صفحة 15 من 23 الأولىالأولى ... 51314151617 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 57 إلى 60 من 91

الموضوع: ذاكرة جسد - للروائية أحلام


  1. #57
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 257
    Array

    في ذلك العام.. كان النصرللملائكة.

    قررت أن أصوم وقتها ربما بتأثير كلامك، وربما أيضا للهروب منك إلىالله. أما قلت "العبادة درعنا السرية".

    قلت سأحتمي من سهامك بالإيمانإذن..

    رحت أحاول أن أنساك وأنسى قطيعتك.. وأنسى حتى وجودك معي في المدينةنفسها.

    كم من الأيام قضيتها في تلك الغيبوبة الدينية. بين الرهبة والذهول.. أحاول بترويض جسدي على الجوع أن أروّضه على الحرمان منك أيضاً.

    كنت أريد أنأستعيد سلطتي على حواسي التي تسللت إليها، وأصبحت تتلقي أوامرها منكوحدك.

    كنت أريد أن أعيد لذلك الرجل الذي كان يوماً أنا، مكانته الأولى قبلك. هيبته.. حرمته.. مبادئه.. وقيمه التي أعلنت عليها الحرب.

    أعترف أنني نجحت فيذلك بعض الشيء ولكنني لم أنجح في نسيانك أبداً.

    كنت أقع في فخّ آخر لحبك. وأنا أكتشف أنني كنت أثناء ذلك أعيش بتوقيتك لا غير.

    كنت أجلس إلى طاولةالإفطار معك. وأصوم وأفطر معك.
    أتسحّر وأمسك عن الأكل معك، أتناول نفس أطباقكالرمضانية، وأتسحّر بك.. لا غير.

    لم أكن أفعل شيئاً سوى التوحّد معك في كلّشي دون علمي.

    كنت في النهاية كالوطن. كان كلّ شيء يؤدي إليكإذن..

    مثله كان حبّك متواصلاً حتى بصدّه وبصمته.

    مثله كان حبك حاضراًبإيمانه وبفكره.

    فهل العبادة تواصل أيضاً؟


    ***


    انتهى رمضان. وها أنا أنزل من طوابق سموّي العابر، وأتدحرج فجأة نحو حزيران. ذلك الشهر الذي كنت أملك أكثر من مبرر للتشاؤم منه.

    فقد كان في ذاكرتي ماعدا حزيران 67، ذكريات موجعة أخرى ارتبطت بهذا الشهر، آخرها حزيران 71 الذي قضيتبعضه في سجن للتحقيق والتأديب، يستضاف فيه بعض الذين لم يبتلعوا ألسنتهمبعد..

    أما أول ذكرى مؤلمة ارتبطت بهذا الشهر فكانت تعود إلى سجن (الكدية) الذي دخلته يوماً في قسنطينة مع مئات المساجين إثر مظاهرات ماي 1945 حيث تمّتمحاكمتنا في بداية حزيران أمام محكمة عسكرية.

    أيّ حزيران كان الأكثر ظلماً،وأية تجربة كانت الأكثر ألماً؟

    أصبحت أتحاشى طرح هذه الأسئلة، منذ اليومالذي أوصلتني أجوبتي إلى جمع حقائبي ومغادرة الوطن.

    الوطن الذي أصبح سجناًلا عنوان معروفاً لزنزانته؛ لا اسم رسمياً لسجنه؛ ولا تهمة واضحة لمساجينه، والذيأصبحت أُقاد إليه فجراً، معصوب العينين محاطاً بمجهولين، يقودانني إلى وجهة مجهولةأيضاً. شرف ليس في متناول حتى كبار المجرمين عندنا.

    هل توقعت يوم كنت شاباًبحماسه وعنفوانه وتطرف أحلامه أنه سيأتي بعد ربع قرن، يوم عجيب كهذا، يجرّدني فيهجزائري مثلي من ثيابي.. وحتى من ساعتي وأشيائي، ليزجّ بي في زنزانة (فردية هذهالمرة) زنزانة أدخلها باسم الثورة هذه المرّة..

    الثورة التي سبق أن جرّدتنيمن ذراعي!

    أكثر من سبب وأكثر من ذكرى كانت تجعلني أتطيّر من ذلك الشهر الذيقضم الكثير من سعادتي على مرّ السنوات.

    تراني في ذلك العام تحرّشت بالقدرأكثر، ليردّ على تشاؤمي بكل تلك الفجائع المذهلة التي حلّت بي في شهرواحد؟

    أم فقط، كان ذلك هو قانون الفجائع والكوارث التي لا تأتي سوى دفعةواحدة "كي تجِي تيجبها شعرة.. وكي تروح تقطّع السلاسل".

    كانت تلك عبثيّةالحياة، التي يكفي لمصادفة رفيعة كشعرة أن تأتيك بالسعادة والحب والحظّ الذي لم تكنتتوقّعه.

    ولكن.. عندما تنقطع تلك الشعرة الرفيعة، فهي تكسر معها كلّ السلاسلالتي كنت مشدوداً إليها، معتقداً أنها أقوى من أن تكسرها شعرة!

    قبلها لمأنتبه إلى أن لقاءك ذات يوم، بعد ربع قرن من النسيان، كان تلك المصادفة الرفيعةكشعرة التي عندما جاءت جرت معها سعادة العالم بأكمله، وعندما رحلت قطعت كل سلاسلالأحلام، وسحبت من تحتي سجاد الأمان.

    تلك الشعرة التي ها هي ذي وبعد ستّسنوات، تعود اليوم لتكسر آخر أعمدة بيتي، وتهدّ السقف عليّ، بعدما اعتقدت أنني فيحزيران 82 دفعت ما يكفي من الضريبة لينساني القدر بعض الوقت، بعدما لم يبق شيء واحدقائم في حياتي، يمكن أن أخاف عليه من السقوط..

    كنت أجهل حين ذاك المادةالأولى في قانون الحياة:

    "
    إن مصير الإنسان إنما هو خلاصة تسلسلات حمقاء.. لاغير".


    ***


    كان لبداية صيف 82 طعم المرارة الغامضة، ومذاق اليأس القاتل، عندما يجمع بين الخيبات الذاتية القومية مرّة واحدة.

    وكنت أعيش بين خبريْن: خبر صمتك المتواصل، وخبر الفجائع العربية.

    كان قدري يتربّص بي هذه المرة من طريق آخر. فقد جاء اجتياح إسرائيل المفاجئ لبيروت في ذلك الصيف، وإقامتها في عاصمة عربية لعدة أسابيع.. على مرأى من أكثر من حاكم.. وأكثر من مليون عربي.. جاء ينزل بي عدّة طوابق في سلّم اليأس.

    أذكر أن خبراً صغيراً انفرد بي وقتها وغطّى على بقية الأخبار. فقد مات الشاعر اللبناني خليل حاوي منتحراً بطلقات ناريّة، احتجاجاً على اجتياح إسرائيل للجنوب الذي كان جنوبه وحده، والذي رفض أن يتقاسم هواءه مع إسرائيل..

    كان لموت ذلك الرجل الذي لم أكن قد سمعت به من قبل، ألم مميّز فريد المرارة.

    فعندما لا يجد شاعر شيئاً يحتجّ به سوى موته.. ولا يجد ورقاً يكتب عليه سوى جسده.. عندها يكون قد أطلق النار أيضاً علينا.

    ذهب قلبي طوال تلك الأيام عند زياد..

    كان قديماً يقول: "الشعراء فراشات تموت في الصيف". كان وقتها مولعاً بالروائي الياباني "ميشيما" الذي مات منتحراً أيضاً بطريقة أخرى احتجاجاً على خيبة أخرى..

    تراه قالها يومها من وحي أحد عناوين ميشيما: "الموت في الصيف"، أم أنها فكرة مسبقة مادام يدافع عنها بسرد قائمة بأسماء الشعراء الذين اختاروا هذا الموسم ليرحلوا؟

    كنت أستمع إليه آنذاك، وأحاول أن أقابل نظرته التشاؤمية للصيف بشيء من السخرية، خشية أن ينقل عدواه إليّ. فأقول له مازحاً: "يمكنني أن أسرد عليك أيضاً عشرات الأسماء لشعراء لم يموتوا في الصيف!".

    فيضحك ويردّ: "طبعاً.. هناك أيضاً من يموتون بين صيفينْ! " فلا أملك إلا أن أجيبه: "يا لعناد الشعراء.. وحماقتهم!".

    عاد زياد إلى الذاكرة. ورحت أتساءل فجأة أين يمكن أن يكون في هذه الأيام؟

    في أية مدينة.. في أية جبهة.. في أي شارع، وكل الشوارع مطوقة، وكل المدن مقابر جاهزة للموت؟

    منذ رحل لم تصلني منه سوى رسالة واحدة قصيرة، يشكرني فيها على ضيافتي. كان ذلك منذ رحيله.. منذ ثمانية أشهر. فماذا تراه أصبح منذ ذلك الحين؟

    لم أكن قلقاً عليه حتى الآن. فقد عاش دائماً وسط المعارك والكمائن، والقصف العشوائي. كان رجلاً يخافه الموت أو يحترمه، فلم يشأ أن يأخذه بالجملة.
    █║S│█│Y║▌║R│║█


رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #58
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 257
    Array


    وبرغم ذلك كانت عاطفة غامضة ما توقظ مخاوفي. ورحت أتشاءم وأناأتذكّر كلامه عن الصيف.. وموت ذلك الشاعر منتحراً.

    ماذا لو كان الشعراءيقلّدون بعضهم في الموت أيضاً؟ ماذا لو لم يكونوا فراشات فقط؟ لو كانوا مثل حيتانالبالين الضخمة يحبّون الموت جماعياً في المواسم نفسها.. على الشطآنذاتها؟

    لقد انتحر (همنغواي) أيضاً صيف 1961 تاركاً خلفه مسودّة روايتهالأخيرة "الصيف الخطر".

    فأية علاقة بين الصيف وبين كلّ هؤلاء الروائيينوالشعراء الذين لم يتلاقوا؟

    كان لا بد ألا أتعمّق كثيراً في تلك الفكرة،وكأنني أستدرج بها القدر أو أتحداه، فيعطيني في ذلك الصيف تلك الصفعة التي لم أنهضمنها بعد، برغم مرور السنوات.


    ***


    مات زياد..

    وها هو خبر نعيه يقفز مصادفة من مربع صغير في جريدة إلى العين.. ثم إلى القلب.. فيتوقّف الزمن. يتكوّر النبأ غصّة في حلقي، فلا أصرخ.. ولا أبكي.

    أصاب بشلل الذهول فقط، وصاعقة الفجيعة.

    كيف حدث هذا؟. وكيف لم أتوقع موته ونظراته الأخيرة لي كانت تحمل أكثر من وداع؟

    مازالت حقيبته هنا، في خزانة غرفتي تفاجئني عدة مرات في اليوم وأنا أبحث عن أشيائي.

    لقد عاد هناك دون أمتعة. أكان يعرف أنه لن يحتاج إلى كثير من الزاد لرحلته الأخيرة، أم كان يفكر في العودة ليستقرّ هنا ويعيش إلى جوارك كما كنت أتوهم تحت تأثير غيرتي؟

    لم أسأله يومها عن قراره الأخير. لقد سكن الصمت بيننا في الأيام الأخيرة. وأصبحت أتحاشى الجلوس إليه. وكأنني أخاف أن يعترف لي بأمر أخشاه أو بقرار أتوقعه.

    لم يقل شيئاً وهو يسافر محمّلاً بحقيبة يد صغيرة. قال لي معتذراً فقط: "ألا يزعجك أن أترك هذه الأيام الحقيبة عندك.. أنت تدري أن مضايقات المطارات كثيرة هذه الأيام، ولا أريد أن أنقل أشيائي مرة أخرى من مطار إلى آخر.."

    ثم أضاف بما يشبه السخرية: "خاصة أن لا شيء ينتظرني في المطار الأخير!".

    لم يخطئ حدسه إذن.. لم يكن في انتظاره سوى رصاصة الموت.

    مازلت أذكر قوله مرة: "لنا في كل وطن مقبرة.. على يد الجميع متنا.. باسم كل الثورات وباسم كلّ الكتب.."

    ولم تقتله قناعاته هذه المرة.. قتلته هويته فقط!

    نخب ضحكته سكرت ذلك المساء.

    نخب حزنه المكابر أيضاً.. ذلك الذي لا يعادله حزن.

    نخب رحيله الجميل.. نخب رحيله الأخير.

    بكيته ذلك المساء..

    ذلك البكاء الموجع المكابر الذي نسرقه سراً من رجولتنا.
    وتساءلت أي رجل فيه كنت أبكي الأكثر.

    ولِمَ البكاء؟

    لقد مات شاعراً كما أراد.. ذات صيف كما أراد. مقاتلاً في معركة ما كما أراد أيضاً.

    لقد هزمني حتى بموته.

    تذكّرت وقتها تلك المقولة الرائعة للشاعر والرسام "جان كوكتو" الذي كتب يوماً سيناريو فيلم يتصور فيه موته مسبقاً، فتوجه إلى بيكاسو وإلى أصدقائه القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها:

    "لا تبكوا هكذا.. تظاهروا فقط بالبكاء.. فالشعراء لا يموتون. إنهم يتظاهرون بالموت فقط!".

    وماذا لو كان زياد يتظاهر بالموت فقط؟ لو فعل ذلك عن عناد.. ليقنعني أن الشعراء يموتون حقاً في الصيف ويبعثون في كل الفصول؟

    وأنتِ..

    تراك تدرين؟ هل أتاك خبر موته؟ أم سيأتيك ذات يوم وسط قصة أخرى وأبطال آخرين؟

    وماذا ستفعلين يومها؟ أستبكينه.. أم تجلسين لتبني له ضريحاً من الكلمات، وتدفنيه بين دفّتي كتاب، كما تعودت أن تدفني على عجل كلّ من أحببت وقررت قتلهم يوماً؟

    هو الذي كان يكره الرثاء، كراهيته لربطات العنق والبدلات الفاخرة، بأية لغة سترثينه؟

    في الواقع.. لقد هزمك زياد كما هزمني.
    وضعك أمام الحد الفاصل بين لعبة الموت.. والموت. فليس كل الأبطال قابلين للموت على الورق.

    هنالك من يختارون موتهم وحدهم.. ولا يمكننا قتلهم لمجرد رواية.

    وكان يكذب.. كبطل جاهز لرواية.

    كان يكابر ويدّعي أن فلسطين وحدها أمّه. ويعترف أحياناً فقط بعد أكثر من كأس، أن لا قبر لأمه، تلك التي دفنت في مقابر جماعية لمذبحة أولى كان اسمها (تلّ الزعتر).

    وإنهم أخذوا صوراً تذكارية، ورفعوا علامات النصر ووقفوا بأحذيتهم على جثث.. قد تكون بينها جثّتها.

    ولحظتها فقط كان يبدو لي أنه يبكي.

    فَلِمَ البكاء زياد؟

    في كل معركة كانت لك جثّة. في كلّ مذبحة تركت قبراً مجهولاً. وها أنت ذا تواصل بموتك منطق الأشياء. فلا شي كان في انتظارك غير قطار الموت.

    هنالك من أخذ قطار تلّ الزعتر، وهنالك من أخذ قطار (بيروت 82) أو قطار صبرا وشاتيلا..

    وهناك من هنا أو هناك، مازال ينتظر رحلته الأخيرة، في مخيّم أو في بقايا بيت، أو في بلد عربي ما..

    وبين كلّ قطار وقطار.. قطار.

    بين كلّ موت وموت.. موت.

    فما أسعد الذين أخذوا القطار صديقي. ما أسعدهم وما أتعسنا أمام كلّ نشرة أخبار!

    بعدهم كثرت "وكالات السفريات" و "الرحلات الجماعية". أصبحت ظاهرة عربية يحترفها كلّ نظام على طريقته..

    بعدهم أصبح الوطن مجرد محطة. وأصبحت في أعماق كلّ منّا سكّة حديدية تنتظر قطاراً ما.. يحزننا أن نأخذه.. ويحزننا أن يسافر دوننا.

    رحل زياد إذن..

    وإذا بحقيبته السوداء المنسيّة في ركن خزانته، منذ عدة شهور، تغطّي فجأة على كل أثاث البيت، وتصبح أثاثي الوحيد، حتى أنني لا أرى غيرها.

    عندما أعود إلى البيت. أشعر أنها تنتظرني وأنني على موعد معه. عندما أترك بيتي، أشعر أنني أهرب منها وأنها كانت بلغزها جاثمة على صدري، دون أن أدري.

    ولكن كيف الهروب منها وهي تتربص بي كل مساء، عندما أطفئ جهاز التلفزيون، وأجلس وحيداً لأدخن سيجارة قبل النوم فيبدأ العذاب..

    وأعود إلى السؤال نفسه: ماذا داخل هذه الحقيبة.. وماذا أفعل بها؟

    أحاول أن أتذكّر ماذا يفعل الناس عادة بأشياء الموتى. بثيابهم مثلاً وحاجاتهم الخاصة. فتعود (أمّأ) إلى الذاكرة ومعها تلك الأيام المؤلمة التي سبقت وتلت وفاتها.

    أتذكّر ثيابها وأشياءها، أتذكر (كندورتها) العنابي التي لم تكن أجمل أثوابها، ولكنها كانت أحب أثوابها إليّ. فقد تعودت أن أراها تلبسها في كل المناسبات.

    كانت الثوب الذي يحمل الأكثر عطرها ورائحتها المميزة، رائحة فيها شيء من العنبر، شيء من عرقها، وشيء شبيه بالياسمين المعتّق. مزيج من عطور طبيعية بدائية، كنت أستنشق معها الأمومة.


    █║S│█│Y║▌║R│║█




  • #59
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 257
    Array

    سألت عن تلك (الكندورة) بعد أيام من وفاة (أمّا) فقيل لي بشيء من الاستغراب إنها أعطيت مع أشياء أخرى للنساء الفقيرات،اللاتي حضرن لإعداد الطعام في ذلك اليوم.

    صرخت: "إنها لي.. كنت أريدها.." ولكن خالتي الكبرى قالت: "إن أشياء الميت يجب أن تخرج من البيت قبل خروجه منه.. ماعدا بعض الأشياء الثمينة التي يحتفظ بها للذكرى أو للبركة".

    ومقياس (أمّا).. ذلك السوار الذي لم يفارق معصمها يوماً وكأنها ولدت به، ماذا تراهم فعلوابه؟

    لم أجرؤ على السؤال.

    كان أخي حسّان الذي لم يكن يتجاوز السنواتالعشر، لا يعي شيئاً مما يحدث حوله سوى وفاة (أمّا) وغيابها النهائي.

    وكنتمحاطاً بحشد من النساء اللاتي كن يقرّرن كل شيء. كأن ذلك البيت أصبح فجأةلهن:

    أين (مقياس) أمّا؟ من الأرجح أن يكون قد أصبح من نصيب إحدى الخالات، أوربما استحوذ عليه أبي مع بقية صيغتها ليقدّمها هدية لعروسه الجديدة.

    كلماعدت إلى هذه الذكرى وتفاصيلها، ازدادت علاقتي بهذه الحقيبة تعقيداً.

    فقد كانلبعض الأشياء على بساطتها، قيمة لا علاقة لها بمقاييس الآخرين للتركة والمخلفات. فماذا أفعل بحقيبة تركها صاحبها منذ ثمانية أشهر دون أية وصية أو توضيح خاص.. ومات؟

    هل أتصدق بها على الفقراء، مادامت أشياء الموتى يجب أن تلحق بهم، أمأحتفظ بها كذكرى من صديق مادمنا لا نحتفظ إلا بالأشياء الثمينة؟

    أهي عبء.. أم أمانة؟

    وإذا كانت عبئا.. لماذا أخذتها منه دون مناقشة، لماذا لم أقنعهبحملها معه، بحجة أنني قد أترك باريس مثلاً؟

    وإذا كانت أمانة.. ألم تتحولبموت صاحبها إلى وصية. فهل نتصدّق بوصايا الشهداء.. هل نضعها عند بابنا هدية لأولعابر سبيل؟

    وكنت أدري خلال تلك الأيام التي عشتها مسكوناً بهاجس تلك الحقيبةأنني أرهق نفسي هباءً، وأن محتواها وحده يمكن أن يحدد قيمتها وصفتها، ويحدد بالتاليما يمكن أن أفعله بها. ولذا بدأت أخافها فجأة، أنا الذي لم أكن أعيرها اهتماماً منقبل.

    ترى أكان موت زياد هو الذي أضفى عليها ذلك الطابع المربك، أم أنني فيالحقيقة، كنت أخاف أن تحمل لي سرّك، تحمل شيئا عنك كنت أخاف أن أعرفه؟


    ***

    كان لا بد أن أفتح تلك الحقيبة.. لأغلق أبواب الشكّ.
    أخذت ذلك القرار ذات ليلة سبت، بعد مرور أسبوع على قراءتي خبر استشهاد زياد.

    كان هناك احتمال آخر فقط، لا يخلو من الحماقة، كأن آخذها إلى مقر المنظمة وأسلّمها لأحدهم هناك، ليتكفّل بإرسالها إلى أقرباء زياد في لبنان أو في مكان آخر..

    ولكنني عدلت عن هذه الفكرة الساذجة وأنا أتذكّر أنه لم يعد لزياد من أهل في لبنان. فلمن سيسلّمها هؤلاء.. وعند أية قبيلة وأية فصيلة سينتهي مصيرها؟

    من سيكون "أبوها".. وهنالك أكثر من "أبو" يعتقد أنه ينفرد وحده بأبوّة القضية الفلسطينية، وأنه الوريث الشرعي الوحيد للشهداء.. وأن الآخرين خونة؟

    ومن أدراني على يد من مات زياد؟

    على يد المجرمين "الإخوة".. أم على يد المجرمين الأعداء؟ أما كان يقول: "لقد حوّلوا "القضية" إلى قضايا.. حتى يمكنهم قتلنا تحت تسمية أخرى غير الجريمة.."

    فبأية رصاصة مات زياد.. وخيرة الشباب الفلسطيني قتل برصاص فلسطيني.. أو عربي لا غير؟

    في ذلك المساء.. ارتجفت يدي وأنا أفك أقفال تلك الحقيبة.
    شيء ما جعلني أتذكّر أنني أملك يداّ واحدة.

    لم تكن الحقيبة مغلقة بمفتاح ولا بأقفال جانبية. وكأنه تعمّد أن يتركها لي شبه مفتوحة كما يترك أحد الباب موارباً، في دعوة صامتة للدخول.

    شعرت بشيء من الارتياح لهذه "الالتفاتة"، ولهذا الإذن السابق أو المتأخر عن أوانه، الذي منحه لي زياد لدخول عالمه الخاص دون إحراج..

    تراه فعل ذلك لأنه كان يكره الأقفال المخلوعة، والأبواب المفتوحة عنوة كراهيته للمخبرين ولأقدام العسكر؟

    أم لأنه كان يتوقّع يوماً كهذا؟

    كل هذه الافتراضات لم تمنع قشعريرة من أن تسري في جسدي، وفكرة أخرى تعبرني..

    لقد كان يعرف مسبقاً أنه ذاهب إلى الموت. وهذه الحقيبة كانت معدّة لي منذ البداية. وكان بإمكاني أن أفتحها منذ عدة شهور. فهي لم تعد موجودة بالنسبة إليه منذ أن غادر هذا البيت.

    إنها طريقته في قطع جذور الذاكرة.. كالعادة.

    رفعت النصف الفوقي للحقيبة، بعد أن وضعتها على طرف السرير.. وألقيت نظرة أولى على ما فيها.

    وإذا بالموت والحياة يهجمان عليّ معاً، وأنا أرى ثيابه أمامي، ألمس كنزته الصوفية الرمادية، وجاكيته الجلدي الأسود الذي تعوّدت أن أراه به..

    ها أنا أملك حجة حضوره، وحجة موته.. وحجة حياته. وها هي رائحة الحياة والموت تنبعثان معاً وبالقوة نفسها من ثنايا تلك الحقيبة.

    ها أنا معه ودونه.. أمام بقاياه.

    ثياب.. ثياب.. أغلفه خارجية لكتاب بشريّ.

    واجهة قماشية لمسكن من زجاج.
    انكسر المسكن وظلّت الواجهة، ذاكرة مثنية في حقيبة، فلماذا ترك لي الواجهة؟.

    بين الثياب قميص حريري سماوي اللون، مازال في غلافه اللامع الشفاف.. لم يفتح بعد. أستنتج دون جهد أنه هدية منك.

    ثم ثلاثة أشرطة موسيقية، أحدها لتيودوركيس، والأخرى مقطوعات كلاسيكية أضعها جانباً وأنا أتذكر أن زياد كلما سافر ترك لي أشرطة وكتباً.. وثياباً.. وحبّاً معلّقاً أيضاً.

    ولكن هذه هي المرة الأولى التي يترك أشياءه مجموعة في حقيبة، مرتبة بعناية وكأنه أعدها لنفسه وجمع فيها مل ما يحب استعداداً لسفر ما. كأنه أراد أن يأخذها معه حيث سيذهب وحيث كان يريد أن يرتدي جاكيته الأسود المفضّل.. ويستمع إلى موسيقى تيودوركيس!

    وفجأة تقع يدي على روايتك أسفل الحقيبة. فأصاب بهزّة أولى. ترتعش يدي، تتوقف لحظات قبل أن تمسك بالكتاب. أجلس على طرف السرير قبل أن أفتحه. وكأنني سأفتح طرداً ملغوماً.

    أتصفح الكتاب بسرعة. وكأنني لا أعرفه.

    ثم أتذكّر شيئاً.. وأركض إلى الصفحة الأولى بحثاً عن الإهداء، فتقابلني ورقة بيضاء.. دون كلمة واحدة. دون توقيع أو إهداء. فأشعر بنوبة حزن تشلّ يدي، وبرغبة غامضة للبكاء.

    لمن منّا أهديت نسختك المزوّرة؟ وكلانا يملك نسخة دون توقيع؟

    من منا أوهمته أنه يسكن الصفحات الداخلية للكتاب_ كما يسكن قلبك_ وأنه ليس في حاجة إلى إهداء؟

    وهل صدّقك زياد.. هل صدّقك _هو أيضاً_ لدرجة أنه قرّر أن يأخذ معه هذه الرواية ليعيد قراءتها، حيث سيذهب.. هناك!

    كانت تلك الصفحة البيضاء كافية لإدانتك. كانت تقول بالكلمات التي لم تكتب، أكثر مما كان يمكن أن تكتبي.. فهل كان مهماً بعد ذلك ألا أجد أية رسالة لك في تلك الحقيبة؟

    لقد كنتِ امرأة تتقن الكتابة على بياض.. ووحدي كنت أعرف ذلك.

    ما عدا روايتك لم أجد سوى مفكرة سوداء متوسطة الحجم موضوعة أسفل الحقيبة_أيضاً_ كسرّ عميق.

    ما كدت أرفعها حتى وقعت منها "البطاقة البرتقالية" التي كان يستعملها زياد للتنقلّ بالميترو. داخلها قصاصة بتاريخ
    █║S│█│Y║▌║R│║█




  • #60
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 257
    Array

    أكتوبر) الشهر الأخير الذي رحل فيه.

    أنظر على تلك البطاقة على عجل، وأنا لا أفكر إلا في الإطلاع على تلك المفكرة. ولكن صورته تستوقفني..

    مربكة صور الموتى..

    ومربكة أكثر صور الشهداء. موجعة دائماً. فجأة يصبحون أكثر حزناً وأكثر غموضاً من صورتهم.

    فجأة.. يصبحون أجمل بلغزهم، ونصبح أبشع منهم.
    فجأة.. نخاف أن نطيل النظر إليهم.
    فجأة.. نخاف من صورنا القادمة ونحن نتأمّلهم!
    كَمْ كان وسيماً ذاك الرجل.

    تلك الوسامة الغامضة المخفيّة التي لا تفسير لها. ها هو حتى في صورة سريعة تلتقط له في ثلاث دقائق، بخمسة فرنكات، يمكنه أن يكون مميزا.

    يمكنه أن يكون حتى بعد موته مغرياً، بذلك الحزن الغامض الساخر. وكأنه يسخر من لحظة كهذه.

    وأفهم مرة أخرى أن تكوني أحببته. لقد أحببته قبلك بطريقة أخرى. كما نحب شخصاً نعجب به ونريد أن نشبهه، لسبب أو لآخر. فنكثر من الجلوس إليه والخروج برفقته والظهور معه. وكأننا نعتقد في أعماقنا أن الجمال والجنون والموهبة والصفات التي تبهرنا فيه قد تكون قابلة للعدوى والانتقال إلينا عن طريق المعاشرة.

    أية فكرة حمقاء كانت تلك! لم أكتف أنها كانت سبب كارثتي إلا مؤخراً. عندما قرأت قولاً رائعاً لكاتب فرنسي (رسام أيضاً..) "لا تبحث عن الجمال..لأنك عندما تجده، تكون قد شوّهت نفسك!"

    ولم أكن فعلت شيئاً غير هذه الحماقة.

    أعدت بطاقته وصورته إلى الحقيبة، ورحت أقلّب تلك المفكرة..

    كنت أشعر أنها تحمل شيئاً قد يفاجئني، قد يعكر مزاجي ويشرع الباب للعواصف المتأخرة عن مواسمها. فماذا تراه كتب في هذا الدفتر؟

    كنت أدري أن الحقيقة تولد صغيرة دائماً. وكنت أشعر أن الحقيقة هنا كانت صغيرة في حجم مفكرة جيب. فخفت المفكرة..

    بحثت عن سيجارة أشعلها. واستلقيت على ذلك السرير لأتصفح جرحي على مهل..

    كانت الصفحات تتالى مليئة بالمقاطع الشعرية المبعثرة بين تاريخ وآخر. بالكتابات الهامشية.. ثم بقصائد أخرى تشغل وحدها أحياناً صفحتين أو ثلاثاً. ثم خواطر قصيرة من بضعة سطور مكتوبة وسط الصفحة بلون أحمر دائماً.. وكأنه كان يريد أن يميزها عن بقية ما كتب.

    ربما لأنها لم تكن شعراً وربما لأنها كانت أهم من الشعر.

    من أين أبدأ هذه المفكرة؟.. من أي مدخل أدخل هذه الدهاليز السرية لزياد، التي حلمت دائماً بالتسلل إليها عساني أكتشفك فيها؟

    كانت العناوين تستوقفني، فأبدأ في قراءة قصيدة. أحاول فك لغز الكلمات المتقاطعة.. أبحث عنك وسط الرموز تارة، ووسط التفاصيل الأكثر اعترافاً أحياناً أخرى.

    ثم لا ألبث أن أتركها وألهث مسرعاً إلى صفحة أخرى، بحثاً عن حجج أخرى، عن إيضاحات أكثر، عن كلمات تقول لي بالأسود والأبيض.. ما الذي حدث.

    ولكنني كنت في الواقع على درجة من الانفعال والأحاسيس المتطرفة المتناقضة التي كانت تكاد تشلّ تفكيري، وتجعلني عاجزا عن التمييز بين ما أقرأ وما أتوهم قراءته.

    كان منظر تلك الحقيبة المفتوحة أمامي بأشيائها المبعثرة، وبذلك الدفتر الأسود الصغير الذي كنت ممسكاً به تجعلني أخجل من نفسي في تلك اللحظة. وكأنني بفتحها لم أفعل شيئاً غير تشريح جثّة زياد المبعثرة بأشيائها وأشلائها على سريري، لأخرج منها هذا الدفتر الذي هو قلبه لا غير.

    قلب زياد الذي نبض يوماً لك، والذي هاهو اليوم حتى بعد موته بواصل نبضه بين يديّ على وقع الكلمات المشحونة حسرة وخوفاً.. حزناً.. وشهوة..

    "على جسدي مررّي شفتيك
    فما مرّروا غير تلك السيوف عليّ
    أشعليني أيا امرأة من لهب
    يقرّبنا الحب يوماً
    يباعدنا الموت يوماً
    ويحكمنا حفنة من تراب..
    تقرّبنا شهوة للجسد
    ثم يوماً
    يباعدنا الجرح لمّا يصير بحجم جسد
    توحدت فيك
    أيا امرأة من تراب ومرمر
    سقيتك ثم بكيت وقلت..
    أميرة عشقي..
    أميرة موتي
    تعالي!؟

    كم من مرة قرأت هذا المقطع. بأحاسيس جديدة كل مرة، بشكٍّ جديد كل مرة، وتساءلت بعجز من لا يحترف الشعر.. أين ينتهي الخيال.. وأين يبدأ الواقع؟

    أين يقع الحد الفاصل بين الرمز والحقيقة؟

    كانت كل جملة تلغي التي سبقتها. وكانت المرأة هنا جسداً ملتحماً بالأرض إلى حد لم يعد فيه الفصل أو التمييز بينهما ممكناً.

    ولكن كانت هناك كلمات لا تخطئ بواقعيتها وبشهوتها المفضوحة:

    "مرري على جسدي شفتيك"
    "أشعليني أيا امرأة من لهب"
    "تقربنا شهوة للجسد"
    "توحدت فيك"

    أكانت الثورة إذن حشواً من الكلمات لا أكثر برّأ بها زياد نفسه؟

    كان يفضّل أن يهزمه الموت ولا تهزمه امرأة. قضيّة كبرياء.. مراوغة شخصية.. "أميرة موتي.. تعالي..".

    ها هو الموت جاء أخيراً. وأنت تراك جئت في ذلك اليوم؟

    هل انفرد بك حقاً.. أمرّرت على جسده شفتيك.. أأشعلته.. أتوحّد فيك.. وهل..؟

    من الأرجح أن يكون ذلك قد حصل. فتاريخ هذه القصيدة يصادف تاريخ سفري إلى إسبانيا.

    كان القلب قد بدأ يطفح بعاطفة غريبة لا علاقة لها بالغيرة.

    نحن لا نشعر بالغيرة من الموات.. ولكننا لا يمكن أن نغيّر طعم المرارة في هذه الحالات.

    فهل أمنع عيني اللتين يستوقفهما اللون الأحمر، من أن تقرأ هذه الخاطرة.. دون دموع.

    "لم يبق من العمر الكثير
    أيتها الواقفة في مفترق الأضداد
    أدري..
    ستكونين خطيئتي الأخيرة
    أسألك.
    حتى متى سأبقى خطيئتك الأولى
    لك متّسع لأكثر من بداية
    وقصيرة كل النهايات.
    إني أنتهي الآن فيك
    فمن يعطي للعمر عمراً يصلح لأكثر من نهاية!"

    تستوقفني بعض الكلمات، وتستدرجني إلى الذهول..
    ويأخذ الحبر الأحمر فجأة لوناً شبيهاً بدم وردي خجول يتدحرج على ورق.. ليصبح لون "خطيئتك الأولى..".
    فأسرع بإغلاق تلك المفكرة وكأنني أخاف إن أنا واصلت قلب الصفحات، أن أفاجئكما في وضعٍ لم أتوقعه!

    يحضرني كلام قاله زياد مرة في زمن بعيد.. بعيد.

    قال: "أنا أكنّ احترماً كبيراً لآدم، لأنه يوم قرر أن يذوق التفاحة لم يكتف بقضمها، وإنما أكلها كلّها. ربما كان يدري أنه ليس هناك من أنصاف خطايا ولا أنصاف ملذّات.. ولذلك لا يوجد مكان ثالث بين الجنة والنار. وعلينا _تفادياً للحسابات الخاطئة_ أن ندخل إحداهما بجدارة!"

    كنت آنذاك معجباً بفلسفة زياد في الحياة. فما الذي يؤلمني اليوم في أفكار شاطرته إياها؟

    ترى كونه سرق تفاحته هذه المرة من حديقتي السرية؟ أم كونه راح يقضمها أمامي.. بشهية من حسم اختياره وارتاح؟

    "لا تملك الأشجار إلا
    أن تمارس الحب واقفة أيضاً
    يا نخلة عشقي.. قفي
    وحدي حملت حداد الغابات التي
    أحرقوها
    ليرغموا الشجر على الركوع
    "واقفة تموت الأشجار"
    تعالي للوقوف معي
    أريد أن أشيّع فيك رجولتي
    إلى مثواها الأخير.."

    فجأة بدأت أشعر بحماقة فتح تلك المفكرة.

    أتعبتني تأويلاتي الشخصية لكل كلمة أصادفها.

    وبدأت أشعر بالندم. فأنا برغم كل شيء لا أريد أن أكره زياد اليوم. لا أستطيع ذلك.

    لقد منحه الموت حصانة ضد كراهيتي وغيرتي. وها أنا صغير أمامه وأمام موته.

    ها أنا لا أملك شيئاً لإدانته، سوى كلماته القابلة لأكثر من تأويل. فلماذا أصرّ على تأويلها الأسوأ؟

    لماذا أطارده بكل هذه الشبهات، وأنا أدري أنه شاعر يحترف الاغتصاب اللغوي، نكاية في العالم الذي لم يخلق على قياسه، بل ربما خلق على حسابه. فهل أطلق النار عليه بتهمة الكلمات؟
    لقد ولد هكذا واقفاً.. ولا قدر له سوى قدر الأشجار. فهل أحاسبه حتى على طريقة موته.. وعلى طريقة حبّه؟

    وأذكر الآن أنني عرفته واقفاً.

    أذكر ذلك اليوم الذي زارني فيه في مكتبي لأول مرة، عندما أبديت له بعض ملاحظاتي عن ديوانه، وطلبت منه أن يحذف بعض القصائد.

    أذكر صمته، ثم نظرته التي توقفت بعض الوقت عند ذراعي المبتورة، قبل أن يقول تلك الجملة التي كانت بعد ذلك سبباً في تغيير مجرى حياتي. قال لي: "لا تبتر قصائدي..سيدي، ردّ لي ديواني. سأطبعه في بيروت.."

    █║S│█│Y║▌║R│║█



  • صفحة 15 من 23 الأولىالأولى ... 51314151617 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. أحلام مستغانمي
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 07-06-2010, 02:28 AM
    2. أحلام الفتيات مابين سن 18- 25 والواقعية
      بواسطة روح الحلا في المنتدى ملتقى الحـــوار العام للمغتربين السوريينDialogue Discussion Forum
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 05-30-2010, 12:13 AM
    3. تمارين لجمال وقوة عينيك
      بواسطة أحمد فرحات في المنتدى ملتقى المرأة السورية Syrian women forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-26-2010, 10:02 PM
    4. أحلام ثمنها العمر
      بواسطة En.muhammed manla في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 05-11-2010, 12:13 AM
    5. نصائح لجمال ونظافة مطبخك
      بواسطة سارة في المنتدى ملتقى المطبخ والمأكولات والحلويات السورية Syrian food and sweets
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 05-05-2010, 09:42 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1