وإنما ذكرت لك هذه الأمور، لتعلم أن الشئ في معدنه أعز، وإلى مظانه أحن، وإلى أصله أنزع، وبأسبابه أليق، وهو يدل على ما صدر منه، وينبه ما أنتج عنه، ويكون قراره على موجب صورته، وأنواره على حسب محله، ولكل شئ حد ومذهب، ولكل كلام سبيل ومنهج. وقد ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه في كلام مسيلمة ما أخبرتك به، فقال: إن هذا كلام لم يخرج من إلٍّ. [318]
فدل على أن الكلام الصادر عن عزة الربوبية ورفعة الإلهية، يتميز عما لم يكن كذلك.
ثم رجع الكلام بنا إلى ما ابتدأنا به من عظيم شأن البيان، ولو لم يكن فيه إلا ما من به الله على خلقه بقوله: { خلق الإنسان علمه البيان }. [319]
فأما بيان القرآن فهو أشرف بيان وأهداه، وأكمله وأعلاه، وأبلغه وأسناه.
تأمل قوله تعالى: { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } في شدة التنبيه على تركهم الحق والإعراض عنه. وموضع امتنانه بالذكر والتحذير.
وقوله: { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } وهذا بليغ في التحسير.
وقوله: { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وهذا يدل على كونهم مجبولين على الشر، معودين لمخالفة النهي والأمر. [320]
وقوله: { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } هو في نهاية المنع من الخلة إلا على التقوى.
وقوله: { أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله }. وهذا نهاية في التحذير من التفريط.
وقوله: { أفمن يلقى في النار خيرا أم من يأتي آمنا يوم القيامة. اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير } هو النهاية في الوعيد والتهديد
وقوله: { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل. وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي } نهاية في الوعيد.
وقوله: { وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } نهاية في الترغيب.
وقوله: { ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله، إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض }، وكذلك قوله: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } نهاية في الحجاج. [321]
وقوله: { وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور، ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } نهاية في الدلالة على علمه بالخفيات.
ولا وجه للتطويل، فإن بيان الجميع في الرفعة وكبر المنزلة على سواء.
وقد ذكرنا من قبل أن البيان يصح أن يتعلق به الإعجاز، وهو معجز من القرآن.
وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظ - فليس ذلك بطريق الإعجاز، لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره، وليس ذلك بمعجز، بل قد يصح أن يقع في المبالغة في المعنى والصفة، وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز.
وتضمين المعاني أيضا قد يتعلق به الإعجاز إذا حصلت للعبارة طريق البلاغة في أعلى درجاتها.
وأما الفواصل فقد بينا أنه يصح أن يتعلق بها الإعجاز، وكذلك قد بينا في المقاطع والمطالع نحو هذا، وبينا في تلاؤم الكلام ما سبق: من صحة تعلق الإعجاز به.
والتصرف في الاستعارة البديعة يصح أن يتعلق به الإعجاز، كما يصح مثل ذلك في حقائق الكلام، لأن البلاغة في كل واحد من البابين تجرى مجرى واحدا وتأخذ مأخذا مفردا.
وأما الإيجاز والبسط فيصح أن يتعلق بهما الإعجاز، كما يتعلق بالحقائق.
والاستعارة والبيان في كل واحد منهما ما لا يضبط وحده، ولا يقدر قدره، ولا يمكن التوصل إلى ساحل بحره بالتعلم، ولا يتطرق إلى غوره بالتسبب، وكل ما يمكن تعلمه، ويتهيأ تلقنه، ويمكن تحصيله، ويستدرك أخذه - فلا يجب أن يطلب وقوع الإعجاز به.
ولذلك قلنا إن السجع ما ليس يلتمس فيه الإعجاز، لأن ذلك أمر محدود، وسبيل مورود، ومتى تدرب الإنسان به واعتاده لم يستصعب عليه أن يجعل جميع كلامه منه.
وكذلك التجنيس والتطبيق، متى أخذ أخذهما وطلب وجههما، استوفى ما شاء، ولم يتعذر عليه أن يملا خطابه منه، كما أولع بذلك أبو تمام والبحتري، وإن كان البحتري أشغف بالمطابق، وأقل طلبا للمجانس.
فإن قال قائل: هلا قلت إن هذين البابين يقع فيهما مرتبة عالية، لا يوصل إليها بالتعلم، ولا تملك بالتعمل، كما ذكرتم في البيان وغير ذلك؟
قلنا: لو عمد إلى كتاب الأجناس، ونظر في كتاب العين، لم يتعذر عليه التجنيس الكثير.
فأما الإطباق فهو أقرب منه، وليس كذلك البيان والوجوه التي رأينا الإعجاز فيها، لأنها لا تستوفى بالتعلم.
فإن قيل: فالبيان قد يتعلم؟
قيل: إن الذي يمكن أن يتوصل إليه بالتعلم يتقارب فيه الناس، وتتناهى فيه العادات، وهو كما يعلم من مقادير القوى في حمل الثقيل، وأن الناس يتقاربون في ذلك، فيرمون فيه إلى حد، فإذا تجاوزوه وقفوا بعده ولم يمكنهم التخطي، ولم يقدروا على التعدي، إلا أن يحصل ما يخرق العادة، وينقض العرف، ولن يكون ذلك إلا للدلالة على النبوات، على شروط في ذلك.
والقدر الذي يفوت الحد في البيان، ويتجاوز الوهم، ويشذ عن الصنعة، ويقذفه الطبع في النادر القليل، كالبيت البديع، والقطعة الشريفة التي تتفق في ديوان شاعر، والفقرة تتفق في رسالة كاتب، حتى يكون الشاعر ابن بيت أو بيتين، أو قطعة أو قطعتين، والأديب شهير كلمة أو كلمتين - ذلك أمر قليل.
ولو كان كلامه كله يطرد على ذلك المسلك، ويستمر على ذلك المنهج أمكن أن يدعي فيه الإعجاز.
ولكنك إن كنت من أهل الصنعة: تعلم قلة الأبيات الشوارد، والكلمات الفرائد، وأمهات القلائد.
فإن أردت أن تجد قصيدة كلها وحشية، وأردت أن تراها مثل بيت من أبياتها مرضية، لم تجد ذلك في الدواوين، ولم تظفر بذلك إلى يوم الدين.
ونحن لم ننكر أن يستدرك البشر كلمة شريفة، ولفظة بديعة، وإنما أنكرنا أن يقدروا على مثل نظم سورة أو نحوها، وأحلنا أن يتمكنوا من حد في البلاغة، ومقدار في الخطابة.
وهذا كما قلناه من أن صورة الشعر قد تتفق في القرآن، وإن لم يكن له حكم الشعر.
فأما قدرُ المعجز فقد بينا أنها السورة، طالت أو قصرت؛ وبعد ذلك خلاف: من الناس من قال مقدار كل سورة أو أطول آية، فهو معجز.
وعندنا كل واحد من الأمرين معجز، والدلالة عليه ما تقدم، والبلاغة لا تتبين بأقل من ذلك، فلذلك لم نحكم بإعجازه، وما صح أن تتبين فيه البلاغة، ومحصولها الإبانة في الإبلاغ عن ذات النفس على أحسن معنى وأجزل لفظ، وبلوغ الغاية في المقصود بالكلام.
فإذا بلغ الكلام غايته في هذا المعنى، كان بالغا وبليغا. فإذا تجاوز حد البلاغة إلى حيث لا يقدر عليه أهل الصناعة، وانتهى إلى أمد يعجز عنه الكامل في البراعة - صح أن يكون له حكم المعجزات، وجاز أن يقع موقع الدلالات.
وقد ذكرنا أنه بجنسه وأسلوبه مباين لسائر كلامهم، ثم بما يتضمن من تجاوزه في البلاغة الحد الذي يقدر عليه البشر.
فإن قيل: فإذا كان يجوز عندكم أن يتفق في شعر الشاعر قطعة عجيبة شاردة، تباين جميع ديوانه في البلاغة، ويقع في ديوانه بيت واحد يخالف مألوف طبعه، ولا يعرف سبب ذلك البيت، ولا تلك القطعة في التفصيل، ولو أراد أن يأتي بمثل ذلك أو يجعل جميع كلامه من ذلك النمط، لم يجد إلى ذلك سبيلا، وله سبب في الجملة وهو التقدم في الصنعة، لأنه يتفق من المتأخر فيها - فهلا قلتم: إنه إذا بلغ في العلم بالصناعة مبالغه القصوى، كان جميع كلامه من نمط ذلك البيت وسمت تلك القطعة؟ وهلا قلتم: إن القرآن من هذا الباب؟ فالجواب: أنا لم نجد أحدا بلغ الحد الذي وصفتم في العادة. وهذا الناس وأهل البلاغة أشعارهم عندنا محفوظة، وخطبهم منقولة، ورسائلهم مأثورة، وبلاغاتهم مروية، وحكمهم مشهورة، وكذلك أهل الكهانة والبلاغة، مثل قُسّ بن ساعدة، وسحبان وائل، ومثل شق، وسطيح، وغيرهم - كلامهم معروف عندنا، وموضوع بين أيدينا، لا يخفى علينا في الجملة بلاغة بليغ، ولا خطابة خطيب، ولا براعة شاعر مفلق، ولا كتابة كاتب مدقق.
فلما لم نجد في شئ من ذلك ما يدانى القرآن في البلاغة، أو يشاكله في الإعجاز، مع ما وقع من التحدي إليه المدة الطويلة، وتقدم من التقريع في المجازاة الامد المديد، وثبت له وحده خاصة قصب السبق، والاستيلاء على الأمد، وعجز الكل عنه، ووقفوا دونه حيارى، يعرفون عجزهم، وإن جهل قوم سببه، ويعلمون نقصهم، وإن أغفل قوم وجهه - رأينا أنه ناقض للعادة، ورأينا أنه خارق للمعروف في الجِبِلّة. وخرق العادة إنما يقع بالمعجزات على وجه إقامة البرهان على النبوات، وعلى أن من ظهرت عليه، ووقعت موقع الهداية إليه، صادق فيما يدعيه من نبوته، ومحق في قوله، ومصيب في هديه، قد شهدت له الحجة البالغة، والكلمة التامة، والبرهان النير، والدليل البين.
فصل في حقيقة المعجز
معنى قولنا "إن القرآن معجز" على أصولنا: أنه لا يَقدر العبادُ عليه.
وقد ثبت أن المعجز الدال على صدق النبي لا يصح دخوله تحت قدرة العباد، وإنما ينفرد الله تعالى بالقدرة عليه، ولا يجوز أن يعجز العباد عما تستحيل قدرتهم عليه، كما يستحيل عجزهم عن فعل الأجسام، فنحن لا نقدر على ذلك وإن لم يصح وصفنا بأنا عاجزون عن ذلك حقيقة، وكذلك معجزات سائر الأنبياء على هذا.
فلما لم يقدر عليه أحد شبه بما يعجز عنه العاجز، وإنما لا يقدر العباد على الإتيان بمثله، لأنه لو صح أن يقدروا عليه بطلت دلالة المعجز، وقد أجرى [ الله ] العادة بأن يتعذر فعل ذلك منهم، وأن لا يقدروا عليه.
ولو كان غير خارج عن العادة لأتوا بمثله، أو عرضوا عليه من كلام فصحائهم وبلغائهم ما يعارضه.
فلما لم يشتغلوا بذلك، عُلم أنهم فطنوا لخروج ذلك عن أوزان كلامهم، وأساليب نظامهم، وزالت أطماعهم عنه.
وقد كنا بينا أن التواضع ليس يجب أن يقع على قول الشعر ووجوه النظم المستحسنة في الأوزان المطربة للسمع، لا يحتاج في مثله إلى توقيف، وأنه يتبين أن مثل ذلك يجرى في الخطاب، فلما جرى فيه فطنوا له واختاروه [ وطلبوه ]؛ وطلبوا أنواع الأوزان والقوافي، ثم وقفوا على حسن ذلك وقدروا عليه، بتوفيق الله عز وجل، وهو الذي جمع خواطرهم عليه، وهداهم له وهيأ دواعيهم إليه، ولكنه أقدرهم على حد محدود، وغاية في العرف مضروبة، لعلمه بأنه سيجعل القرآن معجزا، ودل على عظم شأنه بأنهم قدروا على ما بينا من التأليف، وعلى ما وصفنا من النظم، من غير توقيف ولا اقتفاء أثر، ولا تحد إليه ولا تقريع.
فلو كان هذا من ذلك القبيل، أو من الجنس الذي عرفوه وألفوه - لم تَزُلْ أطماعهم عنه، ولم يدهشوا عند وروده عليهم؛ فكيف وقد أمهلهم وفسح لهم في الوقت، وكان يدعوا إليه سنين كثيرة، وقال عز من قائل: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير }.
وبظهور العجز عنه بعد طول التقريع والتحدي بان أنه خارج عن عاداتهم وأنهم لا يقدرون عليه.
وقد ذكرنا أن العرب كانت تعرف ما يباين عادتها من الكلام البليغ، لأن ذلك طبعهم ولغتهم، فلم يحتاجوا إلى تجربة عند سماع القرآن، وهذا في البلغاء منهم، دون المتأخرين في الصنعة.
والذي ذكرناه يدلك على أنه لا كلام أزيد في قدر البلاغة من القرآن.
وكل من جوز أن يكون للبشر قدرة على أن يأتوا بمثله في البلاغة - لم يمكنه أن يعرف أن القرآن معجز بحال.
ولو لم يكن جرى في المعلوم أنه سيجعل القرآن معجزا، لكان يجوز أن تجري عادات البشر بقدر زائد على ما ألفوه من البلاغة، وأمر يفوق ما عرفوه من الفصاحة.
وأما نظم القرآن فقد قال أصحابنا [ فيه ]: إن الله تعالى يقدر على نظم [ هيئة أخرى تزيد في الفصاحة عليه، كما يقدر على مثله.
وأما بلوغ بعض ] نظم القرآن الرتبة التي لا مزيد عليها، فقد قال مخالفونا: إن هذا غير ممتنع، لأن فيه من الكلمات الشريفة الجامعة للمعاني البديعة، وانضاف إلى ذلك حسن الموقع، فيجب أن يكون قد بلغ النهاية، لأنه عندهم - وإن زاد على ما في العادة - فإن الزائد عليها وإن تفاوت فلا بد من أن ينتهي إلى حد لا مزيد عليه.
والذي نقوله إنه لا يمتنع أن يقال: إنه يقدر الله تعالى على أن يأتي بنظم أبلغ وأبدع من القرآن كله.
وأما قدر العباد فهي متناهية في كل ما يقدرون عليه، مما تصح قدرتهم عليه.
فصل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأمور تتصل بالإعجاز
إن قال قائل: إذا كان النبي أفصح العرب - وقد قال هذا في حديث مشهور، وهو صادق في قوله - فهلا قلتم إن القرآن من نظمه لقدرته في الفصاحة على مقدار لا يبلغه غيره؟
قيل: قد علمنا أنه لم يتحدهم إلى مثل قوله وفصاحته. والقدر الذي بينه وبين كلام غيره من الفصحاء، كقدر ما بين شعر الشاعرين، وكلام الخطيبين في الفصاحة، وذلك مما لا يقع به الإعجاز.
وقد بينا قبل هذا: أنا إذا وازنا بين خطبه ورسائله وكلامه المنثور، وبين نظم القرآن تبين من البون بينهما مثل ما بين كلام الله عز وجل و [ بين ] كلام الناس، فلا معنى لقول من ادعى أن كلام النبي معجز وإن كان دون القرآن في الإعجاز.
فإن قيل: لولا أن كلامه معجز لم يشتبه على ابن مسعود الفصل بين المعوذتين وبين غيرهما من القرآن؟ [322] وكذلك لم يشتبه دعاء القنوت [323] في أنه هل هو من القرآن أم لا؟
[ قيل: هذا من تخليط الملحدين، لأن عندنا أن الصحابة لم يخف عليهم ما هو من القرآن ].
ولا يجوز أن يخفى عليهم القرآن من غيره؛ وعدد السور عندهم محفوظ مضبوط.
وقد يجوز أن يكون شذ عن مصحفه، لا لأنه نفاه من القرآن، بل عول على حفظ الكل إياه.
على أن الذي يروونه خبر واحد، لا يسكن إليه في مثل هذا، ولا يعمل عليه.
ويجوز أن يكتب على ظهر مصحفه دعاء القنوت لئلا ينساه، كما يكتب الواحد منا بعض الأدعية على ظهر مصحفه.
وهذا نحو ما يذكره الجهال من اختلاف كثير بين مصحف ابن مسعود وبين مصحف عثمان رحمة الله عليهما.
ونحن لا ننكر أن يغلط في حروف معدودة، كما يغلط الحافظ في حروف وينسى، وما لا نجيزه على الحفاظ مما لم نجزه عليه.
ولو كان قد أنكر السورتين على ما ادعوا لكانت الصحابة تناظره على ذلك، وكان يظهر وينتشر، فقد تناظروا في أقل من هذا؛ وهذا أمر يوجب التكفير والتضليل، فكيف يجوز أن يقع التخفيف فيه. وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولدة في الإجماع المقرر والاتفاق المعروف.
ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه، لأنه خالف في النظم والترتيب، فلم يثبتهما في آخر القرآن، والاختلاف بينهم في موضع الإثبات غير الكلام في الأصل؛ ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن؛ فمنهم من قال: قوله: { اقرأ باسم ربك }. ومنهم من قال: { يا أيها المدثر }. ومنهم من قال: فاتحة الكتاب.
واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل؛ فقال ابن عباس: { إذا جاء نصر الله }. وقالت عائشة: سورة المائدة. وقال البراء بن عازب: آخر ما أنزل سورة براءة. وقال سعيد بن جبير: آخر ما أنزل قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله }. وقال السدي: آخر ما أنزل { فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت }.
ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع.
ولو كان القرآن من كلامه، لكان البون بين كلامه وبينه مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئهما رجل واحد، وكانوا يعارضونه، لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم وبين كلام النبي لا يخرج إلى حد الإعجاز، ولا يتفاوت التفاوت الكثير، ولا يخفى كلامه من جنس أوزان كلامهم، وليس كذلك نظم القرآن، لأنه خارج من جميع ذلك.
فإن قيل: لو كان على ما ادعيتم، لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره؟
قيل: معرفة الفصل بين وزن الشعر [ أو غيره من أوزان الكلام لا يقع ضرورة، ويحتاج في معرفة ذوق الشعر ] ووزنه، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان يحتاج إلى نظر وتأمل، وفكر وروية واكتساب. وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة. إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.
فإن قيل: لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟
قيل: قد يثبت الشئ دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون، والاجتماع والافتراق.
فأما المخالفون، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله، لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عز وجل في كونه معجزا، لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة، وكان متعذرا على غيره، لفقد علمه بكيفية النظم.
وليس القوم بعاجزين عن الكلام، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا: فَقْدُ العلم بكيفية النظم، وقد بينا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه.
والمُفْحَمُ قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها، وكيفية التركيب، وهو لا يقدر على نظم الشعر.
وقد يعلم الشاعران وجوه الفصاحة، وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية، وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة.
وقد يطّرد في شعر المبتدي والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر، مما لا يتفق للشاعر المتقدم.
والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع، وتوفيق من الأصل.
وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنساجة، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ما لا يتفق للآخر.
وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون، مع العلم بكيفية النظم، وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة، مع العلم بكيفية الإصابة.
وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه، لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد، وبحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها، وإن كان كذلك عُلم أن هذا لا يرجع إلى قدره من العلم، ولسنا نقول إنه يستغنى عن العلم في النظم، بل يكفي علم به في الجملة، ثم يقف الأمر على القدرة.
وهذا يبين لك بأنه قد يعلم الخط فيكتب سطرا، فلو أراد أن يأتي بمثله بحيث لا يغادر منه شيئا لتعذر، والعلم حاصل
وكذلك قد يحسن كيفية الخط، ويميز الجيد منه من الردئ، ولا يمكنه أن يأتي بأرفع درجات الجيد.
وقد يعلم قوم كيفية إدارة الأقلام، وكيفية تصوير الخط، ثم يتفاوتون في التفصيل، ويختلفون في التصوير.
وألزمَهم أصحابنا أن يقولوا بقدرتنا على إحداث الأجسام، وإنما يتعذر وقوع ذلك منا بأنا لا نعلم الأسباب التي إذا عرفنا إيقاعها على وجوه اتفق لنا فعل الأجسام.
وقد ذهب بعض المخالفين إلى أن العادة انتقضت بأن أنزله جبريل، فصار القرآن معجزا لنزوله على هذا الوجه، ومن قبله لم يكن معجزا! هذا قول أبي هاشم، وهو ظاهر الخطأ، لأنه يوجب أن يكونوا قادرين على مثل القرآن، وأنه لم [ يكن ] يتعذر عليهم فعل مثله، وإنما تعذر بإنزاله، ولو كانوا قادرين على مثل ذلك كان قد اتفق من بعضهم مثله.
وإن كانوا في الحقيقة غير قادرين قبل نزوله ولا بعده على مثله، فهو قولنا.
وأما قول كثير من المخالفين فهو على ما بينا، لأن معنى المعجز عندهم تعذر فعل مثله، وكان ذلك متعذرا قبل نزوله وبعده.
فأما الكلام في أن التأليف هل له نهاية؟ فقد اختلف المخالفون من المتكلمين فيه:
فمنهم من قال: ليس لذلك نهاية، كالعدد، فلا يمكن أن يقال: إنه لا يتأتى قول قصيدة إلا وقد قيلت من قبل.
ومنهم من قال: إن ما جرت به العادة فله نهاية، وما لم تجر به العادة فلا يمكن أن تُعلم نهاية الرتبة فيه.
وقد بينا أن على أصولنا قد تقرر لكلامنا [ ونظمنا ] حد في العادة، ولا سبيل إلى تجاوزه، ولا يقدر [ عليه ]، فإن القرآن خرق العادة فزاد عليها.
فصل
إن قيل، هل من شرط المعجز أن يعلم أنه أتى به من ظهر عليه؟
قيل: لا بد من ذلك، لأنا إن لم نعلم أن النبي هو الذي أتى بالقرآن، ظهر ذلك من جهته - لم يمكن أن نستدل به على نبوته.
وعلى هذا لو تلقى رجل منه سورة، فأتى بها بلدا وادعى ظهورها عليه وأنها معجزة له لم تقم الحجة عليهم حتى يبحثوا ويتبينوا أنها ظهرت عليه.
وقد تحققنا أن القرآن أتى به النبي ، وظهر من جهته، وجعله علمًا على نبوته، وعلمنا ذلك ضرورة فصار حجة علينا.
فصل
قد ذكرنا في الإبانة عن معجز القرآن وجيزا من القول، رجونا أن يكفي، وأملنا أن يقنع. والكلام في أوصافه - إن استقصي - بعيد الأطراف، واسع الاكناف، لعلو شأنه، وشريف مكانه.
والذي سطرناه في الكتاب، وإن كان موجزا، وما أملينا فيه، وإن كان خفيفا - فإنه ينبه على الطريقة، ويدل على الوجه، ويهدي إلى الحجة.
ومتى عظم محل الشئ فقد يكون الإسهاب فيه عيا، والإكثار في وصفه تقصيرا.
وقد قال الحكيم [ وقد ] سئل عن البليغ: متى يكون عييا؟ فقال: متى وصف هوًى أو حبيبا.
وضل أعرابي في سفر له ليلا، وطلع القمر فاهتدى به، فقال: ما أقول لك؟ أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول نورك الله وقد نورك، أم أقول جملك الله وقد جملك!
ولولا أن العقول تختلف والأفهام تتباين والمعارف تتفاضل لم نحتج إلى ما تكلفنا، ولكن الناس يتفاوتون في المعرفة، ولو اتفقوا فيها لم يجز أن يتفقوا في معرفة هذا الفن، أو يجتمعوا في الهداية إلى هذا العلم، لاتصاله بأسباب [ خفية ] وتعلقه بعلوم غامضة الغور، عميقة القعر، كثيرة المذاهب، قليلة الطلاب، ضعيفة الأصحاب، وبحسب تأتي مواقعه تقع الافهام دونه، وعلى قدر لطف مسالكه يكون القصور عنه.
أنشدني أبو القاسم الزعفراني، قال: أنشدني المتنبي لنفسه القطعة التي يقول فيها:
وكم مِن عائبٍ قولا صحيحا * وآفتُه من الفهم السقيمِ
ولكنْ تأخذُ الآذانُ منه * على قدر القَرائحِ والعلومِ
وأنشدني الحسن بن عبد الله، قال: أنشدنا بعض مشايخنا للبحتري:
أهزُّ بالشعر أقواما ذوي سِنةٍ * لو أنهم ضُرِبوا بالسيف ما شعروا
عليَّ نَحتُ القوافي من مقاطعها * وما عليَّ لهم أن تَفهمَ البقرُ
فإذا كان نقدُ الكلام كله صعبا، وتمييزه شديدا، والوقوع على اختلاف فنونه متعذرا، وهذا في كلام الآدميين - فما ظنك بكلام رب العالمين؟
قد أبَنّا لك أن من قدر أن البلاغة في عشرة أوجه من الكلام، لا يعرف من البلاغة إلا القليل، ولا يفطن منها إلا لليسير.
ومن زعم أن البديع يقتصر على ما ذكرناه من قبل عنهم في الشعر، فهو متطرف.
بلى، إن كانوا يقولون: إن هذه من وجوه البلاغة وغرر البديع وأصول اللطيف، وإن ما يجرى مجرى ذلك ويشاكله ملحق بالأصل، ومردود على القاعدة، فهذا قريب.
وقد بينا في نظم القرآن أن الجملة تشتمل على بلاغة منفردة، والأسلوب يختص بمعنى آخر من الشرف.
ثم الفواتح والخواتم، والمبادئ والمثاني، والطوالع والمقاطع، والوسائط والفواصل.
ثم الكلام في نظم السور والآيات، ثم في تفاصيل التفاصيل، ثم في الكثير والقليل.
ثم الكلام الموشح والمرصع، والمفصل والمصرع، والمجنس والموشع، والمحلى والمكلل، والمطوق والمتوج، والموزون والخارج عن الوزن، والمعتدل في النظم والمتشابه فيه.
ثم الخروج من فصل إلى فصل، ووصل إلى وصل، ومعنى إلى معنى، ومعنى في معنى، والجمع بين المؤتلف والمختلف، والمتفق والمتسق.
وكثرة التصرف، وسلامة القول في ذلك كله من التعسف، وخروجه عن التعمق والتشدق، وبعده عن التعمل والتكلف، والألفاظ المفردة، والإبداع في الحروف والأدوات، كالإبداع في المعاني والكلمات. والبسط والقبض، والبناء والنقض، والاختصار والشرح، والتشبيه والوصف.
وتمييز الابتداع من الاتباع، كتميز المطبوع عن المصنوع، والقول الواقع من غير تكلف ولا تعمل.
وأنت تتبين في كل ما تَصرَّف فيه من الانواع أنه على سمت شريف، ومرقب منيف، يبهر إذا أخذ في النوع الربي، والأمر الشرعي، والكلام الإلهي، الدال على أنه يصدر عن عزة الملكوت، وشرف الجبروت، وما لا يبلغ الوهم مواقعه: من حكمة وأحكام، واحتجاج وتقرير، واستشهاد وتقريع، وإعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، وتنبيه وتلويح، وإشباع وتصريح، وإشارة ودلالة، وتعليم أخلاق زكية، وأسباب رضية، وسياسات جامعة، ومواعظ نافعة، وأوامر صادعة، وقصص مفيدة، وثناء على الله عز وجل بما هو أهله، وأوصاف كما يستحقه، وتحميد كما يستوجبه، وأخبار عن كائنات في التأتي صدقت، وأحاديث عن المؤتنف تحققت، ونواهٍ زاجرة عن القبائح والفواحش، وإباحة الطيبات، وتحريم المضار والخبائث، وحث على الجميل والإحسان.
تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب، مجلوة عليك في منظر بهيج، ونظم أنيق، ومعرض رشيق، غير معتاص على الأسماع، ولا متلو على الأفهام، ولا مستكره في اللفظ، ولا مستوحش في المنظر. غريب في الجنس غير غريب في القبيل، ممتلئ ماء ونضارة، ولطفا وغضارة، يسري في القلب كما يسري السرور، ويمر إلى مواقعه كما يمر السهم، ويضئ كما يضئ الفجر، ويزخر كما يزخر البحر، طموح العباب، جموح على المتناول المنتاب، كالروح في البدن، والنور المستطير في الأفق، والغيث الشامل، والضياء الباهر { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد }.
من توهم أن الشعر يلحظ شأوه بان ضلاله، ووضح جهله؛ إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن، وتداولته القلوب، وانثالت عليه الهواجس، وضرب الشيطان فيه بسهمه، وأخذ منه بحظه.
وما دونه من كلامهم فهو أدنى محلا، وأقرب مأخذا، وأسهل مطلبا، ولذلك قالوا: فلان مُفْحَمٌ، فأخرجوه مخرج العيب، كما قالوا: فلان عَيي، فأوردوه مورد النقص.
والقرآن كتاب دل على صدق متحمله، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها، وبرهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين، وبينة على طريقة من سلف من الأولين. حيرهم فيه، إذ كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية، وبلغوا فيه الغاية، فعرفوا عجزهم، كما عرف قوم عيسى نقصانهم فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج، والوصول إلى أعلى مراتب الطب، فجاءهم بما بهرهم: من إحياء الموتى، وإبراء الاكمة والأبرص، وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دَقَّقوا فيه من سحرهم، وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم، وكما سخر لسليمان الريح والطير والجن، حين كانوا يولعون به من فائق الصنعة، وبدائع اللطف.
ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليها الأول والآخر وقوفا واحدا، ويبقى حكمها إلى يوم القيامة.
انظر وفقك الله لما هديناك إليه، وفكر في الذي دللناك عليه؛ فالحق منهج واضح، والدين ميزان راجح؛ والجهل لا يزيد إلا عَمًى، ولا يورث إلا ندما.
قال الله عز وجل: { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب }.
وقال: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }.
وقال: { يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا }.
وعلى حسب ما آتى من الفضل وأعطى من الكمال والعقل، تقع الهداية والتبيين، فإن الأمور تتم بأسبابها، وتحصل بآلتها. ومن سلبَه التوفيق، وحرمَه الإرشاد والتسديد: { فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }، { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا }.
فاحمد الله على ما رزقك من الفهم إن فهمت، { وقل رب زدني علما }، [ إن أنت علمت ]، { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون }.
وإن ارتبت فيما بيناه فازدد في تعلم الصنعة، وتقدم في المعرفة، فسيقع بك على الطريق الأرشد، وسيقف بك على الوجه الأحمد، فإنك إذا فعلت ذلك أحطت علما، وتيقنت فهما.
ولا يوسوس إليك الشيطان بأنه قد كان ممن هو أعلم منك بالعربية وأدرب منك في الفصاحة أقوام [ وأي ] أقوام، ورجال [ وأي ] رجال، فكذبوا وارتابوا، لأن القوم لم يذهبوا عن الإعجاز، ولكن اختلفت أحوالهم، فكانوا بين جاهل وجاحد، وبين كافر نعمة وحاسد، وبين ذاهب عن طريق الاستدلال بالمعجزات، وحائد عن النظر في الدلالات، وناقص في باب البحث، ومختل الآلة في وجه الفحص، ومستهين بأمر الأديان، وغاو تحت حبالة الشيطان، ومقذوف بخذلان الرحمن.
وأسباب الخذلان والجهالة كثيرة، ودرجات الحرمان مختلفة.
وهلا جعلت بإزاء الكفرة، مثل لبيد بن ربيعة العامري في حسن إسلامه، وكعب بن زهير في صدق إيمانه، وحسان بن ثابت وغيرهم: من الشعراء والخطباء الذين أسلموا؟ على أن الصدر الأول ما فيهم إلا نجم زاهر، أو بحر زاخر.
وقد بينا أن لا اعتصام إلا بهداية الله، ولا توفيق إلا بنعمة الله. { وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء }.
فتأمل ما عرفناك في كتابنا، وفرغ له قلبك، واجمع عليه لبك، ثم اعتصم بالله يَهْدِك، وتوكل عليه يُعِنْك ويُجِرْك، واسترشِدْه يُرشِدْك، وهو حسبي وحسبك، ونعم الوكيل. [324]
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)