوزراء يدبرون ملكه لحداثة سنه، وكان أشدهم نباهة في وزرائه ووأذكاهم رئيس الخول. وضعف أمر مملكة فارس، واجترأ عليه أعداؤه من كل وجه؛ وتطرفوا بلاده وأخربوا منها، وغزت العرب بلاده بعد أن مضت سنتان من ملكه. وقيل بعد أن مضى أربع سنين من ملكه. وكان عمره كله إلى أن قتل ثمانيًا وعشرين سنة.
وقد بقى من أخبار يزدجرد هذا وولده أخبار سأذكرها إن شاء الله بعد في مواضعها من فتوح المسلمين وما فتحوا من بلاد العجم، وما آل إليه أمره وأمر ولده.
ذكر أقوال علماء المسلمين وغيرهم فيما كان بين هبوط آدم إلى الهجرة من السنين
فجميع ما مضى من السنين من لدن أهبط آدم إلى الأرض، إلى وقت هجرة النبي - على ما يقوله أهل الكتاب من اليهود، وتزعم أنه في التوارة الصورة مثبت من أعمار الأنبياء والملوك - أربعة آلاف سنة وستمائة سنة واثنتان وألاربعون سنة وأشهر.
وأما على ما تقوله النصارى مما تزعم أنه في توراة اليونانية؛ فإن ذلك خمسة آلاف سنة وتسعمائة سنة واثنتان وتسعون سنة وأشهر. وأما جميع ذلك على قول المجوس من الفرس؛ فإنه أربعة آلاف سنة ومائة سنة واثنتان وثمانون سنة وعشرة أشهر وتسعة عشر يومًا؛ على أنه داخل في ذلك مدة ما بين وقت الهجرة ومقتل يزدجرد، وذلك ثلاثون سنة وشهران وخمسة عشر يومًا؛ وعلى أن حسابهم ذلك وابتداء تأريخهم من عهد جيومرت، وجيومرت هو آدم أبو البشر الذي إليه نسبة كل منتسب من الإنس، على ما قد بينت في كتابي هذا.
وأما علماء الإسلام فقد ذكرت قبل ما قال فيه بعضهم، وأذكر بعض من لم يمض ذكره منهم الآن؛ فإنهم قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون؛ والقرن مائة سنة.
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق.
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمى، عن غير واحد من أهل العلم، قالوا: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة.
وروي عن عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان، قال: الفترة بين محمد وعيسى عليهما السلام ستمائة سنة.
وروي عن فضيل بن عبد الوهاب، عن جعفر بن سليمان، عن عوف، قال: كان بين عيسى وموسى ستمائة سنة.
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي صدقة، عن محمد بن سيرين، قال: نبئت أن كعبًا قال: إن قوله: " يا أخت هارون " ليس بهارون أخي موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين؛ إن كان النبي صاى الله عليه وسلم قال فهو أعلم وأخبر؛ وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة. قال: فسكتت.
حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا هشام، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى بن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل، سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي خمسمائة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالثٍ "، والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولًا أربعمائة وأربعًا وثلاثين سنة، وإن عيسى حين رفع كان ابن اثنتين وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت نبوته ثلاثين شهرًا، وإن الله رفعه بجسده، وإنه حي حتى الآن.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)