الفصل الرابع و العشرون في صناعة الفلاحة
هذه الصناعة ثمرتها اتخاذ الأقوات و الحبوب بالقيام على إثارة الأرض لها ازدراعها و علاج نباتها و تعهده بالسقي و التنمية إلى بلوغ غايته ثم حصاد سنبله و استخراج حبه من غلافه و إحكام الأعمال لذلك. و تحصيل أسبابه و دواعيه. و هي أقدم الصنائع لما أنها محصلة للقوت المكمل لحياة الإنسان غالباً إذ يمكن وجوده من دون القوت. و لهذا اختصت هذه الصناعة بالبدو. إذ قدمنا أنه أقدم من الحضر و سابق عليه فكانت هذه الصناعة لذلك بدوية لا يقوم عليها الحضر و لا يعرفونها لأن أحوالهم كلها ثانية على البداوة فصنائعهم ثانية عن صنائعها و تابعة لها. و الله سبحانه و تعالى مقيم العباد فيما أراد.
الفصل الخامس و العشرون في صناعة البناء
هذه الصناعة أول صنائع العمران الحضري و أقدمها و هي معرفة العمل في اتخاذ البيوت و المنازل للكن و المأوى للأبدان في المدن. و ذلك أن الإنسان لما جبل عليها من الفكر في عواقب أحواله، لا بد أن يفكر فيما يدفع عنه الأذى من الحر و البرد كاتخاذ البيوت المكتنفة بالسقف و الحيطان. من سائر جهاتها و البشر مختلف في هذه الجبلة الفكرية فمنهم المعتدلون فيها فيتخذون ذلك باعتدال أهالي الثاني و الثالث و الرابع و الخامس و السادس و أما أهل البدو فيبعدون عن اتخاذ ذلك لقصور أفكارهم عن إدراك الصنائع البشرية فيبادرون للغيران و الكهوف المعدة من غير علاج. ثم المعتدلون و المتخذون البيوت للمأوى قد يتكاثرون في البسيط الواحد بحيث يتناكرون و لا يتعارفون فيخشون طرق بعضهم بعضاً بياتاً فيحتاجون إلى حفظ مجتمعهم بإدارة ماء أو أسوار تحوطهم و يصير جميعاً مدينة واحدة و مصراً واحداً و يحوطهم الحكم من داخل يدفع بعضهم عن بعض و قد يحتاجون إلى الانتصاف و يتخذون المعاقل و الحصون لهم و لمن تحت أيديهم و هؤلاء مثل الملوك و من في معناهم من الأمراء و كبار القبائل. ثم تختلف أحوال البناء في المهن كل مدينة على ما يتعارفون و يصطلحون عليه و يناسب مزاج هوائهم و اختلاف أحوالهم في الغنى و الفقر. و كذا حال أهل المدينة الواحدة فمنهم من يتخذ القصور و البضائع العظيمة الساحة المشتملة على عدة الدور و البيوت و الغرف الكبيرة لكثرة ولده و حشمه و عياله و تابعه و يؤسس جدرانها بالحجارة و يلحم بينها بالكلس و يعالي عليها بالأصبغة و الجص و يبالغ في كل ذلك بالتنجيد و التنميق إظهاراً للبسطة بالعناية في شأن المأوى. و يهيىء مع ذلك الأسراب و المطامير للاختزان لأقواته و الإسطبلات لربط مقرباته إذا كان من أهل الجنود و كثرة التابع و الحاشية كالأمراء و من في معناهم و منهم من يبني الدويرة و البيوت لنفسه و سكنه و ولده لا يبتغي ما وراء ذلك لقصور حاله عنه و اقتصاره عن الكن الطبيعي للبشر و بين ذلك مراتب غير منحصرة و قد يحتاج لهذه الصناعة أيضاً عند تأسيس الملوك و أهل و الدول المدن العظيمة و الهياكل المرتفعة و يبالغون في إتقان الأوضاع و علو الأجرام مع الإحكام بتبلغ الصناعة مبالغها. و هذه الصناعة هي التي تحصل الدواعي لذلك كله و أكثر ما تكون هذه الصناعة في الأقاليم المعتدلة من الرابع و ما حواليه إذ الأقاليم المنحرفة لا بناء فيها.
و إنما يتخذون البيوت حظائر من القصب و الطين أو يأوون إلى الكهوف و الغيران. و أهل هذه الصناعة القائلون عليها متفاوتون: فمنهم البصير الماهر و منهم القاصر.
ثم هي تتنوع أنواعاً كثيرة فمنها البناء بالحجارة المنجدة أو بالآجر يقام بها الجدران ملصقاً بعضها إلى بعض بالطين و الكلس الذي يعقد معها و يلتحم كأنها جسم واحد و منها البناء بالتراب خاصة تقام منه حيطان يتخذ لها لوحان من الخشب فقدران طولاً و عرضاً باختلاف العادات في التقدير. و أوسطه أربع أذرع في ذراعين فينصبان على أساس و قد يوعد ما بينهما بما يراه صاحب البناء في عرض الأساس و يوصل بينهما بأذرع من الخشب يربط عليها بالحبال و الجدر. و يسد الجهتان الباقيتان من ذلك الخلاء بينهما بلوحين آخرين صغيرين ثم يوضع فيه التراب مخلطاً بالكلس و يركز بالمراكز المعدة حتى ينعم ركزه و يختلط أجزاؤه بالكلس ثم يزاد التراب ثانياً و ثالثاً إلى أن يمتلىء ذلك الخلاء بين اللوحين و قد تداخلت أجزاء الكلس و التراب و صارت جسماً واحداً. ثم يعاد نصب اللوحين على صورة و يركز كذلك إلى أن يتم و ينظم الألواح كلها سطراً من فوق سطر إلى أن ينتظم الحائط كله ملتحماً كأنه قطعة واحدة و يسمى الطابية و صانعه الطواب.
و من صنائع البناء أيضاً أن تجلل الحيطان بالكلس بعد أن يحل بالماء و يخمر أسبوعاً أو أسبوعين على قدر ما يعتدل مزاجه عن إفراط النارية المفسدة للإلحام. فإذا تم له ما يرضاه من ذلك علاه من فوق الحائط و ذلك إلى أن يلتحم. و من صنائع البناء عمل السقف بأن يمد الخشب المحكمة النجارة أو الساذجة على حائطي البيت و من فوقها الألواح كذلك موصولة بالدسائر و يصب عليها التراب و الكلس و يبسط بالمراكز حتى تتداخل أجزاؤها و تلتحم و يعالى عليها الكلس كما يعالى على الحائط. و من صناعة البناء ما يرجع إلى التنميق و التزيين كما يصنع من فوق الحيطان الأشكال المجسمة من الجص يخمر بالماء ثم يرجع جسداً و فيه بقية البلل، فيشكل على التناسب تخريماً بمثاقب الحديد إلى أن يبقى له رونق و رؤاء. و ربما عولي على الحيطان أيضاً بقطع الرخام أو الآجر أو الخزف أو بالصدف أو السبج يفصل أجزاء متجانسة أو مختلفة و توضع في الكلس على نسب و أوضاع مقدرة عندهم يبدو به الحائط للعيان، كأنه قطع الرياض المنمنمة.
إلى غير ذلك من بناء الجباب و الصهاريج لسفح الماء بعد أن تعد في البيوت قصاع الرخام القوراء المحكمة الخرط بالفوهات في وسطها لنبع الماء الجاري إلى الصهريج يجلب إليه من خارج القنوات المفضية إلى البيوت و أمثال ذلك من أنواع البناء. و تختلف الصناع في جميع ذلك باختلاف الحذق و البصر و يعظم عمران المدينة و يتسع فيكثرون. و ربما يرجع الحكام إلى نظر هؤلاء فيما هم أبصر به من أحوال البناء. و ذلك أن الناس في المدن لكثرة الازدحام و العمران يتشاحون حتى في الفضاء و الهواء الأعلى و الأسفل و من الانتفاع بظاهر البناء مما يتوقع معه حصول الضرر في الحيطان. فيمنع جاره من ذلك إلا ما كان له فيه حق. و يختلفون أيضاً في استحقاق الطرق و المنافذ للمياه الجارية و الفضلات المسربة في القنوات و ربما يدعي بعضهم حق بعض في حائطه أو علوه أو قناته لتضايق الجوار أو يدعي بعضهم على جاره اختلال حائطه خشية سقوطه و يحتاج إلى الحكم عليه بهدمه و دفع ضرر عن جاره عند من يراه أو يحتاج إلى قسمة دار أو عرضة بين شريكين بحيث لا يقع معها فساد في الدار و لا إهمال لمنفعتها. و أمثال ذلك. و يخفى جميع ذلك إلا على أهل البصر العارفين بالبناء و أحواله المستدلين عليها بالمعاقد و القمط و مراكز الخشب و ميل الحيطان و اعتدالها و قسم المساكن على نسبة أوضاعها. و منافعها و تسريب المياه في القنوات مجلوبة و مرفوعة بحيث لا تضر بما مرت عليه من البيوت و الحيطان و غير ذلك. فلهم بهذا كله البصر و الخبرة التي ليست لغيرهم. و هم مع ذلك يختلفون بالجودة و القصور في الأجيال باعتبار الدول و قوتها. فإنا قدمنا أن الصنائع و كمالها، إنما هو بكمال الحضارة و كثرتها بكثرة الطالب لها. فلذلك عندما تكون الدولة بدوية في أول أمرها تفتقر في أمر البناء إلى غير قطرها. كما وقع للوليد بن عبد الملك حين أجمع على بناء مسجد المدينة و القدس و مسجده بالشام. فبعث إلى ملك الروم بالقسطنطينية في الفعلة المهرة في البناء فبعث إليه منهم من حصل له غرضه من تلك المساجد و قد يعرف صاحب هذه الصناعة أشياء من الهندسة مثل تسوية الحيطان بالوزن و إجراء المياه بأخذ الارتفاع و أمثال ذلك فيحتاج إلى البصر بشيء من مسائله. و كذلك في جر الأثقال بالهندام فإن الأجرام العظيمة إذا شيدت بالحجارة الكبيرة يعجز قدر الفعلة عن رقمها إلى مكانها من الحائط فيتحيل لذلك بمضاعفة قوة الحبل بإدخاله في المعالق من أثقاب مقدرة على نسب هندسية تصير الثقيل عند معاناة الرفع خفيفاً فيتم المراد من ذلك بغير كلفة و هذا إنما يتم بأصول هندسية معروفين متداولين بين البشر و بمثلها كان بناء الهياكل الماثلة لهذا العهد التي يحسب أنها من بناء الجاهلية. و أن أبدانهم كانت على نسبتها في العظم الجسماني و ليس كذلك و إنما تم لهم ذلك بالحيل الهندسية كما ذكرناه. فتفهم ذلك. و الله يخلق ما يشاء سبحانه.
الفصل السادس و العشرون في صناعة النجارة
هذه الصناعة من ضروريات العمران و مادتها الخشب و ذلك أن الله سبحانه و تعالى جعل للآدمي في كل مكون من المكونات منافع تكمل بها ضروراته و كان منها الشجر فإن له فيه من المنافع مالا ينحصر مما هو معروف لكل أحد. و من منافعها اتخاذها خشباً إذا يبست و أول منافعه أن يكون وقوداً للنيران في معاشهم و عصياً للاتكاء و الذود و غيرهما من ضرورياتهم و دعائم لما يخشى ميله من أثقالهم. ثم بعد ذلك منافع أخرى لأهل البدو و الحضر فأما أهل البدو فيتخذون منها العمد و الأوتاد لخيامهم و الحدوج لظعائنهم و الرماح و القسي و السهام لسلاحهم و أما أهل الحضر فالسقف لبيوتهم و الأغلاق لأ بوابهم و الكراسي لجلوسهم. و كل واحدة من هذه فالخشبة مادة لها و لا تصير إلى الصورة الخاصة بها إلا بالصناعة. و الصناعة المتكفلة بذلك المحصلة لكل واحد من صورها هي النجارة على اختلاف رتبها. فيحتاج صاحبها إلى تفصيل الخشب أولاً، إما بخشب أصغر منه أو ألواح.
ثم تركب تلك الفضائل بحسب الصور المطلوبة. و هو في كل ذلك يحاول بصنعته إعداد تلك الفصائل بالانتظام إلى أن تصير أعضاء لذلك الشكل المخصوص. و القائم على هذه الصناعة هو النجار و هو ضروري في العمران. ثم إذا عظمت الحضارة و جاء الترف و تأنق الناس فيما يتخذونه من كل صنف من سقف أو باب أو كرسي أو ماعون، حدث التأنق في صناعة ذلك و استجادته بغرائب من الصناعة كمالية ليست من الضروري في شيء مثل التخطيط في الأبواب و الكراسي و مثل تهيئة القطع من الخشب بصناعة الخرط يحكم بريها و تشكيلها ثم تؤلف على نسب مقدرة و تلحم بالدسائر فتبدو لرأي العين ملتحمة و قد أخذ منها اختلاف الأشكال على تناسب. يصنع هذا في كل شيء يتخذ من الخشب فيجيء آنق ما يكون. و كذلك في جميع ما يحتاج إليه من الآلات المتخذة من الخشب من أي نوع كان. و كذلك قد يحتاج إلى هذه الصناعة في إنشاء المراكب البحرية ذات الألواح و الدسر و هي أجرام هندسية صنعت على قالب الحوت و اعتبار سبحه في الماء بقوادمه و كلكله ليكون ذلك الشكل أعون لها في مصادمة الماء و جعل لها عوض الحركة الحيوانية التي للسمك تحريك الرياح. و ربما أعينت بحركة المقاذيف كما في الأساطيل.
و هذه الصناعة من أصلها محتاجة إلى أصل كبير من الهندسة في جميع أصنافها لأن إخراج الصور من القوة إلى الفعل على وجه الإحكام محتاج إلى معرفة التناسب في المقادير إما عموماً أو خصوصاً و تناسب المقادير لا بد فيه من الرجوع إلى المهندس. و لهذا كانت أئمة الهندسة اليونانيون كلهم أئمة في هذه الصناعة فكان أوقليدوس صاحب كتاب الأصول في الهندسة نجاراً و بها كان يعرف. و كذلك أبلونيوس صاحب كتاب المخروطات و ميلاوش و غيرهم. و فيما يقال: أن معلم هذه الصناعة في الخليقة هو نوح عليه السلام و بها أنشأ سفينة النجاة التي كانت بها معجزته عند الطوفان. و هذا الخبر و إن كان ممكناً أعني كونه نجاراً إلا أن كونه أول من علمها أو تعلمها لا يقوم دليل من النقل عليه لبعد الآماد. و إنما معناه و الله أعلم الإشارة إلى قدم النجارة لأنه لم يصح حكاية عنها قبل خبر نوع عليه السلام فجعل كأنه أول من تعلمها. فتفهم أسرار الصنائع في الخليقة. و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق.
الفصل السابع و العشرون في صناعة الحياكة و الخياطة
إعلم أن المعتدلين من البشر في معنى الإنسانية لا بد لهم من الفكر في الدفء كالفكر في الكن. و يحصل الدفء باشتمال المنسوج للوقاية من الحر و البرد. و لا بد لذلك من إلحام الغزل حتى يصير ثوباً واحداً، و هو النسج و الحياكة. فإن كانوا بادية اقتصروا عليه، و إن قالوا إلى الحضارة فصلوا تلك المنسوجة قطعاً يقدرون منها ثوباً على البدن بشكله و تعدد أعضائه و اختلاف نواحيها. ثم يلائمون بين تلك القطع بالوصائل حتى تصير ثوباً واحداً على البدن و يلبسونها. و الصناعة المحصلة لهذه الملاءمة هي الخياطة. هاتان الصناعتان ضروريتان في العمران لما يحتاج إليه البشر من الرفه فالأولى لنسج الغزل من الصوف و الكتان و القطن إسداء في الطول و إلحاماً في العرض و إحكاماً لذلك النسج بالالتحام الشديد، فيتم منها قطع مقدرة فمنها الأكسية من الصوف للاشتمال، و منها الثياب من القطن و الكتان للباس. و الصناعة الثانية لتقدير المنسوجات على اختلاف الأشكال و العوائد، تفصل بالمقراض قطعاً مناسبة للأعضاء البدنية ثم تلحم تلك القطع بالخياطة المحكمة وصلاً أو تنبيتاً أو تفسحاً على حسب نوع الصناعة. و هذه الصناعة مختصة بالعمران الحضري لما أن أهل البدو يستغنون عنها و إنما يشتملون الأثواب اشتمالاً. و إنما تفصيل الثياب و تقديرها و إلحامها بالخياطة للباس من مذاهب الحضارة و فنونها. و تفهم هذه في سر تحريم المخيط في الحج لما أن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيويئة كلها و الرجوع إلى الله تعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيباً و لا نساءً لا مخيطاً و لا خفاً، و لا يتعرض لصيد و لا لشيء من عوائده التي تلونت بها نفسه و خلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة. و إنما يجيء كأنه وارد إلى المحشر ضارعاً بقلبه مخلصاً لربه. و كان جزاؤه إن تم له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. سبحانك ما أرفقك بعبادك و أرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك.
و هاتان الصنعتان قديمتان في الخليقة لما أن الدفء ضروري للبشر في العمران المعتدل. و أما المنحرف إلى الحر فلا يحتاج أهله إلى دفء. و لهذا يبلغنا عن أهل الإقليم الأول من السودان أنهم عراة في الغالب. و لقدم هذه الصنائع ينسبها العامة إلى ادريس عليه السلام و هو أقدم الأنبياء. و ربما ينسبونها إلى هرمس و قد يقال إن هرمس هو إدريس. و الله سبحانه و تعالى هو الخلاق العليم.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)