ليغفرَ لنا خَطايانا وما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى "، أي خير منك ثوابًا، وأبقى عقابًا. فرجع عدوُّ الله مغلوبًا وملعونًا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان. ما أكرهْتَنا عليه من السِّحر والله خيرٌ وأبقى "، أي خير منك ثوابًا، وأبقى عقابًا. فرجع عدوُّ الله مغلوبًا وملعونًا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر، والتمادي في الشر، فتابع الله عليه بالآيات، وأخذه بالسنين، فأرسل عليه الطوفان. رجع الحديث إلى حديث السدي. وأما السدي فإنه قال في خبره: ذُكِرَ أن الآيات التي ابتلى الله بها قوم فرعون كانت قبل اجتماع موسى والسحرة، وقال: لما رجع إليهم ملطخًا بالدم قال: قد قتلنا إله موسى. ثم إن الله أرسل عليهم الطوفان - وهو المطر - فغرق كل شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشفْ عنا، ونحن نؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل. فكشفه الله عنهم، ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنا لم نُمْطَر. فبعث الله عليهم الجراد فأكل حروثهم، فسألوا موسى أن يدعوَ ربَّه فيكشفه ويؤمنوا به، فدعا فكشفه، وقد بقي من زروعهم بقية، فقالوا: لن نؤمن وقد بقي لنا من زروعنا بقية، فبعث الله عليهم الدبا - وهو القُمّل -، فلحس الأرض كلَّها، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيعضّه، وكان أحدُهم يأكل الطعام فيمتلئ دبًا حتى إنّ أحدهم ليبني الأسطوانة بالجصّ والآجرّ فيُزلقها حتى لا يرتقي فوقها شيء من الذباب، ثم يرفع فوقها الطعام؛ فإذا صعد إليه ليأكله وجده ملآن دبًا، فلم يصبهم بلاء كان أشدّ عليهم من الدبا؛ وهو الرِّجز الذي ذكره الله في القرآن أنه وقع عليهم. فسألوا موسى أن يدعوَ ربه فيكشفه عنهم ويؤمنوا به، فلما كُشف عنهم أبوّا أن يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدم، فكان الإسرائيلي يأتي هو والقبطي فيستقيان من ماء واحد، فيخرج ماء هذا القبطي دمًا، ويخرج للإسرائيلي ماء. فلما اشتدّ ذلك عليهم سألوا موسى أن يكشفه ويؤمنوا به فكُشف ذلك عنهم، فأبوا أن يؤمنوا، فذلك حين يقول الله: " فلمّا كشفْنا عنهمُ العذابَ إذا همْ يَنْكُثُون " ما أعطوْا من العهود، وهو حين يقول: " ولقد أخذْنا آل فرعون بالسنين " - وهو الجوع - " ونقصٍ من الثَّمرات لعلّهم يذّكّرون ".
ثم إن الله عز وجل أوحى إلى موسى وهارون أن " قُولَا قولًا ليِّنًا لعلّه يتذَكّرُ أو يخشى "، فأتياه فقال له موسى: هل لك يا فرعون في أن أعطيَك شبابك ولا تهرم، وملكك ولا ينزع منك، ويردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا متّ دخلت الجنة؟ تؤمن بي! فوقعت في نفسه هذه الكلمات، وهي اللينة، فقال: كما أنت حتى يأتي هامان. فلما جاء هامان قال له: أشعرت أن ذلك الرجل أتاني؟ قال: من هو؟ - وكان قبل ذلك إنما يسميه الساحر، فلما كان ذلك اليوم لم يسمّه الساحر - قال فرعون: موسى، قال: وما قال لك؟ قال: قال لي: كذا وكذا، قال هامان: وما رددت عليه؟ قال: قلت: حتى يأتيَ هامان فأستشيره، فعجّزه هامان وقال: قد كان ظنّي بك خيرًا من هذا، تصير عبدًا يعبد بعد أن كنتَ ربًا يُعبد! فذلك حين خرج عليهم فقال لقومه وجمعهم فقال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى ". وكان بين كلمته " ما علمت لكم من إلهٍ غيري " وبين قوله: " أنا ربُّكُمُ الأعلى " أربعون سنة. وقال لقومه: " إنّ هذا لساحرٌ عليمٌ، يريد أن يُخرجَكُم من أرضِكم بسحرِهِ فماذا تأمرون، قالوا أرْجِهِ وأخاه وابعث في المدائن حاشرين، يأتوك بكل سحّار عليم ". قال فرعون: " أجئتنا لتُخرجَنا من أرضنا بسحرك يا موسى، فلنأتينك بسحرٍ مثلَه فاجعل بيننا وبينك موعدًا لا تُخلفه نحن ولا أنت مكانا سُوىً " - يقول: عدلًا، قال موسى: " موعدكم يومُ الزينة وان يُحشرَ الناس ضُحىً " - وذلك يوم عيد لهم - " فتولّى فرعون فجمع كيده ثم أتى ". وأرسل فرعون في المدائن حاشرين؛ فحشَروا عليه السحرة، وحشروا الناس ينظرون، يقول: " هل أنتم مجتمِعون، لعلّنا نتبع السحرة إنْ كانوا همُ الغالبين " - إلى قوله: " أئن لنا لأجْرًا إنْ كنّا نحن الغالبين " - يقول: عطية تعطينا - " قال نعمْ وإنّكم إذًا لمِنَ المقرّبين ". فقال لهم موسى: " ويلكم لا تفتروا على الله كذِبًا فيُسْحِتكُم بعذابٍ "، يقول: يهلككم بعذاب. " فتنازعوا أمرَهم بينهم وأسرّوا النجوى "، من دون موسى وهارون، وقالوا في نجواهم: " إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضِكم بسحرهما ويذهبا بطريقتِكمُ المثلى "، يقول: يذهبا بأشراف قومكم.
فالتقى موسى وأمير السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال: نعم، قال الساحر: لآتينّ غدًا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومننّ بك، ولأشهدنّ أنك على حق - وفرعون ينظر إليهما - وهو قول فرعون: " إنْ هذا لمكرٌ مكرتُموه في المدينةِ "، إذ التقيتما لتتظاهرا " لتُخرجوا منها أهلها " فقالوا: " يا موسى إما أن تُلقيَ وإما أن نكون نحن المُلقينَ "، قال لهم موسى: ألقوا فألقوا حبالهم وعصيَّهم - وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس منهم إلا ومعه حبل وعصا - " قلما ألقوا سحروا أعينَ الناس واسترهبهم " يقول: فرّقوهم. " فأوجَسَ في نفسِهِ خيفةً موسى "، فأوحى الله إليه: ألا تخف، " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا ". فألقى موسى عصاه فأكلت كلَّ حية لهم، فلما رأوا ذلك سجدوا، وقالوا: " آمنا برب العالمين موسى وهارون ". قال فرعون: " فلأقطِّعنّ أيديكم وأرجلكم من خِلافٍ ولأصلّبنّكم في جُذوع النخل " فقتلهم وقطَّعهم - كما قال عبد الله بن عباس - حين قالوا: " ربّنا أفرغْ علينا صَبْرًا وتوفّنا مسلمين ". قال: كانوا في أول النهار سَحرة، وفي آخر النهار شهداء.
ثم أقبل على بني إسرائيل فقال له قومه: " أتذَرُ موسى وقوْمَهُ ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك "، وآلهتُه - فيما زعم ابن عباس - كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلًا بقرة.
ثم إن الله تعالى ذكره أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل فقال: " أنْ أسْر بعبادي " ليلًا " إنّكم متّبَعون ". فأمر موسى بني إسرائيل أن يخرجوا، وأمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط، وامر ألا ينادي إنسان صاحبَه، وأن يُسرجوا في بيوتهم حتى الصبح، وأنّ من خرج إذا قال: موسى، قال: " عمرو " وأمر من خرج يلطخ بابه بكفّ من دم حتى يعلم أنه قد خرج. وإن الله أخرج كل ولد زنا في القبْط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وأخرج كلّ ولد زنا في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، حتى أتوْا آباءهم.
ثم خرج موسى ببني إسرائيل ليلًا والقبط لا يعلمون، وقد دعوا قبْل ذلك على القبط، فقال موسى: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون وملأه زينةً وأمْوالًا في الحياة الدُّنيا " إلى قوله: " حتى يروا العذاب الأليم "، فقال الله تعالى: " قد أُجِيبت دعْوتُكما " فزعم السدي أن موسى هو الذي دعا وأمّن هارون، فذلك حين يقول الله: " قد أُجِيبت دعْوتُكما ".
وقوله: " ربّنا اطْمِسْ على أموالِهم " فذكِرَ أم طمْس الأموال أنه جعل دراهمهم ودنانيرهم حجارة، ثم قال لهما استقيما، فخرجا في قومهما، وألفِّيَ على القبط الموتَ، فمات كل بِكْر رجل، فأصبحوا يَدفنونهم، فشُغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس؛ فذلك حين يقول الله: " فأَتبَعوهم مُشرِفينَ ".
وكان موسى على سَاقه بني إسرائيل، وكان هارون أمامَهم يقدمهم، فقال المؤمن لموسى: يا نبي الله، أين أمِرت؟ قال: البحر، فأراد أن يقتحم فمنعه موسى. وخرج موسى في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل، لا يُعدُّون ابن العشرين لصغره ولا ابن الستين لِكبَره، وإنما عدّوًا ما بين ذلك سوى الذريّة، وتبعهم فرعون، وعلى مقدمته هامان، في ألف ألف وسبعمائة حصان، ليس فيها ماذيانة، وذلك حين يقول الله: " فأرْسلَ فرعون في المدائنِ حاشرينَ، إن هؤلاء لشرذمةٌ، وإنهم لنا لغائظون " - يعني بني إسرائيل - " وإنا لجميعٌ حاذرون " -، يقول: قد حذرنا فأجمعنا أمرنا، " فلمّا تراءى الجمعان "، فنظرت بنو إسرائيل إلى فرعون قد ردفهم، قالوا: " إنا لمدرِكون ". قالوا: يا موسى، أوذينا من قبل أن تأتينا، كانوا يذبّحون أبناءنا، ويستحيون نساءنا، ومن بعد ما جئتنا اليوم يدركنا فرعون فيقتلنا! إنا لمدركون، البحر من بين أيدينا وفرعون من خلفنا، قال موسى: " كلَّا إنّ معيَ ربي سيهدينِ "، يقول: سيكفيني، " قال عسى ربُّكم أن يُهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرضِ فينظُرَ كيف تعملون ". فتقدم هارون فضرب البحر فأبى البحر أن ينفتح، وقال: مَنْ هذا الجبّار الذي يضربني! حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد، وضربه، " فانْفَلَقَ فكانَ كُلُّ فِرقٍ كالطُّودِ العظيمِ "، يقول: كالجبل العظيم، فدخلت بنو إسرائيل، وكان في البحر اثنا عشر طريقًا، في كل طريق سِبط، وكأن الطرق إذا انفلقت بجدران. فقال كلّ سبط: قد قتل أصحابنا، فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها لهم قناطر كهيئة الطيقان، فنظر أخرُهم إلى أولهم، حتى خرجوا جميعًا؛ ثم دنا فرعون وأصحابه، فلما نظر فرعون إلى البحر منفلقًا قال: ألا ترون البحر فرق مني، وقد تفتّح لي حتى أدرك أعدائي فأقتلهم! فذلك قول الله: " وأزلفنا ثمّ الآخرين "، يقول: قرّبنا ثمَّ الآخرين؛ هم آل فرعون.
فلما قام فرعون على أفواه الطرق أبت خيلُه أن تقتحم، فنزل جبرئيل على ماذيانة، فشمّت الحُصْن ريح الماذيانة فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرج ودخل آخرُهم، أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم، وتفرد جبرئيل بفرعون بمَقْلةٍ من مَقل البحر، فجعل يُدسُّها فيه، فقال حين أدركه الغرق: " آمنتُ أنه لا إله إلا الذي أمنتْ بنو إسرائيل وأنا من المُسلمين "، فبعث الله إليه ميكائيل يعيّره، قال: " آلآن وقد عصيْتَ قبلُ وكنت من المُفْسِدين ". فقال جبرئيل: يا محمد، ما أبغضت أحدًا من الخلق ما أبغضتُ رجلين: أما أحدهما فمن الجنّ وهو إبليس حين أبى أن يسجد لآدم، وأما الآخر فهو فرعون حين قال: " أنا ربُّكُمُ الأعلى "، ولو رأيتني يا محمد، وأنا آخذ مَقْل البحر فأدخله في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها! وقالت بنو إسرائيل: لم يغرق فرعون، الآن يدركنا فيقتلنا، فدعا الله موسى: فأخرج فرعون في ستمائة ألف وعشرين ألفًا، عليهم الحديد فأخذته بنو إسرائيل يمثّلون به، وذلك قول الله لفرعون: " فاليوم ننجّيك ببدَنك لتكون لمن خلفَك آية "؛ يقول: لبني إسرائيل آية. فلما أرادوا أن يسيروا ضُرب عليهم تيهٌ، فلو يدروا أين يذهبون، فدعا موسى مشيخة بني إسرائيل فسألهم: ما بالُنا؟ فقالوا له: إن يوسف لما مات بمصر أخذ على إخوته عهدًا ألّا تخرجوا من مصر حتى تخرجوني معكم، فذلك هذا الأمر، فسألهم: أين موضع قبره؟ فلم يعلموا، فقام موسى ينادي: أنشِد الله كلَّ منْ كان يعلم أين موضع قبر يوسف إلا أخبرني به، ومن لم يعلم فصمَّتْ أذناه عن قولي! وكان يمرّ بين الرجلين ينادي فلا يسمعان صوته، حتى سمعته عجوز لهم فقالت: أسأل ربي، فأمره الله عز وجل أن يعطيَها، فأتاها فأعطاها، فقالت: إني أريد ألا تنزلَ غُرْفة من الجنة إلا نزلتُها معك، قال: نعم، قالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع أن أمشِيَ فاحملْني، فلما دنا من النيل، قالت: إنه في جوف الماء، فادعُ الله أن يُحسِر عنه الماء، فدعا الله فحسر الماء عن القبر، فقالت: احفره، ففعل فحمل عظامه، ففتح لهم الطريق، فساروا، " فأَتَوْا على قومٍ يعْكفُون على أصنامٍ لهُم قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ قال إنّكم قومٌ تَجْهَلون، إنّ هؤلاء متبّرٌ ما هم فيه " - يقول: مهلك ما هم فيه - " وباطلٌ ما كانوا يَعمَلون ".
فأما ابنُ إسحاق، فإنه قال: - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا ابن سلمة عنه - فتابع الله عليه بالآيات - يعني على فرعون - وأخذه بالسنين إذ أبى أن يؤمن بعد ما كان من أمره وأمر السحرة ما كان، فأرسل عليه الطوفان، ثم الجراد، ثم القمَّل، ثم الضفادع، ثم الدم آيات مفصّلات، أي آية بعد آية، يتبع بعضُها بعضًا، فأرسل الطوفانَ وهو الماء، ففاض على وجه الأرض ثم ركد، لا يقدرون على أن يحرثوا، ولا يعملوا شيئًا، حتى جهدوا جوعًا. فلما بلغهم ذلك قالوا: يا موسى ادع لنا ربك، " لئن كشَفْتَ عنّا الرِّجْزَ لنَومِننَّ لكَ ولنُرسِلنَّ مَعَكَ بني إسرائيل ". فدعا موسى ربع فكشفه عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر - فيما بلغني حتى أنه كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم، فقالوا مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشفه عنهم فلم يفوا لي بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم القمّل. فذكر لي أن موسى أمِر أن يمشيَ إلى كثيب فيضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيَل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قمَّلًا حتى غلب على البيوت والأطعمة، ومعهم النوم والقرار، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربّه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد منهم ثوبًا ولا طعامًا ولا إناء إلا وجدَ فيه الضفادع قد غلبتْ عليه، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفُوا له بشيء مما قالوا، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دمًا، لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عادت دمًا عبيطًا.
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدث أن المرأة من آل فرعون كانت تأتِي المرأةَ من بني إسرائيل حين جهدهم العطش، فتقول: اسقيني من مائك، فتغرف لها من جَرتها أو تصُبّ لها من قربتها، فيعود في الإناء دمًا، حتى إن كانت لتقول لها: اجعليه في فيك ثم مجّيه في في، فتأخذ في فيها ماء، فإذا مجّته في فمها صار دمًا، فمكثوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: " ادْعُ لنا ربّك بما عهِد عندَك لئن كشفت عنا الرِّجْزَ لنؤمننّ لك ولنُرسِلنّ معك بني إسرائيل ". فلما كشِف عنهم الرجز نكثوا ولم يفُوا بشيء مما قالوا، فأمر الله موسى أن يسير، وأخبره أنه منجيه ومن معه، ومهلك، فرعون وجنوده، وقد دعا موسى عليهم بالطَّمْسة؛ فقال: " ربنا إنك آتيْتَ فرعون ومَلأَهُ زينةً وأموالًا في الحياة الدنيا ربنا ليضلّوا عن سبيلك " - إلى - " ولا تتَّبعانَّ سبيل الذين لا يعلمون ". فمسخ الله أموالهم حجارة: النخل والرقيق والأطعمة، فكانت إحدى الآيات التي أراهنَّ الله فرعون.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بُرَيدة ابن سفيان بن فروة الأسلمي، عن محمد بن كعب القرظي، قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن التسع الآيات التي أراهنّ الله فرعون، فقلت: الطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، عصاه، ويده والطمسة، والبحر. فقال عمر: فأنّى عرفت أن الطمسة إحداهنّ؟ قلت: دعا عليهم موسى وأمّن هارون، فمسخ الله أموالهم حجارة، فقال: كيف يكون الفقه إلا هكذا! ثم دعا بخريطة فيها أشياء مما كان أصيب لعبد العزيز بن مروان بمصر؛ إذ كان عليها من بقايا أموال آل فرعون، فأخرج البيضة مقْشورة نصفين؛ وإنها لحجر، والجوزة مقشورة وإنها لحجر، والحمُصة، والعدسة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد، عن رجل من أهل الشأم كان بمصر، قال: قد رأيت النخلة مصروعة، وإنها لحجّر، وقد رأيت إنسانًا ما شككت أنه إنسان وإنه لحجر، من رقيقهم، فيقول الله عز وجل: " ولقد أتيْنا موسى تسع آياتٍ بيّناتٍ " إلى قوله " مثبورًا " يقول: شقيًا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، أن الله حين أمر موسى بالمسير ببني إسرائيل أمرَه أن يحتمل يوسفَ معه حتى يضعه بالأرض المقدسة، فسأل موسى عمّن يعرف موضعَ قبره، فما وجد إلا عجوزًا من بني إسرائيل، فقالت: يا نبي الله، أنا أعرف مكانه. إن أنت أخرجتني معك، ولم تخلفني بأرض مصر دللتك عليه قال: أفعل، وقد كان موسى وعد بني إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع الفجر، فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف، ففعل، فخرجت به العجوز حتى أرته إياه في ناحية من النيل في الماء، فاستخرجه موسى صندوقًا من مرمر، فاحتمله معه. قال عروة: فمن ذلك تحمِل اليهود موتاها من كل أرض إلى الأرض المقدسة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان - فيما ذُكر لي - أن موسى قال لبني إسرائيل فيما أمره الله به: استعيروا منهم المتعة والحُلي والثياب فإني منفِّلكم أموالَهم مع هلاكهم؛ فلما أذّن فرعون في الناس كان مما يحرّض به على بني إسرائيل أن قال حين ساروا: لم يرضُوا أن خرجوا بأنفسهم حتى ذهبوا بأموالكم معهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد ابن كعب القرظي، عن محمد عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لقد ذكِرَ لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفًا دُهم الخيل سوى ما في جنده من شيات الخيل، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ولم يكن عنه منصرف طلع فرعون في جنده من خلفهم، " فلمّا تراءى الجمْعانِ قال أصحابُ موسى إنّا لمدركون، قال كلَّا إن معيَ ربي سيهدينِ "، أي للنجاة، وقد وعدني ذلك ولا خُلف لموعوده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: فأوحى الله تبارك وتعالى - فيما ذكر لي - إلى البحر: إذا ضربك موسى بعصاه فانْفلق له، فبات البحر يضربُ بعضه بعضًا فرَقًا من الله وانتظارًا لأمره، فأوحى الله عز وجل إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه، " فانفلق فكان كلُّ فِرقِ كالطُّودِ العظيم "، أي كالجبل على نَشَز من الأرض. يقول الله لموسى عليه السلام: " فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا لا تخافُ دّرَكًا ولا تخشى ". فلما استقرّ له البحر على طريق قائمة يبسَ سلك فيه موسى ببني إسرائيل، واتبعه فرعون بجنوده.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي، عن عبد الله بن شداد بن الهاد الليْثي، قال: حُدّثت أنه لما دخلتْ بنو إسرائيل فلم يبق منهم أحدٌ أقبل فرعون وهو على حصان له من الخيل، حتى وقف على شفير البحر وهو قائم على حاله، فهاب الحصان أن يتقدم، فغرض له جبرئيل على فرس أنثى وديق، فقرّبها منه فشمّها الفحل، ولما شمّها قدمها، فتقدم معه الحصان عليه فرعون، فلما رأى جند فرعون أن فرعون قد دخل دخلوا معه، وجبرئيل أمامه، فهم يتبعون فرعون، وميكائيل على فرس خلف القوم يشحذهم يقول: الحقوا بصاحبكم، حتى إذا فصل جبرئيل من البحر ليس أمامه أحدٌ، ووقف ميكائيل على الناحية الأخرى ليس خلفه أحد، طبّق عليهم البحر، ونادى فرعون حين رأى من سلطان الله وقدرته ما رأى، وعرف ذلّه وخذلته نفسه، نادى: أن لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا أبو داود البصري، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: جاء جبرئيل إلى النبي عليه السلام فقال: يا محمد، لقد رأيتني وأنا أدسّ من حمأِ البحر في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة! يقول الله: " آلآن وقد عصيْت قبلُ وكنتَ من المفسِدين، فاليوم ننجّيك ببدنِك "، أي سواءٌ لم يذهب منك شيء، " لتكون لمن خلْفَكَ آيةً " أي عبرة وبينة. فكان يقال: لو لم يخرجه الله ببدنه حتى عرفوه لشطَّ فيه بعضُ الناس.
ولما جاوز ببني إسرائيل البحر أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، " قالوا يا موسى اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنّكم قومٌ تجْهَلون، إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطلٌ ما كانوا يعملون، قال أغيرَ الله أبغيكم إلهًا وهو فضّلكم على العالمين ". ووعد الله موسى حين أهلك فرعون وقومَه ونجاه وقومَه ثلاثين ليلة.
رجع الحديث إلى حديث السدي. ثم إن جبرئيل أتى موسى يذهب به إلى الله عز وجل فأقبل على فرس فرآه السامري فأنكره، ويقال: إنه فرس الحياة، فقال حين رآه: إن لهذا لشأنًا، فأخذ من تربة الحافِر الفرس، فانطلق موسى واستخلف هارون على بني إسرائيل، وواعدهم ثلاثين ليلة، وأتمها الله بعشر، فقال لهم هارون: يا بني إسرائيل، إنّ الغنيمة لا تحلّ لكم، وإن القِبْط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعًا فاحفروا لها حفرة فادفنوها فيها، فإن جاء موسى فأحلّها أخذتموها، وإلا كان شيئًا لم تأكلوه، فجمعوا ذلك الحلي في تلك الحفرة، وجاء السامري بتلك القبضة فقذفها، فأخرج الله من الحلي عجلًا له خُوار، وعدّت بنو إسرائيل موعدَ موسى، فعدوا الليلة يومًا واليوم يومًا، فلما كان العشر خرج لهم العجلُ فلما رأوه قال لهم السامري: هذا إلهُكُم وإلهُ موسى فنسِيَ ". يقول: ترك موسى إلهه ها هنا، وذهب يطلبه فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي، فقال لهم هارون: " يا بنِي إسرائيل إنّما فُتنتم به " يقول: إنما ابتليتم به، يقول: بالعجل، " وإنّ ربَّكم الرحمنُ فاتّبعوني وأطيعوا أمري "، فأقام هارون ومن معَه من بني إسرائيل لا يقاتلونهم، وانطلق موسى إلى إلهه يكلمه، فلما كلّمه قال له: " وما أعجلَك عنْ قومِكَ يا موسى، قال هم أولاء على أثري وعجِلْتُ إليك ربّ لترضى، قال فإنا فد فتنّا قومك من بعدك وأضلّهم السامري ". فلما أخبره خبرهم قال موسى: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل، أرأيت الروحَ منْ نفخها فيه؟ قال الربّ: أنا. قال: رب أنت إذًا أضللتهم.
ثم أن موسى لما كلمه ربّه أحبّ أن ينظر إليه، " قال ربِّ أرِنِي أنظُر إليكَ قال لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني "، فحَفّ حول الجبل الملائكة، وحُفّ حول الملائكة بنار، وحُفّ حول النار بملائكة، وحول الملائكة بنار، ثم يتجلّى ربه للجبل.
فحدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، قال: حدثني السدي، عن عكْرمة، عن ابن عباس، أنه قال: تجلّى منه مثل طَرف الخنِصر، فجعل الجبلَ دكًّا وخرّ موسى صعقًا، فلم يزل صَعِقًا ما شاء الله، ثم أنه أفاق فقال: " سبحانك تُبت إليكَ وأنا أوّل المؤمنين "، يعني أول المؤمنين من بني إسرائيل، فقال: " يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن مِنَ الشاكرين، وكتبْنا له في الألواح من كُلِّ شيءٍ موْعِظَةً وتفصيلًا لكل شيء " من الحلال والحرام " فخذها بقوةٍ "، يعني بجدّ واجتهاد " وأْمُرْ قومك يأخذوا بأحسنِها " أي بأحسن ما يجدون فيها. فكان موسى بعد ذلك لا يستطيع أحدَ أن ينظر في وجهه، وكان يُلْبِس وجهه بحريرة، فأخذ الألواح ثم رجع إلى مومه " غضبانَ أَسِفًا " يقول: حزينًا " قال يا قومِ ألم يعدْكم ربُّكم وعدًا حسنًا " - إلى - " قالوا ما أخلفْنا موعدَك بملكِنا " يقولون: بطاقتنا، " ولكنّا حُمّلنا أوزارًا من زينةِ القوم " يقول: من حُلي القبط " فقذفناها فكذلك ألقَى السامريُّ "، ذلك حين قال لهم هارون: احفِروا لهذا الحلْي حُفرة، واطْرحوه فيها، فطرحوه فقذف السامري تربته، فألقى موسى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه، " قال يا بن أمَّ لا تأخذْ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقولَ فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم ترقُب قولي ". فترك موسى هارون، ومال إلى السامري، فقال: " فما خطْبُكَ يا سامريُّ "، قال السامري: " بصُرتُ بما لم يبْصِروا به " إلى: " في اليمِّ نسْفًا ". ثم أخذه فذبحه، ثم حرفَهُ بالمبرد ثم ذراه في البحر، فلم يبق بحر يجري إلا وقع فيه شيء منه، ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا، فمن كان يحبه خرج على شاربه الذهب، فلذلك حين يقول: " وأُشرِبوا في قلوبِهِم العِجْلَ بكُفرهم ". قلما سُقِط في أيدي بني إسرائيل حين جاء موسى " ورأوا أنهُم قد ضلّوا قالوا لئن لم يرحمْنا ربُّنا ويفغِرْ لنا لنكوننّ من الخاسرين ". فأبى الله أن يقبل توبة بني إسرائيل إلا بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهُمْ حين عبدوا العجل، فقال لهم موسى: " يا قومِ إنكم ظَلمْتم أنفُسَكم باتِّخاذِكُمُ العجلَ فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفُسُكُم "، فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف، فكان من قُتِل من الفريقين شهيدًا، حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا، حتى قتل بينهم سبعون ألفًا، حتى دعا موسى وهارون: رَبّنا هلكتْ بنو إسرائيل! ربّنا البقية البقية! فأمرهم أن يضعوا السلاح، وتاب عليهم، فكان من قُتِل كان شهيدًا، ومن بقيَ كان مُكفَّرًا عنه، فذلك قوله: " فتاب عليكم إنه هو التوّاب الرحيم ".
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان السامري رجلًا من أهل باجَرْما، وكان من قوم يعبدون البقر، فكان حبُّ عبادة البقر في نفسه، وكان قد اظهر الإسلام في بني إسرائيل، فلما فصل هارون في بني إسرائيل، وفصل موسى معهم إلى ربه تبارك وتعالى قال لهم هارون: إنكم قد تحمّلتم أوزانًا من زينة القوم آل فرعون، وأمتعة وحليًّا، فتطهّروا منها فإنها نجس، وأوقد لهم نارًا، وقال: اقذفوا ما كان معكم من ذلك فيها، قالوا: نعم، فجعلوا يأتون بما كان فيهم من تلك الحلي وتلك الأمتعة فيقذفون به فيها، حتى انكسرت الحلي فيها، رأى السامري أثر فرس جَيْرَئيل، فأخذ ترابًا من أثر حافره، ثم أقبل إلى الحفرة فقال لهارون: يا نبي الله، ألقى ما في يدك؟ قال: نعم، ولا يظن هارون إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من تلك المتعة والحلي، فقذفه فيها، وقال: كن عجلًا جسدًا له خوار، فكان للبلاء والفتنة، فقال: هذا إلهُكم وإله موسى، فعكفوا عليه وأحبوه حبًا لم يحبوا مثله شيئًا قطّ، فقال الله عز وجل " " فنسي "، أي ترك ما كان عليه من الإسلام؛ - يعني السامري - " أفلا يرون ألَّا يرجِعُ إليهم قولًا ولا يملك لهم ضَرًا ولا نفعًا ".
قال: وكان اسم السامري موسى بن ظفر، فوقع في أرض مصر، فدخل في بني إسرائيل، فلما رأى هارون ما وقعوا فيه قال: " يا قومِ إنّما فُتنْتم به " - إلى قوله - " حتى يرجِع إلينا موسى ". فأقام هارون فيمن معه من المسلمين ممن لم يفتتن، وأقام مَنْ يعبد العجل على عبادة العجل، وتخوّف هارون إن سار بمن معه من المسلمين أن يقول له موسى: " فرّقت بين بني إسرائيل ولم ترقُبْ قولي "، وكان هائبًا له مطيعًا، ومضى موسى ببني إسرائيل إلى الطور، وكان الله عز وجل وعد بني إسرائيل حين أنجاهم واهلك عدوّهم جانب الطور الأيمن، وكان موسى حين سار ببني إسرائيل من البحر قد احتاجوا إلى الماء، فاستسقى موسى لقومه، فأمِر أن يضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سِبْط عين يشربون منها قد عرفوها، فلما كلم الله موسى طمع في رؤيته، فسأل ربه أن ينظر إليه، فقال له: إنك " لن تَراني ولكنِ انظر إلى الجبل " إلى قوله: " وأنا أوّل المؤمنين ".
ثم قال الله لموسى: " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتُكَ " إلى قوله: " سأُريكم دارَ الفاسقين ". وقال له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " إلى قوله: " فرجَع موسى إلى قومه غضبانَ أسِفًا "، ومعه عهد الله في ألواحه.
ولما انتهى موسى إلى قومه فرأى ما هم فيه من عبادة العجل ألقى الألواح من يده، وكانت - فيما يذكرون - من زبرجد أخضر، ثم أخذ برأس أخيه ولحيته ويقول: " ما منعك إذ رأيْتهم ضلّوا، ألّا تتبعني " إلى قوله: " ولم ترقُب قولي ". فقال: " يا بن أُمَّ إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تُشْمِتْ بيَ الأعداءَ ولا تجعلْني مع القوم الظالمين "، فارعوي موسى وقال: " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين ".
وأقبل على قومه فقال: " يا قومِ ألم يعِدْكم ربُّكم وعدًا حسنًا " إلى قوله: " عجْلًا جَسَدًا له خُوارٌ ". وأقبل على السامري فقال: " فما خطبُكَ يا سامري، قال بصُرتُ بما لم يَبصُرُوا به " إلى قومه: " وسِع كُلَّ شيْء عِلمًا ". ثم أخذ الألواح، يقول الله: " أخذ الألواح. وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين همْ لربهم يرهبون ".
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن صدقة ابن يسار، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: كان الله تعالى قد كتب لموسى فيها موعظة وتفصيلًا لكلّ شيء وهدى ورحمة، فلما ألقاها رفع الله ستة أسباعها وأبقى سبعًا، يقول الله عز وجل: " وفي نُسختها هدىً ورحمةٌ للذين هم لربهم يَرْهَبون "، ثم أمر موسى بالعجل فأحرِق، حتى رجع رمادًا، ثم أمر به فقذف في البحر.
قال ابن إسحاق: فسمعت بعض أهل العلم يقول: إنما كان أحرقه ثم سحله ثم ذرّاه في البحر. والله أعلم.
ثم اختار موسى منهم سبعين رجلًا: الخيّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهِّروا وطهروا ثيابكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقّته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربه: اطلب لنا نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشّى كلّه، ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا، وكان موسى إذا كلّمه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه، فضُرب دونه بالحجاب، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم فقالوا لموسى: " لن نؤْمنَ لك حتى نرى الله جَهْرةً "، " فأخذتْهمُ الرَّجْفَةُ "، وهي الصاعقة، فانفلتت أرواحهم فماتوا جميعًا، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه، ويرغب إليه ويقول: " ربِّ لو شئت أهلكْتهم من قبلُ وإياي " قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا! إن هذا هلاك لهم. اخترت منهم سبعين رجلًا الخيّر فالخير، أرجع إليهم وليس معي رجل واحد، فما الذي يصدقونني به! فلم يزل موسى يناشد ربَّه، ويسأله ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم. وقال: فبلغني أنهم قالوا لموسى: نصبر لأمر الله، فأمر موسى مَنْ لم يكن عبد العجل أن يقتل مَنْ عبده، فجلسوا بالأفنية، وأصلتَ عليهم القوم السيوف، فجعلوا يقتلونهم، وبكى موسى وبهش إليه الصبيان والنساء يطلبون العفو عنهم، فتاب عليهم وعفا عنهم، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف.
وأما السدي فإنه ذكر في خبره الذي ذكرت إسناده قبلُ أن مصير موسى إلى ربه بالسبعين الذين اختارهم من قومه بعد ما تاب الله على عبدة العجل من قومه، وذلك انه ذكر بعد القصة التي قد ذكرتها عنه بعد قوله: " إنه هو التوّاب الرحيم ". قال: ثم إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلًا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا، فلم أتوا ذلك المكان قالوا: " لأن نؤمن لك حتى نرى الله جَهْرة "، فإنك قد كلّمته فأرِناه، فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله يقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكتَ خيارَهم! رب لو شئت أهلكتَهم من قبل إياي، أتهلكنا بما فعل السفهاء منا! فأوحى الله عز وجل إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممّن اتّخذ العجل، فذلك حين يقول موسى: " إن هِيَ إلّا فِتنتُك تُضِلُّ بها من تشاء وتهذي من تشاء " إلى قوله: " إنا هُدْنا إليك "، يقول تبنا إليك، وذلك قوله تعالى: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن حتى نرى الله جَهرة فأخذتكُمُ الصاعقة "، والصاعقة نار. ثم إن الله أحياهم، فقاموا وعاشوا رجلًا رجلًا، ينظر بعضُهم إلى بعض: كيف يحيَوْن؟ فقالوا: يا موسى، أنتَ تدعو الله فلا تسأله شيئًا إلا أعطاك، فادعُه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء، فذلك قوله: " ثم بعثناكم من بعد موتِكم "، ولكنّه قدّم حرفًا وأخّر حرفًا.
ثم أمرهم بالسير إلى أرِيحا، وهي ارض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبًا منها بعث موسى اثني عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبّارين، فلقيَهم رجل من الجبارين يقال له عاج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حُجْزته وعلى رأسه حملة حطب، فانطلق به إلى امرأته فقال: انظري إى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنُهم برجلي! فقالت امرأته: لا، بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوْا، ففعل ذلك، فلما خرج القومُ قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنكم أخبرتُم بني إسرائيل بخبر القوم ارتدّوا عن نبي الله، ولكن اكتموهم وأخبروا نبيَّ الله، فيكونان هما يريان رأيهما، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة فنكثوا العهد، فجعل الرجل منهم يخبر أخاه وأباه بما رأوا من أمر عاج، وكتَم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون فأخبرهما الخبر، فذلك حين يقول الله: " ولقد أخذ اللهُ الميثاق بني إسرائيل وبعثْنا منهمُ اثني عشر نقيبًا ". فقال لهم موسى: " يا قوم اذْكُروا نِعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ وجعلَكم مُلُوكًا " يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. " يا قومِ ادخلوا الأرضَ المقدَّسة الني كتبَ الله لكم "، يقول: التي أمركم الله بها " ولا ترتدّوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا " مما سمعوا من العشرة: " إن فيها قومًا جبّارين وإنا لن ندخلَها حتى يخرجوا منها فإنْ يَخرجوا منها فإنا داخِلون، قال رجُلانِ من الذين يخافون أنعم الله عليهما "، وهما اللذان كتما، وهما يوشع بن نون فتى موسى وكالوب بن يوفنّة - وقيل: كلاب بن يوفنّة ختن موسى - فقالا: يا قوم " ادخُلوا عليهِمُ الباب ". " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربُّك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ". فغضب موسى، فدعا عليهم، فقال: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين " وكانت عجَلة من موسى عجِلها، فقال الله: " فأنها محرّمة عليهِمْ أربعين سنة يتيهون في الأرض ". فلما ضُرب عليهم التيه، ندم موسى وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه، فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم أوحى الله عز وجل إليه: ألا تأسَ، أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين. فلم يحزن، فقالوا: يا موسى، فكيف لنا بماء ها هنا؟ أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ والسلوى، فكان يَسقط على الشجر الترنجبين والسلوى - وهو طير يشبه السُّماني - فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، فإن كان سمينًا ذَبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه، فقالوا: هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، يشرب كل سِبْط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب، فأين الظلّ؟ فظلل الله عليهم الغمام، فقالوا: هذا الظلّ، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله: " وظلّلْنا عليهِمُ الغَمامَ وأنزلْنا عليهِمُ المَنَّ والسلوى ". وقوله: " وإذ استسقى موسى لقومه فقُلنا اضرِب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهُم "، فأجمعوا ذلك، فقالوا: " يا موسى لن نصبِر على طعام واحدٍ فادع ربك يُخرِجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثّائها وفومِها " - وهي الحنطة - " وعدسها وبصلها ". قال: " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ اهبِطوا مصْرًا " من الأمصار، " فإنّ لكم ما سألتم ". فلما خرجوا من التيه رفع المن والسلوى، وأكلوا البقول، والتقى موسى وعاج فنزا موسى في السماء عشرة أذرع، وكانت عصاه أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عاج فقتله.
حدثنا ابن بشار، حدثنا مُؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوْف، قال: كان طول عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ثم وثب في السماء عشرة أذرع، فضرب عوجًا فأصاب كعبه فسقط ميتًا، فكان جِسْرًا للناس يمرّون عليه.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: أخبرنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبتُه عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل. وقيل إن عوج عاش ثلاثة آلاف سنة.
ذكر وفاة موسى وهارون ابني عمران عليهما السلام
حدثنا موسى بن هارون الهمْذاني، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السُّدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس - وعن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي : ثم إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى، أنى مُتَوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا. فانطلق موسى وهارون نحو ذلك الجبل، فإذا هما بشجرة لم يرَ مثلها، وإذا هما ببيت مبني، وإذا هما فيه بسرير عليه فرش، وإذا فيه ريحٌ طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه، فقال: يا موسى إني لأحب أن أنام على هذا السرير، قال له موسى: فنمْ عليه، قال: إني أخاف أن يأتي ربُّ هذا البيت فيغضب علي، قال له موسى: لا ترهب أنا أكفيك ربُّ هذا البيت فنم؛ قال: يا موسى بل نم معي، فإن جاء رب البيت غضب علي وعليك جميعًا، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما وجد حسه قال: يا موسى خدعتني، فلما قُبِض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورُفع السرير إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل، وليس معه هارون قالوا: فإن موسى قتلَ هارون وحسده لحبّ بني إسرائيل له، وكان هارون أكفّ عنهم وأليَن لهم من موسى، وكان في موسى بعضُ الغلظ عليهم، فلما بلغه ذلك قال لهم: ويحكم! كان أخي أفتروْنني أقتله! فلما أكثروا عليه قلم فصلى ركعتين ثم دعا إلى الله فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدّقوه. ثم إن موسى بينما هو يمشي ويوشع فتاه إذا أقبلت ريح سوداء، فلما نظر يوشع إليها ظنّ أنها الساعة والتزم موسى، وقال: تقوم الساعة وأنا ملتزم موسى نبي الله، فاستُلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يد يوشع، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل، وقالوا: قتلت نبي الله! قال: لا والله ما قتلتُه، ولكنه استُلَّ مني، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله. قال: فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام، فدعا الله فأتِي كل رجل ممن كان يحرسه في المنام، فأخبر أن يوشع لم يقتل موسى، وأنا قد رفعناه إلينا، فتركوه ولم يبق أحد ممن أبى أن يدخل قرية الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: كان صفيُّ الله قد كره الموت وأعظمه، فلما كرهه أراد الله تعالى أن يحبِّب إليه الموت ويكرّه إليه الحياة، فحوّلت النبوّة إلى يوشع بن نون، فكان يغدو عليه ويروح، فيقول له موسى: يا نبي الله، ما أحدث الله إليك؟ فيقول له يوشع بن نون: يا نبي الله، ألمْ أصحبْك كذا وكذا سنة، فهل كنتُ أسألك عن شيء مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره؟ فلا يذكر له شيئًا، فلما رأى موسى ذلك كرِه الحياة وأحبّ الموت.
قال ابن حميد: قال سلمة: قال ابن إسحاق: وكان صفي الله - فيما ذكر لي وهب بن منبّه - إنما يستظلّ في عريش ويأكل ويشرب في نقير من حجَر؛ إذا أراد أن يشرب بعد ان أكل كرع كما تكرع الدابة في ذلك النقير، تواضعًا لله حين أكرمه الله بما أكرمه به من كلامه.
قال وهب: فذكر لي أنه كان من أمر وفاته أنه صفي الله خرج يومًا من عريشه ذلك لبعض حاجته لا يعلم به أحدٌ من خلق الله، فمرّ برهط من الملائكة يحفِرون قبرًا فعرفهم وأقبل إليهم، حتى وقف عليهم، فإذا هم يحفرون قبرًا لم ير شيئًا قط أحسنَ منه، ولم ير مثل ما فيه من الحضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكةَ الله لمن تحفرون هذا القبر؟ قالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، قال: إن هذا العبد من الله المنزل! ما رأيت مضجعًا ولا مدخلًا! وذلك حين حضر من أمر الله ما حضر من قبضه، فقالت له الملائكة: يا صفي الله، أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت قالوا: فانزل فاضطجع فيه، وتوجه إلى ربك، ثم تنفس أسهل تنفس تنفسته قط. فنزل فاضطجع فيه، وتوجّه إلى ربه، ثم تنفس فقبض الله تعالى روحه، ثم سوّت عليه الملائكة، وكان صفي الله زاهدًا في الدنيا راغبًا فيما عند الله.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، مولى بني هاشم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله : " إن ملَك الموت كان يأتي الناس عِيانًا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه، قال: فرجَع فقال: يا ربّ، إن عبدَك موسى فقأ عيني، ولولا كرامَته لشققت عليه، فقال: ائت عبدي موسى، فقل له: فليضع كفه على متن ثور، فله بكل شعرة وارت يدُه سنة؛ وخيّره بين ذلك وبين ان يموت الآن، قال: فأتاه فخيّره، فقال له موسى: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذًا، فشمّه شمة قبض روحه. قال: فجاء بعد ذلك إلى الناس خُفية ".
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: مات موسى وهارون جميعًا في التيه، مات هارون قبل موسى، وكانا خرجا جميعًا في التيه إلى بعض الكهوف، فمات هارون، فدفنه موسى، وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا: ما فعل هارون؟ قال: مات، قالوا: كذبت ولكنك قتلته لحبنا إياه، وكان محببًا في بني إسرائيل، فتضرع موسى إلى ربه، وشكا ما لقي من بني إسرائيل، فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى موضع قبره، فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتًا ولم تقتله. قال: فانطلق بهم إلى قبر هارون، فنادى: يا هارون، فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال: انا قتلتك؟ قال: لا والله، ولكني متّ، قال: فعد إلى مضجعك، وانصرفوا.
فكان جميع مدة عمر موسى عليه السلام كلها مائة وعشرين سنة، عشرون من ذلك في ملك أفريدون، ومائة منها في ملك منوشهر، وكان ابتدأه من لدن بعثه الله نبيًا إلى أن قبضه إليه في ملك منوشهر.
ذكر يوشع بن نون عليه السلام
ثم ابتعث الله عز وجل بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبيًّا، وأمره بالمسير إلى أريحا لحرب مَنْ فيها من الجبارين. فاختلف السلفُ من أهل العلم في ذلك، وعلى بد مَنْ كان ذلك؟ ومتى سار يوشع إليها؟ في حياة موسى بن عمران كان مسيره إليها أم بعد وفاته؟ فقال بعضهم: لم يسِرْ يوشع إلى أريحا، ولا أمِر بالمسير إليها إلّا بعد موت موسى، وبعد هلاك جميع من كان أبى المسيرَ إليها مع موسى بن عمران، حين أمرهم الله تعالى مَنْ فيها من الجبارين، وقالوا: مات موسى وهارون جميعًا في التيه قبل خروجهما منه.
ذكر من قال ذلك
حدثني عبد الكريم بن الهيثم، قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، قال: حدثنا سفيان، قال: قال أبو سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال الله تعالى: لما دعا موسى - يعني بدعائه قوله: " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافْرق بيننا وبين القومِ الفاسقين، قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ". قال: فدخلوا التيه، فكل من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنة مات في التيه، قال: فمات موسى في التيه، مات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وناهض يوشعُ بمن معه مدينة الجبّارين فافتتح يوشع المدينة.
حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن قتادة. قال: قال الله تعالى: " إنها محرَّمة عليهم أربعين سنة.. " الآية، حرّمت عليهم القرى، فكانوا لا يهبطون قرية، ولا يقدرون على ذلك أربعين سنة.
وذكر لنا أنّ موسى مات في الأربعين سنة، ولم يدخل بيتَ المقدس منهم إلا أبناؤهم، والرجلان اللذان قالا ما قالا.
حدثني موسى بن هارون الهمداني، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في الخبر الذي ذكرت إسناده فيما مضى: لم يبق أحدٌ ممن أبى أن يدخل مدينة الجبّارين مع موسى إلا مات، ولم يشهد الفتح. ثم إن الله عز وجل لما انقضت الأربعون سنة بعث يوشع بن نون نبيًا فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدقوه، فهزم الجبارين، واقتحموا عليهم، فقتلوهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سليمان بن حرب، عن هلال، عن قتادة في قول الله تعالى: " فإنها محرّمة عليهم "، قال: أبدًا.
حدثني المثنّى قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، عن هارون النحوي، عن الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض "، قال: التحريم التِّيه.
وقال آخرون: إنما فتح أريحا موسى؛ ولكن يوشع كان علة مقدمة موسى حين سار إليهم.
http://mgtrben.net/viewimages/e69639c596.jpg
مطلوب للأنتربول الدولي خرج تسلموني
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما نشأت النواشي من ذراريّهم - يعني من ذراري الذين أبوا قتال الجبارين مع موسى - وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُبّهوا فيها؛ سار بهم موسى ومعه يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنّة، وكان فيما يزعمون على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، فكان لهم صهرًا، فلما انتهوا إلى أرض كنعان، وبها بلعم بن باعور العروف، وكان رجلًا قد آتاه الله علمًا، وكان فيما أوتي من العلم اسم الله الأعظم - فيما يذكرون - الذي إذا دعِي الله به أجاب، وإذا سئل به أعطى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضْر، أنه حدث أن موسى لما نزل أرض بني كنعان من أرض الشأم، وكان بلعم ببالعة - قرية من قرى البلْقاء - فلما نزل موسى ببني إسرائيل ذلك المنزل، أتى قومُ بلعم إلى بلعم، فقالوا له: يا بلعم، هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا، ويقتلنا ويُحلّها بني إسرائيل، ويسكنها، وإنا قومك وليس لنا منزلٌ، وأنت رجل مُجابُ الدعوة، فاخرج فادعُ الله عليهم، فقال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون! كيف أذهب أدعو عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! قالوا: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرقّقونه، ويتضرعون إليه حتى فتنوه، فافتتن فركب حمارة له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، وهو جبل حُسبان، فما سار عليها غير قليل، حتى ربضت به، فنزل عليها فضربها حتى أذلقها فقامت فركبها، فلم تسرْ به كثيرًا حتى ربضت به، ففعل بها مثل ذلك، فقامت فركبها، فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به، فضربها حتى إذا أذلقها الله أذن لها فكلمتْه حُجّة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم! أين تذهب! ألا ترى الملائكة أمامي تردّني عن وجهي هذا! أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين تدعو عليهم! فلم ينزع عنها يضربها، فخلّى الله سبيلَها حين فعل بها ذلك، فانطلقت حتى إذا أشرفت به على جبل حُسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل، جعل يدعو عليهم، فلا يدعو عليهم بشيء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غَلب الله عليه، واندلع لسانه فرفع على صدره، فقال لهم: قد ذهبت الآن مني الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمّلوا النساء وأعطوهن السلع، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهنّ فلا تمنع امرأة نفسَها من رجل أرادها؛ فإنه إن زنى رجل واحد منهم كُفيتموهم، ففعلوا، فلما دخل النساء العساكر مرّت امرأة من الكنعانيين اسمها كسّى ابنة صور - رأس أمته وبني أبيه من كان منهم في مديّن، هو كان كبيرهم - برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم، رأس سِبْط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فقام إليها فأخذ بيدها حين أعجبه جمالُها، ثم أقبل حتى وقف بها على موسى، فقال: إني أظنك ستقول: هذه حرام عليك! قال: أجلْ هي حرام عليك لا تقربْها، قال: فو الله لا نُطيعك في هذا، ثم دخل بها قبّته فوقع عليها، فأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل. وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى، وكان رجلًا قد أعطِيَ بسطة في الخلق، وقوة في البطش، كان غائبًا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يحوس في بني إسرائيل، فأخبِر الخبر، فأخذ حربته - وكانت من حديد كلّها - ثم دخل عليهما القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه، واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحيته - وكان بِكْر العيزار - فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمَنْ يعصيك! ورُفع الطاعون فحُسب مَنْ يهلك من بني إسرائيل في الطاعون - فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص - فوجدوا قد هلك منهم سبعون ألفًا، والمقلّل لهم يقول: عشرون ألفًا، في ساعة من النهار، فمن هنالك تُعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص بن العيزار بن هارون من كل ذبيحة ذبحوها القِبَة والذراع واللَّحْى، لاعتماده بالحربة على خاصرته، وأخذه إياها بذراعه، وإسناده إياها إلى لحيته، والبِكْر من كل أموالهم وأنفسهم، لأنه كان بكر العيزار، ففي بلعم بن باعور، أنزل الله تعالى على محمد صلى الله عليه: " واتل عليهِم نبأَ الذي آتيناه آياتنا فانسلخَ منها " - يعني بلعم بن باعور، " فأتْبعه الشيطانُ " إلى قوله: " لعلهم يتفكرون " يعني بني إسرائيل؛ أنى قد جئتهم بخبر ما كان فيهم مما يخفون عليك لعلهم يتفكرون فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عمّا مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر من السماء.
ثم إن موسى قدّم يوشع بن نون إلى أريحا في بني إسرائيل فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، وأصاب من أصاب منهم، وبقيت منهم بقية في اليوم الذي أصابهم فيه، وجنح عليهم الليل، وخشي إن لبسهم الليل أن يُعجزوه، فاستوقف الشمس، ودعا الله أن يحبسها، ففعل الله عز وجل حتى استأصلهم؛ ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم بقبره أحد من الخلائق.
فأما السدي في الخبر الذي ذكرت عنه إسناده فيما مضى؛ فإنه ذكر في خبره ذلك أن الذي قاتل الجبارين يوشع بن نون بعد موت موسى وهارون، وقصّ من أمره وأمرهم ما أنا ذاكره، وهو أنه ذكر فيه أن الله بعث يوشع نبيًا بعد أن انقضت الأربعون سنة، فدعا بني إسرائيل فأخبرهم أنه نبي، وأنّ الله قد أمره أن يقاتل الجبارين، فبايعوه وصدّقوه، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم - وكان يعلم الاسم الأعظم المكتوم - فكفر وأتى الجبارين، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل؛ فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون؛ فكان عندهم فيما شاء من الدنيا، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء من عظمهنّ، فكان ينكح أتانًا له، وهو الذي يقول الله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتينا آياتنا " أي فبصر " فانسلخ منها فأتْبعه الشيطان فكان من الغاوين " إلى قوله: " ولكنه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثلُهُ كمثِل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث "، فكان بلعم يلهث كما يلهث الكلب، فخرج يوشع يقاتل الجبارين في الناس، وخرج بلعم مع الجبارين على أتانه، وهو يريد أن يلعنَ بني إسرائيل، فكلّما أراد أن يدعو على بني إسرائيل جاء على الجبارين، فقال الجبارون: إنك إنما تدعو علينا، فيقول: إنما أردت بني إسرائيل، فلما بلغ المدينة أخذ ملَك بذنَب الأتان فأمسكها، وجعل يحركها فلا تتحرك، فلما أكثر ضرْبها تكلّمت، فقالت: أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار! ويل منك! ولو أني أطقت الخروج لخرجت بك؛ ولكن هذا الملَك يحبسني، فقاتلهم يوشع يوم الجمعة قتالًا شديدًا حتى أمسوا وغربت الشمس، ودخل السبت. فدعا الله فقال للشمس: إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله، اللهم اردد علي الشمس، فردت عليه الشمس، فزيد في النهار يومئذ ساعة، فهزم الجبارين واقتحموا عليهم يقتلونهم، فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها لا يقطعونها. وجمعوا غنائمهم، وأمرهم يوشع أن يقرّبوا الغنيمة فقرّبوها، فلم تزل النار تأكلها، فقال يوشع: يا بني إسرائيل إن الله عز وجل عندكم طِلْبة، هلموا فبايعوني، فبايعوه فلصقت يد رجل منهم بيده، فقال: هلمّ ما عندك! فأتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت والجوهر، كان قد غلّه، فجعله في القربان، وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان.
وأما أهل التوراة؛ فإنهم يقولون: هلك هارون وموسى في التَّيه، وإن الله أوحى إلى يوشع بعد موسى، وأمره أن يعبر الأردنّ إلى الأرض التي أعطاها بني إسرائيل، ووعدهم إياهم، وأن يوشع جَدَّ في ذلك ووجّه إلى أريحا من تعرّف خبرها، ثم سار ومعه تابوت الميثاق، حتى عبر الأردنّ، وصار له ولأصحابه فيه طريق، فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القرون، وضجّ الشعب ضجة واحدة، فسقط سور المدينة فأباحوها واحرقوها، وما كان فيها ما خلا الذهب والفضة وآنية النحاس والحديد، فإنهم أدخلوه بيت المال. ثم إن رجلًا من بني إسرائيل غلّ شيئًا، فغضب الله عليهم وانهزموا، فجزع يوشع جزعًا شديدًا، فأوحى الله إلى يوشع أن يُقرِع بين الأسباط، ففعل حتى انتهت القُرعة إلى الرجل الذي غلّ، فاستخرج غُلوله من بيته، فرجَمه يوشع وأحرق كل ما كان له بالنار، وسمّوا الموضع باسم صاحب الغلول، وهو عاجز فالموضع إلى هذا اليوم غور عاجز. ثم نهض بهم يوشع إلى ملك عايى وشعبه، فأرشدهم الله إلى حربه، وأمر يوشع أن يكمن لهم كمينًا ففعل، وغلب على عايى وصلَب ملكها على خشبة، وأحرق المدينة وقتل مِنْ أهلها اثني عشر ألفًا من الرجال والنساء، واحتال أهلُ عماق وجيعون ليوشع حتى جعل لهم أمانًا، فلما ظهر على خديعتهم دعا الله عليهم أن يكونوا حطّابين وسقائين، فكانزا كذلك، وأن يكون بازق ملك أورشليم يتصدق، ثم أرسل ملوك الأرمانيين، وكانوا خمسة بعضهم إلى بعض، وجمعوا كلمتهم على جيعون، فاستنجد أهل جيعون يوشع، فأنجدهم وهزموا أولئك الملوك حتى حدّروهم إلى هَبْطة حَوران، ورماهم الله بأحجار البرَد، فكان من قتله البرد أكثر ممن قتله بنو إسرائيل بالسيف، وسأل يوشع الشمسَ أن تقف والقمر أن يقوم حتى ينتقم من أعدائه قبل دخول السبت، ففعلا ذلك وهرب الخمسة ملوك فاختفوا في غار، فأمر يوشع فسُدّ باب الغار حتى فرغ من الانتقام من أعدائه، ثم أمر بهم فأخرجوا، فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم من الخشب، وطرحهم في الغار الذي كانوا فيه، وتتبع سائر الملوك بالشأم؛ فاستباح منهم أحدًا وثلاثين ملكًا، وفرق الأرض التي غلب عليها. ثم مات يوشع، فما مات دفن في جبل أفراييم، وقام بعده سِبْطُ يهوذا وسبط شمعون بحرب الكنعانيين، فاستباحوا حريمهم، وقتلوا منهم عشرة آلاف ببازق، وأخذوا ملك بازق فقطعوا إبهامَيْ يديه ورجليه، فقال عند ذلك ملك بازق: قد كان يلقط الخبز من تحت مائدتي سبعون ملكًا مُقطّعي الأباهيم، فقد جزاني الله بصنيعي، وأدخلوا ملك بازق أورشليم، فمات بها. وحارب بنو يهوذا سائر الكنعانيين واستولوا على أرضهم، وكان عُمر يوشع مائة وستًا وعشرين سنة. وتدبيره أمر بني إسرائيل منذ توفي موسى إلى أن توفي يوشع بن نون شبعًا وعشرين سنة.
وقد قيل إن أول من ملك من ملوك اليمن، ملك كان لهم في عهد موسى بن عمران من حمير، يقال له: شمير بن الأملول، وهو الذي بنى مدينة ظَفار باليمن، وأخرج مَنْ كان بها من العماليق، وإن شمير بن الأملول الحميري هذا كان من عُمّال ملك الفرس يومئذ على اليمن ونواحيها.
وزعم هشام بن محمد الكلبي أن بقية بقيت من الكنعانيين بعد ما قتل يوشع مَنْ قتل منهم، وأن إفريقيس بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب ابن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مر بهم متوجهًا إلى إفريقية، فاحتملهم من سواحل الشام، حتى أتى بهم إفريقية، فافتتحها وقتل ملكها جرجيرا، وأسكنها البقية التي كانت بقيت من الكنعانيين الذين كان احتملهم معه من سواحل السام. قال: فهم البرابرة، قال: وإنما سُموا بربرًا، لأن إفريقيس قال لهم: ما أكثر بربرتكم! فسموا بربرًا، وذكر أن إفريقيس قال في ذلك من أمرهم شعرًا، وهو قوله:
بربرَتْ كنعانُ لما سُقتها ** من أراضي الهُلْك للعيش العجَب
قال: وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكُتامة، فهم فيهم إلى اليوم.
ذكر أمر قارون بن يصهر قاهث
وكان قارون ابن عم موسى عليه السلام. حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: ابن همع، أخي أبيه. فإن: قارون ابن يصفر - هكذا قال القاسم، - وإنما هو يصهر - بن قاهث، وموسى بن عمرر بن قاهث، وعمرر بالعربية عمران؛ هكذا قال القاسم، وإنما هو عمرم.
وأما ابن إسحاق فإنه قال ما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلَمة، عنه: تزوج يصهر بن قاهث شميت ابنة تباويت بن بركيا بن يقسان بن إبراهيم. فولدت له عمران بن يصهر وقارون بن يصهر، فقارون - على ما قال ابن إسحاق - عم موسى أخو لأبيه وأمه.
وأما أهلُ العلم من سلف أمتنا ومن أهل الكتابين فعلى ما قال ابن جريج.
ذكر من حضرنا ذكره ممن قال ذلك من علمائنا الماضين
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن إبراهيم في قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عم موسى.
حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى "، كان قارون ابنَ عم موسى.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن سماك، عن إبراهيم: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابن عمه فبغى عليه.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، قال: كان قارون ابن عم موسى.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبو معاوية، عن ابن أبي خالد، عن إبراهيم، قال: " إن قارون كان من قوم موسى "، قال: كان ابنَ عمه.
حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: " إن قارون كان من قوم موسى "، كنا نحدث أنه كان ابن عمه أخي أبيه، وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري، فأهلكه البغي.
حدثني بشر بن هلال الصواف، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن مالك بن دينار، قال: بلغني أن موسى بن عمران كان ابن عم قارون، وكان الله قد آتاه مالًا كثيرًا، كما وصفه الله عز وجل، فقال: " وآتيناه من الكُنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة أولي القوة "، يعني بقوله: " تنوء " تثقل.
وذكر أن مفاتيح خزائنه كانت كالذي حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن خيثمة في قوله: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة " قال: نجد مكتوبًا في الإنجيل: نفاتيح قارون وَقْر ستين بغلًا غرًّا محجلة، ما يزيد مفتاح منها على إصبع؛ لكل مفتاح منها كنز.
حدثني أبو كريب، قال: حدثنا هُشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن أبي صالح: " ما إن مفاتحه لتنوء بالعُصبة "، قال: كانت مفاتيح خزائنه تحمّل على أربعين بغلًا.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا جابر بن نوح، قال: أخبرَنا الأعمش عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون تحمَل على ستين بغلًا، كلّ مفتاح منها لباب كنزٍ معلوم، مثل الإصبع، من جلود.
حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن خيثمة، قال: كانت مفاتيح قارون من جلود، كل مفتاح مثل الإصبع، كل مفتاح على خزانة واحدة على حِدة، فإذا ركب حُمِلت المفاتيح على ستين بغلًا أغرّ محجّل.
فبغى عدو الله لما أراه الله به من الشقاء والبلاء على قومه بكثرة ماله.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)