كنت ما أزال أفكر كيف أتصرف بكل تلك الأشياء, عندما لمحتحذاءً أسفل الخزانة.
كان حذاءه الوحيد, أو بالأحرى, ما بقي له هنا. فهو حتماًيملك حذاءً آخر ذهب به إلى المستشفى.
لا أدري لماذا اختار ذلك الحذاء دون هذالسفرته الأخيرة. قد يكون تركه لمناسبة أجمل, فهو حذاء جديد كأنه لم ينتعله. وبرغمذلك, بدا لي أكثر حزناً من الآخر, مختبئاً أسفل الخزانة كيتيم, يخاف أن يلفتالأنظار إليه فيطرد.. أو يُغتال.
أثمة يتم للأحذية أيضاً؟
بدا لي زوجا الحذاءمتلاصقين كرجلي ذلك الصغير المرعوب. عندما مددت يدي لأخرجهما من مخبئهما, استعدتمنظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة, والذي قضى ليلة مختبئاً تحت السرير, وعندمااستيقظ في الصباح, وجد أنه فقد كل أهله,وأنه أصبح يتيماً إلى الأبد.
أنا الذيقررت أمام ورشة الموت ألا أبكي, أمام ذلك الحذاء الذي كسا الغبار لمعته, وجدتنيأنهار باكياً.
هو رجل المسافة, وحشمة التغافل. أحزنني هتك أسراره, والتسكع فيعالم ما توقع أن يدخله غريب بعده, بذريعة أنه لم يعد هنا ليحمي أشياءه الصغيرةالسرية. تلك الأشياء التي لم تحفظ حرمة غيبته, بل راحت تغتابه, وتثرثر مع أول عابرسبيل.
وأذكر عندما زرته في إحدى المرات, وكان علي أن أغادر الغرفة وأنتظرهبعض الوقت في الخارج ريثما تنتهي الممرضة من خدمته, راح يعتذر لي عن انتظاري, ويحدثني عن مذلة المرض الذي يعطي لأيّ شخص الحق في أن يستبيح جسدك وينتهكحميميتك.
قال:
- هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى مذ بترت ذراعي منذ أكثر منأربعين سنة. لا أحب مهانة المرض. ما أنقذني أنني تعودت في الحياة أن أواجه النظراتالتي تعرّي عاهتي بأن أتغابى.. فلم أفعل غير مواصلة ذلك هنا.
ثم واصل:
- التغابي هو بعض ما اكتسبته من اليتم. عندما تعيش يتيماً, تتكفل الحياة بتعليمكأشياء مختلفة عن غيرك من الصغار. تعلِّمك الدونيّة, لأن أول شيء تدركه هو أنك أقلشأناً من سواك, وأنه لا أحد يردّ عنك ضربات الآخرين, ومن بعدهم ضربات الحياة.أنت فيمهب القدر وحدك كصفصافة, وعليك أن تدافع عن نفسك بالتغابي, عندما يستقوي عليك أطفالآخرون, فتتظاهر بأنك لم تسمع.. وأنك تدري أن لهم آباء يدافعون عنهم ولا أبلك.
صمت بعض الوقت.. ثم واصل:
-كلّ اكتسب شيئاً من دونيته, سواء أكان كريماًأو بخيلاً.. عنيفاً أو مسالماً.. واثقاً في الناس أو مرتاباً.. عازباً أو ربعائلة.
كلّ يتيم هو مريض بدونية سابقة, يتداوى منها حسب استعداداتهالنفسية.
لكن أعلى درجات اليتم.. يتم الأعضاء. إنها دونية عارية معروضة للفرجةوالفضول, لا شفاء منها, لأنك ما رأيت أحداً إلا وذهب نظرك مباشرة إلى ما يملكه.. وينقصك أنت.. وهنا كم يلزمك من التغابي لتكذب على نفسك!
أستعيد الآن كلامههذا.. متذكراً قولاً لمعاوية بن أبي سفيان " إن ثلث الحكمة فطنة, وثلثيهاتغافل".
ذلك أنه ما كان لي أن أدرك ثلثي حكمته إلا وأنا أجمع أشياء موته, وأقعفجأة بين حاجاته على نسخة من كتاب "فوضى الحواس" تبدو منهكة لفرط تداولها, نسخةبدون إهداء, من الأرجح أن يكون اشتراها. ذلك أن السعر مكتوب بقلم الرصاص على صفحتهاالأولى.. بالفرنك الفرنسي. وفي الأرقام الثلاثة تلك, كانت تختصر كل فجيعة رجلأحالته حبيبته من قلب كتاب كان سيده, إلى غريب لا مكان له حتى في إهداء الصفحةالأولى. يدفع 140 فرنكاً, كي يعرف ما أخبارها مطارداً خيانتها بين السطور.
كانيعرف إذن من أكون, وكان يواجهني بالتغابي ذاته!
نزلت عليَّ صاعقة الاكتشاف, وسمَّرتني مكاني. رحت من دهشتي أتصفح الكتاب وأعيد قراءة صفحات منه كيفما اتفقوكأنني أكتشفه لتوّي, باحثاً عما يمكن أن يكون قد تسقطه عني.
كيف له في محاولةلتقصِّي أخبارها, ألا يشتري كتاباً لها صدر بعد أن افترقا.
وهي التي كالأنظمةالعربية, تحترف توثيق جرائمها, واستنطاق ضحاياها في كتاب. كيف لها ألاَّ تجعلنيمفضوحاً بالنسبة إليه, بقدر ما كان هو في " ذاكرة الجسد", وإذ بواحدنا يعرف عنالآخر كل شيء, جاهلاً فقط علم الآخر بذلك.
كمن يحاول فكّ سرِّ كبير, بترتيبفسيفساء الأسرار الصغيرة, رحت أحاول أن أفهم, في أيّ موعد بالذات أدرك من أكون, وأيّ تفصيل بالذات جعله يتعرَّف عليّ. أمن الاسم الذي أعطته له فرانسواز, وهي تطلبلي موعداً معه؟
ترى لو لم أقدِّم نفسي على أنني خالد بن طوبال أكان سيتعرف عليَّمثلاً من عاهة ذراعي اليسرى التي لا تتحرك بسهولة؟ أم كان سيعرفني لأنني كما فيالرواية مصوِّر...ومن قسنطينة؟ ولأفترض أنني عندما زرته في المستشفى لم أقل لهشيئاً على الإطلاق, أكان سيتعرف عليَّ بحدس المحب, وريبة الرجولة؟
ثم, قد يكونتعرّف عليّ, وعرف من ذلك الكتاب كل شيء عن علاقتي بحياة, وهذا ليس مهماً فيالنهاية..
لكن, أكان على علم أنني أقيم في بيته؟ وأساكن صديقته؟ وأنني التقيتبحياة واصطحبتها إلى هذا البيت؟ وأنها كانت ترقص لي لحظة كان يحتضر؟
أيكون اختارتلك اللحظة بالذات لأن يموت فيها إمعاناً منه في التغابي؟
ما زلت غير مصدِّقأن يكون في توقيت موته مصادفة, ولا أرى سبباً لتدهور مباغت لصحته. فلا شيء عندماالتقيت به قبل ذلك بيوم, يشي بأن حياته في خطر أو أنه يعاني من انتكاسة ما.
بلإنني لم أره ممازحاً ومرحاً كذلك اليوم. وأعرف خبث ذلك المرض بالذات, الذي من بعضمكره, إعطاؤك قبل أن يفتك بك, إحساساً بالتعافي. والكل من حولك سيقولون لك ذلك, لأنك فعلاً ستبدو في أحسن حالاتك.
أعرف هذا من أبي. غير أني من عمي أعرف أيضاًأن الإنسان يختار توقيت موته. وإلا كيف استطاع أن يموت في أول نوفمبر بالذات, تاريخاندلاع الثورة الجزائرية التي كان أحد رجالها؟
وجدت تأكيداً لهذا المقال أبحاثاًقام بها متشنيكوف, وهو عالم وضع في بداية القرن العشرين نظرية في وظائف خلاياالجسم, تثبت أن الإنسان لا يموت إلا إذا أراد حقاً ذلك, وأن موته العضوي ليس سوىاستجابة لمطلب نفسي ملحّ.
وإذا صدقت هذه النظرية تكون الثورة الجزائرية أودتبحياة عميّ برصاصة تأخر مفعولها القاتل أربعين سنة, وأكون أنا من أقنع زيان يومهابإطلاق رصاصة الرحمة على نفسه واشتهاء الموت حد استحضاره.
هذه الفكرة لم تكنإلا لتزيد من حزني, ولذا ما كادت فرانسواز تعود إلى البيت حتى بادرتها سائلاً عمّاإذا كانت أخبرت زيان بإقامتي عندها أم لا.
أجابت متعجبة:
- طبعاً لا..
ثمواصلت:
- ما كان لي أن أنسى ذلك بعد إلحاحك عليَّ بعدمإخباره.
تمتمت:
-شكراً!
وتنفست الصعداء. يا إلهي ما أصعب الإساءةللموتى.
واصلت فرانسواز, وهي تتعجب لأمري قائلة:
- زيّان يعرف بأنّ ليعلاقات. وهو ما كان يتدخل في حياتي. هذا الأمر كان واضحاً بيننا منذ البدء.. فلماذاأنت قلق؟
كم كان سيطول الكلام, لو أنا شرحت لها أسباب قلقي. لكن في مثل هذهالحالات, كنت أكتشف كم هي غريبة عني وكم الكلام معها يأخذ بعداً عبثيّاً. هذا برغمتأثرها البالغ عندما وقع عليها الخبر حتى أنها انهارت على الأريكة باكية مرددة:
قبل أن تسألني وهيتستمع إلى الرسائل الهاتفية, كيف أنني لم أعرف بنداءات المستشفى.-ce n'est pas possible...Oh mon Dieu..
أجبتها وقدفاجأني سؤالها, أنني كنت ذلك المساء خارج البيت. لكنها أجابت بما فاجأني أكثر, " آهصحيح.. ربما كنت يومها تتعشَّى عند مراد".
بقيت صامتاً للحظات, وأنا أستنتج منعبارتها أنها على اتصال دائم معه, وأنهما يتهاتفان كل يوم.
█║S│█│Y║▌║R│║█
لم يكن الظرف مناسباًلأمعن التفكير في غدر صديق أثناء انشغالي بتفاصيل موت صديق آخر. كان جميلاً أنأتأكد من أن للموت تنوعه, فثمة موتى نواريهم التراب, وآخرون أحياء نطمرهم في وحلمخازيهم.
كنت رجلاً بإمكانه أن يتفهم خيانة زوجة. لكنه لا يغفر خيانة صديق. فخيانة الزوجة قد تكون نزوة عابرة, أما خيانة الصديق فهي غدرٌ مع سبقالإصرار.
وضعت تلك الجملة بيننا مسافة من جليد الجفاء. وقد تكون فرانسواز فسَّرتبرودتي تجاهها بعد ذلك بفاجعة موت زيّان, بدون أن تعرف حجم المقبرة التي أحملها فيقلبي.
اكتفيت ليلاً بضمِّها إلى صدري, وأنا أفكِّر في اقتراب ليلة سيحتلّ فيهامراد مكاني عابراً لهذا السرير.. المقيم.
***
لأنني لم أنم. غادرت البيت باكراً صباح اليومالتالي لأقضي بعض ما تأخر من مشاغلي, نظراً لمستجدات الظرف, واستعداداً لعودة وشيكةإلى الجزائر.
عندما عدت مساءً, أخبرت فرانسواز أنني زرت مكتب الخطوط الجزائرية, وأن ثمة رحلة إلى قسنطينة بعد ثلاثة أيام. سألتها إن كان بإمكاني الاعتماد عليها فيالإجراءات الإدارية وتكفّلي أنا بالأمور الأخرى. ثم واصلت بعد شيء من الصمت:
- نقل الجثمان يكلف 32 ألف فرنك.
سألتني فرانسواز:
- هل تملك هذاالمبلغ؟
وجدتني أبتسم.. وأجبتها:
- لا.. اشتريت تلك اللوحة بما كانمعي!
قالت بتذمر:
- يا للحماقة.. نصف ريع لوحاته ذهب إلى الجمعيات الخيريةوالنصف الآخر الذي يعود إليه لا نستطيع التصرف فيه. فبحكم موته, كلّ شيء بعد الآنمحجوز قانونياً ومجمَّد في انتظار حصر الورثة.
واصلت وهي تشعل سيجارة:
- ليتكما اشتريت تلك اللوحة. إنها أغلى لوحة بيعت. أصرَّ زيّان على أن تباع لوحاته بأسعارمعقولة حتى تكون في متناول الجميع. ربما وضع سعراً غالياً لها لأنها الأحبإليه.
- بل أنا من وضع سعراً لها. هو لم يطلب منّي شيئاً. أردت أن أضع فيها مابقي في حوزتي من مال تلك الجائزة.. وأرتاح.
قالت بعد شيء من الصمت:
- ألا ترىمن العجيب أن يكون زيان أراد ائماً الاحتفاظ بهذه اللوحة , وأن ثمنها يساوي تقريباًتكاليف نقل جثمانه إلى قسنطينة؟.
اقشعرَّ جسدي: يا إلهي من أين جاءت بهذهالفكرة. انتابني شعور بالذعر, كأنني بشرائي تلك اللوحة سرقت منه قبره, أو كأننياشتريت بها قبري. ذهب تفكيري في كلّ صوب, واستعدت تطيّر حياة من الجسور.
وبدونأن أشرح لها هواجسي, وجدتني أسأل فرانسواز:
- أتعتقدين أننا ستعثر في يومين علىمشترٍ لها؟
ردَّت بدون أن يبدو عليها أسف أو عجب لقراري:
- قد يكون ذلكممكناً ما دامت معروضة. يكفي أن نرفع عنها الإشارة التي تدل أنها بيعت.. كل رواقيملك قائمة بأهم الزبائن الذين يعنيهم اقتناء لوحات هذا الفنان أو ذاك. وهو يتّصلبهم في مثل هذه الحالات.
كان بيعها كالاحتفاظ بها يحزنني. ولذا ما عدت أدريأيّ القرارين كان صائباً, خاصة أنني اشتريتها من مالي, لأنني أحببتها, ولأن لا أحدغيري يقدِّر قيمتها العاطفية.
وكان السؤال في حالة احتفظت بها: مِمَّن أستدينالمبلغ لنقل جثمان زيّان, أم ناصر وهو أكثر نزاهة من أن يفيض حسابه بهذا المبلغ, أمن مراد ولا رغبة لي بعد الآن في التعامل معه, ولا أظنه سيساعدني سوىبالقليل.
كان الحل الوحيد هو الاتصال بحياة. أظنها قادرة على تأمين هذاالمبلغ.وكنت سأسعد بذلك لولا أن لا مال لها سوى مال زوجها, وأن في الأمر إهانة لعمرقضاه زيان رافضاً التلوث بمال اللصوص ذوي الياقات البيض, أو الاستنجاد بدولة ليستمسؤولة سوى عن تأمين علم وطني يغطّى به جثمان مبدعيها ممّن اغتيلوا بالعشرات علىأيدي الإرهابيين. فكيف أفكّر في طلب مساعدة من السفارة؟
كان رجل التورّعوالترفّع, كم هيأوا له من أبواب واطئة يستدعي مروره منها انحناء كبريائه, والتنازلعن ذلك الاعتداد بالذات. ألأن قامته أصبحت الآن في انبطاح تابوت, بإمكانه أ يمرّ منباب أبى المرور منه حيَّا؟
لم يكن الأمر يتطلب الكثير من التفكير. وجدتنيمؤتمناّ على رفات هذا الرجل, فلن أتصرف إلا بما يليق بما أعرفه عنه. ولا أخالهسيسعد إن أنا تسولت ثمن نقل جثمانه من الآخرين, وقد تصدَّق حيَّا بما كان سيضمن لهموتاً كريماً.
هو رجل الحزن المتعالي, أليس أكرم له أن يسافر على نفقة إحدىلوحاته, على أن تنقل رفاته على حساب أحد المحسنين, أو كرماً وتصدّقاً من قراصنةالأوطان المنهوبة؟
قطعت فرانسواز تفكيري قائلة:
-إن كنت تريد أن تعرض اللوحةللبيع, عليَّ أن أخبر فوراً كارول كسباً للوقت. فأحياناً لا تتم الأمرو بسرعة, خاصّة أننا في نهايات السنة,والناس في مواسم الأعياد لا يملكون مالاً لإنفاقه فيمثل هذه المشتريات عندما تكون غالية نسبياً.
أجبتها وأنا أشعل سيجارة وأذهب صوبالشرفة:
- اطلبيها..
في الصباح التالي استيقظت متعباً من ليل كله كوابيس. قد أكون تكلمت أثناء نومي أو تقلبت كثيراً. ممّا اضطر فرانسواز للنوم على أريكةالصالون.
وضعت قبلة على خدها, واعتذرت لها محرجاً.
ردت بلطف:
ثم سألتني, لماذا كنت مضطرباً إلى ذلكالحد.Ce n' est pas grave..
أجبتها وأنا أتجه صوب المطبخ لأعد القهوة:
- كان حلماً مزعجاً.
منالأرجح أن تكون قصة اللوحة وحواري مع فرانسواز وأشياء زيّان التي قضيت البارحة فيفرزها, تراكمت جميعها في لا شعوري, لتولد ذلك الحلم الذي كنت أرى فيه نفسي ما هممتباجتياز جسر من جسور قسنطينة إلا وصاح بي الناس على جانبيه ألا أفعل.
كان الناسيهرِّبون أشياءهم من بيوتهم البائسة المعلَّقة على المرتفعات, صارخين بمن لا يدريأن الأرض تنزلق وأنّ الجسور جميعها ستنهار, والجميع مذعورون لا يدرون أيّ جسريسلكون للهروب من قسنطينة.
لأنني رجل منطقي, وجدت لهذا الحلم سبباً آخر, يعود لذلك المقال الذي قرأته عندما كنت في الجزائر ونسيته منذ ذلك الحين,وأظنه عاداليوم ليطفو على سطح الشعور.
وكان زميل لي, أمدّني بتلك الجريدة بالفرنسية, وقالممازحاً بلهجة أبن العاصمة " إتهلكت عليكم يا خو قسمطينة راحت. كاش نهار تقومواتِلقاوْ رواحكم قاع تحت".
عنوان المقال كان يعلن بخطِّ كبير بالفرنسية أنّ الأرضتنزلق في قسنطينة, مسبوقاً بعنوان أصغر يسأل " ماذا تنتظر الحكومة؟"
█║S│█│Y║▌║R│║█
المقال كانمرعباً في معلوماته, مؤكداً أن ظاهرة انزلاق الأرض التي تتعرض لها المدينة تتزايد, متقدمة بعدّة سنتيمترات سنوياً, وأن أكثر من مائة ألف نسمة على الأقل يعيشون داخلالخطر في المساكن التي, لفقر أصحابها الوافدين من كل صوب, بنيت كيفما اتفق علىالمنحدرات الصخرية, مما زاد من الأخطار التي تهدد جسر سيدي راشد الذي لم يشفع لهوقوفه على 27 قوساً حجرياً.
مصير جسر القنطرة ليس أفضل, هو الذي مذ بناه الرومانيلهو بالمخاطر. وبرغم اعتباره من أعجب البناءات, ظلَّ معطلاً خمسة قرون حتى جاءصالح باي فجلب له مائة عامل من أوربا لبنائه تحت إشراف مهندس إسباني, قبل أن يهدمهالفرنسيون ويعيدون في القرن التاسع عشر بناء الجسر القائم حالياً.
ما غزاقسنطينة غازٍ, أو حكمها حاكم إلا وبنى مجده بإعادة بناء جسورها غير معترف بمن بنوهاقبله! مما جعل آمال القسنطينيين معلَّقة كجسورهم, إلى ما سيقرره الخبراء الأمريكيونوالكنديون واليابانيون الذين تقول الجريدة إنهم سيتشاورون حول أحسن طريقة لإنقاذمدينة تعيش منذ 2500 سنة محصَّنة كعشّ النسر في الأعالي.. معجزة أبدعها الحجروأفسدها البشر.
لم أحكِ شيئاً من كلّ هذا لفرانسواز. كان يكفي ما ينتظرها منكوابيس النهار.
تقاسمنا روزنامة التفاصيل المزعجة للموت, ذهبت فرانسواز لتتابعالإجراءات الإدارية, بما في ذلك المرور على المستشفى واستلام أشياء زيان, بينماذهبت أنا لأنهي بعض ما تأخر من مشاغلي, ومراجعة الخطوط الجزائرية.
عصراًفاجأني هاتف منها. قالت بسعادة:
- حسناً أن أكون وجدتك. بيعت اللوحة. نجحت في أنأؤمّن لك المبلغ نقداً, لأنه ماكان بإمكانك أن تمرّ لاستلام المبلغ, فليس أمامك وقتعلى الإطلاق. لن تجدني.. كارول ستتولى الأمر.
لم أدرِ إن كانت تزفّ لي مكسباً أوخسارة. بقيت صامتاً.
قالت:
- لا تقل لي إنك نادم! نحن محظوظون. كان يمكنألاَّ ننجح في بيعها قبل عدة أيام.
كان كلّ شيء حسم. لم أشأ أن أدخل في جدلالاحتمالات.
قلت مختصراً الحديث:
- حسناً.. أنا آتٍ.
انتابني بعد ذلكأحاسيس متناقضة وأنا في طريقي إلى الرواق. أدركت أنني سأرى تلك اللوحة لآخر مرة, بدون أن أنسى أنني,في ذلك المكان, رأيت حياة لأول مرة بعد عامين من القطيعة.
كيفلمكان أن يجمع في ظرف أيام, الذكرى الأجمل ثم الأخرى الأكثر ألماً؟
مرّة لظنكأنك استعدت فيه حبيباً, ومرة لإدراكك في ما بعد أنك فقدت فيه وطناً.
لفرطإمعاني في إغفال الحبّ, كان يأتيني متنكراً في النسيان, حين لا أتوقعه. كيف تستطيعقتل الحب مرة واحدة, دفعة واحدة, وهو ليس بينك وبين شخص واحد. إنه بينك وبين كل ماله علاقة به.
عند باب الرواق قابلني ملصق المعرض وعليه صورة إحدى لوحات زيانالتي تمثل باباً عتيقاً نصف مفتوح, وقد وضع على أعلى زاويته اليسرى وشاح حداد يعلنموتالرسام. وقفت أتأمله لحظات كأني أريد أن أتأكد من صدق الحدث.
استقبلتنيكارول بمودة. كانت متأثرة لموت زيان الذي عرفته منذ مجيئه إلى فرنسا. دعتني إلىمكتبها, معبّرةً عن ألمها لأنه لن يكون هنا عند انتهاء المعرض كعادته. أمدتنيبالمبلغ الذي دفعته يوم اشتريت اللوحة, وقالت:
- آسفة, لم تستمتع حتى بامتلاكهالفترة.
قلت:
- قد يكون هذا أفضل. ربما كنت تعوَّدت عليها, أو تعوَّدت هيعليَّ. غيّرت هذه اللوحة صاحبها دون أن تغيِّر مكانها, انتقلت من ملكية إلى أخرى, من دون حتّى أن تنتبه لذلك!
لم أحاول أن أعرف من اشتراها. تركتها شاكراً, وأناأفكر في أنني أستعيد بذلك المبلغ, لا ثمن اللوحة, بل ثمن تلك الجائزة التي كأننيحصلت عليها لأموِّل بأفضل صورة للموت فاجعة موت آخر. لقد ازدهر الموت عندنا وأثرىحتّى صار بإمكانه أن يموِّل نفسه!
لم يفاجئني وأنا أقوم بجولة في المعرض ألاأرى أحداً من الزوار. لا أظنه كان وقتاً لارتياد المعارض.. ولا وقتاًللموت.
كانت الساعة الرابعة ذات بداية أسبوع, من نهاية سنة, والناس مشغولونبإعداد أفراحهم. فهل تعمَّد أن يستفيد من انشغال الحياة عنه حتى يتسللّ منقبضتها؟
لم أحزن لخلوّ المعرض. بل سعدت لأنه كان لي وحدي. شعرت أنني أمتلك كلّتلك اللوحات لبعض الوقت, في انتظار أن أخسرها جميعها. وحدهم الأثرياء يرفضون أن تتمعملية امتلاكهم للوحة بعيون القلب.
كنت سعيداً, لأنني كنت هناك لأفعل الشيءالوحيد الذي تمنيته ولم يحدث, أن أتجوَّل في هذا المعرض مع زيان.
ذلك أنه حتماًسيحضر, فلا يمكن أن يخلف موعداً مع لوحاتٍ تتشوق لإنزالها من أزاميل الصلب والعودةإلى كنف رسامها.
الجميع مشغول عنه. وهو يملك أخيراً كل الوقت. ويمكننا أن نتوقّفلنتحدَّث طويلاً أمام كل لوحة, لولا أنني أنا الذي لا وقت لي, ولا أدري بماذا أبررله انشغالي, وضرورة أن أتركه بعد حين قبل أن تغلق الخطوط الجزائريةمكاتبها.
سيلعن هذه الخطوط ويسألني " ماذا أنت ذاهب لتفعل في ذلك البلد.. أثمةمهبول يذهب لقضاء رأس السنة هناك؟".
ولن أجد ما أجيبه به. ثم عندما لن يستطيعاستبقائي أكثر, سيودعني كعادته قائلاً " سنواصل الحديث غداً", مضيفاً بعد شيء منالصمت " إن كان لديك وقت".
كانت هذه طريقته في الترفع عن استجداء زيارة.
لكنأزفت ساعة الرحيل يا صديقي. لقد انتهى وقت الزيارة الكبرى. لم يبق من الوقتِ حتى مايغطي تلك الزيارات المبرمجة للمشافي. مات الوقت يا عزيزي. أنت الآن في " الوقتالمجمد".
أكان يعرف ذلك؟
كان في رسمه الأخير زاهداً في الحياة, كأنه يرسمأشياء تخلَّى عنها أو تخلَّت عنه.
جثث أشياء ما عادت له, ولكنه ظلّ يعاملهابمودة العشرة, بضربات لونيّة خفيفة كأنه يخاف عليها من فرشاته, هي التي ما خافتعليه من خنجرها.
كان يرسم فاجعة الأشياء, أو بالأحرى خيانتها الصامته أمامالفاجعة. ككل هذه الأبواب التي تشغل عدداً من لوحاته.
أبواب عتيقة لوَّنها الزمنمذ لم نعد نفتحها. أبواب موصدة في وجوهنا, وأخرى مواربة تتربص بنا. أبواب آمنة تنامقطة ذات قيلولة على عتبتها, وأخرى من قماش تفصل بين بيتين تشي بنا أثناء ادّعائهاسترنا.
أبواب تنتظر خلفها وقع خطًى, أو يدٍ تهمّ بطرقها, وأخرى ضيقة نهرب إليهاوإذ بها تفضي إلينا, ونحتمي بها, فتحرّض العدوان علينا. وأخرى مخلوعة تسلّمنا إلىقتلتنا.نغادرها على عجل مرعوبين, أو نموت غدراً على عتباتها مخلّفين فردة حذاء. أوَليست فردة الحذاء, في وحدتها, رمزاً للموت؟
█║S│█│Y║▌║R│║█
عندما رأيت كل هذه اللوحاتلأول مرة. سألت فرانسواز عن سرّ هذه الحوارات المطوّلة التي يبدو أن زيان أقامها معالأبواب. قالت" عندما يدخل رسام في مرحلة لا يرسم فيها فترة سوى الموضوع نفسه, يعنيأن ثمة حدثاً أو وجعاً ارتبط بذلك الموضوع".
لم أسألها أيّ وجع وراءها ولا أظنهاكانت تعرف ذلك, فيوم احتدم النقاش بيني وبين مراد حول لوحات الأبواب التي لم يكنيرى فيها مراد سوى أفخاذ نساء مشرّعة حيناً, مواربة أحياناً أخرى, بدت لانبهارهابنظريته كأنها تشاركه الرأي صمتاً.
الآن فقط.. وأنا وحدي أتنقل بينها متمعناً فيتفاصيلها الصغيرة, أخالني وقعت على فاجعة الجواب من خلال حديث بعيد مع فرانسواز, يوم أخبرتني بمرض زيان عندما قالت " إن اغتيال ابن أخيه دمّره حتى أظنه السبب فيالسرطان الذي أصابه. السرطان ليس سوى الدموع المحتبسة للجسد.. معروف أنه يأتيدائماً بعد فاجعة"
بقيت أتحين الفرصة لأسأل زيان عن تفاصيل موت ابن أخيهلاعتقادي أن تفاصيل تلك الميتة دمّرته أكثر من الموت نفسه.
كنا نتحدث مرة عنالتشكيلة العجيبة لموت الجزائريّ عندما قال زيان بتهكم أسود:
- أصبح ضرورياًاصدار كاتولوغ للموت العربيّ, يختار فيه الواحد في قائمة الميتات المعروضة طريقةموته.مستفيداً من جهد أمة تفوقت في تطوير ثقافة الموت. فقد تختار بدل أن تموت ميتةكرديّة مرشوشاً كالحشرة بالمبيدات الكيماوية, أن يكون لك شرف الموت بالمسدس الذهبيلآله الموت نفسه أو أحد أبنائه. وقد تفضّل بدل أن تسلَّم حياً لتنهشك الكلابالجائعة, وتدور بأحشائك في ساحة سجنٍ كما حدث في سجون مغاربية, أن تحفر بنفسك قبركوتتمدد فيه بملء إرادتك, فيذبحك الإرهابيون وأنت مستلقٍ في وضعك النهائيالمفضّل.
إمكانك أيضاً أن لا تموت دفعة واحدة. ثمة أنظمة عربية تقدّم تسهيلات فيالموت, فتلقمك إياه ابتداءاً من قلع الأظافر وحرق الأصابع بالأسيد, إن كنت صحافياً, وانتهاءً بسمل العيون وبقر البطون حسب مزاج سفاحك.
كان يتحدث بمرارة الاستخفاف. جمعت شجاعتي وقلت:
- آسف, سمعت باغتيال ابن أخيك.. كيف حدث ذلك؟
قال وقدباغته السؤال:
- سليم؟
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
- مات أكثر من مرة.. آخرها كانت بالرصاص.
كان واضحاً أنني وضعت يدي على وجع طازج. لم أضف شيئاً, تركتله حرية أن يصمت أو أن يواصل.
وكإناء يطفح حزناً تدفق:
- من بين كل الميتاتالتي عايشتها في هذا العمر كانت ميتة سليم هي الأكثر ألماً. حتى موت أبيه وهو أخيالوحيد ما كان لها هذا الوقع على نفسي. شابّ وجد نفسه يتيماً عندما قتل رجال الأمنأباه في مظاهرات 88 فراح يدرس ليلاً نهاراً ليستطيع بسرعة إعالة أمه وأخويه, حتىإنه لتفوقه استطاع دخول المدرسة العليا لتكوين الكوادر. كان شاباً مولعاً بالعلم, فأرسلته الدولة لفرنسا لمدة ستة أشهر للدراسة, كي يتمكن من إدخال نظام المعلوماتيةإلى أجهزة الجمارك في قسنطينة.
عندما استلم وظيفة كان الإرهابيون قد بدأوا فيقتل موظّفي الدولة, وبعدما استشعر بالخطر إثر اغتيال زميلين له, بدأ إلحاحهبالمطالبة بسكن أمنيّ, فأعطوه بيتاً منفياً على مشارف جبل الوحش. لم يكن مرتاحاًإليه, تصور مسكناً أمنياً دون هاتف.. بمحاذاة غابة! أصبح كل هم سليم توفير مبلغ منمعاشه لتصفيح الباب, فقد كان المبلغ بالنسبة إليه ثروة صغيرة, وكان باستطاعته لوشاء الحصول على أضعافه لو أنه طالب بعمولة على عشرات المعدات التي كلّف بشرائها منفرنسا. لكنه كان نزيهاً بالوراثة, مترفعاً وقنوعاً وكان يحب الجزائر. ولذا في زمنالنهب المؤدلج وشرعة اللصوصية كان يقتطع مبلغاً من مرتبه كي يتمكن في لهاث الكدحاليومي, أن يظفر بباب يحميه من القتلة.
لكنهم جاؤوه عندما اعتقد أنه ظفربالأمان. كانت الساعة الحادية عشرة ليلاً عندما حطّت كتيبة الموت خلف بابه المصفح, تماماً بعد بدء منع التجول بقليل. مطمئنين إلى أن لا أحد سيأتي بعد الآن لنجدته, ومستفيدين من حالة البلبلة السائدة, إذ لا أحد يدري في هذه الحالات إن كان رجالالأمن هم الذين يحاولون دخول بيتٍ تحصّن فيه الإرهابيون, أو الأرهابيون هم الذينيهاجمون بيتاً لأحد ضحاياهم.
كما في فيلم أمريكي للرعب يقف فيه الضحية أعزل خلفباب تحكمه من الطرف الآخر وحوش بشرية,جاؤوا بعدة الموت وكل الآليات المتطورة لفتحالأبواب صارخين به أن يفتح, فلا يفعل مطمئناً إلى بابه المصفّح.
لم يكن الموت فيصحبتهم. كانوا هم الموت. أربع ساعات ونصف والموت خلف الباب يتحداه على إيقاع الفؤوسوزمجرة المعاول بالشتائم والمسبات أن يفتح " حلّ يا قوّاد.. يا رخيص.. جيناك ياكافر.. يا عدو الله".
فيرد القلب خلف الباب بالدعوات عسى يحميه رب الأبواب. لميشفع له نحيب زوجته ولا عويل صغيره ولا جاء أحد لنجدته من الجيران. لا سمع البوليسولا سمع الله برغم الأصوات المدوّية للآلات التي كانوا يفتحون بها الباب. وبعد أنمات سليم أكثر من مرة, بدأ يستعد لموته الأخير. فكلما تقدم الوقت وازداد الموتاقتراباُ منه, ازداد القتلة عصبية وازداد وعيدهم بالتنكيل به.
هو الذي كل ما فيهكان يرتجف. الخائف من كل شيء وعلى كلّ شيء, من أين تأتيه شجاعة الضعف ليفتح البابويرتاح؟ من أين تأتيه الحكمة لحظة خوف, ليعرف كيف عليه أن يتصرف؟ ماذا ينقذ قبل أنيفتح الموت عليه الباب؟
ما استطاع أن يحمل ابنه ذا السنوات الثلاث بين ذراعيهالمرتجفتن. فجلس منهاراً على كرسيّ, بينما كان ابنه متمسكاً برجله, كان يوصي امرأتهكل مرة بشيء يتذكره. مرةً أن تقبّل أمه عنه وأن تطلب منها أن تسامحه وأن تدعو لهبالرحمة. ومرة أن تسلّم عليّ وأن توصيني بعد الآن بابنه. ومرة أن تعتذر لزميل لهاستدان منه مالاً, طالباً منها سداده إن هي حصلت على " دية" من الجمارك.
وهنارأيت زيان يدمع لأول مرّة:
- تصور.. رجلاً على حاجته يوصي امرأته في ظرف كذاكبردّ دينه بعد موته, بينما سادة لهم مدخول من الجثث ينهبون وطناً والناسيموتون.
- وكيف قُتل سليم؟
- على الثالثة والنصف فجراً نجح الموت في خلعالباب, كان منهاراً على ركبتيه. راح يتضرع لهم حتى لا يقتلوه أمام صغيره. سحبوهخارج البيت وأطلقوا عليهوابلاً من الرصاص, مرضاة لصبر الموت الذي أهين أمام ذلكالباب المحكم لأربع ساعات ونصف.
كان جسده مخرماً. أصبحت معركتنا في الأياماللاحقة مع الإسمنت الذي تشبّث بدمائه.
أتساءل الآن , إن كان مفتاح شيفرةهذه اللوحات يوجد في قصة رجل وضع كل مدّخراته في تصفيح باب ليردّ عنه الموت, وإذ بهلم يشتر بذلك الباب سوى تمديد لعذاب موته. ألم يكن زيان يريد فقط أن يوحي أن وراءكل باب موت متربّص.
ما كان في القلب متسع لمزيد من الألم, ولا كان لديّ الوقتلأفتح حواراً مع كل لوحة على حدة. ذهبت مباشرة نحوها هي. شعرت أنني أذهب إلى موعدمع امرأة أصبحت متزوجة من غيري. كما عندما كنت أذهب إلى مواعيد حياة. فهل تنتمياللوحات أيضاً إلى مؤسسة الخاتم والإصبع؟ هل هي ملك من يمتلكها.. أم من يراها؟ ملكمن يحبها؟ أم من يملك المال فيشتريها؟ وماذا لو كانت لمن خسرها, لأنه وحده منيشتهيها!
█║S│█│Y║▌║R│║█
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)