الفصل الثامن في أن الفلاحة من معاش المتضعين و أهل العافية من البدو
و ذلك لأنه أصيل في الطبيعة و بسيط في منحاه و لذلك لا تجده ينتحله أحد من أهل الحضر في الغالب و لا من المترفين. و يختص منتحله بالمذلة قال صلى الله عليه و سلم و قد رأى السكة ببعض دور الأنصار: ما دخلت هذه دار قوم إلا دخله الذل، و حمله البخاري على الاستكثار منه. و ترجم عليه باب ما يحذر من عواقب الاشتغال بآلة الزرع أو تجاوز الحد الذي أمر به. و السبب فيه و الله أعلم ما يتبعها من المغرم المفضي إلى التحكم و اليد العالية فيكون الغارم ذليلاً بائساً بما تتناوله أيدي القهر و الاستطالة. قال صلى الله عليه و سلم: لا تقوم الساعة حتى تعود الزكاة مغرماً، إشارة إلى الملك العضوض القاهر للناس الذي معه التسلط و الجور و نسيان حقوق الله تعالى في المتمولات و اعتبار الحقوق كلها مغرم للملوك و الدول. و الله قادر على ما يشاء. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل التاسع في معنى التجارة و مذاهبها و أصنافها
اعلم أن التجارة محاولة الكسب بتنمية المال بشراء السلع بالرخص و بيعها بالغلاء أيام كانت السلعة من دقيق أو زرع أو حيوان أو قماش. و ذلك القدر النامي يسمى ربحاً. فالمحاول لذلك الربح إما أن يختزن السلعة و يتحين بها حوالة الأسواق من الرخص إلى الغلاء فيعظم ربحه و إما بأن ينقله إلى بلد آخر تنفق فيه تلك السلعة أكثر من بلده الذي اشتراها فيه فيعظم ربحه. و لذلك قال بعض الشيوخ من التجار لطلب الكشف عن حقيقة التجارة أنا أعلمها لك في كلمتين: اشتراء الرخيص و بيع الغالي. فقد حصلت التجارة إشارة منه بذلك إلى المعنى الذي قررناه. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه.
الفصل العاشر في أي أصناف الناس يحترف بالتجارة و أيهم ينبغي له اجتناب حرفها
قد قدمنا أن معنى التجارة تنمية المال بشراء البضائع و محاولة بيعها بأغلى من ثمن الشراء إما بانتظار حوالة الأسواق أو نقلها إلى بلد هي فيه أنفق و أغلى أو بيعها بالغلاء على الآجال. و هذا الربح بالنسبة إلى أصل المال يسير إلا أن المال إذا كان كثيراً عظم الربح لأن القليل في الكثير كثير. ثم لا بد في محاولة هذه التنمية الذي هو الربح من حصول هذا المال بأيدي الباعة في شراء البضائع و بيعها. و معاملتهم في تقاضي أثمانها. و أهل النصفة قليل، فلا بد من الغش و التطفيف المجحف بالبضائع و من المطل في الأثمان المجحف بالربح. كتعطيل المحاولة في تلك المدة و بها نماؤه. و من الجحود و الإنكار المسحت لرأس المال إن لم يتقيد بالكتاب و الشهادة، و غنى الحكام في ذلك قليل لأن الحكم إنما هو على الظاهر.
فيعاني التاجر من ذلك أحوالاً صعبة. و لا يكاد يحصل على ذلك التافه من الربح إلا بعظم العناء و المشقة، أو لا يحصل أو يتلاشى رأس ماله.
فإن كان جريئاً على الخصومة بصيراً بالحسبان شديد المماحكة مقداماً على الحكام كان ذلك أقرب له إلى النصفة بجراءته منهم و مماحكته و إلا فلا بد له من جاه يدرع به، يوقع له الهيبة عند الباعة و يحمل الحكام على إنصافه من معامليه فيحصل له بذلك النصفة في ماله طوعاً في الأول و كرهاً في الثاني و أما من كان فاقداً للجراءة و الإقدام من نفسه فاقد الجاه من الحكام فينبغي له أن يجنب الاحتراف بالتجارة لأنه يعرض ماله للضياع و الذهاب و يصير مأكلة للباعة و لا يكاد ينتصف منهم لأن الغالب في الناس و خصوصاً الرعاع و الباعة شرهون إلى ما في أيدي الناس سواهم متوثبون عليه. و لولا وازع الأحكام لأصبحت أموال الناس نهباً و لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين.
الفصل الحادي عشر في أن خلق التجار نازلة عن خلق الأشراف و الملوك
و ذلك أن التجار في غالب أحوالهم إنما يعانون البيع و الشراء و لا بد فيه من المكايسة ضرورة فإن اقتصر عليها اقتصرت به على خلقها و هي أعني خلق المكايسة بعيدة عن المرؤة التي تتخلق بها الملوك و الأشراف. و أما إن استرذل خلقه بما يتبع ذلك في أهل الطبقة السفلى منهم من المماحكة و الغش و الخلابة و تعاهد الأيمان الكاذبة على الأثمان رداً و قبولاً فأجدر بذلك الخلق أن يكون في غاية المذلة لما هو معروف. و لذلك تجد أهل الرئاسة يتحامون الاحتراف بهذه الحرفة لأجل ما يكسب من هذا الخلق. و قد يوجد منهم من يسلم من هذا الخلق و يتحاماه لشرف نفسه و كرم جلاله إلا أنه في النادر بين الوجود و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه و هو رب الأولين و الآخرين.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)