الفصل الثاني عشر في نقل التاجر للسلع
التاجر البصير بالتجارة لا ينقل من السلع إلا ما تعم الحاجة إليه من الغنى و الفقير و السلطان و السوقة إذ في ذلك نفاق سلعته. و أما إذا اختص نقله بما يحتاج إليه البعض فقط فقد يتعذر نفاق سلعته حينئذ بإعواز الشراء من ذلك البعض لعارض من العوارض فتكسد سوقه و تفسد أرباحه. و كذلك إذا نقل السلعة المحتاج إليها فإنما ينقل الوسط من صنفها فإن العالي من كل صنف من السلع إنما يختص به أهل الثروة و حاشية الدولة و هم الأقل. و إنما يكون الناس أسوة في الحاجة إلى الوسط من كل صنف فليتحر ذلك جهده ففيه نفاق سلعة أو كسادها و كذلك نقل السلع من البلد البعيد المسافة أو في شدة الخطر في الطرقات يكون أكثر فائدة للتجار و أعظم أرباحاً و أكفل بحوالة الأسواق لأن السلعة المنقولة حينئذ تكون قليلة معوزة لبعد مكانها أو شدة الغرر في طريقها فيقل حاملوها و يعز وجودها و إذا قلت و عزت غلت أثمانها. و أما إذا كان البلد قريب المسافة و الطريق سابل بالأمن فإنه حينئذ يكثر ناقلوها فتكثر و ترخص أثمانها و بهذا تجد التجار الذين يولعون بالدخول إلى بلاد السودان أرفه الناس و أكثرهم أموالاً لبعد طريقها و مشقته و اعتراض المفازة الصعبة المخطرة بالخوف و العطش. لا يوجد فيها الماء إلا في أماكن معلومة يهتدي إليها أدلاء الركبان فلا يرتكب خطر هذا الطريق و بعده إلا الأقل من الناس فتجد سلع بلاد السودان قليلة لدينا فتختص بالغلاء و كذلك سلعنا لديهم. فتعظم بضائع التجار من تناقلها و يسرع إليهم الغنى و الثروة من أجل ذلك. و كذلك المسافرون من بلادنا إلى المشرق لبعد الشقة أيضاً. و أما المترددون في أفق واحد ما بين أمصاره و بلدانه ففائدتهم قليلة و أرباحهم تافهة لكثرة السلع و كثرة ناقليها إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
الفصل الثالث عشر في الاحتكار
و مما اشتهر عند قوي البصر و التجربة في الأمصار أن احتكار الزرع لتحين أوقات الغلاء مشؤم. و أنه يعود على فائدته بالتلف و الخسران. و سببه و الله أعلم أن الناس لحاجتهم إلى الأقوات مضطرون إلى ما يبذلون فيها من المال اضطراراً فتبقى النفوس متعلقة به و في تعلق النفوس بما لها سر كبير في وباله على من يأخذه مجاناً و فعله الذي اعتبره الشارع في أخذ أموال الناس بالباطل و هذا و إن لم يكن مجاناً فالنفوس متعلقة به لإعطائه ضرورة من غير سمين في العذر فهو كالمكره و ما عدا الأقوات و المأكولات من المبيعات لا اضطرار للناس إليها و إنما يبعثهم عليها التفنن في الشهوات فلا يبذلون أموالهم فيها إلا ياختيار و حرص. و لا يبقى لهم تعلق بما أعطوه فلهذا يكون من عرف بالاحتكار تجتمع القوى النفسانية على متابعته لما يأخذه من أموالهم فيفسد ربحه. و الله تعالى أعلم. و سمعت فيما يناسب هذا حكاية ظريفة عن بعض مشيخة المغرب. أخبرني شيخنا أبو عبد الله الأبلي قال: حضرت عند القاضي بفاس لعهد السلطان أبي سعيد و هو الفقيه أبو الحسن المليلي و قد عرض عليه أن يختار بعض الألقاب المخزنية لجرايته قال فأطرق ملياً ثم قال: من مكس الخمر. فاستضحك الحاضرون من أصحابه و عجبوا و سألوه عن حكمة ذلك. فقال: إذا كانت الجبايات كلها حراماً فأختار منها مالاً تتابعه نفس معطيه و الخمر قل أن يبذل فيها أحد ماله إلا و هو طرب مسرور بوجوداته غير أسف عليه و لا متعلقة به نفسه و هذه ملاحظة غريبة و الله سبحانه و تعالى يعلم ما تكن الصدور.
الفصل الرابع عشر في أن رخص الأسعار مضر بالمحترفين بالرخص
و ذلك أن الكسب و المعاش كما قدمناه إنما هو بالصنائع أو التجارة. و التجارة هي شراء البضائع و السلع و ادخارها. يتحين بها حوالة الأسواق بالزيادة في أثمانها و يسمى ربحاً. و يحصل منه الكسب و المعاش للمحترفين بالتجارة دائماً فإذا استديم الرخص في سلعة أو عرض من مأكول أو ملبوس أو متمول على الجملة و لم يحصل للتاجر حوالة الأسواق فسد الربح و النماء بطول تلك المدة و كسدت سوق ذلك الصنف و لم يحصل التاجر إلا على العناء فقعد التجار عن السعي فيها و فسدت رؤوس أموالهم. و اعتبر ذلك أولاً بالزرع فإنه إذا استديم رخصه يفسد به حال المحترفين بسائر أطواره من الفلح و الزراعة لقلة الربح فيه و ندارته أو فقده. فيفقدون النماء في أموالهم أو يجدونه على قلة و يعودون بالإنفاق على رؤوس أموالهم و تفسد أحوالهم و بصيرون إلى الفقر و الخصاصة. و يتبع ذلك فساد حال المحترفين أيضاً بالطحن و الخبز و سائر ما يتعلق بالزراعة من الحرث إلى صيرورته مأكولاً. و كذا يفسد حال الجند إذا كانت أرزاقهم من السلطان على أهل الفلح زرعاً فإنها تقل جبايتهم من ذلك و يعجزون عن إقامة الجندية التي هي بسببها و مطالبون بها و منقطعون لها فتفسد أحوالهم و كذا إذا استديم الرخص في السكر أو العسل فسد جميع ما يتعلق به و قعد المحترفون عن التجارة فيه و كذا حال الملبوسات إذا استديم فيها الرخص أيضاً فإذا الرخص المفرط يجحف بمعاش المحترفين بذلك الصنف الرخيص و كذا الغلاء المفرط أيضاً. و إنما معاش الناس و كسبهم في التوسط من ذلك و سرعة حوالة الأسواق و علم ذلك يرجع إلى العوائد المتقررة بين أهل العمران. و إنما يحمد الرخص في الزرع من بين المبيعات لعموم الحاجة إليه و اضطرار الناس إلى الأقوات من بين الغني و الفقير. و العالة من الخلق هم الأكثر في العمران فيعم الرفق بذلك و يرجح جانب القوت على جانب التجارة في هذا الصنف الخاص إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين و الله سبحانه و تعالى رب العرش العظيم.
الفصل الخامس عشر في أن خلق التجارة نازلة عن خلق الرؤساء و بعيدة من المروءة
قد قدمنا في الفصل قبله أن التاجر مدفوع إلى معاناة البيع و الشراء و جلب الفوائد و الأرباح و لا بد في ذلك من المكايسة و المماحكة و التحذلق و ممارسة الخصومات و اللجاج و هي عوارض هذه الحرفة. و هذه الأوصاف نقص من الذكاء و المروءة و تجرح فيها لأن الأفعال لا بد من عود آثارها على النفس. فأفعال الخير تعود بآثار الخير و الذكاء و أفعال الشر و السفسفة تعود بضد ذلك فتتمكن و ترسخ إن سبقت و تكررت و تنقص خلال الخير إن تأخرت عنها بما ينطبع من آثارها المذمومة في النفس شأن الملكات الناشئة عن الأفعال. و تتفاوت هذه الآثار بتفاوت أصناف التجار في أطوارهم فمن كان منهم سافل الطور محالفاً لأشرار الباعة أهل الغش و الخلابة و الخديعة و الفجور في الأثمان إقراراً و إنكاراً. كانت رداءة تلك الخلق عنه أشد و غلبت عليه السفسفة و بعد عن المروءة و اكتسابها بالجملة. و إلا فلا بد له من تأثير المكايسة و المماحكة في مروءته، و فقدان ذلك منهم في الجملة. و وجود الصنف الثاني منهم الذي قدمناه في الفصل قبلة أنهم يدرعون بالجاه و يعوض لهم من مباشرة ذلك، فهم نادر و أقل من النادر. و ذلك أن يكون المال قد يوجد عنده دفعة بنوع غريب أو ورثه عن أحد من أهل بيته فحصلت له ثروة تعينه على الاتصال بأهل الدولة و تكسبه ظهوراً و شهرة بين أهل عصره فيرتفع عن مباشرة ذلك بنفسه و يدفعه إلى من يقوم له به من وكلائه و حشمه. و يسهل له الحكام النصفة في حقوقهم بما يؤنسونه من بره و إتحافه فيبعدونه عن تلك الخلق بالبعد عن معاناة الأفعال المقتضية لها كما مر. فتكون مروءتهم أرسخ و أبعد عن تلك المحاجاة إلا ما يسري من آثار تلك الأفعال من وراء الحجاب فإنهم يضطرون إلى مشارفة أحوال أولئك الوكلاء و رفاقهم أو خلافهم فيما يأتون أو يدرون من ذلك إلا أنه قليل و لا يكاد يظهر أثره و الله خلقكم و ما تعملون.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)