ومن مكايده التي بلغ فيها مراده مكيدة التحليل الذي لعن رسول الله ص فاعله وشبهه بالتيس المستعار وعظم بسببه العار والشنار وعير المسلمين به الكفار وحصل بسببه من الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد واستكريت له التيوس المستعارات وضاقت بها ذرعا النفوس الأبيات ونفرت منه أشد من نفارها من السفاح وقالت لو كان هذا نكاحا صحيحا لم يلعن رسول الله ص من أتى بما شرعه من النكاح فالنكاح سنته وفاعل السنة مقرب غير ملعون والمحلل مع وقوع اللعنة عليه بالتيس المستعار مقرون فقد سماه رسول الله ص بالتيس المستعار وسماه السلف بمسمار النار فلو شاهدت الحرائر المصونات على حوانيت المحللين متبذلات تنظر المرأة إلى التيس نظر الشاة إلى شفرة الجازر وتقول يا ليتني قبل هذا كنت من أهل المقابر حتى إذا تشارطا على ما يجلب اللعنة والمقت نهض واستتبعها خلفه للوقت بلا زفاف ولا إعلان بل بالتخفي والكتمان فلا جهاز ينقل ولا فراش إلى بيت الزوج يحول ولا صواحب يهدينا إليه ولا مصلحات يجلينها عليه ولا مهر مقبوض ولا مؤخر ولا نفقة ولا كسوة تقدر ولا وليمة ولا نثار ولا دف ولا إعلان ولا شغار والزوج يبذل المهر وهذا التيس يطأ بالأجر حتى إذا خلا بها وأرخى الحجاب والمطلق والولي واقفان على الباب دنا ليطهرها بمائة النجس الحرام ويطيبها بلعنة الله ورسوله ص حتى إذا قضيا عرس التحليل ولم يحصل بينهما المودة والرحمة التي ذكرها الله تعالى في التنزيل فإنها لا تحصل باللعن الصريح ولا يوجبها إلا النكاح الجائز الصحيح فإن كان قد قبض أجرة ضرابه سلفا وتعجيلا وإلا حبسها حتى تعطيه أجره طويلا فهل سمعتم زوجا لا يأخذ بالساق حتى يأخذ أجرته بعد الشرط والإتفاق حتى إذا طهرها وطيبها وخلصها بزعمه من الحرام وجنبها قال لها اعترفي بما جرى بيننا ليقع عليك الطلاق فيحصل بعد ذلك بينكما الالتئام والإتفاق فتأتي المصخمة إلى حضرة الشهود فيسألونها هل كان ذاك فلا يمكنها الجحود فيأخذون منها أو من المطلق أجرا وقد أرهقوهما من أمرهما عسرا هذا وكثير من هؤلاء المستأجرين للضراب يحلل الأم وابنتها في عقدين ويجمع ماءه في أكثر من أربع وفي رحم أختين وإذا كان هذا من شأنه وصفته فهو حقيق بما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال لعن رسول الله ص المحلل والمحلل له رواه الحاكم في الصحيح والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال والعمل عليه عند أهل العلم منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين
ورواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه بإسناد صحيح ولفظها لعن رسول الله ص الواشمة والمؤتشمة والواصلة والموصولة والمحلل والمحلل له وآكل الربا وموكله
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه إذا علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوى الصدقة والمعتدى فيها والمرتد على عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل والمحلل له ملعونون على لسان محمد ص يوم القيامة
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي محمد ص أنه لعن المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد وأهل السنن كلهم غير النسائي
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ص لعن الله المحلل والمحلل له رواه الإمام أحمد بإسناد رجاله كلهم ثقات وثقهم ابن معين وغيره
وقال الترمذي في كتاب العلل سألت أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فقال هو حديث حسن وعبد الله بن جعفر المخزومي صدوق ثقة وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة
وقال أبو عبد الله بن ماجه في سننه حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهران عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله ص المحلل والمحلل له
وعن ابن عباس أيضا قال سئل رسول الله ص عن المحلل فقال لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم تذوق العسيلة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم قال أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن حصين عن عكرمة عنه وهؤلاء كلهم ثقات إلا إبراهيم فإن كثيرا من الحفاظ يضعفه والشافعي حسن الرأي فيه ويحتج بحديثه
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال رسول الله صص ألا أخبركم بالتيس المستعار قالوا بلى يا رسول الله قال هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له رواه ابن ماجة بإسناد رجاله كلهم موثقون لم يجرح واحد منهم
وعن عمرو بن دينار وهو من أعيان التابعين أنه سئل عن رجل طلق امرأته فجاء رجل من أهل القرية بغير علمه ولا علمها فأخرج شيئا من ماله فتزوجها ليحلها له فقال لا ثم ذكر أن النبي ص سئل عن مثل ذلك فقال لا حتى ينكح مرتغبا لنفسه فإذا فعل ذلك لم يحل له حتى يذوق العسيلة ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف بإسناد جيد
وهذا المرسل قد احتج به من أرسله فدل على ثبوته عنده وقد عمل به أصحاب رسول الله ص كما سيأتي وهو موافق لبقية الأحاديث الموصولة ومثل هذا حجة باتفاق الأئمة وهو والذي قبله نص في التحليل المنوي وكذلك حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال له امرأة تزوجتها أحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم قال لا إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإن كنا لنعد هذا على عهد رسول الله سفاحا ذكره شيخ الإسلام في إبطال التحليل
فصل
وأما الآثار عن الصحابة ففي كتاب المصنف لابن أبي شيبة وسنن الأثرم والأوسط لابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما ولفظ عبد الرزاق وابن المنذر لا أوتى بمحلل ولا محللة إلا رجمتهما وهو صحيح عن عمر
وقال عبد الرزاق عن معمر والزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن تحليل المرأة لزوجها فقال ذاك السفاح ورواه ابن أبي شيبة
وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عبد الله بن شريك العامري سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما سئل عن رجل طلق ابنة عم له ثم رغب فيها وندم فأراد أن يتزوجها رجل يحللها له فقال ابن عمر رضي الله عنهما كلاهما زان وإن مكث عشرين سنة أو نحو ذلك إذا كان الله يعلم أنه يريد أن يحلها له
قال وأخبرنا معمر عن الثوري عن الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن عباس رضي الله عنهما وسأله رجل فقال إن عمي طلق امرأته ثلاثا فقال إن عمك عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجا قال كيف ترى في رجل يحللها قال من يخادع الله يخدعه
وعن سليمان بن يسار قال رفع إلى عثمان رضي الله عنه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق بينهما وقال لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة رواه أبو إسحق الجوزجاني في كتاب المترجم وذكره ابن المنذر عنه في كتاب الأوسط
وفي المهذب لأبي إسحق الشيرازي عن أبي مرزوق التجيبي أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال إن جاري طلق امرأته في غضبه ولقي شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبني بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها فقال له عثمان رضي الله عنه لا تنكحها إلا نكاح رغبة
وذكر أبو بكر الطرطوشي في خلافه عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المحلل لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة ولا استهزاء بكتاب الله وعلي رضي الله عنه هو ممن روى عن النبي ص أنه لعن المحلل فقد جعل هذا من التحليل
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له وهو ممن روى عن النبي ص لعن المحلل وقد فسره بما قصد به التحليل وإن لم تعلم به المرأة فكيف بما اتفقا عليه وتراضيا وتعاقدا على أنه نكاح لعنة لا نكاح رغبة
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال لعن الله المحلل والمحلل له
وروى الجوزجاني بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها فقال لعن الله الحال والمحلل له
قال شيخ الإسلام وهذه الآثار عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم مع أنها نصوص فيما إذا قصد التحليل ولم يظهره ولم يتواطآ عليه فهي مبينة أن هذا هو التحليل وهو المحلل الملعون على لسان رسول الله ص فإن أصحاب رسول الله ص أعلم بمراده ومقصوده لا سيما إذا رووا حديثا وفسروه بما يوافق الظاهر هذا مع أنه لم يعلم أن أحدا من أصحاب رسول الله ص فرق بين تحليل وتحليل ولا رخص في شيء من أنواعه مع أن المطلقة
ثلاثا مثل امرأة رفاعة القرظي قد كانت تختلف إليه المدة الطويلة وإلى خلفائه لتعود إلى زوجها فيمنعونها من ذلك ولو كان التحليل جائزا لدلها رسول الله ص على ذلك فإنها لم تكن تعدم من يحللها لو كان التحليل جائزا
قال والأدلة الدالة على أن هذه الأحاديث النبوية قصد بها التحليل وإن لم يشترط في العقد كثيرة جدا ليس هذا موضع ذكرها انتهى
ذكر الآثار عن التابعين
قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال إذا نوى الناكح أو المنكح أو المرأة أو أحد منهم التحليل فلا يصلح
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء المحلل عامدا هل عليه عقوبة قال ما علمت وإني لأرى أن يعاقب قال وكلهم إن تمالؤا على ذلك مسيئون وإن أعظموا الصداق
أخبرنا معمر عن قتادة قال إن طلقها المحلل فلا يحل لزوجها الأول أن يقر بها إذا كان نكاحه على وجه التحليل
أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء فطلق المحلل فراجعها زوجها قال يفرق بينهما
أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في رجل تزوج امرأة يحللها ولا يعلمها فقال الحسن اتق الله ولا تكن مسمار نار في حدود الله
قال ابن المنذر وقال إبراهيم النخعي إذا كان نية أحد الثلاثة الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة أنه محلل فنكاح الآخر باطل ولا تحل للأول
قال وقال الحسن البصري إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد
قال وقال بكر بن عبد الله المزني في الحال والمحلل له أولئك كانوا يسمون في الجاهلية التيس المستعار
قال وقال عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى إن ظنا أن يقيما حدود الله قال إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ورواه ابن أبي حاتم في التفسير عنه
وقال هشيم أخبرنا سيار عن الشعبي أنه سئل عن رجل تزوج امرأة كان زوجها طلقها ثلاثا قبل ذلك أيطلقها لترجع إلى زوجها الأول فقال لا حتى يحدث نفسه أنه يعمر معها وتعمر معه أي تقيم معه رواه الجوزجاني
ورورى النفيلي حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية حدثنا عبد الملك عن عطاء في الرجل يطلق المرأة فينطلق الرجل الذي يتحزن له فيتزوجها من غير مؤامرة منه فقال إن كان تزوجها ليحلها له لم تحل له وإن كان تزوجها يريد إمساكها فقد حلت له
وقال سعيد بن المسيب في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول ولم يشعر بذلك زوجها الأول ولا المرأة قال إن كان إنما نكحها ليحلها فلا يصلح ذلك لهما ولا تحل له رواه حرب في مسائله
وعنه أيضا قال إن الناس يقولون حتى يجامعها وأنا أقول إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول رواه سعيد بن منصور عنه
فهؤلاء الأئمة الأربعة أركان التابعين وهم الحسن وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وإبراهيم النخعي
وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد في رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول وهو لا يعلم قال لا يصلح ذلك إذا كان تزوجها ليحلها
ذكر الآثار عن تابعي التابعين ومن بعدهم
قال ابن المنذر: وممن قال: إن ذلك لا يصلح إلا نكاح رغبة: مالك ابن أنس والليث ابن سعد وقال مالك رحمه الله: يفرق بينهما على كل حال وتكون الفرقة فسخا بغير طلاق
وقال سفيان الثوري: إذا تزوجها وهو يريد أن يحلها لزوجها ثم بدا له أن يمسكها لا يعجبني إلا أن يفارق ويستقبل نكاحا جديدا
قال أحمد بن حنبل: جيد
وقال إسحاق: لا يحل له أن يمسكها لأن المحلل لم تتم له عقدة النكاح
وكان أبو عبيد يقول بقول الحسن والنخعي
وقال الجوزجاني: حدثنا إسماعيل بن سعيد قال: سألت أحمد بن حنبل عن الرجل يتزوج المرأة وفي نفسه أن يحللها لزوجها الأول ولم تعلم المرأة بذلك فقال: هو محلل وإذا أراد بذلك الإحلال فهو ملعون
وقال الجوزجاني: وبه قال أيوب وقال ابن أبي شيبة: لست أرى أن ترجع بهذا النكاح إلى زوجها الأول
قال الجوزجاني: وأقول: إن الإسلام دين الله الذي اختاره واصطفاه وطهره حقيق بالتوقير والصيانة مما لعله يشينه وينزه مما أصبح أبناء الملل من أهل الذمة يعيرون به المسلمين على ما تقدم فيه من النهي عن النبي ولعنه عليه ثم ساق الأحاديث المرفوعة في ذلك والآثار
فصل
ومن العجائب معارضة هذه الأحاديث والآثار عن الصحابة بقوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة: 230 ] والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي لعن المحلل والمحلل له وأصحابه أعلم الناس بكتاب الله تعالى فلم يجعلوه زوجا وأبطلوا نكاحه ولعنوه
وأعجب من هذا قول بعضهم: نحن نحتج بكونه سماه محللا فلولا أنه أثبت الحل لم يكن محللا
فيقال: هذه من العظائم فإن هذا يتضمن أن رسول الله لعن من فعل السنة التي جاء بها وفعل ما هو جائز صحيح في شريعته وإنما سموه محللا لأنه أحل ما حرم الله فاستحق اللعنة فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا وهو الذي شرع إعلانه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه وجعل للإيواء والسكن وجعله الله مودة ورحمة وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل فان المحلل لم يدخل على نفقه ولا كسوة ولا سكنى ولا إعطاء مهر ولا يحصل به نسب ولا صهر ولا قصد المقام مع الزوجة وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب ولهذا شبههبه النبي ثم لعنه فعلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ولا المحلل بزوج وأن هذا منكر قبيح وتعير به المرأة والزوج والمحلل والولي فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله وأحبه وأخبر أنه سنته ومن رغب عنه فليس منه
وتأمل قوله تعالى: فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقرة: 230 ] أي فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا أي ترجع إليه بعقد جديد فأتى بحرف إن الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها في وقوع الطلاق انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه والله سبحانه وتعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة وللاستمتاع وهذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه ولوقوع الطلاق فيه فإنه متى وطىء كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح وهذا ضد شرع الله وأيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه فهذا زوج وهذا زوج وهذا نكاح وهذا نكاح وكذلك الطلاق ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه كاسمه ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح والمحلل برىء من ذلك كله غير ملتزم لشىء منه
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة وأن يقيم معها زمانا وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم
وسمعت شيخ الإسلام يقول: نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه:
أحدها: أن نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان
الثاني أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي ولم يكن في الصحابة محلل قط
الثالث: أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة فأباحه ابن عباس وإن قيل: إنه رجع عنه وأباحه عبد الله بن مسعود ففي الصحيحين عنه قال: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا نساء فقلنا: ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. وفتوى ابن عباس بها مشهورة
قال عروة: قام عبد الله بن الزبير بمكة فقال: إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة: يعرض بعبد الله بن عباس فناداه فقال: إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين يريد رسول الله
فقال له ابن الزبير: فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل
الرابع: أن رسول الله لم يجىء عنه في لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد وجاء عنه في لعن المحلل والمحلل له وعن الصحابة: ما تقدم
الخامس: أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح فغرضه المقصود بالنكاح مدة والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي وإنما هو كما قال الحسن: مسمار نار في حدود الله وهذه التسمية مطابقة للمعنى
قال شيخ الإسلام: يريد الحسن: إن المسمار هو الذي يثبت الشىء المسمور فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرمها الله عليه
السادس: أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان بل هو ناكح ظاهرا وباطنا والمحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزوا ولذلك جاء في وعيده مالم يجىء في وعيد المستمتع مثله ولا قريب منه
السابع: أن المستمتع يريد المرأة لنفسه وهذا سر النكاح ومقصوده فيريد بنكاحه حلها له ولا يطؤها حراما والمحلل لا يريد حلها لنفسه وإنما يريد حلها لغيره ولهذا سمي محللا فأين من يريد أن يحل له وطىء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك وإنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره فهذا ضد شرع الله ودينه وضد ما وضع له النكاح
الثامن: أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار وتعير به أعظم تعيير حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول ولو نفرت منه لم يبح في أول الإسلام
التاسع: أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب وإجارة الدار مدة للانتفاع والسكنى وإجارة العبد للخدمة مدة ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شرع بوصف الدوام والاستمرار وهذا بخلاف نكاح المحلل فإنه لا يشبه شيئا من ذلك ولهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح وشبهوه باستعارة التيس للضراب
العاشر: أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع والإجارة والهبة والنكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات فجعل البيع سببا لملك الرقبة والإجارة سببا لملك المنفعة أو الانتفاع والنكاح سببا لملك البضع وحل الوطء والمحلل مناقض معاكس لشرع الله تعالى ودينه فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع وإحلاله له ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع وحله له ولا له غرض في ذلك ولا دخل عليه وإنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب ولم يجعل طريقا له
الحادي عشر: أن المحلل من جنس المنافق فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا وباطنا وهو في الباطن غير ملتزم له وكذلك المحلل يظهر أنه زوج وأنه يريد النكاح ويسمى المهر ويشهد على رضى المرأة وفي الباطن بخلاف ذلك ولا القيام بحقوق النكاح وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلق: أن الأمر كذلك وأنه غير زوج على الحقيقة ولا هي امرأته على الحقيقة
الثاني عشر: أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية ولا نكاح أهل الإسلام فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر: يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله تعالى محمدا ص بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ص أقره ولم يهدمه ولا كان أهل الجاهلية يرضون به فلم يكن من أنكحتهم فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به
فصل
وسبب هذا كله: معصية الله ورسوله وطاعة الشيطان في إيقاع الطلاق على غير الوجه الذي شرعه الله والله سبحانه يبغض الطلاق في الأصل كما روى أبو داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق
وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص ما بال قوم يلعبون بحدود الله يقول: قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ص إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منزلة أعظمهم فتنة يجىء أحدهم فيقول: قد فعلت كذا وكذا فيقول: ما صنعت شيئا قال: ويجىء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيدنيه منه أو قال: فيلتزمه ويقول: نعم أنت أنت
فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق والتفريق بين المرء وزوجه وكثيرا ما يندم المطلق ولا يصبر عن امرأته ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى وطره ولا بد له من المرأة فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس
إحداها: التحيل على عدم وقوع الطلاق وهو نوعان تحيل على عدم وقوعه مع صحة النكاح بالتسريح فيأمرونه أن يقول لها: إذا طلقتك أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا فلا يمكن أن يقع عليها الطلاق بعد هذا لا مطلقا ولا مقيدا عند المسرحين فسدوا باب الطلاق وجعلوا المرأة كالغل في عنق الزوج لا سبيل له إلى طلاقها أبدا
الحيلة الثانية: التحيل على عدم وقوع الطلاق بكون النكاح فاسدا فلا يقع فيه الطلاق ويتحيلون لبيان فساده من وجوه:
منها: أن عدالة الولى شرط في صحته فإذا كان في الولي ما يقدح في عدالته فالنكاح باطل فلا يقع فيه الطلاق والقوادح كثيرة فلا تكاد تفتش فيمن شئت إلا وجدت فيه قادحا
ومنها: أن عدالة الشهود شرط والشاهد يفسق بجلوسه على مقعد حرير أو استناده إلى مسند حرير أو جلوسه تحت حركاة حرير أو تجمره بمجمرة فضة ونحو ذلك مما لا يكاد يخلو البيت منه وقت العقد ونحو ذلك
فيا للعجب ! يكون الوطء حلالا والنسب لاحقا والنكاح صحيحا حتى يقع الطلاق فحينئذ يطلب وجوه إفساده
الحيلة الثالثة: التحيل بالمخالعة حتى يفعل المحلوف عليه فإذا فعله تزوجها بعقد جديد
الحيلة الرابعة: إذا وقع الفأس في الرأس وحنث ولا بد اشترى غلاما دون البلوغ وزوجه بها وأمرها أن تمكنه من إيلاج الحشفة هناك فإذا فعل وهبها إياه فانفسخ نكاحها بملكه فتعتد وترد إلى المطلق فإن عجزوا عن ذلك وأعوزهم انتقلوا إلى:
الحيلة الخامسة: وهي استكراء التيس الملعون المستعار لينزو عليها ويحلها بزعمه فهذه خمس حيل للخاصة
وأما جهال العامة فلما رأوا أن المقصود التحيل على ردها إلى المطلق بأي طريق اتفق قالوا: المقصود هو الرجوع والحيلة مقصودة لغيرها وأعيان الحيل ليست مقصودة فاستنبطوا لهم خمس حيل أخرى
أحداها: أن يأمروا المحلل بأن يطأها برجله فيطؤها وهي قاعدة أو مضطجعة برجله ثم يخرج ورأوا أن الوطء بالرجل أسهل عليهم وأقل مفسدة من الوطء بالآلة فإنه إذا كان كلاهما غير مقصود فما كان أقل فسادا كان أقرب إلى المقصود
الحيلة الثانية: أن تكون حاملا فتلد ذكرا وكأنهم قاسوا الذكر الذي شقها خارجا على الذكر الذي يشقها داخلا وهذا من جنس قياس التيس الملعون على الزوج المقصود
الحيلة الثانية: أن يصب المحلل عليها دهنا يشربه جسدها ولا يطؤها وكأنهم قاسوا تشرب جسدها للدهن وسريانه فيه على شربه للنطفة وسريانها فيه
الحيلة الرابعة: السفر عنها أو سفرها عنه فإذا قدم ظن أن ذلك كاف عن الزوج ولا أدري من أين ألقى إليهم الشيطان ذلك وكأنهم ظنوا أنهم قد التقوا من الآن وأن السفر قطع حكم ما مضى رأسا
الحيلة الخامسة: أن يجتمعا على عرفات فإذا وقف بها على الجبل لم يحتج بعد ذلك إلى زوج آخر عندهم وقد سئلنا نحن وغيرنا عن ذلك وسمعناه منهم
فصل
واعلم أن من اتقى الله في طلاقه فطلق كما أمره الله ورسوله وشرعه له أغناه عن ذلك كله ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر حكم الطلاق المشروع: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. فلو اتقى الله عامة المطلقين لاستغنوا بتقواه عن الآصار والأغلال والمكر والاحتيال فإن الطلاق الذي شرعه الله سبحانه: أن يطلقها طاهرا من غير جماع ويطلقها واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها وإن لم يراجعها حتى انتقضت عدتها أمكنه أن يستقبل العقد عليها من غير زوج آخر وإن لم يكن له فيها غرض لم يضره أن تتزوج بزوج غيره فمن فعل هذا لم يندم ولم يحتج إلى حيلة ولا تحليل
ولهذا سئل ابن عباس عن رجل طلق امرأته مائة فقال: عصيت ربك وفارقت امرأتك لم تتق الله فيجعل لك مخرجا
وقال سعيد بن جبير: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفا فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك وبقيتهن وزر اتخذت آيات الله هزوا
وقال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى طننت أنه رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: ومن يتق الله يجعل له مخرجا. وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك ذكره أبو داود
وقد روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله ص عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله
وهذه الآثار موافقة لما دل عليه القرآن فإن الله سبحانه إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه جملة واحدة أصلا قال تعالى: الطلاق مرتان. والمرتان في لغة العرب بل وسائر لغات الناس: إنما تكون لما يأتي مرة بعد مرة فهذا القرآن من أوله إلى آخره وسنة رسول الله ص وكلام العرب قاطبة شاهد بذلك كقوله تعالى: سنعذبهم مرتين [ التوبة: 101 ] وقوله: أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين [ التوبة: 126 ] وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات [ النور: 53 ] ثم فسرها بالأوقات الثلاثة وشواهد هذا أكثر من أن تحصى
ثم قال سبحانه: فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ البقرة: 230 ] فهذه هي المرة الثالثة فهذا هو الطلاق الذي شرعه الله سبحانه وتعالى مرة بعد مرة بعد مرة فهذا شرعه من حيث العدد
وأما شرعه من حيث الوقت: فشرع الطلاق للعدة وقد فسره النبي ص بأن يطلقها طاهرا من غير جماع فلم يشرع جمع ثلاث ولا تطليقتين ولم يشرع الطلاق في حيض ولا في طهر وطئها فيه وكان المطلق في زمن رسول الله ص كله وزمن أبي بكر كله وصدرا من خلافه عمر رضي الله عنهما إذا طلق ثلاثا يحسب له واحدة وفي ذلك حديثان صحيحان أحدهما رواه مسلم في صحيحه والثاني رواه الإمام أحمد في مسنده
فأما حديث مسلم: فرواه من طريق ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الطلاق على عهد رسول الله ص وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم
وفي صحيحه أيضا عن طاوس: أن أبا الصهباء قال لابن عباس هات من هنياتك: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ص وأبي بكر واحدة فقال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتايع الناس في الطلاق فأجازه عليهم
وفي لفظ لأبي داود: أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنهما فلما رأى الناس قد تتايعوا فيها قال أجروهن عليهم هكذا في هذه الرواية قبل أن يدخل بها وبها أخذ إسحق بن راهويه وخلق من السلف جعلوا الثلاث واحدة في غير المدخول بها وسائر الروايات الصحيحة ليس فيها قبل الدخول ولهذا لم يذكر مسلم منها شيئا
وهذا الحديث قد رواه عن ابن عباس ثلاثة نفر: طاوس وهو أجل من روى عنه وأبو الصهباء العدوى وأبو الجوزاء وحديثه عند الحاكم في المستدرك ولفظه: أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: أتعلم أن الثلاث كن يرددن على عهد رسول الله عليه السلام إلى واحدة قال: نعم قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه
ورواية طاوس نفسه عن ابن عباس ليس في شيء منها قبل الدخول وإنما حكى ذلك طاوس عن سؤال أبي الصهباء لابن عباس فأجابه ابن عباس بما سأله عنه ولعله إنما بلغه جعل الثلاث واحدة في حق مطلق قبل الدخول فسأل عن ذلك ابن عباس وقال: كانوا يجعلونها واحدة فقال له ابن عباس نعم أي الأمر على ما قلت
وهذا لا مفهوم له فإن التقييد في الجواب وقع في مقابلة تقييد السؤال ومثل هذا لا يعتبر مفهومه
نعم لو لم يكن السؤال مقيدا فقيد المسئول الجواب كان مفهومه معتبرا وهذا كما إذا سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إذا وقعت الفأرة في السمن فألقوها وما حولها وكلوه لم يدل ذلك على تقييد الحكم بالسمن خاصة
وبالجملة: فغير المدخول بها فرد من أفراد النساء فذكر النساء مطلقا في أحد الحديثين
وذكر بعض أفرادهن في الحديث الآخر لا تعارض بينهما
وأما الحديث الآخر: فقال أبو داود في سننه: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني بعض بني أبي رافع مولى النبي عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانه وإخوته أم ركانه ونكح امرأة من مزينة فجاءت إلى النبي فقالت: ما يغني ععني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه: أترون فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا يشبه منه كذا وكذا قالوا نعم: فقال الني طلقها ففعل فقال: راجع امرأتك أم ركانة فقال: إني طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال: قد علمت راجعها وتلا: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة [ الطلاق: 1 ] الآية
فأمره أن يراجعها وقد طلقها ثلاثا وتلا الآية التي هي وما بعدها صريحة في كون الطلاق الذي شرعه الله لعباده وهو الطلاق الذي يكون للعدة فإذا شارفت انقضاءها فإما أن يمسكها بمعروف أو يفارقها بمعروف وأنه سبحانه شرعه على وجه التوسعة والتيسير فلعل المطلق أن يندم فيكون له سبيل إلى الرجعة وهو قوله تعالى: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا [ الطلاق: 1 ] فأمره بالمراجعة وتلاوته الآية كاف في الاستدلال على ما كان عليه الحال
فإن قيل: فهذا الحديث فيه مجهول وهو بعض بني أبي رافع والمجهول لا تقوم به حجة
فالجواب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الإمام أحمد قد قال في المسند: حدثنا سعد بن إبراهيم حدثنا أبي عن محمد ابن إسحق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو المطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله كيف طلقتها قال: طلقتها ثلاثا قال في مجلس واحد قال: نعم قال: فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت قال: فراجعها قال وكان ابن عباس يرى أن الطلاق عند كل طهر
ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته التي هي أصح من صحيح الحاكم
فهذا موافق للأول وكلاهما موافق لحديث طاوس وأبي الصهباء وأبي الجوزاء عن ابن عباس وطاوس وعكرمة أعلم أصحاب ابن عباس فإن عكرمة كان مولاه مصاحبا له وكان يقيده على العلم وكان طاوس خاصا عنده يجتمع به كثيرا ويدخل عليه مع الخاصة وكان طاوس وعكرمة يفتيان بأن الثلاث واحدة وكذلك ابن إسحق لما صح عنده هذا الحديث أفتى بموجبه وكان يقول: جهل السنة فيرد إليها
فرواة هذا الحديث أفتوا به وعملوا به
وعن ابن عباس فيه روايتان إحداهما: موافقة عمر رضي الله عنه تأديبا وتعزيرا للمطلقين والثانية: الإفتاء بموجبه
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس وحسبك بهذا السند صحة وجلالة: إذا قال أنت طالق ثلاثا بفم واحد فهي واحدة ذكره أبو داود في السنن
الوجه الثاني: أن هذا المجهول هو من التابعين من أبناء مولى النبي ولم يكن الكذب مشهورا فيهم والقصة معروفة محفوظة وقد تابعه عليها داود بن الحصين وهذا يدل على أنه حفظها
الوجه الثالث: أن روايته لم يعتمد عليها وحدها فقد ذكرنا رواية داود بن الحصين وحديث أبي الصهباء فهب أن وجود روايته وعدمها سواء ففي حديث داود كفاية وقد زالت تهمة تدليس ابن اسحق بقوله حدثني وقد احتج الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا بخمسة أوسق أو دونها وأخذوا به وعملوا بموجبه مع مخالفة عمومات الأحاديث الصحيحة: في منع بيع الرطب بالتمر له
فالقول بهذه الأحاديث موافق لظاهر القرآن ولأقوال الصحابة وللقياس ومصالح بني آدم
أما ظاهر القرآن: فإن الله سبحانه شرع الرجعة في كل طلاق إلا طلاق غير المدخول بها والمطلقة طلقة ثالثة بعد الأولتين وليس في القرآن طلاق بائن قط إلا في هذين الموضعين وأحدهما بائن غير محرم والثاني بائن محرم وقال تعالى: الطلاق مرتان والمرتان ما كان مرة بعد مرة كما تقدم
وأما القياس فإن الله سبحانه قال: والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ النور: 6 ] ثم قال: ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله [ النور: 8 ] فلو قال: أشهد بالله أربع شهادات إني صادق أو قالت: أشهد بالله أربع شهادات إنه كاذب كانت شهادة واحدة ولم تكن أربعا فكيف يكون قوله: أنت طالق ثلاثا: ثلاث تطليقات وأي قياس أصح من هذا وهكذا كل ما يعتبر فيه العدد من الإقرار ونحوه ولهذا لو قال المقر بالزنى: إني أقر بالزنى أربع مرات كان ذلك مرة واحدة وقد قال الصحابة لماعز: إن أقررت أربعا رجمك رسول الله فلو قال: أقر به أربع مرات كانت مرة واحدة فهكذا الطلاق سواء
فهذا القياس وتلك الآثار وذاك ظاهر القرآن
وأما أقوال الصحابة: فيكفي كون ذلك على عهد الصديق ومعه جميع الصحابة لم يختلف عليه منهم أحد ولا حكي في زمانه القولان حتى قال بعض أهل العلم: إن ذلك إجماع قديم وإنما حدث الخلاف في زمن عمر رضي الله عنه واستمر الخلاف في المسألة إلى وقتنا هذا كما سنذكره
قالوا: فقد صح بلا شك أنهم كانوا في زمن رسول الله وأبي بكر مدة خلافته كلها وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنهما يوقعون على من طلق ثلاثا واحدة قالوا: فنحن أحق بدعوى الإجماع منكم لأنه لا يعرف في عهد الصديق أحد رد ذلك ولا خالفه فإن كان إجماع فهو من جانبنا أظهر ممن يدعيه من نصف خلافة عمر رضي الله عنه وهلم جرا فإنه لم يزل الاختلاف فيها قائما وذكره أهل العلم في مصنفاتهم قديما وحديثا
فممن ذكر الخلاف في ذلك: داود وأصحابه واختاروا أن الثلاث واحدة
وممن حكى الخلاف: الطحاوى في كتابه اختلاف العلماء وفي كتاب تهذيب الآثار
وأبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن وحكاه ابن المنذر وحكاه ابن جرير وحكاه المؤرج في تفسيره وحكى حجة القولين ثم قال: وهي مسألة خلاف بين العلماء وحكاه محمد بن نصر المروزي واختار القول بالثلاث: أنها واحدة في حق البكر ثلاث في حق المدخول بها وحكاه من المتأخرين المازرى في كتاب المعلم وحكاه عن محمد بن محمد بن مقاتل من أصحاب أبي حنيفة وهو من أجل أصحابهم من الطبقة الثالثة من أصحاب أبي حنيفة فهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وحكاه التلمساني في شرح التفريع في مذهب مالك قولا في مذهبه بل رواية عن مالك وحكاه غيره قولا في المذهب فهو أحد القولين في مذهب مالك وأبي حنيفة وحكاه غيره شيخ الإسلام عن بعض أصحاب أحمد وهو اختياره وأسوأ أحواله أن يكون كبعض أصحاب الوجوه في مذهبه كالقاضي وأبي الخطاب وهو أجل من ذلك فهو قول في مذهب أحمد بلا شك
وأما التابعون فقال ابن المنذر: كان سعيد بن جبير وطاوس وأبو الشعثاء وعطاء وعمرو بن دينار يقولون: من طلق البكر ثلاثا فهي واحدة قال: واختلف في هذا الباب عن الحسن فروي عنه أنه ثلاث وذكر قتادة وحميد ويونس عنه: أنه رجع عن قوله بعد ذلك وقال: واحدة بائنة
وقال محمد بن نصر في كتاب اختلاف العلماء: أجمع أهل العلم أن الرجل إذا طلق امرأته تطليقة ولم يدخل بها أنها بانت منه وليس عليها عدة واختلفوا في غير المدخول بها إذا طلقها الزوج ثلاثا بلفظ واحد فقال الأوزاعي ومالك وأهل المدينة: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وروي عن ابن عباس وغير واحد من التابعين أنهم قالوا: إذا طلقها ثلاثا قبل أن يدخل بها فهي واحدة وأكثر أهل الحديث على القول الأول
قال: وكان إسحق يقول: طلاق الثلاث للبكر واحدة وتأول حديث طاوس عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله ص وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم يجعل واحدة: على هذا
قلت: هذا تأويل إسحق وأما أبو داود فجعله منسوخا فقال في كتاب السنن: باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ثم ساق حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: الطلاق مرتان [ البقرة: 229 ] ثم ذكر في أثناء الباب حديث أبي الصهباء وكأنه اعتقد أن حكمه كان ثابتا لما كان الرجل يراجع امرأته كلما طلقها وهذا وهم لوجهين:
أحدهما: أن المنسوخ هو ثبوت الرجعة بعد الطلاق ولو بلغ ما بلغ كما كان في أول الإسلام
الثاني: أن النسخ لا يثبت بعد موت رسول الله ص وكون الثلاث واحدة قد عمل به في خلافة الصديق كلها وأول خلافة عمر رضي الله عنه فمن المستحيل أن ينسخ بعد ذلك
وأما ابن المنذر فقال: لم يكن ذلك عن علم النبي ص ولا عن أمره قال: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفظ عن النبي ص شيئا ثم يفتي بخلافه فلما لم يجز ذلك دل فتيا ابن عباس رضي الله عنه على أن ذلك لم يكن عن علم النبي ص ولا عن أمره إذ لو كان ذلك عن علم النبي ص ما استحل ابن عباس أن يفتي بخلافه أو يكون ذلك منسوخا استدلالا بفتيا ابن عباس وهذا المسلك ضعيف جدا لوجوه:
أحدها: أن حديث عكرمة عن ابن عباس في رد النبي ص امرأة ركانة عليه بعد الطلاق الثلاث يبطل هذا التأويل رأسا
الثاني: أن هذا لو كان صحيحا لقال ابن عباس لأبي الصهباء: ما أدري أبلغ ذلك رسول الله ص أو لم يبلغه فلما أقره على ذلك كان إقراراه دليلا على أنه مما بلغه
الثالث: أنه لو كان ذلك صحيحا لم يقل عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة بل كان الواجب أن يبين له أن السنة عن رسول الله ص في خلاف ذلك وأن هذا العمل من الناس خلاف دين الإسلام وشرع محمد ص ولا يقول: فلو أنا أمضيناه عليهم فإن هذا إنما يكون إمضاء من الله تعالى ورسوله لا من عمر
الرابع: أنه من الممتنع أو المستحيل أن يكون خيار الخلق يطلقون في عهد رسول الله ص وعهد خليفته من بعده ويراجعون على خلاف دينه فيطلقون طلاقا محرما ويراجعون رجعة محرمة ولا يعلمون بذلك رسول الله ص وهو بين أظهرهم
ثم حديث ابن عباس الذي رواه أحمد يرد ذلك ثم ترده فتوى ابن عباس في إحدى الرواتين عنه وهي ثابتة عنه بأصح الإسناد كما أن الرواية الأخرى ثابتة عنه
وكيف يستمر جهل خيار الأمة بالطلاق والرجعة مدة حياته ص ومدة حياة الصديق كلها وشطرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يظهر لهم بعد ذلك الطلاق والرجعة الجائزان
وكيف يصح قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في شيء كانت لهم فيه أناة
وكيف يصح قوله: فلو أنا أمضيناه عليهم فهذا المسلك كما ترى
وأما الإمام أحمد فإنما رده بفتوى ابن عباس بخلافه وهو راوي الحديثين قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: طلاق الثلاث واحدة بأي شيء تدفعه قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه
وكذلك نقل عنه ابن منصور
وهذا المسلك إنما يجيء على إحدى الروايتين: أن الصحابي إذا عمل بخلاف الحديث لم يحتج به واتبع عمل الصحابي والمشهور عنه: أن العبرة بما رواه الصحابي لا بقوله إذا خالف الحديث ولهذا أخذ برواية ابن عباس في حديث بريرة وأن بيع الأمة لا يكون طلاقا لها لأن رسول الله ص خيرها ولو انفسخ النكاح ببيعها لم يخيرها مع أن مذهب ابن عباس: أن بيع الأمة طلاقها واحتج بظاهر القرآن وهو قوله تعالى: والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء: 24 ] فأباح وطء مملوكته المزوجة ولو كان النكاح باقيا لم ينفسخ لم يبح له وطأها
والجمهور وأحمد معهم خالفوه في ذلك وقالوا: لا يكون بيعها طلاقا
واحتجوا بحديث بريرة وتركوا رأيه لروايته فإن روايته معصومة ورأيه غير معصوم
والمشهور من مذهب الشافعي: أن الأخذ بروايته دون رأيه والمشهور من مذهب أبي حنفية عكس ذلك وعن أحمد روايتان
فهذا المسلك في ردع الحديث لا يقوى
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)