وقيل: إنّ مازيار امتنع من ركوب الفيل فحمل على بغل بأكاف، وأمر المعتصم فجمع بينه وبين الأفشين فأقرّ مازيار أنّ الأفشين حمله على العصيان وكاتبه وصوّب له ما فعل، فضرب مازيار أربعمائة سوط وطلب ماء فسقى ومات من ساعته فصلب.
وفيها حبس الأفشين.
حبس الأفشين
ذكر السبب في ذلك
كان الأفشين أيّام حرب بابك ومقامه بأرض الخرّمية لا تأتيه هديّة من أهل أرمينية ولا من غيرهم إلّا وجّه بها إلى أسروشنة فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر فيكتب عبد الله بخبره إلى المعتصم فيكتب المعتصم بتعرف جميع ما يوجّه به الأفشين من الهدايا إلى أسروشنة، فيفعل عبد الله ذلك.
وكان الأفشين كلّما تهيّأ عنده مال حمله في أوساط أصحابه من الدنانير والهمايين وبقدر طاقتهم كان الرجل يحمل ما بين الألف فما فوقه من الدنانير في وسطه فأخبر عبد الله بذلك فبينا هو كذلك إذ نزل رسل الأفشين مع الهدايا بنيسابور ووجّه إليهم عبد الله بن طاهر فأخذهم وفتّشهم فوجد في أوساطهم همايين فأخذها منهم وقال لهم:
« من أين لكم هذا المال؟ » فقالوا: « هذه هدايا الأفشين وهذه أمواله. » فقال: « كذبتم لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إليّ يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبدرقته لأنّ هذا مال عظيم وإنّما أنتم لصوص. » وأخذ عبد الله المال وأعطاه الجند قبله وكتب إلى الأفشين بما قال القوم وقال:
« أنا أنكر أن تكون وجّهت بمثل هذا المال إلى أسروشنة ولم تكتب إليّ لأبدرقه، فإن كان المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجّه به أمير المؤمنين في كلّ سنة، وإن كان المال لك كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحقّ بهذا المال. وإنّما دفعته إلى الجند لأنّى أريد أن أغزو الترك. » فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أسروشنة، فأطلقهم عبد الله وكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله وبين الأفشين.
ولمّا تواترت أمثال هذه من الأفشين تغيّر له المعتصم وأحسّ الأفشين بتغير حاله عند المعتصم.
ذكر حيل هم بها الأفشين
فعزم الأفشين على أن يهيّئ أطوافا في قصره ويحتال لأن يشغل المعتصم وقوّاده ثم يأخذ طريق الموصل ويعبر الزاب على تلك الأطواف حتى يصير إلى طريق أرمينية إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أسروشنة أو يستميل الخزر على أهل الإسلام.
فكان في تهيئة ذلك فطال عليه الأمر وعسر، فهيّأ سمّا كثيرا وعزم على أن يدعو المعتصم وقوّاده فيسمّهم فإن لم يجبه المعتصم استأذنه في قوّاده فيسمّهم مثل أشناس وايتاخ وبغا وأمثالهم في يوم تشاغل المعتصم، فإذا سمّهم وانصرفوا حمل في أوّل الليل تلك الأطواف والآلة على ظهور الجمال حتى يجيء إلى الزاب فيعبر بأثقاله على الأطواف ويعبّر الدوابّ سباحة وكانت أرمينية ولايته.
وكان الأفشين تنوب قوّاده في دار المعتصم كما تنوب أمثالهم. وكان واجن الأسروشنى قد جرى بينه وبين من يطّلع على سرّ الأفشين حديث، فقال له واجن:
« ما أرى هذا الأمر يتمّ لبعده وكثرة ما ينبغي أن يعدّ له. » فذهب الرجل فحكاه للأفشين. فهمّ الأفشين بقتل واجن وأحسّ واجن بذلك فركب من ساعته التي أحسّ بما أحسّ - وكان ليلا - وأتى دار المعتصم وقد كان نام فصار إلى إيتاخ وقال:
« إنّ لأمير المؤمنين عندي نصيحة. » فقال له إيتاخ:
« أليس كنت هاهنا؟ قد نام أمير المؤمنين. » فقال واجن:
« ليس يمكنني أن أصبر إلى غد. » فدقّ إيتاخ الباب على بعض من يخبر أمير المؤمنين بخبر واجن، فقال المعتصم:
« ليبت عند إيتاخ ثم يباكرنى. » فبات عنده. ولمّا أصبح بكّر به إلى المعتصم فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم الأفشين، فجاء الأفشين في سواد، فأمر المعتصم بنزع سواده وحبسه. وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين حتى لا يفوته. وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد يعلمه تحامله عليه وظلمه له في ضياعه.
فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمره ويأمره بجمع أصحابه والتأهّب له حتى إذا ورد عليه الحسن بن الأفشين استوثق منه وحمله، وكتب عبد الله بن طاهر إلى الحسن بن الأفشين:
« إني قد عزلت نوح بن أسد وولّيتك الناحية. » وكتب إليه بكتاب فيه عزل نوح وولايته، فخرج الحسن في قلّة من أصحابه حتى ورد على نوح وعنده أنّه وال، فأخذه نوح فشدّه وثاقا ووجّهه إلى عبد الله فوجّهه عبد الله إلى المعتصم.
وكان المعتصم بنى حبسا للأفشين شبيها بالمنارة وفي وسطها مقدار مجلسه والرجال ينوبون تحتها كما تدور.
فحكى هارون بن عيسى بن المنصور أنّه شهد المجلس الذي عقده المعتصم في داره لمناظرة الأفشين.
ذكر مناظرات وبخ بها الأفشين واحتجاجاته فيها
أحبّ المعتصم أن يبكّت الأفشين ويناظره ولم يكن بعد في الحبس الشديد. فأخليت الدار إلّا من ولد المنصور وأحضر قوم من الوجوه وحضر أحمد بن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيّات، فأتى بالأفشين وأتى بمازيار والموبذ والمرزبان بن تركش وهو أحد ملوك السغد ورجلين من أهل السغد، وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيّات.
بين محمد الزيات والأفشين
فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين وعليهما ثياب رثّة. فقال لهما:
« ما شأنكما؟ » فكشفا عن ظهورهما، فإذا هي عارية من اللحم فقال محمد:
« أتعرف هذين الرجلين؟ » فقال: « نعم، هذا مؤذّن وهذا إمام، بنيا بأسروشنه مسجدا فضربت كلّ واحد منهما ألف سوط، وذلك أنّ بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا أن أترك كلّ قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت لهم كان فيه أصنامهم فأخرجا الأصنام واتخذاه مسجدا، فخفت أن ينتقض عليّ أمر تلك البلدان فضربتهما على ذلك لتعدّيهما. » فقال محمد:
« ما كتاب عندك قد زيّنته بالحرير والجوهر والديباج فيه الكفر بالله عز وجل. »
قال: « هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه آداب العجم وفيه دين القوم الذي هو اليوم كفر، وكنت أستمتع منه بالأدب وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلّى فلم تضطرني الحاجة إلى أخذ الحلية منه فتركته بحاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، وما ظننت هذا يخرج من الإسلام. »
بين الموبذ والأفشين
ثم تقدّم الموبذ فقال:
« إنّ هذا كان يأكل المخنوقة ويحملني على أكلها ويزعم أنّها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يأخذ كلّ يوم شاة سوداء يضرب وسطها بالسيف ثم يمشى بين نصفيها ويأكل لحمها. وقال لي [ يوما ]:
إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كلّ شيء أكرهه حتى أكلت الزيت وركبت الجمل ولبست النعل، غير أنّى إلى هذه الغاية لم تسقط مني شعرة - يعنى أنّه لم يختتن. » فقال الأفشين:
« خبّروني عن هذا المتكلّم أثقة هو عندكم في دينه؟ » - وكان الموبذ بعد مجوسيا ثم أسلم على يد المتوكّل.
قالوا: « لا. » قال: « فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا ترون عدالته؟ » ثم أقبل على الموبذ فقال:
« هل بين منزلي وبين منزلك باب أو كوّة تطلعني منها وتعرف أخبارى؟ »
قال: « لا. » قال: « أفليس كنت أدخلك إليّ فأبثّك سرّى وأخبرك بالأعجمية وميلى إليها وإلى أهلها؟ » قال: « نعم. » قال: « فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذ أفشيت عليّ سرّا أسررته إليك. » ثم تنحّى الموبذ.
بين المرزبان والأفشين
وتقدّم المرزبان. فقالوا للأفشين:
« هل تعرف هذا؟ » قال: « لا. » فقيل للمرزبان: « هل تعرف هذا؟ » قال: « نعم هذا الأفشين. » فقالوا له: « هذا المرزبان. » ثم قال له المرزبان:
« يا ممخرق كم تمّوه وتدافع؟ » فقال الأفشين:
« يا طويل اللحية ما تقول؟ » قال: « كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ » قال: « كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدّى. »
قال: « فقل. » قال: « لا أقول. » قال المرزبان:
« أليس يكتبون إليك بالأسروشنيّة بكذا وكذا؟ » قال: « بلى. » قال: « أفليس بالعربية: إلى إله الآلهة، من عبده فلان بن فلان؟ » قال: « بلى. » قال محمد بن عبد الملك:
« والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا، فما بقّيت لفرعون حين قال لقومه: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى؟ » قال: « كانت هذه عادة القوم لأبي وجدّى ولى قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونها فتفسد عليّ طاعتهم. » فقال له إسحاق بن إبراهيم بن مصعب:
« كيف تحلف لنا بالله فنصدّقك ونصدّق يمينك ونجريك مجرى المسلمين وأنت تدّعى ما ادّعى فرعون؟ » فقال: « يا با الحسن هذه سورة قرأها عجيف على عليّ بن هشام وأنت تقرأها عليّ، فانظر غدا من يقرأها عليك؟ »
بين مازيار وأفشين
قال: ثم قدّم مازيار صاحب طبرستان. فقالوا للأفشين:
« تعرف هذا؟ »
قال: « لا. » قالوا: « هذا المازيار. » قال: « نعم قد عرفته الآن. » قالوا: « هل كاتبته؟ » قال: « لا. » قالوا لمازيار:
« هل كتب إليك؟ » قال: « نعم كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغير أخيك وأنه بحمقه قتيل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلّا أن دلّاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي من الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجّهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلّا ثلثة: العرب والمغاربة والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبّوس، وهؤلاء الذباب يعنى المغاربة إنّما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين - يعنى الأتراك - فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتى على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيّام العجم. » فقال الأفشين:
« هذا يدّعى على أخي وأخيه ودعوى لا تجب عليّ، ولو كتبت هذا الكتاب لأستميله إليّ وليثق بناحيتى لكان غير مستنكر، لأنى إذا نصرت الخليفة بيدي لكنت بالجملة أحرى أن أنصره لآخذ قفاه وآتى به الخليفة فأحظى به عنده كما حظى عبد الله بن طاهر بمجيء المازيار. »
بين ابن أبي دؤاد والأفشين
ولمّا قال الأفشين لمازيار ما قال وقال لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ما قال زجر ابن أبي دؤاد الأفشين. فقال له الأفشين:
« أنت يا با عبد الله لا ترفع طيلسانك بيدك ولا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة. » فقال له ابن أبي دؤاد:
« أمطهّر أنت؟ » قال: « لا. » قال: « فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام والطهور من النجاسة؟ » قال: « أو ليس في دين الإسلام استعمال التقيّة؟ » قال: « بلى. » قال: « فإنى خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت. » قال: « أنت تطعن بالرمح وتضرب بالسيف فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع غلفة. » قال: « تلك ضرورة أدفع إليها فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلم آمن معه خروج نفسي ولم أعلم أنّ في تركها خروجا من الإسلام. » فقال ابن أبي دؤاد:
« قد بان لكم. » ثم التفت إلى بغا الكبير وكان الأفشين تابعا له. فقال:
« يا با موسى عليك به. »
فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال:
« قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم. » فقلب بغا القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين
وفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته
لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا في طبق وقال لابنه هارون الواثق:
« اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين. » فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه في البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثم قال للواثق:
« لا إله إلّا الله، ما أحسنه لو لا أنى فقدت منه ما أشتهيه. » وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق:
« وما هو؟ » فقال: « الشاهلوج. » فقال: « هو ذي، أنصرف فأوجّه به إليك. » ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين:
« اقرأ على سيّدي السلام وقل له: أسألك أن توجّه إليّ ثقة من قبلك يؤدّى عني ما أقول. » فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون في أيّام المتوكّل في حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث.
بين هارون الواثق والأفشين
قال هارون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين وقال لي:
« إنه سيطوّل عليك فلا تحتبس. » قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها.
فقال لي:
« اجلس. » فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت:
« لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز. » فقال لي:
« قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إليّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثم قبلت فيّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك عني؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم:
« ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه. » فقال لهم:
« ويحكم هذا عجل ما هو سبع. » فقالوا له:
« هذا سبع، سل من شئت عنه. » وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم:
إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع.
فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له:
« هذا سبع. » فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري اصطنعتني وشرّفتني وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك عليّ. » قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثم ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات.
فقال المعتصم:
« أروه ابنه. » فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثم حمل إلى منزل إيتاخ ثم صلب على باب العامة ليراه الناس ثم طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح في دجلة.
ووجد في داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
خروج المبرقع اليماني بفلسطين
وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ فضربه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا.
وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ وقال الذين استجابوا له:
« هذا هو السفياني. » فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى في نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب في نحو مائة ألف، وكره رجاء مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان في وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب في نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه:
« لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده. » فما لبث أن حمل فقال لأصحابه:
« أفرجوا عنه. » فأفرجوا، ثم حمل ثانية فقال رجاء:
« أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه. » ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم.
وفاة المعتصم
وفيها كانت وفاة المعتصم.
ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول:
« ذهبت الحيل ليست حيلة. » حتى مات.
وذكر عنه أنّه قال:
« لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت. » ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.
خلافة هارون الواثق
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت في مثل هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
حبس الكتاب وإلزامهم أموالا
وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبي الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر في أمرهم ويطالبهم.
ذكر سبب ذلك
كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال:
« إني لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث. » فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق:
« من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟ » فقال له بعضهم:
« أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين. » وحدّثه حديث الجارية وما جرى في أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما في بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى.
فما مرّ على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة.
ودخلت سنة ثلاثين ومائتين
وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والريّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
تحرك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي
وفيها تحرّك قوم في ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي.
ذكر السبب في ذلك
السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [ بن الهيثم ] الخزاعي - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى - يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة في أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبي دؤاد عليه.
فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول:
« فعل هذا الخنزير... وصنع هذا الكافر. » وفشا ذلك حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته في أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه في دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد في سنة إحدى ومائتين.
وبويع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت.
وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا في قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب في منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثم أخذ خصيّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)