وفي هذه السنة فتح يزيد جرجان الفتح الآخر بعد غدرهم بجنده ونقضهم العهد، قال علي، عن الرهط الذين ذكر أنهم حدثوه بخبر جرجان وطبرستان: ثم إن يزيد لما صالح أهل طبرستان قصد لجرجان، فأعطى الله عهدًا؛ لئن ظفر بهم ألا يقلع عنهم، ولا يرفع عنهم السيف حتى يطحن بدمائهم، ويختبز من ذلك الطحين، ويأكل منه، فلما بلغ المزربان أنه قد صالح الإصبهبذ وتوجه إلى جرجان، جمع أصحابه وأتى وجاه، فتحصن فيها، وصاحبها لا يحتاج إلى عدة من طعام ولا شراب. وأقبل يزيد حتى نزل عليها وهم متحصنون فيها. وحولها غياض فليس يعرف لها إلا طريق واحد، فأقام بذلك سبعة أشهر لا يقدر منهم على شيء، ولا يعرف لهم مأتى إلا من وجه واحد، فكانوا يخرجون في الأيام فيقاتلونه ويرجعون إلى حصنهم، فبيناهم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان كان مع يزيد يتصيد ومعه شاكرية له. وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف: فخرج رجل من عسكره من طيئ يتصيد، فأبصر وعلًا يرقى في الجبل، فأتبعه، وقال لمن معه: قفوا مكانكم، ووقل في الجبل يقتص الأثر، فما شعر بشيء حتى هجم على عسكرهم، فرجع يريد أصحابه، فخاف ألا يهتدي، فجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، حتى وصل إلى أصحابه، ثم رجع إلى العسكر. ويقال: إن الذي كان يتصيد الهياج بن عبد الرحمن الأزدي من أهل طوس، وكان منهومًا بالصيد، فلما رجع إلى العسكر أتى عامر بن أيم الواشجي صاحب شرطة يزيد، فمنعوه من الدخول، فصاح: إن عندي نصيحة. وقال هشام عن أبي مخنف: جاء حتى رفع ذلك إلى ابني زحر بن قيس، فانطلق به ابنا زحر حتى أدخلاه على يزيد، فأعلمه، فضمن له بضمان الجهنية - أم ولد كانت ليزيد - على شيء قد سماه.
وقال علي بن محمد في حديثه عن أصحابه: فدعا به يزيد فقال: ما عندك؟ قال: أتريد أن تدخل وجاه بغير قتال؟ قال: نعم، قال: جعالتي؟ قال: احتكم، قال: أربعة آلاف؛ قال: لد دية، قال: عجلوا لي أربعة آلاف، ثم أنتم بعد من وراء الإحسان. فأمر له بأربعة آلاف، وندب الناس، فانتدب أف وأربعمائة، فقال: الطريق لا يحمل هذه الجماعة لالتفاف الغياض، فاختار منهم ثلثمائة، فوجههم، واستعمل عليهم جهم بن زحر. وقال بعضهم: استمل عليهم ابنه خالد بن يزيد، وقال له: أن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي منهزمًا، وضم إليه جهم بن زحر، وقال يزيد للرجل الذي ندب الناس معه: متى تصل إليهم؟ قال: غدًا عند العصر فيما بين الصلاتين، قال: امضوا على بركة الله؛ فإني سأجهد على مناهضتهم غدًا عند صلاة الظهر. فساروا، فلما قارب انتصاف النهار من غد أمر يزيد الناس أن يشعلوا النار في حطب كان جمعه في حصارهم إياهم، فصيره آكامًا، فأضرموه نارًا؛ فلم تزل الشمس حتى صار عسكره أمثال الجبال من النيران، ونظر العدو إلى النار، فهالهم ما رأوا من كثرتها، فخرجوا إليهم. وأمر يزيد الناس حين زالت الشمس فصلوا، فجمعوا بين الصلاتين، ثم زحفوا إليهم فاقتتلوا، وسار الآخرون بقية يومهم والغد، فهجموا على عسكر الترك قبيل العص ر، وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتل في هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقعوا جميعًا إلى حصنهم، وركبهم المسلمون، فأعطوا بأيديهم، ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم، وقتل مقاتليهم، وصلبهم فرسخين عن يمين الطريق ويساره، وقاد منهم اثني عشر ألفًا إلى الأندرهز - وادي جرجان - وقال: من طلبهم بثأر فليقتل، فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة في الوادي، وأجرى الماء في الوادي على الدم، وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم، ولتبر يمينه، فطحن واختبز وأكل وبنى مدينة جرجان. وقال بعضهم: قتل يزيد من أهل جرجان أربعين ألفًا، ولم تكن من قبل ذلك مدينة ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي. واما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أنه قال: دعا يزيد جهم ابن زحر فبعث معه أربعمائة رجل حتى أخذوا في المكان الذي دلوا عليه وقد أمرهم يزيد فقال: إذا وصلتم إلى المدينة فانتظروا، حتى إذا كان في السحر فكبروا، ثم انطلقوا نحو باب المدينة، فإنكم تجدوني وقد نهضت بجميع الناس إلى بابها؛ فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى إذا كانت الساعة التي أمره ينهض فيها مشى بأصحابه، فأخذ لا يستقبل من أحراسهم أحدًا إلا قتله. وكبر، ففزع أهل المدينة فزعًا لم يدخلهم مثله قط فيما مضى، فلم يرعهم إلا والمسلمون معهم في مدينتهم يكبرون فدهشوا، فألقى الله في قلوبهم الرعب، وأقبلوا لا يدرون أين يتوجهون! غير أن عصابة منهم ليسوا بالكثير قد أقبلوا نحو جهم بن زحر، فقاتلوا ساعة، فدقت يد جهم، وصبر لهم هو وأصحابه، فلم يلبثوا أن قتلوهم إلا قليلًا. سمع يزيد بن المهلب التكبير، فوثب في الناس إلى الباب، فوجدوهم قد شغلهم جهم بن زحر عن الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع عنه كبير دفع، ففتح الباب، فلم يجد عليه من يمنعه ولا من يدفع كبير دفع، ففتح الباب ودخلها من ساعته، فأخرج من كان فيها من المقاتلة، فنصب لهم الجذوع فرسخين عن يمين الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها، وأصاب ما كان فيها. قال علي في حديثه، عن شيخوخة، الذين قد ذكرت أسمائهم قبل. وكتب يزيد إلى سليمان بن عبد الملك:
أما بعد، فإن الله قد فتح لأمير المؤمنين فتحًا عظيمًا، وصنع للمسلمين أحسن الصنع، فلربنا الحمد على نعمه وإحسانه، أظهر في خلافة أمير المؤمنين على جرجان وطبرستان، وقد أعيا ذلك سابور ذا الأكتاف وكسى بن قباذ وكسرى بن هرمز، وأعيا الفاروق عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان ومن بعدهما من خلفاء الله، حتى فتح الله ذلك لأمير المؤمنين؛ كرامة من الله له، وزيادة في نعمه عليه. وقد صار عندي من خمس ما أفاء الله على المسلمين بعد أن صار إلى كل ذي حق حقه من الفئ والغنيمة ستة آلاف ألف، وأنا حامل ذلك إلى أمير المؤمنين إن شاء الله. فقال له كاتبة بن المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب بسمية مال، فأنك من ذلك بين أمرين: إما استكثره فأمرك بحمله، وأما سخت نفسه لك به فسوغكه فتكلفت الهدية فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقبله، فكان بك قد استغرقت ماسميت لم يقع منه موقعًا، ويبق المال الذي سميت مخلدًا عندهم عليك في دواوينهم، فإن ولى وال بعده أخذك به، وإن ولى من يتحامل عليك لم يرض منك بأضعافه، فلا تمض كتابك، ولكن اكتب بالفتح، سله القدوم فتشافهه بما أحببت مشافهة، ولا تقصر، فإنك أن تقصر عما أحببت أحرى من أن تكثر. فأبى يزيد وأمضى. وقال: بعضهم كان في الكتاب أربعة آلاف ألف. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك، فحدثت عن علي بن محمد، قال: حدثنا علي بن مجاهد، عن شيخ من أهل الري أدرك يزيد، قال: أتى يزيد بن المهلب الري حين فرغ من جرجان، فبلغه وفاة أيوب بن سليمان وهو يسير في باغ أبي صالح على باب الري، فارتجز راجز بين يديه فقال:
إن يك أيوب مضى لشأنه ** فإن داوود لفي مكانه
يقيم ما قد زال من سلطانه
وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة. وفيها غزا داوود بن سليمان بن عبد الملك أرض الروم، ففتح حصن المرأة مما يلي ملطية. وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو يومئذ أمير على مكة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر. وكان عمال الأمصار في هذه السنة هم العمال الذين كانوا عليها سنة سبع، وقد ذكرناهم قبل، غير أن عامل يزيد بن المهلب على البصرة في هذه السنة كان - فيما قيل - سفيان بن عبد الله الكندي.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
وفاة سليمان بن عبد الملك
فمن ذلك وفاة سليمان بن عبد الملك، توفي - فيما حدثت عن هشام. عن أبي مخنف - بدابق من أرض قنسرين يوم الجمعة لعشر ليال بقين من صفر، فكانت ولايته سنتين لعشر أشهر إلا خمسة أيام. وقد قيل: توفي لعشر ليال مضين من صفر. وقيل: كانت خلافته سنتين وسبعة أشهر وقيل: سنتين وثمانية أشهر وخمسة أيام. وقد حدث الحسن بن حماد، عن طلحة أبي محمد، عن أشياخه، أنهم قالوا: استخلف سليمان بن عبد الملك بعد الوليد ثلاث سنين. وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، قال: توفي سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين، فكانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر.
ذكر الخبر عن بعض سيره
حدثت عن علي بن محمد، قال: كان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخير، ذهب عنهم الحجاج، فولى سليمان، فأطلق الأسارى، وخلى أهل السجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز، فقال ابن بيض:
حاز الخلافة والداك كلاهما ** من بين سخطة ساخط او طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثًا ** وعلى جبينك نور ملك الرابع
وقال علي: قا المضل بن المهلب: دخلت على سليمان بدابق يوم جمعة، فدعا بثياب فلبسها، فلم تعجبه، فدعا، بغيرها بثياب خضر سوسية بعث بها يزيد بن المهلب، فلبسها واعتم وقال: يا بن المهلب أعجبتك؟ قلت: نعم، فحسر عن ذراعيه ثم قال: أنا الملك الفتى، فصلى الجمعة، ثم لم يجمع بعدها، وكتب وصيته، ودعا ابن أبي نعيم صاحب الخاتم فختمه. قال علي: قال بعض أهل العلم: إن سليمان لبس يومًا حلة خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرأة فقال: أنا الملك الفتي، فما عاش بعد ذلك إلا أسبوعًا قال علي: وحدثنا سحيم بن حفص، قال: نظرت إلى سليمان جارية له يوم، فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنت خير المتاع لو كنت تبقى ** غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب ** كان في الناس غير أنك فان
فنفض عمامته.
قال علي: كان قاضي سليمان سليمان بن حبيب المحاربي، وكان ابن أبي عيينة يقص عنده.
وحدثت عن أبي عبيدة، رؤبة بن العجاج، قال: حج سليمان بن عبد الملك، وحج الشعراء معه، وحجت معهم، فلما كان بالمدينة راجعًا تلقوه بنحو من أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان، وأقربهم منه مجلسًا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، فقدم بطريقهم فقال: يا عبد الله، اضرب عنقه، فقام فما أعطاه أحد سيفًا حتى دفع إليه حرسي سيفه فضربه فأبان الرأس، وأطن الساعد وبعض الغل فقال سليمان: أما والله ما من جودة السيف جادت الضربة، ولكن لحسبه، وجعل يدفع البقية إلى الوجوه وإلى الناس يقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفًا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسي فلم يجد سيفًا، فدسوا له سيفًا ددانا مثنيًا لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئًا فضحك سليمان والقوم، وشمت بالفرزدق بنو عبس أخوال سليمان، فألقى السيف وأنشأ يقول، ويعتذر إلى سليمان، ويأتسى بنبو سيف ورقاء عن رأس خالد:
إن يك سيف خان أو قدر أتى ** بتأخير نفس حتفها غير شاهد
فسيف بني عبس وقد ضربوا به ** نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ** وتقطع أحيانًا مناط القلائد
وورقاء هو ورقاء بن زهير بن جذيمة العبسي، ضرب خالد بن جعفر بن كلاب، وخالد مكب على أبيه زهير، قد ضربه بالسيف وصرعه، فأقبل ورقاء بن زهير فضرب خالدًا، فلم يسمع شيئًا، فقال ورقاء ابن زهير:
رأيت زهيرًا تحت كلكل خالد ** فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
فشلت يميني يوم أضرب خالدًا ** ويحصنه مني الحديد المظاهر
وقال الفرزدق في مقامه ذلك:
أيعجب الناي أن أضحكت خيرهم ** خليفة الله يستسقى به المطر
فما نبا السيف عن جبن ولا دهش ** عند الإمام ولكن آخر القدر
ولو ضربت على عمرو مقلده ** لخر جثمانه ما فوقه شعر
وما يعجل نفسًا قبل ميتتها ** جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر
وقال جرير في ذلك:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع ** ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
ضربت به عند الإمام فأرعشت ** يداك، وقالوا محدث غير صارم
حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي خالد: حدثني سليمان قال: حدثني عبد الله بن محمد بن عيينة، قال: أخبرني أبو بكر بن عبد العزيز بن الضحاك بن قيس، قال: شهد سليمان بن عبد الملك جنازة بدابق، فدفنت فيه حقل، فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة فيقول: ما أحسن هذه التربة! ما أطيبها! فما أتى عليه جمعة - أو كما قال - حتى دفن إلى جنب ذلك القبر.
خلافة عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة استخلف عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم.
ذكر الخبر عن سبب استخلاف سليمان إياه
حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد ابن عمر، قال: حدثني الهيثم بن واقد، قال: استخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر مضين من صفر سنة تسع وتسعين. قال محمد بن عمر: حدثني داود بن خالد بن دينار، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة، يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابًا خضرًا من خز، ونظر في المرأة فقال: أنا والله الملك الشاب. فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة. فلم يرجع حتى وعك. فلما ثقل عهد في كتاب كتبه لبعض بنيه وهو غلام ولم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين! إنه مما يحفظ الخليفة في قبره أن يستخلف على المسلمين الرجل الصالح. فقال سليمان: أنا أستخير الله وأنظر فيه. ولم أعزم عليه؛ قال: فمكث يومًا أو يومين ثم خرقه، فدعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب عنك بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أو ميت! فقال لي: فمن ترى؟ قلت: رأيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أنظر من يذكر، قال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله خيرًا فاضل مسلمًا؛ فقال: هو والله على ذلك ثم قال: والله لئن وليته ولم أول أحدًا سواه لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلا أن يجعل أحدهم بعده، ويزيد بن عبد الملك غائب عن الموسم، قال: فيزيد ابن عبد الملك أجعله بعده. فإن ذلك مما يسكنهم ويرضون به؛ قلت: رأيك. قال: فكتب. بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني قد وليتك الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك؛ فاسمعوا له وأطيعوه، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم. وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حامد العبسي صاحب شرطه فقال: مر أهل بيتي فليجتمعوا؛ فأرسل كعب إليهم أن يجتمعوا فاجتمعوا، ثم قال سليمان لرجاء بعد اجتمعاعهم: اذهب بكتابي هذا إليهم فأخبرهم أن هذا كتابي، وأمرهم فليبايعوا من وليت فيه؛ ففعل رجاء، فلما قال رجاء ذلك لهم قالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين؟ قال: نعم؛ فدخلوا فقال لهم سليمان في هذا الكتاب - وهو يشير لهم إليه وهم ينظرون إليه في يد رجاء ابن حيوة - عهدي، فاسمعوا وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب، فبايعوه رجلا رجلا، ثم خرج بالكتاب محتومًا في يد رجاء بن حيوة. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: أخشى أن يكون هذا أسند إلي شيئًا من هذا الأمر، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي إلا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الأن قبل أن تأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر عليه الساعة! قال رجاء لا والله ما أنا بمخبرك حرفًا؛ قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: لقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة، وعندي شكر فأعلمني هذا الأمر، فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، فأعلمني فلك الله على ألا أذكر من ذلك شيئًا أبدا قال رجاء: فأبيت فقلت: والله لا أخبرك حرفًا واحدًا مما أسر إلي. قال: فانصرف هشام وهو قد يئس، ويضرب بإحدى يديه على الأخرة وهو يقول: فإلى من إذًا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ قال: رجاء: ودخلت على سليمان فإذا هو يموت، فجعلت إذا أخذته السكرة من سكرات الموت حرفته إلى القبلة، فجعل يقول حين يفيق: لم يأن لي ذلك بعد يا رجاء ففعلت ذلك مرتين، فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئًا، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. قال: فحرفته ومات؛ فلما غمضته سجيته بقطيفة خضراء، وأغلقت الباب. وأرسلت إلى زوجته تقول: كيف أصبح؟ فقلت: نائم، وقد تغطى، فنظر الرسول إليه مغطى بالقطيفة فرجع فأخبرها فقبلت ذلك، وظنت أنه نائم، قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به، وأوصيته ألا يبرح حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحد. قال: فخرجت فأرسلت إلى كعب بن حامد العبسي فجمع أهل بيت أمير المؤمنين فاجتمعوا في مسجد دابق، فقلت: بايعوا، فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا عهد أمير المؤمنين، فبايعوا على ما أمر به ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية؛ رجلا رجلا. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت: قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون قرأت الكتاب عليهم، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبدًا، قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع، فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبع عمر بن عبد العزيز فأجلسته لما وقع فيه وهشام يسترجع على المنبر وهو يسترجع لما أخطأه، فلما انتهى هشام إلى عمر قال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون! حين صارت إلى لكراهته إياها والآخر يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، حيث نحيت عني. قال: وغسل سليمان وكفن وصلى عليه عمر بن عبد العزيز؛ قال رجاء: فلما فرغ من دفنه أتى بمراكب خلافة: البراذين والخيل والبغال ولكل دابة سائس. فقال: ما هذا! قالوا: مركب الخلافة، قال: دابتي أوفق لي، وركب دابته. قال: فصرفت تلك الدواب، ثم أقبل سائرًا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعد؛ قال: رجاء فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادعو لي كاتبًا، فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني، صنع في المراكب ما صنع، وفي منزل سليمان؛ فقلت: كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نسخًا أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب أملى عليه كتابًا واحدًا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثم أمر بذلك الكتاب أن ينسخ إلى كل بلد. وبلغ عبد العزيز بن الوليد - وكان غائبًا - موت سليمان بن عبد الملك، ولم يعلم ببيعة الناس عمر بن عبد العزيز، وعهد سليمان إلى عمر، فقعد لواء، ودعا إلى نفسه فبلغته بيعة الناس عمر بعهد سليمان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر: قد بلغني أنك كنت بايعت من قبلك، وأردت دخول دمشق، فقال: قد كان ذاك، وذلك أنه بلغني أن الخليفة سليمان لم يكن عقد لأحد، فخفت على الأموال أن تنهك، فقال عمر: لو بويعت وقمت بالأمر ما نازعتك ذلك، ولقعدت في بيتي، فقال عبد العزيز: ما أحب أنه ولى هذا الأمر غيرك. وبايع عمر بن عبد العزيز. قال: فكان برجى لسليمان بتوليته عمر بن عبد العزيز وترك ولده. وفي هذه السنة وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلا عتاقًا وطعامًا كثيرًا، وحث الناس على معونتهم، وكان الذي وجه إليه الخيل العتاق - فيما قيل - خمسمائة فرس. وفي هذه السنة أغارت الترك على أذربيجان، فقتلوا من المسلمين جماعة، ونالوا منهم، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز بن حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة بخمسين أسيرًا.
وفيها عزل عمر يزيد بن المهلب عن العراق، ووجه على البصرة وأرضها عدي بن أرطاة الفزازي، وبعث على الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن يزيد بن الخطاب الأعرج القرشي، من بني عدي بن كعب، وضم إليه أبا الزناد، فكان أبو الزناد كاتب عبد الحميد بن عبد الرحمن، وبعث عدي في أثر يزيد بن المهلب موسى بن الوجيه الحميري.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن عمرو بن خزم، وكان عامل عمر على المدينة.
وكان عامل عمر على مكة في هذه السنة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد، وعلى الكوفة وأرضها عبد الحميد بن عبد الرحمن، وعلى البصرة وأرضها عدي بن أرطاة وعلى خراسان الجراح بن عبد الله. وعلى قضاء البصرة إياس بن معاوية بن قرة المزني، وقد ولى فيما ذكر قبله الحسن بن أبي الحسن، فشكا، فاستقصى إياس بن معاوية. وكان على قضاء الكوفة - في هذه السنة فيما قيل - عامر الشعبي. وكان الواقدي يقول: كان الشعبي على قضاء الكوفة أيام عمر بن عبد العزيز من قبل عبد الحميد بن عبد الرحمن، والحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة من قبل عدي بن أرطاة، ثم إن الحسن استعفى من القضاء عديًا، فأعفاه وولى إياسًا.
ثم دخلت سنة مائة
ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
فمن ذلك خروج الخارجة التي خرجت على عمر بن عبد العزيز بالعراق. ذكر محمد بن عمر أن ابن أبي الزناد حدثه، قال: خرجت حرورية بالعراق، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد ابن الخطاب عامل العراق يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنة نبيه . فلما أعذر في دعائهم بعث إليهم عبد الحميد جيشًا فهزمتهم الحرورية، فبلغ عمر فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام جهزهم من الرقة، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثت مسلمة بن عبد الملك، فخل بينه وبينهم. فلقيهم مسلمة في أهل الشام، فلم ينشب أن أظهره الله عليهم.
خبر خروج شوذب الخارجي
وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنى أن الذي خرج على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز شوذب - واسمه بسطام من بني يشكر - فكان مخرجه بجوخي في ثمانين فارسًا أكثرهم من ربيعة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد؛ ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دمًا، أو يفسدوا في الأرض فإن فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلًا صليبًا حازمًا فوجهه إليهم، ووجه معه جندًا، وأوصه بما أمرتك به. فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه، وقد قدم عليه محمد بن جرير. فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضبا لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني، فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرنا. فلم يحرك بسطام شيئًا، وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك - قال أبو عبيدة: أحد الرجلين اللذين بعثهما شوثب إلى عمر ممزوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر - قال: فيقال: أرسل نفرًا فيهم هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين؛ فاختاروهما، فدخلا عليه فناظراه، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري؛ قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من اتمنك! قال: فقال: أنظراني ثلاثًا، فخرجا من عنده، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد، فدسوا إليه من سقاه سمًا، فلم يلبث بعد خروجهما من عنده إلا ثلاثًا حتى مات. وفي هذه السنة أغزا عمر بن عبد العزيز الوليد بن هاشم المعيطي وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص الصائفة. وفيها شخص عمر بن هبيرة الفزاري إلى الجزيرة عاملا لعمر عليها.
خبر القبض على يزيد بن المهلب
وفي هذه السنة حمل يزيد بن المهلب من العراق إلى عمر بن عبد العزيز.
ذكر الخبر عن سبب ذلك وكيف وصل إليه حتى استوثق منه
اختلف أهل السير في ذلك فأما هشام بن محمد فإنه ذكر عن أبي مخنف أن عمر بن عبد العزيز لما جاء يزيد بن المهلب فنزل واسطًا، ثم ركب السفن يريد البصرة، بعث عدي بن أرطاة إلى البصرة أميرًا، فبعث عدي موسى بن الوجيه الحميري، فلحقه في نهر معقل عند الجسر، جسر البصرة فأوثقه، ثم بعث به إلى عمر بن عبد العزيز، فقدم به عليه موسى ابن الوجيه، فدعا به عمر بن عبد العزيز - وقد كان عمر يبغض يزيد وأهل بيته، ويقول: هؤلاء جبابرة، ولا أحب مثلهم، وكان يزيد بن المهلب يبغض عمر ويقول: إني لأظنه مرائيًا، فلما ولى عمر عرف يزيد أن عمر كان من الرياء بعيدًا. ولما دعا عمر يزيد سأله عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك، فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لأسمع الناس به، وقد علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بشيء سمعت، ولا بأمر أكرهه، فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأد ما قبلك، فإنها حقوق المسلمين، ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبعث إلى الجراح بن عبد الله الحكمي فسرحه إلى خراسان، وأقبل مخلد بن يزيد من خراسان يعطي الناس، ولا يمر بكورة إلا أعطاهم فيها أموالا عظامًا. ثم خرج حتى قدم على عمر بن عبد العزيز، فدخل عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله يا أمير المؤمنين صنع لهذه الأمة بولايتك عليها، وقد ابتلينا بك، فلا نكن أشقى الناس بولايتك، علام تحبس هذا الشيخ! أنا أتحمل ما عليه، فصالحني على ما إياه تسأل، فقال عمر: لا. إلا أن تحمل جميع ما نسأله إياه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كانت لك بينه فخذ بها، وإن لم تكن بينة فصدق مقالة يزيد، وإلا فاستحلفه، فإن لم يفعل فصالحه. فقال له عمر: ما أجد إلا أخذه بجميع المال. فلما خرج مخلد قال: هذا خير عندي من أبيه، فلم يلبث مخلد إلا قليلا حتى مات، فلما أبى يزيد أن يؤدي إلى عمر شيئًا ألبسه جبة من صوف، وحمله على جمل، ثم قال: سيروا به إلى دهلك، فلما أخرج فمر به على الناس أخذ يقول: مالي عشيرة، مالي يذهب بي إلى دهلك! إنما يذهب إلى دهلك بالفاسق المريب الخارب سبحان الله! أما لي عشيرة! فدخل على عمر سلامة بن نعيم الخولاني، فقال: يا أمير المؤمنين، أردد يزيد إلى محبسه؛ فإني أخاف إن أمضيته أن ينتزعه قومه؛ فإني قد رأيت قومه غضبوا له. فرده إلى محبسه فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر. وأما غير أبي مخنف فإنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي ابن أرطاة يأمره بتوجيه يزيد بن المهلب، ودفعه إلى من بعين التمر من الجند، فوجهه عدي بن أرطاة مع وكيع بن حسان بن أبي سود التميمي مغلولا مقيدًا في سفينة، فلما انتهى به إلى نهر أبان، عرض لوكيع ناس من الأزد لينتزعوه منه، فوثب وكيع فانتضى سيفه، وقطع قلس السفينة، وأخذ سيف يزيد ابن المهلب، وحلف بطلاق امرأته ليضرين عنقه إن لم يتفرقوا فناداهم يزيد بن المهلب، فأعلمهم يمين وكيع، فتفرقوا، ومضى به حتى سلمه إلى الجند الذين بعين التمر، ورجع وكيع إلى عدي بن أرطاة، ومضى الجند الذين بعين التمر بيزيد بن المهلب إلى عمر بن عبد العزيز فحبسه في السجن.
عزل جراح بن عبد الله عن خراسان
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله عن خراسان، وولاها عبد الرحمن بن نعيم القشيري، فكانت ولاية الجراح بخراسان سنة وخمسة أشهر، قدمها سنة تسع وتسعين وخرج منها لأيام لقيت من شهر رمضان من سنة مائة.
ذكر سبب عزل عمر إياه
وكان سبب ذلك - فيما ذكر علي بن محمد عن كليب بن خلف، عن إدريس بن حنظلة، والمفضل عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد ابن عبد العزيز؛ أن يزيد بن المهلب ولى جهم بن زحر جرجان حين شخص عنها، فلما كان من أمر يزيد ما كان وجه عامل العراق من العراق واليًا على جرجان، فقدم الوالي عليها من العراق، فأخذه جهم فقيده وقيد رهطًا قدموا معه، ثم خرج في خمسين من اليمن يريد الجراح بخراسان، فأطلق أهل جرجان عاملهم، فقال الجراح لجهم: لولا أنك ابن عمي لم أسوغك هذا، فقال له جهم: ولو لا أنك ابن عمي لم آتك - وكان جهم سلف الجراح من قبل ابنة حصين بن الحارث وابن عمه، لئن الحكم وجعفي ابن سعد - فقال له الجراح خالفة إمامك، وخرجت عاصيًا، فاغزو لعلك أن تظفر، فيصلح أمرك عند خليفتك. فوجهه إلى الختل، فخرج، فلما قرب منهم سار متنكرًا في ثلاثة، وخلف في عسكره ابن عمه القاسم بن حبيب - وهو ختنه على ابنته أم الأسود - حتى دخل على صاحب الختل فقال له: أخلني، فأخلاه، فاعتزا، فنزل صاحب الختل عن سريره وأعطاه حاجته - ويقولون: الختن موالي النعمان وأصاب مغنمًا؛ فكتب الجراح إلى عمر: وأوفد وفدًا؛ رجلين من العرب، ورجلا من الموالي من بني ضبة، ويكني أبا الصيداء واسمه صالح بن طريف، كان فاضلا في دينه. وقال بعضهم: المولى سعيد أخو خالد أو يزيد النحو. فتكلم العربيان والآخر جالس فقال له عمر: أما أنت من الوفد؟ قال: بلى، فما يمنعك من الكلام! قال: يا أمير المؤمنينعشرون ألفًا من الموالي يغزون بلا عطاء ولا رزق ومثلهم قد أسلموا من أهل الذمة يؤخذون بالخراج منه، وأميرنا عصبي جاف يقوم على منبرنا، فيقول آتيتك حفيًا، وأنا اليوم عصبي! والله لرجل من قومي أحب إلي من مائة من غيرهم. وبلغ من جفائه أن كم درعه يبلغ نصف درعه، وهو بعد سيف من سيوف الحجاج، قد علم بالظلم والعدوان. فقال عمر: إذًا مثلك فيلوفد. وكتب عمر إلى الجراح: إنظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية. فسارع الناس إلى الإسلام، فقيل للجراح إ ن الناس قد سارعوا إلى الإسلام، وإنما ذلك نفورًا من الجزية؛ فامتحنهم بالختان. فكتب الجراح بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدًا صلى الله عليه داعيًا ولم يبعثه خاتنًا. وقال عمر: ابغوني رجلًا صدوقًا، أسأله عن خراسان، فقيل له: قد وجدته، عليك بأبي مجلس. فكتب إلى الجراح: أن أقبل واحمل أبا مجلس وخلف على حرب خراسان عبد الرحمن بن نعيم الغامدي وعلى جزيتها عبيد الله - أو عبد الله - بن حبيب. فخطب الجراح فقال: يا أهل خراسان، جئتكم في ثيابي هذه التي على وعلى فرسي لم أصب من مالكم إلا حلية سيفي - ولم يكن عنده إلا فرس قد شاب وجهه، وبغلة قد شاب وجهها؛ فخرج في شهر رمضان واستخلف عبد الرحمن بن نعيم، فلما قدم قال له عمر: متى خرجت؟ قال: في شهر رمضان، قال: قد صدق من وصفك بالجفاء هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج! وكان الجراح يقول: أنا والله عصبي عقبي - يريد من العصبية. وكان الجراح لما قد خراسان كتب إلى عمر: إني قدمت خراسان فوجدت قومًا قد أبطرتهم الفتنة فهم ينزون فيها نزوًا، أحب الأمور إليهم أن تعود ليمنعوا حق الله عليهم، فليس يكفهم إلا السيف والسوط، وكرهت الإقدام على ذلك إلا بإذنك. فكتب إليه عمر: يا بن أم الجراح، أنت أحرص على الفتنة منهم؛ لا تضربن مؤمنًا ولا معاهدًا سوطًا إلا في حق، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، وتقرأ كتابًا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ولما أراد الجراح الشخوص من خراسان إلى عمر بن عبد العزيز أخذ عشرين ألفًا. وقال بعضهم: عشرة آلاف من بيت المال. وقال: هي على سلفًا حتى أؤديها إلى الخليفة، فقدم على عمر، فقال له عمر: متى خرجت؟ قال: لأيام بقين من شهر رمضان وعلي دين فاقده؛ قال: لو أقمت حتى تفطر ثم خرجت قضيت عنك. فأدى عنه قومه في أعطياتهم.
ذكر الخبر عن سبب تولية عمر بن عبد العزيز عبد الرحمن بن نعيم
وعبد الرحمن بن عبد الله القشيري خراسان وكان سبب ذلك - فيما ذكر لي - أن الجراح بن عبد الله لما شكى، واستقدمه عمر بن عبد العزيز، فقدم عليه عزله من خراسان لما قد ذكرت قبل. ثم إن عمر لما أراد استعمال عامل على خراسان، قال - فيما ذكر على ابن محمد عن خارجة بن مصعب الضبعي وعبد الله بن المبارك وغيرهما: ابغوني رجلا صدوقًا أسأله عن خراسان، فقيل له: أبو مجلس لاحق بن حميد. فكتب فيه، فقدم عليه - وكان رجلا لا تأخذه العين - فدخل أبو مجلس على عمر في جفة الناس، فلم يثبته عمر، وخرج مع الناس فسأل عنه فقيل: دخل مع الناس ثم خرج فدعا به عمر ثم قال: يا أبا مجلس، لم أعرفك، قال: فهلا أنكرتني إذ لم تعرفني! قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن عبد الله، قال: يكافئ الأكفاء، ويعادي الأعداء وهو أمير يفعل ما يشاء ويقدم إن وجد من يساعده. قال: عبد الرحمن بن نعيم، قال: ضعيف لين يحب العافية، وتأتي له، قال: الذي يحب العافية وتأتي له أحب إ لي، فولاه الصلاة والحرب وولى عبد الرحمن القشيري، ثم أخذ بني الأعور بن قشير الخراج، وكتب إلى أهل خراسان: إني استعملت عبد الرحمن على حربكم وعبد الرحمن بن عبد الله على خراجكم عن غير معرفة مني بهما ولا اختيار، إلا ما أخبرت عنهما؛ فإن كانا على ما تحبون فاحمدوا الله، وإن كانا على غير ذلك فاستعينوا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال علي: وحدثنا أبو السرة الأزدي، عن إبراهيم الصائغ، أن عمر ابن عبد العزيز كتب إلى عبد الرحمن بن نعيم:
أما بعد، فكن عبدًا ناصحًا لله في عباده، ولا يأخذك في الله لومة لائم؛ فإن الله أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم، فلا تولين شيئًا من أمر المسلمين إلا بالمعروف بالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعى. وإياك أن يكون ميلك ميلًا إلى غير الحق، فإن والله لا تخفى عليه خافية، ولا تذهبن عن الله مذهبًا؛ فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه. قال علي، عن محمد الباهلي وأبي نهيك بن زياد وغيرهما: إن عمرو بن عبد العزيز بعث بعهد عبد الرحمن بن نعيم على حرب خراسان وسجستان مع عبد الله بن صخر القرشي، فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان وحتى مات عمر بن عبد العزيز، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، ووجه مسلمة سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف، وليها في شهر رمضان من سنة مائة، وعزل سنة اثنتين ومائة، بعد ما قتل يزيد بن المهلب. قال علي: كانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا.
أول الدعوة
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة - أعني سنة مائة - وجه محمد بن علي بن عبد الله بن عباس من أرض الشراة ميسرة إلى العراق، ووجه محمد بن خنيس وأبا عكرمة السراج - وهو أبو محمد الصادق - وحيان العطار خال إبراهيم ابن سلمة إلى خراسان، وعليها يومئذ الجراح بن عبد الله الحكمي من قبل عمر بن عبد العزيز، وأمرهم بالدعاء إليه وإلى أهل بيته، فلقوا من لقوا، ثم انصرفوا بكتب من استجاب لهم إلى محمد بن علي، فدفعوها إلى ميسرة، فبعث بها ميسرة إلى محمد بن علي، واختار أبو محمد الصادق لمحمد بن علي اثنى عشر رجلًا، نقباء، منهم سليمان ابن كثير الخزاعي، ولاهز بن قريظ التميمي، وقحطبة بن شبيب الطائي، وموسى بن كعب التميمي، وخالد بن إبراهيم أبو داود، من بني عمرو بن شيبان بن ذهل، والقاسم بن مجاشع التميمي وعمران بن إسماعيل أبو النجم، مولى لآل أبي معيط ومالك بن الهيثم الخزاعي وطلحة ابن زريق الخزاعي وعمرو بن أعين أبو حمزة مولى الخزاعة. وشبل بن طهمان أبو علي الهروي؛ مولى لبني حنيفة، وعيسى بن أعين مولى خزاعة؛ واختار. سبعين رجلًا، فكتب إليهم محمد بن علي كتابًا ليكون لهم مثالًا وسيرة يسيرون بها.
وحج بالناس في هذه السنة أبو بكر محمد بن مروان بن حزم، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى عن أبي معشر. وكذلك قال الواقدي.
وكان عمال الأمصار في هذه السنة العمال في السنة التي قبلها، وقد ذكرناهم قبل ما خلا عامل خراسان؛ فإن عاملها كان في آخرها عبد الرحمن بن نعيم على الصلاة والحرب، وعبد الرحمن بن عبد الله على الخراج.
ثم دخلت سنة إحدى ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
خبر هرب يزيد بن المهلب من سجنه
في ذلك ما كان من هرب يزيد بن المهلب من حبس عمر بن عبد العزيز.
ذكر الخبر عن سبب هربه منه وكيف كان هربه منه
ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عمر بن عبد العزيز لما كلم في يزيد بن المهلب حين أراد نفيه إلى دهلك، وقيل له: إنا نخشى أن ينتزعه قومه، رده إلى محبسه، فلم يزل في محبسه ذلك حتى بلغه مرض عمر، فأخذ يعمل في الهرب من محبسه مخافة يزيد بن عبد الملك؛ لأنه كان قد عذب أصهاره آل أبي عقيل - كانت أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف عند يزيد بن عبد الملك، فولدت له الوليد بن يزيد المقتول - فكان يزيد بن عبد الملك قد عاهد الله لئن أمكنه الله من يزيد بن المهلب ليقطعن منه طابقًا فكان يخشى ذلك، فبعث يزيد بن المهلب إلى مواليه، فأعدوا له إبلًا؛ وكان مرض عمر في دير سمعان، فلما اشتد مرض عمر أمر بإبله فأتى بها، فلما تبين له أنه قد ثقل نزل من محبسه، فخرج حتى مضى إلى المكان الذي واعدهم فيه؛ فلم يجدهم جاؤوا، فجزع أصحابه وضجروا، فقال لأصحابه: أترونني أرجع إلى السجن! لا والله لا أرجع إليه أبدًا. ثم إن الإبل جاءت، فاحتمل، فخرج ومعه عاتكة امرأته ابنة الفرات بن معاوية العامرية من بني البكاء في دمشق المحمل، فمضى. فلما جاز كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إني والله لو علمت أنك تبقى ما خرجت من محبسي؛ ولكني لم آمن يزيد بن عبد الملك. فقال عمر: اللهم إن كان يزيد يريد بهذه الأمة شرًا فاكفهم شره، واردد كيده في نحره. ومضى يزيد بن المهلب حتى مر بحدث الزقاق، وفيه الهذيل بن زفر معه قيس، فاتبعوا يزيد بن المهلب حيث مر بهم، فأصابوه طرفًا من ثقله وغلمة من وصفائه، فأرسل الهذيل بن زفر في آثارهم، فردهم فقال: ما تطلبون؟ أخبروني، أتطلبون يزيد بن المهلب أو أحدًا من قومه بتبل؟ فقالوا: لا، قال: فما تريدون؟ إنما هو رجل كان في إسار، فخاف على نفسه فهرب.
وزعم الواقدي أن يزيد بن المهلب إنما هرب من سجن عمر بعد موت عمر.
خبر وفاة عمر بن عبد العزيز
وفي هذه السنة توفي عمر بن عبد العزيز، فحدثني أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عبيى، عن أبي معشر، قال: توفي عمر بن عبد العزيز لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وكذلك قال محمد بن عمر، حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: اخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمرو بن عثمان، قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وقال هشام عن أبي مخنف: مات عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لخمس بقين من رجب بدير سمعان في سنة إحدى ومائة، وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر. ومات بدير سمعان. حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني عمي الهيثم بن واقد، قال: ولدت سنة سبع وتسعين، واستخلف عمر بن عبد العزيز بدابق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين، فأصابني من قسمه ثلاثة دنانير، وتوفي بخناصرة يوم الأربعاء لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شكوه عشرين يومًا، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، ومات وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، ودفن بدير سمعان. وقد قال بعضهم: كان له يوم توفي تسع وثلاثون سنة، وخمسة أشهر. وقال بعضهم: كان له أربعون سنة. وقال هشام: توفي عمر وهو ابن أربعين سنة وأشهر، وكان يكنى أبا حفص وله يقول عويف القوافي. وقد حضره في جنازة شهدها معه:
أحبني أبا حفص لقيت محمدا ** على حوضه مستبشرًا ورآكا
فأنت امرؤ كلتا يديك مفيدة ** شمالك خير من يمين سواكا
وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وكان يقال له: أشج بني أمية، وذلك أن دابة من دواب أبيه كانت شجته فقيل له: أشج بني أمية. حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا المبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيرًا يقول: ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر، في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلا! وحدثت عن منصور بن أبي مزاحم، قال: حدثنا مروان بن شجاع، عن سالم الأفطس، أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابة وهو غلام بدمشق، فأتيت به أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضمته إليها، وجعلت تمسح الدم عن وجهه. ودخل أبوه عليها على تلك الحال، فأقبلت عليه تعذله وتلومه، وتقول: ضيعت ابني، ولم تضم إليه خادمًا ولا حاضنًا يحفظه من مثل هذا! فقال لها: اسكتي يا أم عاصم، فطوباك إذ كان أشج بني أمية!
ذكر بعض سيره
ذكر علي بن محمد أن كليب بن خلف حدثهم عن إدريس بن حنظلة، والمفضل، عن جده، وعلي بن مجاهد عن خالد: أن عمر بن عبد العزيز كتب حين ولى الخلافة إلى يزيد بن المهلب: أما بعد، فإن سليمان كان عبدًا من عبيد الله أنعم الله عليه، ثم قبضه واستخلفني، ويزيد بن عبد الملك من بعدي إن كان، وإن الذي ولاني الله من ذلك وقدر لي ليس على بهيم، ولو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج واعتقاد أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، وأنا أخاف فيما ابتليت به حسابًا شديدًا، ومسألة غليظة، إلا ما عافى الله ورحم، وقد بايع من قبلنا فبايع من قبلك.
فلما قدم الكتاب على يزيد بن المهلب، ألقاه إلى أبي عيينة، فلما قرأه قال: لست من عماله، قال: ولم؟ قال: ليس هذا كلام من مضى من أهل بيته، وليس يريد أن يسلك مسلكهم. فدعا الناس إلى البيعة فبايعوه. قال: ثم كتب إلى عمر إلى يزيد استخلف على خراسان، وأقبل، فاستخلف ابنه مخلدًا. قال علي: وحدثنا علي بن مجاهد، عن عبد الأعلى بن منصور، عن ميمون بن مهران، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم أن العمل والعلم قريبان، فكن عالمًا بالله عاملا له، فإن أقوامًا علموا ولم يعملوا، فكان علمهم عليهم وبالًا. قال وأخبرنا مصعب بن حيان، عن مقاتل بن حيان، قال: كتب عمر إلى عبد الرحمن: أما بعد، فاعمل عمل رجل يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين. قال علي: أخبرنا كليب بن خلف، عن طفيل بن مرداس، قال: كتب عمر إلى سليمان بن أبي السرة، أن اعمل خانات في بلادك فمن مر بك من المسلمين فقروهم يومًا وليلة، وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علة فقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعًا به فقووه بما يصل به إلى بلده. فلما أتاه كتاب عمر قال أهل سمرقند لسليمان: إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا وقد أظهر الله العدل والإنصاف، فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكون ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فأذن لهم، فوجهوا منهم قومًا، فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان ابن أبي السرة: إن أهل سمرقند قد شكوا إلى ظلمًا أصابهم. وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. قال: فأجلس لهم سليمان جميع بن حاضر القاضي الناجي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحًا جديدًا أو ظفرًا عنوة، فقال أهل السغد: بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربًا. فتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وآمنونا وأمناهم، فإن حكم لنا عدنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر. وإن لم يكن لنا كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازع. فتركوا الأمر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا. قال: وكتب عمر إلى عبد الرحمن بن نعيم يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم. قال: فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو. فكتب إلي عمر بذلك، فكتب إليه عمر: اللهم إني قد قضيت الذي علي، فلا تغز بالمسلمين. فحسبهم الذي قد فتح الله عليهم.
قال: وكتب إلى عقبة بن زرعة الطائي - وكان قد ولاه الخراج بعد القشيري: إن للسلطان أركانًا لايثبت إلا بها، فا لوالي ركن، والقاضي ركن وصاحب بيت المال ركن والركن الرابع أنا، وليس من ثغور المسلمين ثغر أهم إلي، ولا أعظم عندي من ثغر خراسان، فاستوعب الخراج وأحرز في غير ظلم، فإن يك كفافًا لأعطياتهم فسبيل ذلك، وإلا فاكتب إلي حتى أحمل إليك الأموال فتوفر لهم أعطياتهم. قال: فقدم عقبة فوجد خراجهم يفضل عن أعطياتهم، فكتب إلى عمر فأعلمه، فكتب إليه عمر: أن اقسم الفضل في أهل الحاجة. وحدثني عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: سمعت عبد الله يقول عن محمد بن طلحة، عن داود ابن سليمان الجعفي، قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الحميد، سلام عليك؛ أما بعد؛ فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنة خبيثة استنهى عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك؛ فإنه لا قليل من الإثم. ولا تحمل خرابًا على عامر. ولا عامرًا على خراب، انظر الخراب فخذ منه ما أطاق. وأصلحه حتى يعمر. ولا يؤخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة ليس لها آيين ولا أجور الضرابين، ولا هدية النيروز والمهرجان. ولا ثمن الصحف. ولا أجور الفيوج، ولا أجور البيوت ولا دراهم النكاح، ولا خراج على من أسلم من أهل الأرض؛ فاتبع في ذلك أمري؛ فإني قد وليتك من ذلك ما ولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب؛ حتى تراجعني فيه. وانظر من أراد من الذرية أن يحج، فعجل له مائتى يحج بها، والسلام. حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبوية، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن شهاب بن شريغة المجاشعي، قال: الحق عمر بن عبد العزيز ذراري الرجال الذين في العطايا أقرع بينهم، فمن أصابته القرعة جعله في المائة، ومن لم تصبه القرعة جعله في الأربعين، وقسم في فقراء أهل البصرة كل إنسان ثلاثة دراهم؛ فأعطى الزمني خمسين خمسين. قال: وأراه رزق الفطم. حدثني عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الفضيل، عن عبد الله قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل الشام: سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد؛ فإنه من أكثر ذكر الموت قل كلامه، ومن علم أن الموت حق رضي باليسير، والسلام. قال علي بن محمد: وقال أبو مجلس لعمر: إنك وضعتنا بمنقطع التراب، فاحمل إلينا الأموال. قال: يا أبا مجلس: قلبت الأمر، قال: يا أمير المؤمنين أهو لنا أم لك؟ قال: بل هو لكم إذا قصر خراجكم عن أعطياتكم، قال: فلا أنت تحمله إلينا، ولا نحمله إليك، وقد وضعت بعضه على بعض قال: أحمله إليكم إن شاء الله. ومرض من ليلته فمات من مرضه. وكانت ولاية عبد الرحمن بن نعيم خراسان ستة عشر شهرًا. قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي عمارة بن أكيمة الليثي، ويكني أبا الوليد، وهو ابن تسع وسبعين.
زيادة في سيرة عمر بن عبد العزيز ليست من كتاب أبي جعفر إلى أول خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
روى عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، قال: حدثنا رجل في مسجد الجنابذ أن عمر بن عبد العزبز خطب الناس بخناصرة، فقال: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولن تتركوا سدًا؛ وإن لكم عادًا ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض ألا واعلموا أنما الأمان غدًا لمن حذر الله وخافه، وباع نافدًا بباق، وقليلة بكثير وخوفًا بأمان. ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين! وفي كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتغيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب، فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم، غنى عما ترك. فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه. ويم الله إني لا أقول لكم هذه المقالة، وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي؛ فاستغفر الله وأتوب إليه. وما منكم من أحد تبلغن عنه حاجة إلى أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وددت أنه سداي ولاحمى، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء. وايم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش؛ لكان اللسان مني به ذلولا عالمًا بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته. ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله. روى خلف بن تميم، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سعد، قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز مات ابن له، فكتب عامل له يعزيه عن ابنه فقال لكاتبه: أجبه عني، قال: فأخذ الكاتب يبري القلم، قال: فقال للكاتب: أدق القلم، فإنه أبقى للقرطاس، وأوجز للحروف، واكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم ". أما بعد، فإن هذا الأمر أمر قد كنا وطنا أنفسنا عليه، فلما نزل لم ننكره، والسلام. روى منصور بن مزاحم، قال: حدثنا شعيب - يعني ابن صفوان عن ابن عبد الحميد، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من وصل أخاه بنصيحة له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه؛ فاتقوا الله، فإنها نصيحة لكم في دينكم، فاقبلوها، وموعظة منجية في العواقب فالزموها. الرزق مقسوم فلن يغدر المؤمن ما قسم له، فأجعل في الطلب، فإن في القنوع سعى وبلغى وكفافًا، إن أجل الدنيا في أعناقكم، وجهم أمامكم، وما ترون ذاهب، وما مضى فكأن لم يكن، وكل أموات عن قريب، وقد رأيتم حالات الميت وهو يسوق؛ وبعد فراغه وقد ذاق الموت، والقوم حوله يقولون: قد فرغ رحمه الله! وعاينتم تعجيل إخراجه، وقسمة تراثه ووجهه مفقود، وذكره منسى، وبابه مهجور، وكأن لم يخالط إخوان الحفاظ، ولم يعمر الديار، فاتقوا هول يوم لا تحقر فيه مثقال ذرة في الموازين.
روى سهل بن محمود؛ قال: حدثنا حرملة بن عبد العزيز، قال: حدثني أبي، عن ابن العمر بن عبد العزيز، قال: أمرنا عمر أن نشتري موضع قبره، فاشتريناه من الراهب، قال: فقال بعض الشعراء:
أقول لما نعى الناعون لي عمرا ** لا يبعدن قوام العدل والدين
قد غادر القوم بالحد الذي لحدوه ** بدير سمعان قسطاس الموازين
روى عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، قال: قال عمر بن عبد العزيز: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعد كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر، وما أنعم الله عليه عبد نعمت ثم انتزها منه فأعاضه ممن انتزع منه الصبر إلا كان ما أعاضه خيرًا ممن انتزع منه، ثم قرأ هذه الآية: " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقدم كتابه على عبد الرحمن بن نعيم: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه، ولا تحدثن كنيسة ولا بيت نار، ولا تجر الشاة إلا مذبحها، ولا تحدوا الشفرة على رأس الذبيحة، ولا تجمعوا بين الصلاتين إلا من عذر. روى عفان بن مسلم، عن عثمان بن عبد الحميد، قال: حدثنا أبي، قال: بلغنا أن فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز قالت: اشتد علزه ليلة، فسهر وسهرنا معه، فلما أصبحنا أمرت وصيفًا له يقال له مرثد، فقلت له: يا مرثد، كن عند أمير المؤمنين، فإن كانت له حاجة كنت قريبًا منه. ثم انطلقنا فضربنا برءوسنا لطول سهرنا، فلما انفتح النهار استيقظت فتوجهت إليه، فوجدت مرثدًا خالجًا من البيت نائمًا، فأيقظته فقلت: يا مرثد، ما أخرجك؟ قال: هو أخرجني، قال: يا مرثد؛ اخرج عني! فوالله إني لا أرى شيئًا ماهو بالإنس ولا جان، فخرجت وسمعته يتلو هذه الآية: " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوة في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين "، قال: فدخلت عليه فوجدته قد وجه نفسه، وأغمض عينيه وإنه لميت رحمه الله.
خلافة يزيد بن عبد الملك بن مروان
وفيها ولى يزيد بن عبد الملك بن مروان، وكنيته أبو خالد وهو ابن تسع وعشرين سنة في قول هشام بن محمد؛ ولما ولى الخلافة نزع عن المدينة أبا بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم، وولاها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فقدمها - فيما زعم الواقدي - يوم الأربعاء لليال بقين من شهر رمضان فاستقضى عبد الرحمن سلمى بن عبد الله بن عبد الأسد المخزومي. وذكر محمد بن عمر أن عبد الجبار بن عمارة حدثه عن أبي بكر بن حزم، أنه قال: لما قدم عبد الرحمن بن الضحاك المدينة وعزلني، دخلت عليه، فسلمت فلم يقبل على، فقلت: هذا شيء لا تملكه قريش للأمصار، فرجعت إلى منزلي وخفته - وكان شابًا مقدامًا فإذا هو يبلغني عنه أنه يقول: ما يمنع ابن حزم أن يأتيني إلا الكبر، وإني لعالم بخيانته؛ فجاءني ماكنت أحذر وما استيقن من كلامه، فقلت للذي جاءني بهذا: قل له: ما الخيانة لي بعادة، وما أحب أهلها، والأمير يحدث نفسه بالخلود في سلطانه، كم نزل هذه الدار من أمير وخليفة قبل الأمير فخرجوا منها وبقيت أثارهم أحاديث إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا! فاتق الله ولا تسمع قول ظالم أو حاسد على نعمة. فلم يزل الأمر يترقى بينهما، حتى خاصم إليه رجل من بني فهرو أخر من بني النجار - وكان أبو بكر قضى للنجار على الفهر في أرض كانت بينهما نصفين، فدفع أبو بكر الأرض إلى النجار - فأرسل الفهري إلى النجار وإلى أبي بكر بن حزم، فأحضرهما ابن الضحاك، فتظلم الفهري من أبي بكر بن حزم، وقال: أخرج مالي من يدي، فدفعه إلى هذا النجاري، فقال أبو بكر: اللهم غفرًا! أما رأيتني سألت أيامًا في أمرك وأمر صاحبك، فاجتمع لي علي اخراجها من يدك، وأرسلتك إلى من أفتاني بذلك: سعيد بن المسيب وأبي بكر ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألتهما؟ فقال الفهري: بلى، وليس يلزمني قولهما. فانكسر ابن الضحاك فقال: قوموا، فقاموا، فقال للفهري: تقر له أنك سألت من أفتاه بهذا، ثم تقول ردها علي! أنت أرعن، إذهب فلاحق لك؛ فكان أبو بكر يتقيه ويخافه، حتى كلم ابن حيان يزيد أن نقيده من أبي بكر؛ فإنه ضربه حدين، فقال يزيد: لا أفعل، رجل اصتنعه أهل بيتي؛ ولكني أوليك المدينة. قال: لا أريد ذلك، لو ضربته بسلطاني لم يكن لي قودًا. فكتب يزيد إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابًا: أما بعد فانظر فيما ضرب ابن حزم بن حيان، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وإن كان ضربه في أمر يختلف فيه فلا تلتفت إليه، فإن كان ضربه في أمر غير ذلك فأقده منه. فقدم بالكتاب على عبد الرحمن بن الضحاك، فقال عبد الرحمن: ما جئت بشيء، أترى ابن حزم ضربك في أمر لا يختلف فيه! فقال عثمان لعبد الرحمن: إن أردت أن تحسن أحسنت، قال: الآن أصبت المطلب، فأرسل عبد الرحمن إلى ابن حزم فضربه حدين في مقام واحد، ولم يسأله عن شيء. فرجع أبو المغراء بن حيان وهو يقول: أنا أبو المغراء بن الحيان، والله ما قربت النساء من يوم صنع بي ابن أبي حزم ما صنع حتى يومي هذا، واليوم أقرب النساء!
مقتل شوذب الخارجي
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل شوذب الخارجي.
ذكر الخبر عن مقتله
قد ذكرنا قبل الخبر عما كان من مراسلة شوذب عمر بن عبد العزيز لمناظرته في خلافه عليه، فلما مات عمر أحب - فيما ذكر معمر بن المثنى - عبد الحميد بن عبد الرحمن أن يحظى عند يزيد بن عبد الملك، فكتب إلي محمد بن جيرير يأمره بمحاربة شوذب وأصحابه، ولم يرجع رسول شوذب، ولم يعلم بموت عمر، فلما رأوا أن محمد بن جرير يستعد للحرب، أرسل إليه شوذب: ما أعجلك قبل انقضاء المدة فيما بيننا وبينكم! أليس قد تواعدنا إلى أن يرجع رسول شوذب! فأرسل إليهم محمد: إنه لا يسعنا ترككم على هذه الحالة - قال غير أبي عبيدة: فقالت الخوارج: ما فعل هؤلاء هذا إلا وقد مات الرجل الصالح. قال معمر بن المثنى: فبرز لهم شوذب، فاقتتلوا، فأصيب من الخوارج نفر، وأكثروا في أهل القبلة القتل، وتولوا منهزمين، والخوارج في أعقابهم تقتل حتى بلغوا أخصاص الكوفة، ولجئوا إلى عبد الحميد، وجرح محمد بن جرير في أستة، ورجع شوذب إلى موضع فأقام ينتظر صاحبيه، فجاءاه فأخبراه بما صار عليه عمر، وأن قد مات. فأقر يزيد عبد الحميد على الكوفة، ووجه كم قبله تميم بن الحباب في ألفين، فراسلهم وأخبرهم أن يزيد لا يفارقهم على ما فارقهم عليه عمر، فلعنوه ولعنوا يزيد، فحاربهم فقتلوه وهزموا أصحابه، فلجأ إلى الكوفة ورجع الآخرون إلى يزيد، فوجه إليهم نجدة بن الحكم الأزدي في جمع فقتلوه، وهزموا أصحابه، فوجه إليهم الشحاج بن وداع في ألفين، فراسلهم وراسلوه، فقتلوه، وقتل منهم نفرًا فيهم هدبة اليشكري؛ ابن عم بسطام - وكان عابدًا - وفيهم أبو شبيل مقاتل ابن شيبان - وكان فاضلًا عندهم - فقال أبو ثعلبة أيوب بن خولى يرثيهم:
تركنا تميمًا في الغبار ملحبًا ** تبكى عليه عرسه وقراشبه
وقد أسلمت قيس تميمًا ومالكًا ** كما أسلم الشحاج أمس أقاربه
وأقبل من حران يحمل راية ** يغالب أمر الله والله غالبه
فيا هدب للهيجا، ويا هدب للندى ** ويا هدب للخصم الألد يحاربه!
ويا هدب كم من ملحم قد أجبته ** وقد أسلمت للرياح جوالبه
وكان أبو شيبان خير مقاتل ** يرجى ويخشى بأسه من يحاربه
ففاز ولاقى الله بالخير كله ** وخذمه بالسيف في الله اربه
تزود من دنياه درعًا ومغفرًا ** وعصبًا حسامًا لم تخنه مضاربه
واجرد محبوك السراة كأنه ** إذا انقضوا في الريش حجن مخالبه
فلما دخل مسلمة الكوفة شكا إليه مكان شوذب، وخوفهم منه وما قد قتل منهم، فدعا مسلمة سعيد بن عمرو الحرشي - وكان فارسًا - فعقد لع على عشرة آلاف، ووجهه إليه وهو مقيم بموضعه، فأتاه ما لا طاقة له به. فقال شوذب لأصحابه: من كان يريد الله فقد جاءته الشهادة، ومن كان إنما خرج للدنيا فقد ذهبت الدنيا، وإنما البقاء في الدار الآخرة؛ فكسروا أغماد السيوف وحملوا. فكشفوا سعيدًا وأصحابه مرارًا؛ حتى خاف الفضيحة فذمر أصحابه، وقال لهم: أمن هذه الشرذمة لا أبالكم تفرون! يا أهل الشام يومًا كأيامكم! قال: فحملوا عليهم فطحنوهم طحنًا لم يبقوا منهم أحدًا، وقتلوا بسطامًا وهو شوذب وفرسانه، منهم الريان بن عبد الله اليشكري، وكان من المخبتين، فقال أخو شمر بن عبد الله يرثيه:
ولقد فجعت بسادة وفوارس ** للحرب سعر من بني شيبان
أعتاقهم ريب الزمان فغالهم ** وتركت فردًا غير ذي إخوان
كمدا تجلجل في فؤادي حسره ** كالنار من وجد على الريان
وفوارس باعوا الإله نفوسهم ** من يشكر عند الوغى فرسان
وقال حسان بن جعدة يرثيهم:
يا عين أذري دموعًا منك تسجاما ** وأبكي صحابة بسطام وبسطاما
فلن ترى أبدًا ماعشت مثلهم ** أتقي وأكمل في الأحلام أحلاما
بسيهم قد تأسوا عند شدتهم ** ولم يريدوا من الأعداء إحجاما
حتى مضوا للذي كانوا له خرجوا ** فأورثونا منارات وأعلاما
إني لأعلم أن قد أنزلوا غرفًا ** من الحنان ونالوا ثم خداما
أسقى الإله بلادًا كان مصرعهم ** فيها سحابًا من الوسمى سجاما
خبر خلع يزيد بن المهلب يزيد بن عبد الملك
قال أبو جعفر: وفي هذه السنة لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، فغلب عليها، وأخذ عامل يزيد بن عبد الملك عليها عدي بن أرطاة الفزاري، فحبسه وخلع يزيد بن عبد الملك.
ذكر الخبر عن سبب خلعه يزيد بن عبد الملك وما كان من أمره وأمر يزيد في هذه السنة
قد مضى ذكرى خبر يزيد بن المهلب من محبسه الذي كان عمر بن عبد العزيز حبسه فيه، ونذكر الآن ما كان من صنيعه بعد هربه في هذه السنة - أعني سنة إحدى ومائة. ولما مات عمر بن عبد العزيز بويع يزيد بن عبد الملك في اليوم الذي مات فيه عمر، وبلغه هرب يزيد بن المهلب، فكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن يأمره أن يطلب ويستقبله، وكتب إلى عدي بن أرطاة يعلمه هربه، ويأمره أن يتهيأ لاستقباله، وأن يأخذ من كان بالبصرة من أهل بيته.
فذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، أن عدي بن أرطاة أخذهم وحبسهم، وفيهم المفضل وحبيب ومروان بنو المهلب، وأقبل يزيد بن المهلب حتى مر بسعيد بن عبد الملك بن مروان، فقال يزيد لأصحابه: ألا نعرض لهذا فنأخذه فنذهب به معنا! فقال لأصحابه: لا بل امض بنا ودعه. وأقبل يسير حتى ارتفعفوق القطقطانة، وبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن هشام ابن مساحق بن عبد الله بن محرمة بن عبد العزيز بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي، في ناس من أهل الكوفة من الشرط ووجوه الناس وأهل القوة، فقال له: انطلق حتى تستقبله فإنه اليوم يمر بجانب العذيب. فمشى هشام قليلًا، ثم رجع إلى عبد الحميد، فقال: أجيئك به أسيرًا أم آتيك برأسه؟ فقال: أي ذلك ما شئت، فكان يعجب لقوله ذلك من سمعه، وجاء هشام حتى نزل العذيب، ومر يزيد منهم غير بعيد، فاتقوا الإقدام عليه، ومضى يزيد نحو البصرة، ففيه يقول الشاعر:
وسار ابن المهلب لم يعرج ** وعرس ذو القطيفة من كنانه
وياسر والتياسر كان حزمًا ** ولم يقرب قصور القطقطانة
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)