ببعدان أو ريمان أو راس سلبة ** شفاء لمن يشكو السمائم بارد
وبالقصر من أرياب لو بت ليلة ** لجاءك مثلوج من الماءجامد بعر: جفر البعر بين مكة واليمامة على الجادة، ماء لبني ربيعة بن عبد الله بن كلاب عن نصر.
بعرين: بوزن خمسين، بليد بين حمص والساحل هكذا تتلفظ به العامة وهو خطأ هانما هو بارين.
بعطان: بالضم، واد لخثعم.
بعق: بالقاف، واد بالأبواء يقال له: البعق قاله أبو الأشعث الكندي، قال الشاعر:
كأنك مردوغ بشس مطرد ** يفارقه من عقدة البعق هيهما بعقوبا: بالفتح ثم السكون وضم القاف وسكون الواو والباء موحدة ويقال لها: باعقوبا أيضا، قرية كبيرة كالمدينة بينها وبين بغداد عشرة فراسخ من أعمال طريق خراسان وهي كثيرة الأنهار والبساتين واسعة الفواكه متكاثفة النخل وبها رطب وليمون يضرب بحسنها وجودتها المثل وهي راكبة على نهر ديالى من جانبه الغربي ونهر جلولاء يجري في وسطها وعلى جنبي النهر سوقان وعليه قنطرة وعلى ظهر القنطرة يتصل بين السوقين والسفن تجري تحت القنطرة إلى باجسرا وغيرها من القرى وبها عدة حمامات ومساجد وينسب إليها جماعة من أهل العلم، منهم أبو الحسن محمد بن الحسين بن حمدون البعقوبي قاضيها روى عنه الحافظ أبو بكر الخطيب وقتل بحلوان في شهر ربيع الأول سنة 430 وبعقوبا هذه هي التي ذكرها سعد بن محمد الصيفي وهو الحيص بيص في رسائله السبع يسأل المسترشد أن يهبها منه وعوض عنها بمال فلم يقبله، وقرأت بخط أبي محمد بن الخشاب النحوي أنشدني أبو المظفر بن قزما الاسكافي، قال: أنشدني المهدي البصري لنفسه يهجو أهل بعقوبا:
ألا قل لمرتاد النوال تطوفا ** يقلقله هم عليه حريص
تخاف ببعقوبا إذا جنت معشرا ** لهم يبيت الضيف وهو خميص
أبو الشيص لو وافاهم بمجاعة ** لأعوره بين الحدائق شيص
ولو خوصة من نخلها قيل قد هوت ** لقيل عشار قد هوين وخوص
بعلبك: بالفتح ثم السكون وفتح اللام والباء الموحدة والكاف مشددة، مدينة قديمة فيها أبنية عجيبة وآثار عظيمة وقصور على أساطين الرخام لا نظير لها في الدنيا بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وقيل: اثنا عشر فرسخا من جهة الساحل، قال بطليموس: مدينة بعلبك طولها ثمان وستون درجة وعشرون دقيقة في الإقليم الرابع تحت ثلاث درج من الحوت لها شركة في كف الخضيب طالعها القوس تحت عشر درج من السرطان يقابلها مثلها من الجدي بيت ملكها مثلها من الحمل بين عاقبتها مثلها من الميزان، قال صاحب الزيج: بعلبك طولها اثتان وستون درجة وثلث وعرضها سبع وثلاثون درجة وثلث، وهو اسم مركب من بعل اسم صنم وبك أصله من بك عنقه أي دقها وتباك القوم أي ازدحموا فإما أن يكون نسب الصنم إلى بك وهو اسم رجل أو جعلوه يبك الأعناق هذا إن كان عربيا وإن كان عجميا فلا اشتقاق ولهذا الاسم ونظائره من المركبات أحكام فإن شئت جعلت آخر الأول والثاني مفتوحا بكل حال كقولك هذا بعلبك ورأيت بعلبك وجئت من بعلبك فهذا تركيب يقتضي بناءه فكأنك قلت بعل وبك فلما حذفت الواو أقمت البناء مقامه ففتحت الاسمين كما قلت: خمسة عشر وإن شئت أضفت الأول إلى الثاني فقلت: هذا بعلبك ورأيت بعلبك ومررت ببعلبك أعربت بعلا وخفضت بكا بالإضافة وإن شئت بنيت الاسم الأول على الفتح وأعربت الثاني بإعراب مالا ينصرف فقلت هذا بعلبك ورأيت بعلبك ومررت ببعلبك وهذا هو التركيب الداخل في باب ما لا ينصرف الذي عدوه سببا من أسباب منع الصرف فإنهم أجروا الاسم الثاني من الاسمين اللذين ركبا مجرى تاء التأنيث في أن آخر حرف قبلها مفتوح أبدا ومنزل تنزيل الفتحة كالألف في نواة وقطاة وآخر الثاني حرف إعراب إلا أن الاسم غير مصروف للتعريف والتركيب لأن التركيب فرد عن الأفراد وثان له كما أن التعريف ثان للتنكير فعلى هذا الوجه تقول هذا بعلبك ورأيت بعلبك ومررت ببعلبك فلو نكرته صرفته لبقاء علة واحدة فيه هي التركيب ويدلك على أن الاسم الثاني في هذا الوجه بمنزلة التاء تصغيرهم الأول من الاسمين المركبين وتسليمهم لفظ الثاني فتقول هذه بعيلبك كما تقول في طلحة طليحة وتقول في ترخيمه لو رخمته يا بعل كما تقول ياطلح وتقول في النسب إليه بعلي كما تقول طلحي وأما من قال: بعلبكي فليس بعلبك عنده مركبة ولكنه من أبنية العرب فأما حضرمي وعبدري وعبقسي فإنهم خلطوا الاسمين واشتقوا منهما اسما نسبوا إليه، وببعلبك دبس وجبن وزيت ولبن ليس فى الدنيا مثلها يضرب بها المثل، قال أعرابي:
قلت لذات الكعثب المصك ** ولم أكن من قولها في شك
إذ لبست ثوبا دقيق السلك ** وعقد در ونظام سك
غطي الذي افتن قلبي منك ** قالت فما هو قلت غطي حرك
فكشفت عن أبيض مدك ** كأنه قعب نضار مكي
أو جبنة من جبن بغلبك ** يسمع منه خفقان الدك
مثل صرير القتب المنفك وقد ذكرها امرؤ القيس، فقال:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ** ولابن جريج كان في حمص أنكرا
وقيل: إن بعلبك كانت مهر بلقيس وبها قصر سليمان بن داودعليه السلام وهو مبني على أساطين الرخام وبها قبر يزعمون أنه قبر مالك الأشتر النخعي وليس بصحيح فإن الأشتر مات بالقلزم في طريقه الى مصر وكان علي رضى الله عنه وجهه أميرا فيقال: إن معاوية دس إليه عسلا مسموما فأكله فمات بالقلزم فقال معاوية: إن لله جنودا من عسل فيقال: إنه نقل إلى المدينة فدفن بها وقبره بالمدينة معروف، وبها قبر يقولون إنه قبر حفصة بنت عمر زوجة النبي والصحيح أنه قبر حفصة أخت معاذ بن جبل لأن قبر حفصة زوج النبي بالمدينة معروف، وبها قبر إلياس النبي عليه السلام وبقلعتها مقام إبراهيم الخليل عليه السلام وبها قبر أسباط ولما فرغ أبو عبيدة بن الجراح من فتح دمشق في سنة أربع عشرة سار إلى حمص فمر ببعلبك فطلب أهلها إليه الأمان والصلح فصالحهم على أن أمنهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم كتابا أجلهم فيه إلى شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى فمن جلا سار إلى حيث شاء ومن أقام فعليه الجزية، وقد نسب إلى بعلبك جماعة من أهل العلم، منهم محمد بن علي بن الحسن بن محمد بن أبو المضاء البعلبكي المعروف بالشيخ الدين سمع بدمشق أبا بكر الخطيب وأبا الحسن بن أبي الحديد وأبا محمد الكتاني وببعلبك عمه القاضي أبا علي الحسن بن علي بن محمد بن أبي المضاء سمع منه أبو الحسين بن عساكر وأجاز لأخيه أبي القاسم الحافظ وكان مولده سنة 425 ومات في شعبان سنة 509، وعبد الرحمن بن الضحاك بن مسلم أبو مسلم البعلبكي القاري ويعرف بابن كسرى روى عن سويد بن عبد العزيز والوليد بن مسلم ومسروق بن معاوية وبقية ومبشر بن إسماعيل وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي روى عنه أبو حاتم الرازي وأبو جعفر أحمد بن عمر بن إسماعيل الفارسي الوراق وغيرهما، ومحمد بن هاشم بن سعيد البعلبكي روى عنه أحمد بن عمير بن جوصا الدمشقي وغيره.
بعل: شرف البعل، جبل في طريق الشام من المدينة، وأما بعل في قوله تعالى: أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين الصافات: 125، فهو صنم كان لقوم إلياس النبي عليه السلام وبه سمي بعلبك وهو معظم عند اليونانيين كان بمدينة بعلبك من أعمال دمشق ثم من كورة سنير وقد كانت يونان اختارت لهذا الهيكل قطعة من الأرض في جبل لبنان ثم في جبل سنير فاتخذته بيتا للأصنام وهما بيتان عظيمان أحدهما أعظم من الاخر وصنعوا فيهما من النقوش العجيبة المحفورة في الحجر الذي لا يتأتى حفر مثله في الخشب هذا مع علو سمكها وعظم أحجارها وطول أساطينها.
البعوضة: بالفتح بلفظ واحدة البعوض بالضاد المعجمة، ماءة لبني أسد بنجد قريبة القعر، قال الأزهري البعوضة ماءة معروفة بالبادية، قال ابن مقبل:
أإحدى بني عبس ذكرت ودونها ** سنيح ومن رمل البعوضة منكب وبهذا الموضع كان مقتل مالك بن نويرة لأن خالد بن الوليد رضي الله عنه بعث إليهم وهم بالبطاح فأقروا فيما قيل بالإسلام فاستدعاهم إليه وهو نازل على البعوضة فاختلفوا فيهم فمن المسلمين من شهد أنهم أذنوا ومنهم من شهد أنهم لم يؤذنوا فأمر خالد بالاحتياط وكانت ليلة باردة فقال خالد: ادفئوا أسراكم وادفئوا في لغة كنانة اقتلوا فقتلوهم عن آخرهم فنقم عمررضي الله عنه على خالد في قصة طويلة وكان فيمن قتل مالك بن نويرة اليربوعي، فقال أخوه متمم بن نويرة:
لعمري وما عمري بتأبين هالك ** ولا جزع والدهر يعثر بالفتى
لئن مالك خلى علي مكانه ** فلي أسوة إن كان ينفعني الأسى
كهول ومرد من بني عم مالك ** وأيفاع صدق قد تمليتهم رضى
على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ** لك الويل حر الوجه أو يبك من بكى
على بشر منهم أسود وذادة ** إذا ارتدف الشر الحوادث والردى
رجال أراهم من ملوك وسوقة ** جنوا بعد ما نالوا السلامة والغنى بعيقبة: تصغير بعقوبا، قرية بينها وبين بعقوبا فرسخان وهي التي أنعم بها فيما ذكر بعضهم المسترشد بالله على الحيص بيص فلم يرضها وبها كانت الوقعة بين البقش كون خر والمقتفي لأمر الله.
[عدل] باب الباء والغين وما يليهما
بغاث: بالكسر وآخره ثاء مثلثة، برق بيض في أقصى بلاد أبي بكر بن كلاب.
بغانخذ: بالضم والنون مكسورة والخاء معجمة مفتوحة والذال معجمة، قال أبو سعد: أظنها من قرى نيسابور، منها أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هاشم البغانخذي النيسابوري سمع الزبير بن بكار.
بغاوزجان: الواو مكسورة والزاي ساكنة وجيم وألف ونون، من قرى سرخس على أربعة فراسخ ويقال لها: غاوزجان خرج منها جماعة، منهم أبو الحسن علي بن علي البغاوزجاني.
بغث: بالفتح ثم السكون والثاء المثلثة، اسم واد عند خيبر بقرب بغيث.
بغد خزرقند: هذا اسم مركب من ثلاثة بلاد، ينسب إليه أبو روح عبد الحي بن عبد الله بن موسى بن الحسين بن إبراهيم السلامي البغدخزز قندي وكان أبوه يقول إنما قيل لابني: البغدخزر قندي لأن أباه بغدادي وأمه خزرية وولد بسمرقند سمع أباه وتوفي بنسف في تاسع صفر سنة 421.
بغدل: أصلها باغ عبد الله، محلة بأصبهان، يشب إليها أبو عبد الله محمد بن سعيد بن إسحاق القطان البغدلي الأصبهاني روى عن يحيى بن أبي طالب و غيره روى عنه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن حمزة الحافظ.
بغداد: أم الدنيا وسيدة البلاد، قال ابن الأنباري: أصل بغداد للأعاجم والعرب تختلف في لفظها إذ لم يكن أصلها من كلامهم ولا اشتقاقها من لغاتهم، قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل فباغ بستان وداد اسم رجل وبعضهم يقول بغ اسم للصنم فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصي من المشرق فأقطعه إياها وكان الخصي من عباد الأصنام ببلده فقال: بغ دادي أي الصنم أعطاني وقيل: بغ هو البستان وداد أعطى وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرب عن باغ داذويه لأن بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل من الفرس اسمه داذويه وبعضها أثر مدينة دارسة كان بعض ملوك الفرس اختطها فاعتل فقالوا: ما الذي يأمر الملك أن تسمى به هذه المدينة فقال: هليدوه وروز أي خلوها بسلام فحكي ذلك للمنصور فقال: سميتها مدينة السلام، وفي بغداد سبع لغات بغداد وبغدان ويأبى أهل البصرة ولا يجيزون بغداد في آخره الذال المعجمة وقالوا: لأنه ليس في كلام العرب كلمة فيها دال بعدها ذال، قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق: فقلت لأبي إسحاق إبراهيم بن السري: فما تقول في قولهم? خزداذ فقال: هو فارس ليس من كلام العرب قلت أنا وهذا حجة من قال: بغداذ فإنه ليس من كلام العرب وأجاز الكسائي بغداد على الأصل وحكى أيضا مغداذ ومغداد ومغدان وحكى الخارزنجي بغداد بدالين مهملتين وهي في اللغات كلها تذكر وتؤنث وتسمى مدينة السلام أيضا، فأما الزوراء فمدينة المنصور خاصة وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها: وادي السلام، وقال موسى بن عبد الحميد النسائي: كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي رواد فأتاه رجل فقال له: من أين أنت فقال له: من بغداد فقال: لا تقل بغداد فإن بغ صنم وداد أعطي ولكن قل مدينة السلام فإن الله هو السلام والمدن كلها له وقيل: إن بغداد كانت قبل سوقا يقصدها تجار أهل الصين بتجاراتهم فيربحون الربح الواسع وكان اسم ملك الصين بغ فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا بغ داد أي أن هذا الربح الذي ربحناه من عطية الملك وقيل: إنما سميت مدينة السلام لأن السلام هو الله فأرادوا مدينة الله، وأما طولها فذكر بطليموس في كتاب الملحمة المنسوب إليه أن مدينة بغداد طولها خمس وسبعون درجة وعرضها أربع وثلاثون درجة داخلة في الإقليم الرابع، وقال أبو عون وغيره: إنها في الاقليم الثالث، قال: وطالعها السماك الأغزل بيت حياتها القوس لها شركة في الكف الخضيب ولها أربعة أجزاء من سرة الجوزاء تحت عشر درج من السرطان يقابلها مثلها من الجدي عاشرها مثلها من الحمل عاقبتها مثلها من الميزان، قلت: أنا ولا شك أن بغداد أحدثت بعد بطليموس بأكثر من ألف سنة ولكني أظن أن مفسري كلامه قاسوا وقالوا، وقال صاحب الزيج: طول بغداد سبعون درجة وعرضها ثلاث وثلاثون درجة وثلث وتعديل نهارها ست عشرة درجة وثلثا درجة وأطول نهارها أربع عشرة ساعة وخمس دقائق وغاية ارتفاع الشمس، بها ثمانون درجة وثلث وظل الظهر بها درجتان وظل العصر أربع عشرة درجة وسمت القبلة ثلاث عشرة درجة ونصف وجهها عن مكة مائة وسبع عشرة درجة في الوجود ثلاثمائة درجة هذا كله نقلته من كتب المنجمين ولا أعرفه ولا هو من صناعتي، وقال أحمد بن حنبل: بغداد من الصراة إلى باب التبن وهو مشهد موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن الامام علي بن أبي طالب ثم زيد فيها حتى بلغت كلواذى والمخرم وقطربل، قال أهل السير: ولما أهلك الله مهران بأرض الحيرة ومن كان معه من العجم استمكن المسلمون من الغارة على السواد وانتقضت مسالح الفرس وتشتت أمرهم واجترأ المسلمون عليهم وشنوا الغارات ما بين سورا وكسكر والصراة والفلاليج والأستانات، قال أهل الحيرة للمثنى: إن بالقرب منا قرية تقوم فيها سوق عظيمة في كل شهر مرة فيأتيها تجار فارس والأهواز وسائر البلاد يقال لها: بغداد وكذا كانت إذ ذاك فأخذ المثنى على البر حتى أتى الأنبار فتحصن فيها أهلها منه فأرسل إلى سفروخ مرزبانها ليسير إليه فيكلمه بما يريد وجعل له الأمان فعبر المرزبان إليه فخلا به المثنى وقال له: إني أريد أن أغير على سوق بغداد وأريد أن تبعث أدلاء فيدلوني الطريق وتعقد لي الجسر لأعبر عليه الفرات ففعل المرزبان ذلك وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه فعبر المثنى مع أصحابه وبعث معه المرزبان الأدلاء فسار حتى وافى السوق ضحوة فهرب الناس وتركوا أموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله ثم رجعوا إلى الأنبار ووافى معسكره غانما موفورا وذلك في سنة 13 للهجرة فهذا خبر بغداد قبل أن يمصرها المنصور لم يبلغني غير ذلك. الفرات ففعل المرزبان ذلك وقد كان قطع الجسر قبل ذلك لئلا تعبر العرب عليه فعبر المثنى مع أصحابه وبعث معه المرزبان الأدلاء فسار حتى وافى السوق ضحوة فهرب الناس وتركوا أموالهم فأخذ المسلمون من الذهب والفضة وسائر الأمتعة ما قدروا على حمله ثم رجعوا إلى الأنبار ووافى معسكره غانما موفورا وذلك في سنة 13 للهجرة فهذا خبر بغداد قبل أن يمصرها المنصور لم يبلغني غير ذلك.
فصل في بدء عمارة بغداد. كان أول من مصرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء وانقتل إليها من الهاشمية، وهي مدينة كان قد اختطها أخوه أبو العباس السفاح قرب الكوفة وشرع في عمارتها سنة 145 ونزلها سنة 149، وكان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم فانقل عنهم يرتاد موضعا، وقال ابن عياش: بعث المنصور روادا وهو بالهاشمية يرتادوا له موضعا يبني فيه مدينة ويكون الموضع واصطا رافقا بالعامة والجند فنعت له موضع قريب من بارما وذكر له غذاء وطيب هواء فخرج إليه بنفسه حتى نظر إليه وبات فيه فرأى موضعا طيبا فقال لجماعة منهم سليمان بن مجالد وأبو أيوب المورياني وعبد الملك بن حميد الكاتب: مارأيكم في هذا الموضع قالوا: طيب موافق فقال: صدقتم ولكن لا مرفق فيه للرعية وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة والأمتعة في البر والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس، قال: فأتى موضع بغداد وعبر موضع قصر السلام ثم صلى العصر وذلك في صيف وحر شديد وكان في ذلك الموضع بيعة فبات أغيب مبيت وأقام يومه فلم ير إلا خيرا فقال: هذا موضع صالح للبناء فإن المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار ولا يحمل الجند والرعية إلا مثله فخط البناء وقدر المدينة ووضع أول لبنة بيده قال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال: ابنو على بركة الله، وذكر سليمان بن مختار أن المنصوراستشار دهقان بغداد وكانت قرية في المربعة المعروفة بأبي العباس الفضل بن سليمان الطوسي وما زالت داره قائمة على بنائها إلى أن خرب كثير مما يجاورها في البناء فقال: الذي أراه يا أمير المؤمنين أن تنزل في نفس بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج طسوجان في الجانب الغربي
وطسوجان في الجانب الشرقي فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذي فإن تأخر عمارة طسوج منها كان الآخر عامرا وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة ودجلة تجيئك بالميرة من القرب وفي الفرات من الشام والجزيرة ومصر وتلك البلدان وتحمل إليك طرائف الهند والسند والصين والبصرة وواسط في دجلة وتجيئك ميرة أرمينية وأذربيجان وما يتصل بها في تامرا وتجيئك ميرة الموصل وديار بكر وربيعة وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر والقنطرة لم يصل إليك عدوك وأنت قريب من البر والبحر والجبل، فأعجب المنصور هذا القول وشرع في البناء ووجه المنصور في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط فأحضروا وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والفقه والأمانة والمعرفة بالهندسة فجمعهم وتقدم إليهم أن يشرفوا على البناء وكان ممن حضر الحجاج بن أرطاة وأبو حنيفة الامام وكان أول العمل في سنة 145 وأمر أن يجعل عرض السور من أسفله خمسين ذراعا ومن أعلاه عشرين ذراعا وأن يجعل في البناء جرز القصب مكان الخشب فلما بلغ السور مقدار قامة اتصل به خروج محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب فقطع البناء حتى فرغ من أمره وأمر أخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، وعن علي بن يقطين قال: كنت في عسكرأبي جعفر المنصور حين سار إلى الصراة يلتمس موضعا لبناء مدينة، قال: فنزل الدير الذي على الصراة في العتيقة فما زال على دابته ذاهبا جائيا منفردا عن الناس يفكر قال: وكان في الدير راهب عالم فقال لي: كم يذهب الملك ويجيء قلت: إنه يريد أن يبني مدينة، قال: فما اسمه قلت: عبد الله بن محمد، قال: أبو من? قلت: أبو جعفر قال: هل يلقب بشيء قلت: المنصور قال: ليس هذا الذي يبنيها قلت: ولم قال: لأنا قد وجدنا في كتاب عندنا نتوارثه قرنا عن قرن أن الذي يبني هذا المكان رجل يقال له: مقلاص، قال: فركبت من وقتي حتى دخلت على المنصور ودنوت منه فقال لي: ما وراءك قلت: خير ألقيه إلى أمير المؤمنين وأريحه من هذا العناء فقال: قل، قلت: أمير المؤمنين يعلم أن هؤلاء معهم علم وقد أخبرني راهب هذا الدير بكذا وكذا فلما ذكرت له مقلاص ضحك واستبشر ونزل عن دابته فسجد وأخذ سوطه وأقبل يذرع به فقلت: في نفسي لحقه اللجاج ثم دعا المهندسين من وقته وأمرهم بخط الرماد فقلت له: أظنك يا أمير المؤمنين أردت معاندة الراهب وتكذيبه فقال: لا، والله ولكني كنت ملقبا بمقلاص وما ظننت أن أحدا عرف ذلك غيري وذاك أننا كنا بناحية السراة في زمان بني أمية على الحال التي تعلم فكنت أنا ومن كان في مقدار سني من عمومتي وإخوتي نتداعى ونتعاشر فبلغت النوبة إلي يوما من الأيام وماأملك درهما واحدا فلم أزل أفكر وأعمل الحيلة إلى أن أصبت غزلا لداية كانت لهم فسرقته ثم وجهت به فبيع لي واشترى لي بثمنه ما احتجت إليه وجئت الى الداية وقلت لها: افعلي كذا واصنعي كذا قالت: من أين لك ما أرى قلت: اقترضت دراهم من بعض أهلي، ففعلت ما أمرتها به فلما فرغنا من الأكل وجلسنا للحديث طلبت الداية الغزل فلم تجده فعلمت أني صاحبه وكان في تلك الناحية لص يقال له: مقلاص مشهور بالسرقة فجاءت إلى باب البيت الذي كنا فيه فدعتني فلم أخرج إليها لعلمي أنها وقفت على ماصنعت فلما ألحت وأنا لا أخرج قالت اخرج يا مقلاص الناس يتحذرون من مقلاصهم وأنا مقلاصي معي في البيت فمزح معي إخوتي وعمومتي بهذا اللقب ساعة ثم لم أسمع به إلا منك الساعة فعلمت أن أمر هذه المدينة يتم على يدي لصحة ما وقفت عليه، ثم وضع أساس المدينة مدورا وجعل قصره في وسطها وجعل لها أربعة أبواب وأحكم سورها وتفصيلها فكان القاصد إليها من الشرق يدخل من باب خراسان والقاصد من الحجاز يدخل من باب الكوفة والقاصد من المغرب يدخل من باب الشام والقاصد من فارس والأهواز وواسط والبصرة واليمامة والبحرين يدخل من باب البصرة، قالوا: فأنفق المنصور على عمارة بغداد ثمانية عشر ألف ألف دينار، وقال الخطيب في رواية: أنه أنفق على مدينته وجامعها وقصر الذهب فيها والأبواب والأسواق إلى أن فرغ من بنائها أربعة ألاف ألف وثمانمائة وثلاثة وثمانين ألف درهم وذاك أن الأستاذ من الصناع كان يعمل في كل يوم بقيراط إلى خمس حبات والروزجاري بحبتين إلى ثلاث حبات وكان الكبش بدرهم والجمل بأربعة دوانيق والتمر ستون رطلا بدرهم، قال الفضل بن دكين: كان ينادي على لحم البقر في جبانة كندة تسعون رطلا بدرهم ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم والعسل عشرة أرطال بدرهم، قال: وكان بين كل باب من أبواب المدينة والباب الاخر ميل وفي كل ساف من أسواف البناء مائة ألف لبنة واثنان وستون ألف لبنة من اللبن الجعفري، وعن ابن الشروي قال: هدمنا من السور الذي يلي باب المحول قطعة فوجدنا فيها لبنة مكتوب عليها بمغرة وزنها مائة وسبعة عشر رطلا فوزناها فوجدناها كذلك، وكان المنصور كما ذكرنا بنى مدينته مدورة وجعل داره وجامعها في وسطها وبنى القبة الخضراء فوق إيوان وكان علوها ثمانين ذراعا وعلى رأس القبة صنم على صورة فارس في يده رمح وكان السلطان إذا رأى أن ذلك الصنم قد استقبل بعض الجهات ومد الرمح نحوها علم أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة فلا يطول عليه الوقت حتى ترد عليه الأخبار بأن خارجيا فد هجم من تلك الناحية، قلت أنا: هكذا ذكر الخطيب وهو من المستحيل والكذب الفاحش وإنما يحكى مثل هذا عن سحرة مصر وطلسمات بليناس التي أوهم الأغمار صحتها تطاول الأزمان والتخيل أن المتقدمين ما كانوا بني ادم فأما الملة الإسلامية فإنها تجل عن هذه الخرافات فإن من المعلوم أن الحيوان الناطق مكلف الصنائع لهذا التمثال لا يعلم شيئا مما ينسب إلى هذا الجماد ولو كان نبيا مرسلا وأيضا لو كان كلما توجهت إلى جهة خرج منها خارجي لوجب أن لا يزال خارجي يخرج في كل وقت لأنها لا بد أن تتوجه إلى وجه من الوجوه و الله أعلم، قال: وسقط رأس هذه القبة سنة 329 وكان يوم مطر عظيم ورعد هائل وكانت هذه القبة تاج البلد وعلم بغداد ومأثرة من ماثر بني العباس وكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة، ونقل المنصور أبوابها من واسط وهي أبواب الحجاج وكان الحجاج أخذها من مدينة بازاء واسط تعرف بزندورد يزعمون أنها من بناء سليمان بن داود عليه السلام وأقام على باب خراسان بابا جيء به من الشام من عمل الفراعنة وعلى باب الكوفة بابا جيء به من الكوفة من عملى خالد القسري وعمل هو بابا لباب الشام وهو أضعفها وكان لا يدخل أحد من عمومة المنصور ولا غيرهم من شيء من الأبواب إلا راجلا إلا داود بن علي عمه فإنه كان متفرسا وكان يحمل في محفة وكذلك محمد المهدي ابنه، وكانت تكنس الرحاب في كل يوم ويحمل التراب إلى خارج فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب فلم يأذن له فقال يا أميرالمؤمنين: عدني بعض بغال الروايا التي تصل إلى الرحاب فقال: يا. ربيع بغال الروايا تصل إلى رحابي تتخذ الساعة قني بالساج من باب خراسان حتى تصل إلى قصري ففعل ومد المنصور قناة من نهر دجيل الآخذ من دجلة وقناة من نهر كرخايا الآخذ من الفرات وجرهما إلى مدينته في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها فكانت كل قناة منها تدخل المدينة وتنفذ في الشوارع والدروب والأرباض تجري صيفا وشتاء لا ينقطع ماؤها في شيء من الأوقات، ثم أقطع المنصور أصحابه القطائع فعمروها وسميت بأسمائهم، وقد ذكرت من ذلك ما بلغني في مواضعه حسب ما قضى به ترتيب الحروف وقد صنف في بغداد وسعتها وعظم رفعتها وسعة بقعتها وذكر أبو بكر الخطيب في صدر كتابه ذلك ما فيه كفاية لطالبه. فلنذكر الآن ما ورد في مدح بغداد.
ومن عجيب ذلك ما ذكره أبوسهل بن نوبخت قال: أمرني المنصور لما أراد بناء بغداد بأخذ الطالع ففعلت فإذا الطالع في الشمس وهي في القوس فخبرته بما تدل النجوم عليه من طول بقائها وكثرة عمارتها وفقر الناس إلى ما فيها ثم قلت وأخبرك خلة أخرى أسرك بها يا أمير المؤمنين قال: وما هي? قلت: نجد في أدلة النجوم أنه لا يموت بها خليفة أبدا حتف أنفه قال: فتبسم وقال: الحمد لله على ذلك هذا من فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم، ولذلك يقول عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي:
أعاينت في طول من الأرض أو عرض ** كبغداد من دار بها مسكن الخفض
صفا العيش في بغداد واخضر عوده ** وعيش سواها غير خفض ولا غض
تطول بها الأعمار إن غذاءها ** مرىء وبعض الأرض أمرأ من بعض
قضى ربها أن لا يموت خليفة ** بها إنه ماشاء في خلقه يقضي
تنام بها عين الغريب ولا ترى ** غريبا بأرض الشام يطمع في الغمض
فإن جزيت بغداد منهم بقرضها ** فما أسلفت إلا الجميل من القرض
وإن رميت بالهجر منهم وبالقلى ** فما أصبحت أهلا لهجر ولا بغض
وكان من أعجب العجب أن المنصور مات وهو حافي والمهدي ابنه خرج إلى نواحي الجبل فمات بما سبذان بموضع يقال له: الرد والهادي ابنه مات بعيساباذ قرية أو محلة بالجانب الشرقي من بغداد والرشيد مات بطوس والأمين أخذ في شبارته وقتل بالجانب الشرقي والمأمون مات بالبذندون من نواحي المصيصة بالشام والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر وباقي الخلفاء ماتوا بسامرا ثم انتقل الخلفاء إلى التاج من شرقي بغداد كما ذكرناه في التاج وتعطلت مدينة المنصور منهم، وفي مدح بغداد، قال بعض الفضلاء: بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف وبها أرباب الغايات في كل فن وآحاد الدهر في كل نوع، وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان أبو الفرج الببغا يقول هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام فإن الدولة النبوية والخلافة الإسلامية بها عششتا وفرختا وضربتا بعروقهما وبسقتا بفروعهما وان هواءها أغذى من كل هواء وماءها أعذب من كل ماء وإن نسيمها أرق من كل نسيم وهي من الإقليم الإعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف الأزمان ومنزل الخلفاء قي دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد فإن فطن بخواصها وتنبه على محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله ثم سأله عن الجاحظ فإن وجد أثرا لمطالعة كتبه والاقتباس من نوره والاغتراف من بحره وبعض القيام بمسائله قضى له بأنه غرة شادخة في أهل العلم والآداب وإن وجده ذاما لبغداد غفلا عما يحب أن يكون موسوما به من الانتساب إلى المعارف التي يختص بها الجاحظ لم ينفعه بعد ذلك شيء من المحاسن، ولما رجع الصاحب عن بغداد سأله ابن العميد عنها فقال: بغداد في البلاد كالأستاذ في العباد فجعلها مثلا في الغاية في الفضل، وقال ابن زريق الكاتب الكوفي:
سافرت أبغي لبغداد وساكنها ** مثلا قد اخترت شيئا دونه الياس
هيهات بغداد والدنيا بأجمعها ** عندي وسكان بغداد هم الناس وقال اخر:
بغداد يا دار الملوك ومجتنى ** صنوف المنى يا مستقر المنابر
ويا جنة الدنيا ويا مجتنى الغنى ** ومنبسط الآمال عند المتاجر وقال أبو يعلى محمد بن الهبارية: سمعت الشيخ الزاهد أبا إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزاباذي يقول من دخل بغداد وهو ذو عقل صحي وطبع معتدل مات بها أو بحسرتها، وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
مامثل بغداد في الدنيا ولا الدين ** على تقلبهافي كل ماحين
ما بين قطربل فالكرخ نرجسة ** تندي ومنبت خيري ونسرين
تحيا النفوس برياها إذا نفحت ** وخرشت بين أوراق الرياحين
سقيا لتلك القصور الشاهقات وما ** تخفي من البقر الأنسية العين
تستن دجلة فيما بينها فترى ** دهم السفين تعالا كالبراذين
مناظر ذات أبواب مفتحة ** أنيقة بزخاريف وتزيين
فيها القصور التي تهوى بأجنحة ** بالزائرين إلى القوم المزورين
من كل حراقة تعلو فقارتها ** قصر من الساج عال ذو أساطين وقدم عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس إلى بغداد فرأى كثرة الناس بها فقال: ما مررت بطريق من طرق هذه المدينة إلا ظننت أن الناس قد نودي فيهم، ووجد على بعض الأميال بطريق مكة مكتوبا:
أيا بغداد يا أسفي عليك ** متى يقضى الرجوع لنا إليك
قنعنا سالمين بكل خير ** وينعم عيشنا في جانبيك ووجد على حائط بجزيرة قبرص مكتوبا:
فهل نحو بغداد مزار فيلتقي ** مشوق ويحظى بالزيارة زائر
إلى الله أشكو لا إلى الناس إنه ** على كشف ما ألقى من الهم قادر وكان القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي قد نبا به المقام ببغداد فرحل إلى مصر فخرج البغداديون يودعونه وجعلوا يتوجعون لفراقه فقال: والله لو وجدت عندكم في كل يوم مدا من الباقلي ما فارقتكم ثم قال:
سلام على بغداد من كل منزل ** وحق لها مني السلام المضاعف
فوالله ما فارقتها عن قلى لها ** وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي برحبها ** ولم تكن الأرزاق فيهاتساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ** وأخلاقه تنأى به وتخالف ولما حج الرشيد وبلغ زرود الفت إلى ناحية العر اق، وقال:
أقول وقد جرنا زرود عشية ** وكادت مطايانا تجوز بنا نجدا
على أهل بغداد السلام فإنني ** أزيد بسيري عن ديارهم بعدا وقال ابن مجاهد المقري: رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له: ما فعل الله بك فقال: دعني مما فعل الله بي من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة وعن يونس بن عبد الأعلى، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: أيا يونس دخلت بغداد فقلت: لا، فقال أيا يونس: ما رأيت الدنيا ولا الناس، وقال طاهر بن المظفر بن طاهر الخازن:
سقى الله صوب الغاديات محلة ** ببغداد بين الخلد والكرخ والجسر
هي البلدة الحسناء خضت لأهلها ** بأشياءلم يجمعن مذ كن في مصر
هواء رقيق في اعتدال وصحة ** وماء له طعم ألذ من الخمر
ودجلتها شطان قد نظما لنا ** بتاج إلى تاج وقصر إلى قصر
ثراها كمسك والمياه كفضة ** وحصباؤها مثل اليواقيت والدر قال أبو بكر الخطيب أنشدني أبو محمد الباقي قول الشاعر:
دخلنا كارهين لها فلما ** ألفناها خرجنا مكرهينا فقال: يوشك هذا أن يكون في بغداد، قيل: وأنشد لنفسه في المعنى وضمنه البيت:
على بغداد معدن كل طيب ** ومغنى نزهة المتنزهينا
سلام كلما جرحت بلحظ ** عيون المشتهين المشتهينا
دخلنا كارهين لها فلما ** ألفناها خرجنا مكرهينا
وما حب الديار بنا ولكن ** أمر العيش فرقة من هوينا قال محمد بن علي بن حبيب الماوردي: كتب إلي أخي من البصرة وأنا ببغداد:
طيب الهواء ببغداد يشوقني ** قدما إليها وإن عاقت معاذير
وكيف صبري عنها بعدما جمعت ** طيب الهواءين ممدود ومقصور وقلد عبد الله بن عبد الله بن طاهر اليمن فلما أراد الخروج قا ل:
أيرحل آلف ويقيم إلف ** وتحيا لوعة ويموت قصف
على بغداد دار اللهو مني ** سلام ماسجا للعين طرف
وما فارقتها لقلى ولكن ** تناولني من الحدثان صرف
ألا روح ألا فرج قريب ** ألا جار من الحدثان كهف
لعل زماننا سيعود يوما ** فيرجع آلف وشر إلف فبلغ الوزير هذا الشعر فأعفاه، وقال شاعر يتشوق بغداد:
ولما تجاوزت المدائن سائرا ** وأيقنت يا بغداد أني على بعد
علمت بأن الله بالغ أمره ** وأن قضاء الله ينفذ في العبد
وقلت وقلبي فيه ما فيه من جوى ** ودمعي جار كالجمان على خدي
هل الله يا بغداد يجمع بيننا ** فألقى الذي خلفت فيك على العهد وقال محمد بن علي بن خلف البيرماني:
فدى لك يا بغداد كل مدينة ** من الأرض حتى خطتي ودياريا
فقد طفت في شرق البلاد وغربها ** وسيرت خيلي بينها وركابيا
فلم أر فيها مثل بغداد منزلا ** ولم أر فيها مثل دجلة واديا
ولا مثل أهليها أرق شمائلا ** وأعذب ألفاظا وأحلى معانيا
وقائلة لو كان ودك صادقا ** لبغداد لم ترحل فقلت جوابيا
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)