« يا با موسى عليك به. »
فضرب بيده إلى منطقته فجذبها. فقال:
« قد كنت أتوقّع هذا منكم قبل اليوم. » فقلب بغا القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء عند عنقه وأخرجه إلى محبسه.
ثم دخلت سنة ست وعشرين ومائتين
وفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته
لمّا جاءت الفاكهة جمع المعتصم من الفواكه شيئا كثيرا في طبق وقال لابنه هارون الواثق:
« اذهب بهذه الفواكه إلى الأفشين. » فحملت مع هارون حتى صعد بها إليه في البناء الذي بنى له وحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، ثم قال للواثق:
« لا إله إلّا الله، ما أحسنه لو لا أنى فقدت منه ما أشتهيه. » وكان فقد منه الشاهلوج. فقال الواثق:
« وما هو؟ » فقال: « الشاهلوج. » فقال: « هو ذي، أنصرف فأوجّه به إليك. » ولم يمسّ من الفاكهة شيئا. فلمّا أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين:
« اقرأ على سيّدي السلام وقل له: أسألك أن توجّه إليّ ثقة من قبلك يؤدّى عني ما أقول. » فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل. وكان حمدون في أيّام المتوكّل في حبس سليمان بن وهب فحدّث بهذا الحديث.
بين هارون الواثق والأفشين
قال هارون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين وقال لي:
« إنه سيطوّل عليك فلا تحتبس. » قال: فدخلت عليه وطبق الفاكهة بين يديه ولم يمسّ واحدة فما فوقها.
فقال لي:
« اجلس. » فجلست فاستمالنى بالدهقنة. فقلت:
« لا تطوّل، فإنّ أمير المؤمنين قد تقدّم إليّ ألّا أحتبس عندك، فأوجز. » فقال لي:
« قل لأمير المؤمنين يا مولاي، أحسنت إليّ وشرّفتنى وأوطأت الرجال عقبى ثم قبلت فيّ كلاما لم يتحقّق عندك ولم تدبّره بعقلك، كيف يكون هذا وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك عني؟ تخبر بأنّى دسست منكجور أن يخرج وتقبله، وتخبر أنّى قلت للقائد الذي وجّهته إلى منكجور: لا تحاربه واعذر به، وإن أحسست بأحد منّا فانهزم من بين يديه. أنت رجل قد عرفت الحرب وحاربت الرجال وسست العساكر، هذا يمكن، رأس عسكر يقول لأحد أن يفعله؟ ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدوّ، وقد عرفت سببه. ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربّى عجلا له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرّضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتّفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم:
« ويحك لم تربّى هذا الأسد هذا سبع وقد كبر والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه. » فقال لهم:
« ويحكم هذا عجل ما هو سبع. » فقالوا له:
« هذا سبع، سل من شئت عنه. » وقد كانوا تقدّموا إلى جميع من يعرفونه فقالوا لهم:
إن سألكم عن العجل فقولوا: هذا سبع.
فكلّما سأل الرجل إنسانا قال له:
« هذا سبع. » فأمر بالعجل فذبح. ولكن أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا؟ الله الله في أمري اصطنعتني وشرّفتني وأنت سيدي ومولاي أسأل الله أن يعطف بقلبك عليّ. » قال حمدون: فقمت وانصرفت وتركت الطبق على حاله لم يمسّ منه شيئا. ثم ما لبثنا إلّا قليلا حتى قيل: إنّه مات.
فقال المعتصم:
« أروه ابنه. » فأخرجوه فطرحوه بين يدي ابنه، فنتف لحيته وشعره، ثم حمل إلى منزل إيتاخ ثم صلب على باب العامة ليراه الناس ثم طرح مع خشبته وأحرق وحمل الرماد فطرح في دجلة.
ووجد في داره لمّا أحصى متاعه تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر. فممّا أخرج من منزله أطواف الخشب التي أعدّها، وأصنام وكتب فيها ديانته.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائتين
خروج المبرقع اليماني بفلسطين
وفيها خرج المبرقع اليماني بفلسطين على السلطان.
ذكر السبب في ذلك
كان سبب خروجه أنّ بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها وفيها إمّا زوجته وإمّا أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط معه فاتّقته بذراعها فأثّر فيها. فلمّا رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه. فأخذ السيف ومشى إلى الجندي وهو غارّ فضربه فقتله ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن وطلبه السلطان فلم يعرف له خبرا.
وكان يظهر متبرقعا على الخيل فيراه الرائي فيأتيه ويذكّره ويحرّضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكر السلطان ويعيبه، فما زال حتى استجاب له قوم من الحرّاثين وأهل القرى، وكان يزعم أنّه أمويّ وقال الذين استجابوا له:
« هذا هو السفياني. » فلمّا كثرت غاشيته وتبّاعه من هذه الطبقة دعا أهل البيوتات، فاستجاب له جماعة من رؤساء اليمانية وقوم من أهل دمشق، واتصل الخبر بالمعتصم وهو عليل علّته التي مات فيها، فوجّه إليه رجاء بن أيّوب الحضارى في نحو ألف رجل من الجند، وكان أبو حرب في نحو مائة ألف، وكره رجاء مواقعته فعسكر بحذاءه وطاوله حتى إذا كان في وقت عمارة الأرضين تفرّق عنه أكثرهم وبقي أبو حرب في نحو ألفين فناجزه الحرب، وتأمّل رجاء عسكر المبرقع فلم يجد فيه من له فروسية غيره. فقال لأصحابه:
« لا تعجلوا عليه فانّه سيظهر لأصحابه بعض ما عنده. » فما لبث أن حمل فقال لأصحابه:
« أفرجوا عنه. » فأفرجوا، ثم حمل ثانية فقال رجاء:
« أفرجوا له فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك وخذوه. » ففعل ذلك وأحاطوا به فأنزلوه عن دابته وأسروه وحمله رجاء إلى المعتصم.
وفاة المعتصم
وفيها كانت وفاة المعتصم.
ولمّا حضرته الوفاة جعل يقول:
« ذهبت الحيل ليست حيلة. » حتى مات.
وذكر عنه أنّه قال:
« لو علمت أنّ عمرى قصير ما فعلت ما فعلت. » ودفن بسرّ من رأى. فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وهو ثامن الخلفاء والثامن من ولد العباس، وولد سنة ثمانين ومائة ومات عن ثمانية وأربعين سنة وله ثمانية بنين وبنات.
وكان أبيض أصهب اللحية طويلها مربوعا مشرب اللون حمرة حسن العينين. وبويع يوم توفى ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم وكان يكنّى أبا جعفر.
خلافة هارون الواثق
ودخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين
ولم يجر فيها على ما بلغنا شيء يثبت في مثل هذا الكتاب.
ودخلت سنة تسع وعشرين ومائتين
حبس الكتاب وإلزامهم أموالا
وفيها حبس الواثق الكتّاب وألزمهم أموالا، فأخذ من سليمان بن وهب وهو كاتب إيتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن أمر بضربه كلّ يوم عشرة أسواط فضرب نحو ألف سوط، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتّابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار ومن الحسن بن وهب وأبي الوزير مائتي ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمّال بسبب عمالاتهم، ونصب محمد بن عبد الملك لابن أبي دؤاد وسائر أصحاب المظالم فكشفوا وحبسوا وأقيموا للناس فلقوا كلّ جهد، وجلس إسحاق بن إبراهيم لهم ينظر في أمرهم ويطالبهم.
ذكر سبب ذلك
كان سبب ذلك أنّ الواثق جلس ليلة مع ندمائه فقال:
« إني لست أشتهى الليلة النبيذ، فهلمّوا نتحدّث. » فتحدّثوا عامة الليل فقال الواثق:
« من منكم يعلم السبب الذي وثب من أجله جدّى الرشيد على البرامكة حتى أزال نعمتهم؟ » فقال له بعضهم:
« أنا والله أحدّثك يا أمير المؤمنين. » وحدّثه حديث الجارية وما جرى في أمر ثمنها وإحضار البرامكة قيمة مائة ألف دينار دراهم ليستكثرها فلا يشتريها. فلمّا رآها ضمّها إلى بعض خدمه وبحث عن الأموال ليجمع بيت مال خاصة فوجد البرامكة قد أتلفوا كلّ ما في بيوت أمواله وقد ذكرنا نحن هذا الحديث مشروحا فيما مضى.
فما مرّ على ذلك أسبوع حتى أوقع بكتّابه واستخرج منهم ومن عمّاله أموالا عظيمة.
ودخلت سنة ثلاثين ومائتين
وفيها مات عبد الله بن طاهر وكان إليه يوم ذاك الحربة والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والريّ وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، فولّى الواثق هذه الأعمال كلّها ابنه طاهر بن عبد الله بن طاهر.
ودخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين
تحرك قوم وأخذهم البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي
وفيها تحرّك قوم في ربض عمرو بن عطاء وأخذوا البيعة على أحمد بن نصر الخزاعي.
ذكر السبب في ذلك
السبب في ذلك أنّ أحمد بن نصر بن مالك [ بن الهيثم ] الخزاعي - ومالك بن الهيثم أحد نقباء بنى العباس وقد تقدّم ذكره فيما مضى - يغشاه أصحاب الحديث. وكان أحمد بن نصر هذا يباين من قال بخلق القرآن وباينه مثل يحيى بن معين وابنا الدورقي وأبو خيثمة، وله مرتبة كبيرة في أصحاب الحديث، وبسط لسانه فيمن يقول بخلق القرآن، مع غلظة الواثق كانت على كلّ من يقول ذلك وامتحانه إيّاهم فيه وغلبة ابن أبي دؤاد عليه.
فجعل أحمد بن نصر لا يذكر الواثق إلّا بالخنزير فيقول:
« فعل هذا الخنزير... وصنع هذا الكافر. » وفشا ذلك حتى خوّف، وقيل له: قد اتصل أمرك به وحرّكه المطيفون به ممّن ينكر القول بخلق القرآن من أصحاب السلطان ومن عامّة بغداد، وحرّكوه لإنكار القول بخلق القرآن وقصده الناس لرتبته في أصحاب الحديث ولما كان لأبيه وجدّه في دولة بنى العباس من الأثر فكانت له أيضا رئاسة ببغداد في سنة إحدى ومائتين.
وبويع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما كثر الدعّار وظهر الفساد والمأمون بخراسان ولم يزل على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع، فرجوا إذا تحرّك استجابة الناس له للأسباب التي ذكرت.
وكان فيمن بايعه قوم من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن مصعب صاحب الشرطة يرون رأيه ففرّقوا في قوم مالا وأعطوا كلّ رجل دينارا دينارا، وواعدهم أحمد بن نصر ليلة يضربون فيها بالطبل للاجتماع والوثوب بالسلطان، وكان قوم منهم بالجانب الشرقي وقوم بالجانب الغربي، فانتبذ بعض من أخذ الدينار واجتمع عدّة منهم على شربه. فلمّا ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة وكان الموعد ليلة الخميس وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتّعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل فلم يجبهم أحد.
وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجّه إليهم محمد بن إبراهيم صاحبه فأتاهم فسألهم عن قصّتهم فلم يظهر له أحد فدلّه الجيران على رجل حمّامى فأخذه وتهدّده بالضرب فأمر على أحمد بن نصر وجماعة سمّاهم، فتتبّع القوم من ليلتهم فأخذ بعضهم من الجانب الشرقي وبعضهم من الجانب الغربي وقيّد وجوههم وأصيب في منزل أحدهم علمان أخضران فيهما حمرة، ثم أخذ خصيّ لأحمد بن نصر، فتهدّد فأقرّ بما أقرّ به عيسى الحمّامى.
فأخذ أحمد بن نصر وحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب مع أولاده وجماعة من يغشاه، فحملهم إلى الواثق بسرّ من رأى على بغال بأكاف لا وطاء تحتهم وهم مقيّدون.
فجلس لهم الواثق مجلسا عامّا وأحضر أحمد بن أبي دؤاد ليمتحنوا مكشوفا. فأحضر القوم وحضر معهم أحمد بن نصر فلم يناظرهم الواثق في الشغب ولا فيما روى عليه من إرادته الخروج عليه ولكنه قال:
« يا أحمد ما تقول في القرآن؟ » قال: « كلام الله. » قال: « أفمخلوق هو؟ » قال: « [ هو ] كلام الله. » قال: « فما تقول في ربّك، أتراه يوم القيامة؟ » قال: « يا أمير المؤمنين جاءت الآثار عن رسول اللهأنّه قال ترون ربّكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته. » وحدّثني سفيان بن عينيه بحديث يرفعه أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله. فقال له إسحاق بن إبراهيم:
« ويلك انظر ما تقول. » قال: « أنت أمرتنى بذلك. » فأشفق إسحاق من كلمته.
قال: « أنا أمرتك بذلك؟ » قال: « نعم أمرتنى أن أنصح لك ولأمير المؤمنين ومن نصيحتي له ألّا يخالف حديث رسول الله. » فقال الواثق لمن حوله:
« ما تقولون فيه؟ » فأكثروا. فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي وهو صديق لأحمد بن نصر:
« يا أمير المؤمنين هو حلال الدم. »
وقال آخر:
« اسقني دمه يا أمير المؤمنين. » فقال له الواثق:
« القتل يأتى على ما تريد. » وقال أحمد بن أبي دؤاد:
« كافر يستتاب، لعلّ به عاهة أو تغيّر عقل، كأنّه كره أن يقتل بسببه. » فقال الواثق:
« إذا رأيتمونى قد قمت إليه فلا يقومنّ معي أحد، فإني أحتسب خطإي إليه. » ودعا بالصمصامة سيف عمرو بن معديكرب وكان في الخزانة، فأتى به فمشى إليه في وسط الدار ودعا بنطع فصيّر في وسطه وحبل فشدّ به رأسه ومدّ الحبل فضربه الواثق فوقعت الضربة على حبل عاتقه، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضربه فأبان رأسه.
ويقال: إنّ بغا ضربه ضربة أخرى وطعنه الواثق بطرف الصمصامة في بطنه فحمل معترضا حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله قيود وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أيّاما ثم حوّل إلى الغربي وحظر على الرأس حظيرة وأقيم عليه الحرس وكتب في أذنه رقعة:
« هذا رأس الكافر المشرك الضالّ أحمد بن نصر، قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام الحجّة عليه في خلق القرآن ونفى التشبيه، وعرض عليه التوبة فأبى إلّا المعاندة، فعجّل الله به إلى ناره وأليم عقابه. » وتتبع من عرف بصحبة أحمد بن نصر ومن بايعه فوضعوا في الحبوس ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون ومنعوا من الزوّار وثقّلوا بالحديد.
الفداء بين المسلمين وصاحب الروم
وفي هذه السنة تمّ الفداء بين المسلمين وصاحب الروم واجتمع المسلمون والروم على نهر يقال له اللامس على مسيرة يوم من طرسوس.
وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا جميعا بخلقه إلّا أربعة نفر فأمر الواثق بضرب أعناقهم. وأمر لأهل الثغور بجوائز على ما رآه خاقان، وكان خادم الرشيد نشأ بالثغر وكان ورد رسول ملك الروم في طلب المفاداة وكان جرى بينهم اختلاف في الفداء قالوا:
« لا نأخذ في الفداء عجوزا ولا شيخا ولا صبيّا. ثم رضوا عن كلّ نفس بنفس فوجّه الواثق في شراء من يباع ولم يتمّ العدّة فأخرج الواثق من قصره عجائز روميات وغيرهم حتى تمّت العدّة. » وأمر الواثق بامتحان الأسارى. فمن قال بخلق القرآن فودى به ومن أبي ترك في أيدى الروم.
وأمر أن يعطى جميع من فودى وقال بخلق القرآن دينارا فبلغ عدّة من فودى به أربعة آلاف وستمائة إنسان فيهم من أهل الذمة نحو أربعمائة.
ولمّا جمعوا الفداء وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي وعقد جسر على النهر للمسلمين وجسر آخر للروم.
قال: فكنّا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم فيصير هذا إلينا وذاك إليهم.
وفي هذه السنة مات أبو عبد الله ابن الأعرابي الراوية وهو ابن ثمانين سنة.
ودخلت سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
وفيها كان مسير بغا الكبير إلى بنى نمير
ذكر السبب في ذلك
كان سبب ذلك أنّ عماره بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه وأنشده إيّاها، فأمر له بثلاثين ألف درهم وبنزل.
فكلّم عمارة الواثق في بنى نمير وأخبره بعيثهم وفسادهم في الأرض وإغارتهم على اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم، وكان بغا بالمدينة لأن بنى سليم كانوا عاثوا بالحجاز وأكثروا الغارات والقتل، فتوجّه صاحب المدينة وجمع لهم الخيل والسودان ومن استجاب لهم من قريش والأنصار، فواقعتهم بنو سليم فقتلوهم وقتلوا أمير المدينة وأكثر من كان خرج معه من قريش والأنصار. فأخرج الواثق بالله بغا الكبير إلى المدينة فأوقع ببني سليم وأسر منهم وقتل، فكان لذلك مقيما بعد بالمدينة.
فلمّا أراد بغا الشخوص إليهم من المدينة حمل معه دليلا ومضى نحو اليمامة فلقى منهم جماعة بموضع يقال له: الشريف، فحاربوه فقتل بغا منهم نحوا من ستين رجلا وأسر نحوا من أربعين. ثم سار وتابع إليهم الرسل فعرض عليهم الأمان ودعاهم إلى السمع والطاعة وهم في ذلك يمتنعون عليه ويشتمون رسله ويتفلّتون إلى حربه.
فسار بغا حتى ورد بطن نخل ثم دخل نخيلة، فاحتملت بنو ضبّة من بنى نمير فركبت جبالها، فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، وأرسل إليهم سريّة وأتبعهم بجماعة من معه، فحشدوا لحربه وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف رجل. فلقوهم ببطن السر فهزموا مقدّمته وكشفوا ميسرته وقتلوا من أصحابه مائة وثلاثين رجلا وعقروا من إبل عسكره سبعمائة ومائة دابّة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال فهجم عليهم وعليه ليل.
فجعل بغا يناشدهم ويدعوهم إلى الرجوع إلى طاعة الواثق فشتموه وتوعّدوه. فلمّا دنا الصبح أشير على بغا بأن يوقع بهم قبل أن يضيء الصبح فيروا قلّة عدد من معه ويجترئوا عليه، فأبى بغا. فلمّا أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من معه حملوا عليهم فهزموهم حتى بلغت هزيمتهم معسكرهم وأيقنوا بالهلكة.
ذكر اتفاق حسن
وبلغ بغا أنّ خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجّه من أصحابه نحوا من مائتي رجل إليها. فبينا هم فيما هم من الإشراف على العطب وقد انهزم بغا إذ خرجت تلك الجماعة منصرفة من تلك الخيل وأقبلت متفرقة في ظهور بنى نمير. فنفخوا في صفّارتهم فالتفتوا ورأوا الخيل وراءهم، فولّوا منهزمين وأسلم فرسانهم رجّالتهم وطاروا على ظهور الخيل.
وكان منهم جماعة تشاغلوا بالنهب، فثاب إلى بغا أصحابه فكرّ عليهم وقتل منهم منذ زوال الشمس وإلى آخر وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل. وأقام بغا حتى جمعت له رؤوس من قتل واستراح هو وأصحابه ببطن السرّ ثلاثة أيّام. ثم أرسل إليه من هرب من فرسان نمير من الوقعة يطلبون الأمان فأعطاهم الأمان فصاروا إليه فقيّدهم وأشخصهم معه، فشغبوا في الطريق وحاولوا كسر قيودهم والهرب. فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد فيضربه ما بين الأربعمائة إلى الخمسمائة، فلم ينطق منهم ناطق بتوجّع ولا تأوّه. ثم جمعهم مع من لحق به ممّن طلب الأمان وحملهم إلى البصرة.
موت الواثق
وفيها مات الواثق وكان موته بالاستسقاء فعولج بالإقعاد في تنّور مسخن فوجد لذلك راحة، فأمر من غد ذلك اليوم بأن يزاد في إسخان ذلك التنّور ففعل وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله فحمى عليه، فأخرج منه وصيّر في محفّة، وحضره جماعة من الهاشميين ثم حضر محمد بن عبد الملك الزيّات وأحمد بن أبي دؤاد. فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفّة، [ فعلموا أنّه قد مات ] وكان أبيض مشربا حمرة جميلا ربعة حسن الجسم قائم العين اليسرى فيها نكتة بياض.
فكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وسنّه ست وثلاثون سنة.
خلافة جعفر المتوكل
وفي هذه السنة بويع لجعفر المتوكّل بالخلافة وهو جعفر بن محمد بن هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب.
لمّا توفّى الواثق حضر الدار أحمد بن أبي دؤاد وإيتاخ ووصيف ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد أبو الوزير. فعزموا على البيعة لمحمد بن الواثق فأحضروه وهو غلام أمرد قصير. فألبسوه درّاعة سوداء وقلنسوة رصافيّة فإذا هو قصير. فقال لهم وصيف:
« أما تتّقون الله تولّون مثل هذا الخلافة وهو لا تجوز معه الصلاة. » فتناظروا في من يولّونها، فذكر أحمد بن أبي دؤاد جعفرا أخا الواثق فأحضره وألبسه الطويلة وعمّمه وقبّل بين عينيه وقال:
« السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. » تم غسل الواثق وصلّى عليه ودفن ولقّنه أحمد بن أبي دؤاد: المتوكّل على الله، وأمر محمد بن عبد الملك بالكتاب به إلى الناس فوقّع بهذا:
« بسم الله الرحمن الرحيم - أمر أبقاك الله - أمير المؤمنين أعزّه الله، أن يكون الرسم الذي يجرى به ذكره على أعواد منبره وكتبه إلى قضاته وكتّابه وعمّاله وأصحاب دواوينه وسائر من تجرى المكاتبة بينه وبينه: من عبد الله جعفر الإمام المتوكّل على الله أمير المؤمنين. فرأيك في العمل بذلك وإعلامى وصول كتابي إليك موفّقا إن شاء الله. » وأمر للأتراك برزق أربعة أشهر وأمر بأن يوضع العطاء للجند لثمانية أشهر وأخذت البيعة عليهم وبويع له وله ستّ وعشرون سنة.
ودخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين
وفيها غضب المتوكّل على محمد بن عبد الملك الزيّات وحبسه.
ذكر سوء نظر محمد بن عبد الملك في العاقبة وتجهمه للمتوكل حتى أهلكه
كان السبب في غضبه عليه أنّ الواثق لمّا استوزر محمد بن عبد الملك فوّض إليه الأمور وكان الواثق قد غضب على أخيه جعفر لبعض الأمور، فوكّل به عمر بن فرج الرخّجى ومحمد بن العلاء، فكانا يحفظانه ويكتبان بأخباره. فصار جعفر إلى محمد بن عبد الملك يسأله أن يكلّم أخاه الواثق ليرضى عنه. فلمّا دخل عليه مكث واقفا بين يديه لا يكلّمه، ثم أشار إليه أن يقعد فلمّا فرغ من نظره في الكتب التفت إليه كالمتهدّد له فقال له:
« ما جاء بك؟ » قال: « جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضا عنى. » فقال لمن حوله:
« انظروا إلى هذا يغضب أخاه ويسألنى أن أسترضيه له اذهب، فانّك إذا صلحت رضى عنك. » فقام جعفر كئيبا حزينا لما لقيه به من قبح اللقاء والتقصير به، فخرج من عنده وأتى عمر بن فرج يسأله أن يختم له صكّه لبعض أرزاقه، فلقيه عمر بن فرج بالتجهّم وأخذ الصك ورمى به، فصار جعفر حين خرج من عند عمر إلى أحمد بن أبي دؤاد، فدخل عليه فقام له أحمد بن أبي دواد واستقبله وقبّله والتزمه وقال له:
« ما جاء بك جعلني الله فداءك؟ » قال: « جئت لتسترضى أمير المؤمنين. » قال: « أفعل ونعمة عين. » فكلّم أحمد بن أبي دؤاد الواثق بالله فيه، فوعده ولم يرض عنه.
فأعاد أحمد الكلام بعد ذلك وسأله بحق المعتصم إلّا رضى عنه، فرضي عنه من ساعته وكساه واعتقد جعفر لأحمد بن أبي دؤاد بذلك يدا ميثاقا فأحظاه عنده لمّا ملك.
وإنّ محمد بن عبد الملك حين خرج جعفر من عنده كتب إلى الواثق يذكر: أنّ جعفرا أتانى فسألنى أن أسأل أمير المؤمنين الرضا عنه في زيّ المخنّثين، له شعر قفا. فكتب إليه الواثق:
« ابعث إليه فأحضره ومر من يجزّ شعر قفاه، ثم مر من يأخذ شعره ويضرب به وجهه، واصرفه إلى منزله. » فحكى عن المتوكّل أنّه قال: لمّا أتانى رسوله لبست سوادا جديدا وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى، فلمّا حصلت بين يديه قال:
« يا غلام ادع لي حجّاما. » فدعى به. فقال:
« خذ من شعره فاجمعه. » فأخذه على السواد الجديد ولم يأته بمنديل، فأخذ شعره وضرب وجهه به.
فقال المتوكّل:
ما دخلني من الجزع على شيء مثل ما دخلني حيث أخذ شعري على السواد الجديد وقد جئته فيه طامعا في الرضا عنى فأخذ شعري عليه.
فلمّا بويع جعفر أمهل وهو يفكّر في مكروه يناله به. ثم أمر إيتاخ بأن يأخذه ويعذّبه فيبعث إليه إيتاخ فظنّ أنّه يدعى للخليفة، فركب مبادرا. فلمّا حاذى منزل إيتاخ، قيل له:
« اعدل إلى ها هنا. » فعدل وأوجس في نفسه خيفة. فلمّا جاء إلى الموضع الذي كان نزل فيه إيتاخ عدل به عنه فأيقن بالشرّ ثم أدخل حجرة وأخذ سيفه ودرّاعته وقلنسوته فدفع إلى غلمانه، وقيل لهم:
« انصرفوا. » فانصرفوا وهم لا يشكّون أنّه مقيم عند إيتاخ ليشرب.
ووجّه المتوكّل إلى أصحابه ودوره، فقبض عليهم فأخرج جميع ما كان في منزله من متاع وجوار وغلمان ودوابّ، فصار ذلك كلّه في الهارونيّ، وأمر أبا الوزير بقبض ضياعه وضياع أهل بيته حيث كانت. فأمّا ما كان بسرّ من رأى فحمل إلى خزائنه واشترى للخليفة جميعه وقيل لمحمد بن عبد الملك:
« وكّل ببيع متاعك. » وأتوه بمن وكّله بالبيع عليه ثم قيّد، وامتنع من الطعام فلا يذوق شيئا.
وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير. فمكث أيّاما ثم سوهر ومنع من النوم وينخس بمسلّة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا فأتى به فأكل، ثم أعيد الى المساهرة.
وكان محمد قاسى القلب يزعم أنّ الرحمة خور في الطبيعة وكان قد اتّخذ تنّورا من خشب فيه مسامير حديد قيام يعذّب فيه من يطالبه. فكان هو أوّل من عمل ذلك، وعذّب فيه ابن سنباط المصري حتى استخرج منه جميع ما كان عنده ثم ابتلى به فعذّب فيه حتى مات.
ودخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)