وسلك آخرون في رد الحديث مسلكا آخر
فقالوا: هو حديث مضطرب لا يصح ولذلك أعرض عنه البخاري وترجم في صحيحه على خلافه فقال باب فيمن جوز الطلاق الثلاث في كلمة لقوله تعالى الطلاق مرتان
ثم ذكر حديث اللعان وفيه فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ولم يغير عليه النبي وهو لا يقر على باطل
قالوا: ووجه اضطرابه: أنه تارة يروى عن طاوس عن ابن عباس وتارة عن طاوس عن أبي الصهباء عن ابن عباس وتارة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فهذا اضطرابه من جهة السند
وأما المتن: فإن أبا الصهباء تارة يقول: ألم تعلم أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة وتارة يقول: ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر واحدة فهذا يخالف اللفظ الآخر
وهذا المسلك من أضعف المسالك ورد الحديث به ضرب من التعنت ولا يعرف أحد من الحفاظ قدح في هذا الحديث ولا ضعفه والإمام أحمد لما قيل له: بأي شيء ترده قال: برواية الناس عن ابن عباس خلافه ولم يرده بتضعيف ولا قدح في صحته وكيف يتهيأ القدح في صحته ورواته كلهم أئمة حفاظ حدث به عبد الرزاق وغيره عن ابن جريج بصيغة الإخبار وحدث به كذلك ابن جريج عن ابن طاوس وحدث به ابن طاوس عن أبيه وهذا إسناد لا مطعن فيه لطاعن وطاوس من أخص أصحاب ابن عباس ومذهبه: أن الثلاث واحدة وقد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس فلم ينفرد به عبد الرزاق ولا ابن جريج ولا عبد الله بن طاوس فالحديث من أصح الأحاديث وترك رواية البخاري له لا يوهنه وله حكم أمثاله من الأحاديث الصحيحة التي تركها البخاري لئلا يطول كتابه فإنه سماه: الجامع المختصر الصحيح ومثل هذا العذر لا يقبله من له حظ من العلم
وأما رواية من رواه عن أبي الجوزاء فإن كانت محفوظة فهي مما يزيد الحديث قوة وإن لم تكن محفوظة وهو الظاهر فهي وهم في الكنية انتقل فيها عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكة من أبي الصهباء إلى أبي الجوزاء فإنه كان سيء الحفظ والحفاظ قالوا: أبو الصهباء وهذا لا يوهن الحديث
وهذه الطريق عند الحاكم في المستدرك
وأما رواية من رواه مقيدا قبل الدخول فإنه تقدم أنها لا تناقض رواية الآخرين على أنها عند أبي داود عن أيوب عن غير واحد ورواية الإطلاق عن معمر عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه فإن تعارضا فهذه الرواية أولى وإن لم يتعارضا فالأمر واضح
وحديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صريح في كون الثلاث واحدة في حق المدخول بها
وعامة ما يقدر في حديث أبي الصهباء: أن قوله قبل الدخول زيادة من ثقة فيكون الأخذ بها أولى
وحينئذ فيدل أحد حديثى ابن عباس على أن هذا الحكم ثابت في حق البكر وحديثه الآخر على أنه ثابت في حكم الثيب أيضا فأحد الحديثين يقوى الآخر ويشهد بصحته وبالله التوفيق
وقد رده آخرون بمسلك أضعف من هذا كله، فقالوا: هذا حديث لم يروه عن رسول الله إلا ابن عباس وحده ولاعن ابن عباس إلا طاوس وحده قالوا: فأين أكابر الصحابة وحفاظهم عن رواية مثل هذا الأمر العظيم الذي الحاجة إليه شديدة جدا فكيف خفي هذا على جميع الصحابة وعرفه ابن عباس وحده وخفي على أصحاب ابن عباس كلهم وعلمه طاوس وحده
وهذا أفسد من جميع ما تقدم ولا ترد أحاديث الصحابة وأحاديث الأئمة الثقات بمثل هذا فكم من حديث تفرد به واحد من الصحابة لم يروه غيره وقبلته الأمة كلهم فلم يرده أحد منهم وكم من حديث تفرد به من هو دون طاوس بكثير ولم يرده أحد من الأئمة ولا نعلم أحدا من أهل العلم قديما ولا حديثا قال: إن الحديث إذا لم يروه إلا صحابي واحد لم يقبل وإنما يحكي عن أهل البدع ومن تبعهم في ذلك أقوال لا يعرف لها قائل من الفقهاء
قد تفرد الزهري بنحو ستين سنة لم يروها غيره وعملت بها الأمة ولم يردوها بتفرده
هذا مع أن عكرمة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث ركانة وهو موافق لحديث طاوس عنه فإن قدح في عكرمة أبطل وتناقض فإن الناس احتجوا بعكرمة وصحح أئمة الحفاظ حديثه ولم يلتفتوا إلى قدح من قدح فيه
فإن قيل: فهذا هو الحديث الشاذ وأقل أحواله أن يتوقف فيه ولا يجزم بصحته عن رسول الله
قيل: ليس هذا هو الشاذ وإنما الشذوذ: أن يخالف الثقات فيما رووه فيشذ عنهم بروايته فأما إذا روى الثقة حديثا منفردا به لم يرو الثقات خلافه فإن ذلك لا يسمى شاذا وإن اصطلح على تسميته شاذا بهذا المعنى لم يكن هذا الاصطلاح موجبا لرده ولا مسوغا له
قال الشافعي رحمه الله: وليس الشاذ أن ينفرد الثقة برواية الحديث بل الشاذ أن يروي خلاف ما رواه الثقات قاله في مناظرته لبعض من رد الحديث بتفرد الراوي به
ثم إن هذا القول لا يمكن احدا من أهل العلم ولا من الأئمة ولا من أتباعهم طرده ولو طردوه لبطل كثير من أقوالهم وفتاويهم
والعجب أن الرادين لهذا الحديث بمثل هذا الكلام قد بنوا كثيرا من مذاهبهم على أحاديث ضعيفة انفرد بها رواتها لا تعرف عن سواهم وذلك أشهر وأكثر من أن يعد
ولما رأى بعضهم ضعف هذه المسالك وأنها لا تجدي شيئا استروح إلى تأويله فقال: معنى الحديث: أن الناس كانوا يطلقون على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر واحدة ولا يوقعون الثلاث فلما كان في أثناء خلافة عمر رضي الله عنه أوقعوا الثلاث وأكثروا من ذلك فأمضاه عليهم عمر رضي الله عنه كما أوقعوه فقوله: كانت الثلاث على عهد رسول الله واحدة أي في حق التطليق وإيقاع المطلقين لا في حكم الشرع
قال هذا القائل: وهذا من أقوى ما يجاب به وبه يزول كل إشكال
ولعمر الله لو سكت هذا كان خيرا له وأستر فإن هذا المسلك من أضعف ما قيل في الحديث وسياقه يبيعن بطلانه بيانا ظاهرا لا إشكال فيه وكأن قائله أحب الترويج على قوم ضعفاء العلم مخلدين إلى حضيض التقليد فروج عليهم مثل هذا وهذا القائل كأنه لم يتأمل ألفاظ الحديث ولم يعن بطرقه فقد ذكرنا من بعض ألفاظه قول أبي الصهباء لابن عباس: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله وأبي بكر رضي الله عنه وصدرا من إمارة عمر رضي الله عنه فأقر ابن عباس بذلك وقال نعم
وأيضا فقول هذا المتأول: إنهم كانوا يطلقون على عهد رسول الله واحدة فقد نقضه هو بعينه وأبطله حيث احتج على وقوع الثلاث بحديث الملاعن وحديث محمود بن لبيد أن رجلا طلق امرأته على عهد رسول الله ص ثلاثا فغضب النبي ص وقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ثم زاد هذا القائل في الحديث زيادة من عنده فقال وأمضاه عليه ولم يرده
وهذه اللفظة موضوعة لا تروى في شيء من طرق هذا الحديث ألبتة وليست في شيء من كتب الحديث وإنما هي من كيس هذا القائل حمله عليها فرط التقليد ومحمود بن لبيد لم يذكر ما جرى بعد ذلك من إمضاء أو رد إلى واحدة
والمقصود: أن هذا القائل تناقض وتأول الحديث تأويلا يعلم بطلانه من سياقه ومن بعض ألفاظه أن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر يرد إلى الواحدة وهذا موافق للفظ الآخر كان إذا طلق امرأته ثلاثا جعلوها واحدة وجميع ألفاظه متفقة على هذا المعنى يفسر بعضها بعضا، فجعل هذا وأمثاله المحكم متشابها والواضح مشكلا
كيف يصنع بقوله فلو أمضيناه عليهم فإن هذا يدل على أنه رأي من عمر رضي الله عنه رأى أن يمضيه عليهم لتتايعهم فيه وسدهم على أنفسهم ما وسعه الله عليهم وجمعهم ما فرقه وتطليقهم على غير الوجه الذي شرعه وتعديهم حدوده ومن كمال علمه رضي الله عنه: أنه علم أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل المخرج إلا لمن اتقاه وراعى حدوده وهؤلاء لم يتقوه في الطلاق ولا راعوا حدوده فلا يستحقون المخرج الذي ضمنه لمن اتقاه
ولو كان الثلاث تقع ثلاثا على عهد رسول الله ص وهو دينه الذي بعثه الله تعالى به لم يضف عمر رضي الله عنه إمضاءه إلى نفسه ولا كان يصح هذا القول منه وهو بمنزلة أن يقول في الزنى وقتل النفس وقذف المحصنات: لو حرمناه عليهم فحرمه عليهم وبمنزلة أن يقول في وجوب الظهر والعصر ووجوب صوم شهر رمضان والغسل من الجنابة: لو فرضناه عليهم ففرضه عليهم
فدعوى هذه التأويلات المستكرهة التي كلما نظر فيها طالب العلم ازداد بصيرة في المسألة وقوي جانبها عنده فإنه يرى أن الحديث لا يرد بمثل هذه الأشياء
قد سلك أبو عبد الرحمن النسائي في سننه في الحديث مسلكا آخر وقوي جانبها عنده فقال: باب طلاق الثلاث المتفرقة قبل الدخول بالزوجة ثم ساقه فقال: حدثنا أبو داود حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: يا ابن عباس ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله ص وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى الواحدة قال: نعم وأنت إذا طابقت بين هذه الترجمة وبين لفظ الحديث وجدتها لا يدل عليها ولا يشعر بها بوجه من الوجوه بل الترجمة لون والحديث لون آخر وكأنه لما أشكل عليه لفظ الحديث حمله على ما إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق أنت طالق طلقت واحدة ومعلوم أن هذا الحكم لم يزل ولا يزال كذلك ولا يتقيد ذلك بزمان رسول الله ص وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر رضي الله عنه ثم يتغير في خلافة عمر رضي الله عنه ويمضي الثلاث بعد ذلك على المطلق فالحديث لا يندفع بمثل هذا ألبتة
وسلك آخرون في الحديث مسلكا آخر وقالوا: هذا الحديث يخالف أصول الشرع فلا يلتفت إليه
قالوا: لأن الله سبحانه ملك الزوج ثلاث تطليقات وجعل إيقاعها إليه فإن قلنا بقول الشافعي ومن وافقه أن جمع الثلاث جائز فقد فعل ما أبيح له فيصح وإن قلنا: جمع الثلاث حرام وهو طلاق بدعي فالشارع إنما ملكه تفريق الثلاث فسحة له فإذا جمعها فقد جمع ما فسح له في تفريقه فلزمه حكمه كما لو فرقه
قالوا: وهذا كما أنه يملك تفريق المطلقات وجمعهن فكذلك يملك تفريق الطلاق وجمعه فهذا قياس الأصول فلا نبطله بخبر الواحد
قال الآخرون: هذا القياس لا يصلح أن يثبت به هذا الحكم لو لم يعارض بنص فضلا عن أن يقدم على النص وهو قياس مخالف لأصول الشرع ولغة العرب وسنة رسول الله ص وعمل الصحابة في عهد الصديق
فأما مخالفته لأصول الشرع فإن الله سبحانه إنما ملك المطلق بعد الدخول طلاقا بملك فيه الرجعة ويكون مخيرا فيه بين الإمساك بالمعروف وبين التسريح بالإحسان ما لم يكن بعوض أو يستوفي فيه العدد والقرآن قد بين ذلك كله فبين أن الطلاق قبل الدخول تبين به المرأة ولا عدة عليها وبين أن المفتدية تملك نفسها ولا رجعة لزوجها عليها وبين أن المطلقة الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها تبين منه وتحرم عليه فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره وبين أن ما عدا ذلك من الطلاق فللزوج فيه الرجعة وهو مخير بين الإمسك بالمعروف والتسريح بإحسان
وهذا كتاب الله تعالى قد تضمن هذه الأنواع الأربعة وأحكامها وجعل سبحانه وتعالى أحكامها من لوازمها التي لا تنفك عنها فلا يجوز ان تتغير أحكامها البتة فكما لا يجور في الطلاق قبل الدخول أن تثبت فيه الرجعة وتجب به العدة ولا في الطلقة المسبوقة بطلقتين أن يثبت فيها الرجعة وأن تباح بغير زوج وإصابة ولا في طلاق الفدية أن تثبت فيه الرجعة فكذلك لا يجوز في النوع الآخر من الطلاق ان يتغير حكمه فيقع على وجه لا تثبت فيه الرجعة فإنه مخالف لحكم الله تعالى الذي حكم به فيه وهذا صفة لازمة له فلا يكون على خلافها البتة
ومن تأمل القرآن وجده لا يحتمل غير ذلك فما شرع الله سبحانه الطلاق إلا وشرع فيه الرجعة إلا الطلاق قبل الدخول وطلاق الخلع والطلقة الثالثة فبيننا وبينكم كتاب الله فإن كان فيه شيء غير هذا فأوجدونا إياه
ومما يوضح ذلك: أن جمهور الفقهاء من الطوائف الثلاثة احتجوا على الشافعي في تجويزه جمع الثلاث بالقرآن وقالوا: ما شرع الله سبحانه جمع الطلاق الثلاث وما شرع الطلاق بعد الدخول بغير عوض إلا شرع فيه الرجعة ما لم يستوف العدد
واحتجوا عليه بقوله تعالى الطلاق مرتان. قالوا: ولا يعقل في لغة من لغات الأمم المرتان إلا مرة بعد مرة فعارضهم بعض أصحابه بقوله تعالى ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب: 31 ] وقوله ص ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين
فأجابهم الآخرون: بأن المرتين والمرات يراد بها الأفعال تارة والأعيان تارة وأكثر ما تستعمل في الأفعال وأما الأعيان فكقوله في الحديث: انشق القمر على عهد رسول الله مرتين أي شقتين وفلقتين ولما خفي هذا على من لم يحط به علما زعم أن الانشقاق وقع مرة بعد مرة في زمانين وهذا مما يعلم أهل الحديث ومن له خبرة بأحوال الرسول وسيرته أنه غلط وأنه لم يقع الانشقاق إلا مرة واحدة ولكن هذا وأمثاله فهموا من قوله مرتين المرة الزمانية
اذا عرف هذا فقوله نؤتها أجرها مرتين [ الأحزاب: 31 ] وقوله يؤتون أجرهم مرتين [ القصص: 54 ] أي ضعفين فيؤتون أجرهم مضاعفا وهذا يمكن اجتماع المرتين منه في زمان واحد وأما المرتان من الفعل فمحال اجتماعهما في زمن واحد فإنهما مثلان واجتماع المثلين محال وهو نظير اجتماع حرفين في آن واحد من متكلم واحد وهذا مستحيل قطعا فيستحيل أن يكون مرتا الطلاق في إيقاع واحد
ولهذا جعل مالك وجمهور العلماء من رمى الجمار بسبع حصيات جملة أنه غير مؤدي للواجب عليه وإنما يحتسب له رمي حصاة واحدة فهي رمية لا سبع رميات
واتفقوا كلهم على أنه لو قال في اللعان: أشهد بالله أربع شهادات أني صادق كانت شهادة واحدة وفي الحديث الصحيح: من قال في يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة هذا اللفظ لم يستحق الثواب المذكور وكانت تسبيحة واحدة
وكذلك قوله تسبحون الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمدون ثلاثا وثلاثين وتكبرون أربعا وثلاثين لو قال: سبحان الله ثلاثا وثلاثين لم يكن مسبحا هذا العدد حتى يأتي به واحدة بعد واحدة
ونظائر ذلك في الكتاب والسنة اكثر من أن تذكر
قالوا: فقوله تعالى الطلاق مرتان إما أن يكون خبرا في معنى الأمر أي إذا طلقتم فطلقوا مرتين وإما أن يكون خبرا عن حكمه الشرعي الديني أي الطلاق الذي شرعته لكم وشرعت فيه الرجعة مرتان
وعلى التقديرين إنما يكون ذلك مرة بعد مرة فلا يكون موقعا للطلاق الذي شرع إلا إذا طلق مرة بعد مرة ولا يكون موقعا للمشروع بقوله أنت طالق ثلاثا ولا مرتين
قالوا ويوضح ذلك أنه حصر الطلاق المشروع في مرتين فلو شرع جمع الطلاق في دفعة واحدة لم يكن الحصر صحيحا ولم يكن الطلاق كله مرتان بل كان منه مرتان ومنه مرة واحدة تجمعه وهذا خلاف ظاهر القرآن وأنه لا طلاق للمدخول بها إلا مرتان وتبقى الثالثة المحرمة بعد ذلك
قالوا ويدل عليه أن الطلاق اسم محلي باللام وليست للعهد بل للعموم فالمراد بالآية كل الطلاق مرتان والمرة الثالثة التي تحرمها عليه وتسقط رجعته وهذا صريح في أن الطلاق المشروع هو المتفرق لأن المرات لا تكون إلا متفرقة كما تقدم
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2: 229 فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا الطلقة المسبوقة بطلقتين قبلها فإنه لا يبقى بعدها إمساك
قالوا ويدل عليه قوله تعالى 2: 230 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف وإذا من أدوات العموم كأنه قال أي طلاق وقع منكم في أي وقت فحكمه هذا إلا أنه أخرج من هذا العموم الطلقة المسبوقة باثنتين فبقي ما عداها داخلا في لفظ الآية نصا أو ظاهرا
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 2: 231 وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن فهذا عام في كل طلاق غير الثالثة المسبوقة باثنتين فالقرآن يقتضي أن ترجع إلى زوجها إذا أراد في كل طلاق ما عدا الثالثة
قالوا ويدل عليه أيضا قوله تعالى 65: 1 يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ووجه الاستدلال بالآية من وجوه
أحدها أنه سبحانه وتعالى إنما شرع أن تطلق لعدتها أي لاستقبال عدتها فتطلق طلاقا يعقبه شروعها في العدة ولهذا أمر رسول الله عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حيضها أن يراجعها وتلا هذه الآية تفسير للمراد بها وأن المراد بها الطلاق في قبل العدة وكذلك كان يقرؤها عبد الله بن عمر ولهذا قال كل من قال بتحريم جمع الثلاث إنه لا يجوز له أن يردف الطلقة بأخرى في ذلك الطهر لأنه غير مطلق للعدة فإن العدة قد استقبلت من حين الطلقة الأولى فلا تكون الثانية للعدة
ثم قال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه ومن وافقه إذا أراد أن يطلقها ثانية طلقها بعد عقد أو رجعة لأن العدة تنقطع بذلك فإذا طلقها بعد ذلك أخرى طلقها للعدة
وقال في رواية أخرى عنه له أن يطلقها الثانية في الطهر الثاني ويطلقها الثالثة في الطهر وهو قول أبي حنيفة فيكون مطلقا للعدة أيضا لأنها تبتني على ما مضى والصحيح هو الأول وأنه ليس له أن يردف الطلاق قبل الرجعة والعقد لأن الطلاق الثاني لم يكن لاستقبال العدة بل هو طلاق لغير العدة فلا يكون مأذونا فيه فإن العدة إنما تحسب من الطلقة الأولى لأنها طلاق العدة بخلاف الثانية والثالثة
ومن جعله مشروعا قال هو الطلاق لتمام العدة والطلاق لتمامها كالطلاق لاستقبالها وكلاهما طلاق للعدة
وأصحاب القول الأول يقولون المراد بالطلاق للعدة الطلاق لاستقبالها كما في القراءة الأخرى التي تفسر القراءة المشهورة فطلقوهن في قبل عدتهن
قالوا فإذا لم يشرع إرداف الطلاق للطلاق قبل الرجعة أو العقد فأن لا يشرع جمعه معه أولى وأحرى فإن إرداف الطلاق أسهل من جمعه ولهذا يسوغ الإرداف في الأطهار من لا يجوز الجمع في الطهر الواحد
وقد احتج عبد الله بن عباس على تحريم جمع الثلاث بهذه الآية
قال مجاهد كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال إنه طلق امرأته ثلاثا فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه ثم قال ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول يا ابن عباس
وإن الله تعالى قال ومن يتق الله يجعل له مخرجا فما أجد لك مخرجا عصيت ربك وبانت منك امرأتك وإن الله تعالى قال يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وهذا حديث صحيح
ففهم ابن عباس من الآية أن جمع الثلاث محرم وهذا فهم من دعا له النبي أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل وهو من أحسن الفهوم كما تقرر
الوجه الثاني من الاستدلال بالآية قوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن وهذا إنما هو الطلاق الرجعي فأما البائن فلا سكنى لها ولا نفقة لسنة رسول الله الصحيحة التي لا مطعن في صحتها الصريحة التي لا شبهة في دلالتها فدل على أن هذا حكم كل طلاق شرعه الله تعالى ما لم يسبقه طلقتان قبله ولهذا قال الجمهور إنه لا يشرع له ولا يملك إبانتها بطلقة واحدة بدون العوض
وأبو حنيفة قال لا يملك ذلك لأن الرجعة حقه وقد أسقطها
والجمهور يقولون ثبوت الرجعة وإن كان حقا له فلها عليه حقوق الزوجية فلا يملك إسقاطها إلا بمخالعة أو باستيفاء العدد كما دل عليه القرآن
الوجه الثالث أنه قال 65: 1 وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة فقد تعدى حدود الله فيكون ظالما
الوجه الرابع أنه سبحانه قال لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وقد فهم أعلم الأمة بالقرآن وهم الصحابة أن الأمر ههنا هو الرجعة قالوا وأي أمر يحدث بعد الثلاث
الوجه الخامس قوله تعالى 2: 230 فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فهذا حكم كل طلاق شرعه الله إلا أن يسبق بطلقتين قبله وقد احتج ابن عباس على تحريم جمع الثلاث بقوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن كما تقدم وهذا حق فإن الآية إذا دلت على منع إرداف الطلاق الطلاق في طهر أو أطهار قبل رجعة أو عقد كما تقدم لأنه يكون مطلقا في غير قبل العدة فلأن تدل على تحريم الجمع أولى وأحرى
قالوا والله سبحانه شرع الطلاق على أيسر الوجوه وأرفقها بالزوج والزوجة لئلا يتسارع العبد في وقوعه ومفارقة حبيبته وقد وقت للعدة أجلا لاستدراك الفارط بالرجعة فلم يبح له أن يطلق المرأة في حال حيضها لأنه وقت نفرته عنها وعدم قدرته على استمتاعه بها ولا عقيب جماعها لأنه قد قضى غرضه منها وربما فترت رغبته فيها وزهد في إمساكها لقضاء وطره فإذا طلقها في هاتين الحالتين ربما يندم بعد هذا مع ما في الطلاق في الحيض من تطويل العدة وعقيب الجماع من طلاق لعلها قد اشتمل رحمها على ولد منه فلا يريد فراقها فأما إذا حاضت ثم طهرت فنفسه تتوق إليها لطول عهده بجماعها فلا يقدم على طلاقها في هذه الحال إلا لحاجته إليه فلم يبح له الشارع أن يطلقها إلا في هذه الحال أو في حال استبانة حملها لأن إقدامه أيضا على طلاقها في هذه الحال دليل على حاجته إلى الطلاق
وقد أكد النبي هذا بمنعه لعبد الله بن عمر أن يطلق في الطهر الذي يلي الحيضة التي طلق فيها بل أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن بدا له أن يطلقها فليطلقها وفي ذلك عدة حكم:
منها أن الطهر المتصل بالحيضة هو وهي في حكم القرء الواحد فإذا طلقها في ذلك الطهر فكأنه طلقها في الحيضة لاتصاله بها وكونه معها كالشيء الواحد
الثانية أنه لو أذن له في طلاقها في ذلك الطهر فيصير كأنه راجع لأجل الطلاق وهذا ضد مقصود الرجعة فإن الله تعالى إنما شرع الرجعة للإمساك ولم شعث النكاح وعود الفراش فلا يكون لأجل الطلاق فيكون كأنه راجع ليطلق وإنما شرعت الرجعة ليمسك وبهذا بعينه أبطلنا نكاح المحلل فإن الله سبحانه وتعالى شرع النكاح للإمساك والمعاشرة والمحلل تزوج ليطلق فهو مضاد لله تعالى في شرعه ودينه
الثالثة أنه إذا صبر عليها حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض ثم تطهر زال ما في نفسه من الغضب الحامل له على الطلاق وربما صلحت الحال بينهما وأقلعت عما يدعوه إلى طلاقها فيكون تطويل هذه المدة رحمة به وبها وإذا كان الشارع ملتفتا إلى مثل هذه الرحمة والشفقة على الزوج وشرع الطلاق على هذا الوجه الذي هو أبعد شيء عن الندم فكيف يليق بشرعه أن يشرع إبانتها وتحريمها عليه بكلمة واحدة يجمع فيها ما شرعه متفرقا بحيث لا يكون له سبيل إليها وكيف يجتمع في حكمة الشارع وحكمه هذا وهذا
فهذه الوجوه ونحوها ما بين بها الجمهور أن جمع الثلاث غير مشروع هي بعينها تبين عدم الوقوع وأنه إنما يقع المشروع وحده وهي الواحدة
قالوا فتبين أنا بأصول الشرع وقواعده أسعد منكم وأن قياس الأصول وقواعد الشرع من جانبنا وقد تأيدت بالسنة الصحيحة التي ذكرناها
وقولكم إن المطلق ثلاثا قد جمع ما فسح له في تفريقه هو إلى أن يكون حجة عليكم أقرب فإنه إنما أذن له فيه وملكه متفرقا لا مجموعا فإذا جمع ما أمر بتفريقه فقد تعدى حدود الله وخالف ما شرعه ولهذا قال من قال من السلف رجل أخطأ السنة فيرد إليها فهذا أحسن من كلامكم وأبين وأقرب إلى الشرع والمصلحة
ثم هذا ينتقض عليكم بسائر ما ملكه الله تعالى العبد وأذن فيه متفرقا فأراد أن يجمعه كرمي الجمار الذي إنما شرع له مفرقا واللعان الذي شرع كذلك وأيمان القسامة التي شرعت كذلك ونظير قياسكم هذا أن له أن يؤخر الصلوات كلها ويصليها في وقت واحد لأنه جمع ما أمر بتفريقه على أن هذا قد فهمه كثير من العوام يؤخرون صلاة اليوم إلى الليل ويصلون الجميع في وقت واحد ويحتجون بمثل هذه الحجة بعينها ولو سكتم عن نصرة المسألة بمثل ذلك لكان أقوى لها
فصل
فاستروح بعضهم إلى مسلك آخر غير هذه المسالك لما تبين له فسادها
فقال هذا حديث واحد والأحاديث الكثيرة عن رسول الله ص دالة على خلافه وذكروا أحاديث
منها ما في الصحيحين عن فاطمة بنت قيس أن أبا حفص بن المغيرة طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فجاءت رسول الله ص فذكرت له ذلك فقال ليس لك عليه نفقة
وقد جاء تفسير هذه ألبتة في الحديث الآخر الصحيح أنه طلقها ثلاثا فلم يجعل لها النبي ص سكنى ولا نفقة فقد أجاز عليه الثلاث وأسقط بذلك نفقتها وسكناها
وفي المسند أن هذه الثلاث كانت جميعا فروى من حديث الشعبي أن فاطمة خاصمت أخا زوجها إلى النبي ص لما أخرجها من الدار ومنعها النفقة فقال مالك ولابنة قيس قال يا رسول الله إن أخي طلقها ثلاثا جميعا وذكر الحديث
ومنها ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل النبي أتحل للأول قال لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول
ووجه الدليل أنه لم يستفصل هل طلقها ثلاثا مجموعة أو متفرقة ولو اختلف الحال لوجب الاستفصال
ومنها ما اعتمد عليه الشافعي في قصة الملاعنة أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله ص فقال يا رسول الله رأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل فقال رسول الله ص قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فائت بها قال سهل فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله ص
فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله ص قال الزهري وكانت تلك سنة المتلاعنين متفق على صحته
قال الشافعي فقد أقره رسول الله ص على الطلاق ثلاثا ولو كان حراما لما أقره عليه
ومنها ما رواه النسائي عن محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله ص عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم حتى قام رجل فقال يا رسول الله ألا أقتله ولم يقل إنه لم يقع عليه إلا واحدة بل الظاهر أنه أجازها عليه إذ لو كانت ولم يقع عليه إلا واحدة لبين له ذلك لأنه إنما طلقها ثلاثا يعتقد لزومها فلو لم يلزمه لقال له هي زوجتك بعد وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز
ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجة عن ركانة أنه طلق امرأته ألبتة فأتى رسول الله ص فقال ما أردت قال واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة قال آلله ما أردت بها إلا واحدة ورواه الترمذي وفيه فقال يا رسول الله إني طلقت امرأتي ألبتة فقال ما أردت بها فقلت واحدة قال والله قلت والله قال فهو ما أردت قال أبو دواد وهذا أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وقال ابن ماجة سمعت أبا الحسن علي بن محمد الطنافسي يقول ما أشرف هذا الحديث قال أبو عبد الله بن ماجه: أبو عبيد تركه ناجية وأحمد جبن عنه
ووجه الدلالة: أنه حلفه ما أراد بها إلا واحدة وهذا يدل على أنه لو أراد بها أكثر من واحدة لألزمه ذلك ولو كانت واحدة مطلقا لم يفترق الحال بين أن يريد واحدة أو أكثر وإذا كان هذا في الكناية فكيف بالطلاق الصريح إذا صرح فيه بالثلاث
ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث حماد بن زيد: حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت معاذ بن جبل يقول: سمعت رسول الله ص يقول: يا معاذ من طلق للبدعة واحدة أو اثنتين أو ثلاثا ألزمناه بدعته ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث إبراهيم بن عبيدالله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال: طلق بعض آبائي امرأته ألبتة فانطلق بنوه إلى رسول الله ص فقالوا: يا رسول الله إن أبانا طلق امرأته ألفا فهل له من مخرج فقال: إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه: بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه
ومنها: ما رواه الدارقطني أيضا من حديث زاذان عن علي رضي الله عنه قال: سمع النبي ص رجلا طلق ألبتة فغضب وقال: أتتخذون آيات الله هزوا أو دين الله هزوا ولعبا من طلق ألبتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث الحسن البصري قال: حدثنا عبد الله بن عمر: أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرءين فبلغ ذلك رسول الله ص فقال: يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى إنك قد أخطأت السنة والسنة أن تستقبل الطهر فتطلق عند ذلك أو أمسك فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها قال: لا كانت تبين منك وتكون معصية
ومنها: ما رواه أبو داود والنسائي عن حماد بن زيد قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في أمرك بيدك إنها ثلاث غير الحسن قال: لا ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاث فلقيت كثيرا فسألته فلم يعرفه فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي رواه الترمذي وقال: لا نعرفه إلا من حديث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد وحسبك بسليمان بن حرب وحماد بن زيد ثقتين ثبتين
ومنها: ما رواه البيهقي من حديث سويد بن غفلة عن الحسن أنه طلق عائشة الخثعمية ثلاثا ثم قال: لولا أني سمعت جدي أو حدثني أبي أنه سمع جدي يقول: أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم يحل له حتى تنكح زوجا غيره: لراجعتها رواه من حديث محمد بن حميد: حدثنا سلمة بن الفضل عن عمر بن أبي قيس عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد وهذا مرفوع قالوا: فهذه الأحاديث أكثر وأشهر وعامتها أصح من حديث أبي الصهباء وحديث ابن جريج عن عكرمة عن ابن عباس فيجب تقديمها عليه ولا سيما على قاعدة الإمام أحمد فإنه يقدم الأحاديث المتعددة على الحديث الفرد عند التعارض وإن كان الحديث الفرد متأخرا كما قدم في إحدى الروايتين أحاديث تحريم الأوعية على حديث بريدة لكونها كثيرة متعددة وحديث بريدة في إباحتها فرد وهو متأخر فانه قال: كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم غير أن لا تشربوا مسكرا مع أنه حديث صحيح رواه مسلم ولا يعرف له علة
فصل
قال الآخرون: هذه الأحاديث التي ذكرتموها ولم تدعوا بعدها شيئا هي بين أحاديث صحيحة لا مطعن فيها ولا حجة فيها وبين أحاديث صريحة الدلالة ولكنها باطلة أو ضعيفة لا يصح شىء منها
ونحن نذكر ما فيها ليتبين الصواب ويزول الإشكال
أما حديث فاطمة بنت قيس: فمن أصح الأحاديث مع أن أكثر المنازعين لنا في هذه المسئلة قد خالفوه ولم يأخذوا به فأوجبوا للمبتوتة النفقة والسكنى ولم يلتفتوا إلى هذا الحديث ولا عملوا به وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه وأما الشافعي ومالك فأوجبوا لها السكنى والحديث قد صرح فيه بأنه لا نفقة لها ولا سكنى فخالفوه ولم يعملوا به فإن كان الحديث صحيحا فهو حجة عليكم وإن لم يكن محفوظا بل هو غلط كما قال بعض المتقدمين فليس حجة علينا في جمع الثلاث فأما أن يكون حجة على منازعيكم وليس حجة لهم عليكم فبعيد من الإنصاف والعدل هذا مع أنا نتنزل عن هذا المقام ونقول: الاحتجاج بهذا الحديث فيه نوع سهو من المحتج به ولو تأمل طرق الحديث وكيف وقعت القصة لم يحتج به فإن الثلاث المذكورة فيه لم تكن مجموعة وإنما كان قد طلقها تطليقتين من قبل ذلك ثم طلقها آخر الثلاث هكذا جاء مصرحا به في الصحيح فروى مسلم في صحيحه عن عبيدالله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فقالا لها: والله مالك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي ص فذكرت له قولهما فقال: لا نفقة لك وساق الحديث بطوله
فهذا المفسر يبين ذلك المجمل وهو قوله طلقها ثلاثا
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس: أنها أخبرته أنها كانت تحت أبي حفص بن المغيرة وأن أبا حفص بن المغيرة طلقها آخر ثلاث تطليقات وساق الحديث ذكره أبو داود ثم قال: وكذلك رواه صالح بن كسيان وابن جريج وشعيب بن أبي حمزة كلهم عن الزهري ثم ساق من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيدالله قال: أرسل مروان إلى فاطمة فسألها فأخبرته: أنها كانت عند أبي حفص بن المغيرة وكان النبي ص أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه على بعض اليمن فخرج معه زوجها فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها وذكر الحديث بتمامه والواسطة بين مروان وبينها هو قبيصة بن ذؤيب كذلك ذكره أبو داود في طريق أخرى
فهذا بيان حديث فاطمة بنت قيس قالوا: ونحن أخذنا به جميعه ولم نخالف شيئا منه إذ كان صحيحا صريحا لا مطعن فيه ولا معرض له فمن خالفه فهو محتاج إلى الاعتذار
وقد جاء هذا الحديث بخمسة ألفاظ طلقها ثلاثا وطلقها البتة وطلقها آخر ثلاث تطليقات وأرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها وطلقها ثلاثا جميعا
هذه جملة ألفاظ الحديث والله الموفق
فأما اللفظ الخامس وهو قوله طلقها ثلاثا جميعا فهذا أولا من حديث مجالد عن الشعبي ولم يقل ذلك عن الشعبي غيره مع كثرة من روى هذه القصة عن الشعبي فتفرد مجالد على ضعفه من بينهم بقوله ثلاثا جميعا وعلى تقدير صحته: فالمراد به: أنه أجتمع لها التطليقات الثلاث لا أنها وقعت بكلمة واحدة فإذا طلقها آخر ثلاث صح أن يقال: طلقها ثلاثا جميعا فإن هذه اللفظة يراد بها تأكيد العدد وهو الأغلب عليها لا الإجتماع في الآن الواحد لقوله تعالى: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ يونس: 99 ] فالمراد حصول إيمان من الجميع لا إيمانهم كلهم في آن واحد سابقهم ولاحقهم
فصل
وكذلك ما ذكروه من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فسئل النبي أتحل للأول فقال: لا الحديث هو حق يجب المصير إليه لكن ليس فيه أنه طلقها ثلاثا بفم واحد فلا تدخلوا فيه ما ليس فيه وقولكم: ولم يستفصل جوابه: أن الحال قد كان عندهم معلوما وأن الثلاث إنما
تكون ثلاثا واحدة بعد واحدة وهذا مقتضى اللغة والقرآن والشرع والعرف كما بينا فخرج على المفهوم المتعارف من لغة القوم
فصل
وأما ما اعتمد عليه الشافعي: من طلاق الملاعن ثلاثا بحضرة رسول الله ولم ينكره فلا دليل فيه لأن الملاعنة يحرم عليه إمساكها وقد حرمت تحريما مؤبدا فما زاد الطلاق الثلاث هذا التحريم الذي هو مقصود اللعان إلا تأكيدا وقوة وهذا جواب شيخنا رحمه الله وقال ابن المنذر وقد ذكر الأدلة على تحريم جمع الطلاق الثلاث وأنه بدعة ثم
قال: وأما ما اعتل به من رأى أن مطلق الثلاث في مرة واحدة مطلق للسنة بحديث العجلاني فإنما أوقع الطلاق عنده على أجنبيةعلم الزوج الذي طلق ذلك أو لم يعلم لأن قائله يوقع الفرقة بالتعان الرجل قبل أن تلتعن المرأة فغير جائز أن يحتج بمثل هذه الحجة من يرى أن الفرقة تقع بالتعاونى الزوج وحده انتهى
وحينئذ فنقول: إما أن تقع الفرقة بالتعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو بالتعانهما كما يقوله أحمد أو يقف على تفريق الحاكم فإن وقعت بالتعانه أو التعانهما فالطلاق الذي وقع منه لغو لم يفد شيئا البتة بل هو في طلاق أجنبية وإن وقفت الفرقة على تفريق الحاكم فهو يفرق بينهما تفريقا يحرمها عليه تحريما مؤبدا فالطلاق الثلاث أكد هذا التحريم الذي هو موجب اللعان ومقصود الشارع فكيف يلحق به طلاق الملاعنة وبينهما أعظم فرق
فصل
وأما حديث محمود بن لبيد في قصة المطلق ثلاثا فالاحتجاج به على الجواز من باب قلب الحقائق والاحتجاج بأعظم ما يدل على التحريم لا على الإباحة والاستدلال به على الوقوع من باب التكهن والخرص والزيادة في الحديث ما ليس فيه ولا يدل عليه بشيء من وجوه الدلالات ألبتة ولكن المقلد لا يبالي بنصرة تقليده بما اتفق له وكيف يظن برسول الله أنه أجاز عمل من استهزأ بكتاب الله وصححه واعتبره في شرعه وحكمه ونفذه وقد جعله مستهزئا بكتاب الله تعالى وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يشرع جمع الثلاث ولا جعله في أحكامه
فصل
وأما حديث ركانه أنه طلق امرأته البتة وأن رسول الله استحلفه ما أراد بها إلا واحدة فحديث لا يصح قال أبو الفرج بن الجوزي في كتاب العلل له: قال أحمد: حديث ركانه ليس بشيء وقال الخلال في كتاب العلل عن الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حديث ركانه في البتة فضعفه وقال: ذاك جعله بنيته
وقال شيخنا: الأئمة الكبار العارفون بعلل الحديث: كالإمام أحمد والبخاري وأبي عبيد وغيرهم ضعفوا حديث ركانه ألبتة وكذلك أبو محمد بن حزم وقالوا: إن رواته قوم مجاهيل لا تعرف عدالتهم وضبطهم قال: وقال الإمام أحمد: حديث ركانة أنه طلق امرأته ألبتة لا يثبت وقال أيضا: حديث ركانة في ألبتة ليس بشىء لأن ابن اسحق يرويه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة طلق امرأته ثلاثا وأهل المدينة يسمون من طلق ثلاثا: طلق البتة
فإن قيل: فقد قال أبو داود: حديث ألبتة أصح من حديث ابن جريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثا لأنهم أهل بيته وهم أعلم به يعني وهم الذين رووا حديث ألبتة
فقد قال شيخنا في الجواب: أبو اداود إنما رجح حديث البتة على حديث ابن جريج لأنه روى حديث ابن جريج من طريق فيها مجهول فقال: حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني بعض ولد أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة ثلاثا الحديث ولم يرو الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ابراهيم بن سعد: حدثني أبي عن محمد بن إسحق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثا في مجلس واحد فلهذا رجح أبو داود حديث ألبتة على حديث ابن جريج ولم يتعرض لهذا الحديث ولا رواه في سننه ولا ريب أنه أصح من الحديثين وحديث ابن جريج شاهد له وعاضد فإذا انضم حديث أبي الصهباء إلى حديث ابن إسحق إلى حديث ابن جريج مع اختلاف مخارجها وتعدد طرقها أفادت العلم بأنها أقوى من حديث البتة بلا شك ولا يمكن من شم روائح الحديث ولو على بعد أن يرتاب في ذلك فكيف يقدم الحديث الضعيف الذي ضعفه الائمة ورواته مجاهيل على هذه الأحاديث
فصل
وأما حديث معاذ بن جبل فلقد وهت مسألة يحتج فيها بمثل هذا الحديث الباطل والدارقطني إنما رواه للمعرفة وهو أجل من أن يحتج به وفي إسناده: إسماعيل بن أمية الذارع يرويه عن حماد قال الدارقطني بعد روايته: إسماعيل بن أمية ضعيف متروك الحديث
فصل
وأما حديث عبادة بن الصامت الذي رواه الدارقطني فقد قال عقيب إخراجه: رواته مجهولون وضعفاء إلا شيخنا وابن عبد الباقي
فصل
وأما حديث زاذان عن علي رضي الله عنه فيرويه إسماعيل بن أمية القرشي قال الدارقطني: إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث قلت: وفي إسناده مجاهيل وضعفاء
فصل
وأما حديث الحسن عن ابن عمر فهو أمثل هذه الأحاديث الضعاف قال الدارقطني: حدثنا علي بن محمد بن عبيد الحافظ حدثنا محمد بن شاذان الجوهري حدثنا يعلي بن منصور حدثنا شعيب بن رزيق أن عطاء الخرساني حدثهم عن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن عمر فذكره وشعيب وثقه الدارقطني وقال أبو الفتح الأزدي: فيه لين وقال البيهقي وقد روى هذا الحديث: وهذه الزيادات انفرد بها شعيب وقد تكلموا فيه انتهى
ولا ريب أن الثقات الأثبات الأئمة رووا حديث ابن عمر هذا فلم يأت أحد منهم بما أتى به شعيب ألبتة ولهذا لم يرو حديثه هذا أحدمن أصحاب الصحيح ولا السنن
فصل
وأما حديث كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة فقد أنكره كثير لما سئل عنه ومثل هذا بعيد أن ينسى وقد أعل البيهقي هذا الحديث وقال: كثير لم يثبت من معرفته ما يوجب الاحتجاج به قال: وقول العامة بخلاف روايته وقد ضعفه عبد الحق في أحكامه وابن حزم في كتابه
فصل
وأما حديث سويد بن غفلة عن الحسن فمن رواية محمد بن حميد الرازي قال أبو زرعة الرازي: كذاب وقال صالح جزرة: ما رأيت أحذق بالكذب منه ومن الشاذكوني وسلمة بن الفضل قال أبو حاتم: منكر الحديث وإن كان رواته شتى فقد ضعفه إسحاق بن راهوية وغيره
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)