« لا نخرج الخلافة من ولد مولانا المعتصم. » فبايعوه وله ثمان عشرة سنة، ويكنى أبا العباس، ولقّب: المستعين بالله.
فاستكتب أحمد بن الخصيب واستوزر أوتامش.
فلمّا صار إلى دار العامّة في زيّ الخلافة وقد صفّ أصحابه صفّين وقام منهم مع وجوه أصحابه وحصر الدار ولد المتوكّل والعبّاسيون والطالبيون وأصحاب المراتب، إذا صيحة من ناحية الشارع وجماعة من الفرسان، ذكر أنّهم من أصحاب أبي العبّاس محمد بن عبد الله بن طاهر، وفيهم فرسان من الطبرية وأخلاط من الناس والغوغاء والسوقة، قد شهروا السلاح وصاحوا:
« معتزّ يا منصور. » وشدّوا فتضعضعوا وانضمّ بعضهم إلى بعض. ثم حملوا عليهم ونشبت الحرب بينهم، وأقبلت المعتزّية والغوغاء يكثرون، فوقع بينهم قتلى، ثم تحاجزوا.
وخرج المستعين - وقد بايعه من حضر الدار من أصحاب المراتب - إلى الهاروني ودخل الغوغاء والمنتهبة دار العامّة، فانتهبوا الخزانة التي فيها السلاح والدروع والسيوف الثغرية والتراس الخيزران، ثم جاءهم جماعة من الأتراك فيهم بغا الصغير فأجلوهم من الخزانة وقتلوا منهم عدّة وخرج العامّة والغوغاء وكان لا يمرّ بهم أحد من الأتراك يريد باب العامّة إلّا انتهبوا سلاحه وقتلوا جماعة منهم.
وكان عامّة من انتهب أصحاب الناطف والفقّاع وأصحاب الحمّامات وغوغاء الأسواق.
ثم وضع العطاء في ذلك اليوم الذي بويع فيه وبعث بكتاب البيعة إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، فبعث إلى الهاشميّين والقوّاد والجند ووضع الأرزاق.
وورد في هذه السنة نعى طاهر بن عبد الله بخراسان في رجب، فعقد المستعين لابنه أبي عبد الله محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر على خراسان، وعقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر عمّه على العراق وجعل إليه الحرس والشرطة ومعاون السواد برأسه وأفرده به.
وفيها مات بغا الكبير فعقد المستعين لابنه على أعمال أبيه كلّها واسمه موسى.
وفيها ابتاع المستعين من المعتزّ والمؤيّد جميع مالهما من الدور والمنازل والقصور والفرش والآلة وغير ذلك من الضياع والعقار وأشهد عليهما القضاة والعدول ووجوه الهاشميّين، وترك لأبي عبد الله المعتزّ قيمة عشرين ألف دينار، ولإبراهيم المؤيّد ما قيمته خمسة آلاف دينار وذلك في السنة الواحدة. فكان ما ابتيع من أبي عبد الله بعشرة آلاف ألف دينار وعشر حبّات لؤلؤ، ومن إبراهيم بثلاثة آلاف ألف دينار وثلاث حبّات لؤلؤ. وكان الشراء باسم الحسن بن مخلد للمستعين. ووكّل بهما وجعل أمرهما إلى بغا الصغير، وكان الأتراك قد أرادوا حين شغب الشاكرية والغوغاء قتلهما، فمنعهم أحمد بن الخصيب وقال: ليس لهما ذنب.
وفيها غضب الموالي على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله ومال ولده ونفى إلى اقريطش، وصيّر المستعين شاهك الخادم على داره وكراعه وحرمه وخزائنه وخاصّ أموره، وقدّمه أوتامش على جميع الناس.
ودخلت سنة تسع وأربعين ومائتين
وفيها شغب الجند والشاكرية
ذكر السبب في شغبهم
كان السبب في ذلك أنّ جعفر بن دينار كان غزا الصائفة، فاستأذنه عمر بن عبيد الله الأقطع في المصير إلى ناحية من الروم ومعه خلق كثير من الروم نحو مائة ألف. فقتل عمر ومن معه من المسلمين وبلغ خبر مقتله عليّ بن يحيى الأرمني وسمع بما جرى على حرم المسلمين من الروم واستكلابهم على الثغور الخزرية بعد عمر فنفر إليهم مع جماعة من أهل ميّافارقين، فقتل أيضا في جماعة من المسلمين.
فلمّا اتصل خبرهما بأهل مدينة السلام وسرّ من رأى وسائر مدن الإسلام، فعظم عليهم مقتل هذين وهما نابان من أنياب المسلمين، شديد بأسهما عظيم نكايتهما وغناؤهما في الثغور. فشقّ على الناس ذلك وعظم في الصدور وانضاف إلى ذلك ما لحقهم من الأتراك وفي قتلهم المتوكّل واستيلائهم على أمور المسلمين وقتلهم من أرادوا قتله من الخلفاء واستخلافهم من أحبّوا استخلافه من غير رجوع منهم إلى ديانة ولا نظر للمسلمين.
فأجمعت العامّة ببغداد بالصراخ والنداء بالنفير، وانضمّت إليها الأبناء والشاكريّة. تظهر أنّها تطلب الأرزاق. ففتحوا السجون وأخرجوا رفوغ خراسان والصعاليك من أهل الجبال والمحمّرة وغيرهم، وقطعوا أحد الجسرين وضربوا الآخر بالنار، وانتهبت الدواوين وقطعت الدفاتر وألقيت في الماء وانتهب عدّة دور. ثم أخرج أهل اليسار من أهل بغداد وسرّ من رأى أموالا كثيرة من أموالهم. فقوّوا من خفّ للنهوض إلى الثغور لحرب الروم، وأقبل الناس من كلّ ناحية من نواحي الجبل وفارس والأهواز وغيرها ولم يكن من السلطان فيه معونة ولا نكير على الروم.
ووثب العامّة بسرّ من رأى على أصحاب السجون فأخرجوا من فيها فأركب زرافة ووصيف وأوتامش فوثبت العامّة بهم فهزمتهم وألقى على وصيف قدر مطبوخة فأمر وصيف النفّاطين فرموا ما قرب من ذلك الموضع من حوانيت التجّار ومنازل الناس بالنار فاحترق ذلك كلّه وقتل من العامّة خلق وانتهبت دور جماعة منهم.
وفي هذه السنة قتل أوتامش وكاتبه شجاع
ذكر السبب في قتلهما
لمّا أفضت الخلافة إلى المستعين أطلق يد أوتامش وشاهك الخادم في بيوت الأموال وأباحهما إيّاها. وفعل ذلك أيضا بأمّ نفسه، فكانت الأموال التي ترد على السلطان من الآفاق إنّما تصير إلى هؤلاء.
فأمّا أوتامش فأنه عمد إلى ما في بيوت الأموال فاكتسحه. وكان المستعين جعل ابنه العبّاس في حجر أوتامش وكان وصيف وبغا من ذلك بمعزل. فأغريا الموالي به ولم يزالا يدبّران الأمر عليه حتى أحكما التدبير.
فتذمّرت الأتراك والفراغنة على أوتامش وخرج إليه أهل الدور والكرخ إلى المعسكر، ثم زحفوا إليه وهو في الجوسق مع المستعين، فأراد الهرب فلم يمكنه واستجار بالمستعين فلم يجره. فأقاموا على ذلك يومي الخميس والجمعة.
فلمّا كان يوم السبت دخلوا الجوسق فاستخرجوا أوتامش من الموضع الذي توارى فيه فقتل وقتل كاتبه شجاع بن القاسم وانتهبت دورهم فأخذ منها أموال جليلة ومتاع وفرش وآنية.
فلمّا قتل أوتامش استوزر المستعين أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وعزل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج ووليه عيسى بن فرّخانشاه ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح ابن يزداد فهرب أبو صالح إلى بغداد، وصيّر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجرائي.
ودخلت سنة خمسين ومائتين
ظهور يحيى بن عمر في الكوفة وقتله فيها
وفيها ظهر يحيى بن عمر بن يحيى بن حسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام المكنّى بأبي الحسين بالكوفة وقتل فيها.
ذكر السبب في خروجه
كان السبب في ذلك أنّ أبا الحسين يحيى بن عمر نالته ضيقة شديدة، ولزمه دين ضاق به ذرعا. فلقى عمر بن فرج وهو يتولّى أمر الطالبيّين عند مقدمه من خراسان وكلّمه في صلة. فأغلظ له عمر في القول. فقذفه يحيى في مجلسه فحبس فلم يزل محبوسا إلى أن كفل به أهله فأطلق. ثم صار إلى سرّ من رأى فلقى وصيفا في رزق يجرى له. فأغلظ له وصيف في الردّ، وقال: « لأيّ شيء يجرى على مثلك. » فانصرف عنه.
فذكر الصوفيّ الطالبيّ أنّه أتاه في الليلة التي خرج في صبيحتها، فبات عنده ولم يعلمه بشيء ممّا عزم عليه، وأنّه عرض عليه الطعام وتبيّن فيه أنّه جائع، فأبى أن يأكل، وقال:
« إن عشنا أكلنا. » قال: فتبيّنت أنّه قد عزم على فتكة. وخرج من عندي فجعل وجهه إلى الكوفة، وجمع جمعا كثيرا من الأعراب وأهل الكوفة وأتى الفلّوجة فصار إلى قرية تعرف بالعمد. فكتب صاحب الخبر يخبره، فكتب محمد بن عبد الله بن طاهر إلى عامله على معاون السواد وهو عبد الله بن محمود السرخسي وإلى عامل الكوفة وهو أيّوب بن الحسن بن موسى بن جعفر بن سليمان، فأمرهما بالاجتماع على محاربته.
فمضى يحيى بن عمر في تسعة نفر من الفرسان إلى الكوفة فدخلها وصار إلى بيت مالها، فأخذ ما فيه وبه سبعون ألفا وألفا دينار، وأظهر أمره بالكوفة وفتح السجون وأخرج عمّال السلطان عنها. فلقيه عبد الله بن محمود [ وكان ] في عداد من الشاكرية، فضربه يحيى على وجهه ضربة أثخنه.
فانهزم ابن محمود مع أصحابه وحوى يحيى ما كان مع ابن محمود من الدوابّ والمال.
ثم خرج يحيى من الكوفة إلى سوادها ولم يقم بالكوفة ولحقه جماعة من الزيديّة وأعراب أهل الطفوف والسيب إلى ظهر واسط، وكثر جمعه. ووجّه محمد بن عبد الله بن طاهر الحسين بن إسماعيل بن إبراهيم بن مصعب وضمّ إليه من ذوي البأس والنجدة من قوّاده جماعة، وشخص الحسين بن إسماعيل فنزل بإزاء يحيى بن عمر لا يقدم عليه.
فمضى يحيى بن عمر في شرقيّ السيب والحسين في غربيّه حتى عبر إلى ناحية سورا، وسار حتى قرب من جسر الكوفة، فلقيه عبد الرحيم بن الخطّاب وجه الفلس، فقاتله قتالا شديدا وانهزم وجه الفلس، فصار إلى ناحية شاهي ووافاه الحسين بن إسماعيل فعسكر بها.
ودخل يحيى بن عمر الكوفة واجتمعت إليه الزيدية وكثف أمره واجتمعت إليه جماعة من الناس وأحبّوه وتولّاه العامّة من أهل بغداد خاصّة، ولا نعلم أنهم تولّوا من أهل بيته غيره، وتديّن الناس في تشيّعهم. وأقام الحسين بن إسماعيل بشاهى واستراح وأراح أصحابه دوابّهم واتصلت بهم الميرة والأمداد والأموال.
وأقام يحيى بالكوفة يعدّ العدد ويطبع السيوف ويجمع السلاح. فاجتمع عامّة من الزيدية ممّن لا علم لهم بالحرب وأشاروا على يحيى بن عمر بمعاجلة الحسين وألحّت عليه عوامّ أصحابه بمثل ذلك، فزحف إليه من ظهر الكوفة من وراء الخندق ومعه الهيضم العجلى في فرسان بنى عجل وأناس من بنى أسد ورجّالة من أهل الكوفة ليسوا بذوي علم ولا شجاعة ولا تدبير.
فصبّحوا الحسين وأصحابه وأصحاب الحسين مستريحون مستعدّون.
فثاروا إليهم وذلك في الغلس، فرموا ساعة ثم حمل عليهم فرسان الحسين، فانهزموا، ووضع فيهم السيف. فكان أوّل أسير الهيضم بن العلاء بن جمهور العجلى، وانهزم رجّالة أهل الكوفة وأكثرهم عراة بغير سلاح ضعفاء القوى خلقان الثياب فداستهم الخيل وانكشف العسكر عن يحيى بن عمر وقد تقطّر به البرذون الذي أخذه من عبد الله بن محمود وعليه جوشن تبّتيّ.
فوقف عليه ابنان لخالد بن عمران ولم يعرفه أحدهما وظنّ أنّه خراسانى لأجل الجوشن فقال له الآخر:
« يا أخي هذا والله أبو الحسين قد انفرج قلبه وهو نازل ما يعرف القصّة لانفراج قلبه. » فأمرا رجلا من أصحابهما فنزل إليه وأخذ رأسه وادّعى قتله جماعة، وحمل رأسه إلى دار محمد بن عبد الله وقد تغيّر. فطلبوا من يقور رأسه ويخرج الحدقة والغلصمة. فلم يقدروا عليه، وهرب الجزّارون وطلب ممّن في السجن من الخرّمية الذبّاحين من يفعل ذلك، فلم يقدم عليه أحد إلّا رجل من عمّال السجن الجديد فإنّه جاء فتولّى إخراج دماغه وعينيه وقوّره وحشى بالصبر والكافور.
ثم أمر بحمل الرأس إلى المستعين وكتب إليه بيده بالفتح ونصب رأسه بباب العامّة بسرّ من رأى. فاجتمع الناس وتذمّروا فحطّ وردّ إلى بغداد لينصب هناك، فلم يتهيّأ ذلك. وذكر لمحمد أنّ الناس قد كثروا واجتمعوا على أخذه فلم ينصبه.
فحكى بعض الطاهريين أنّه حضر مجلس محمد بن عبد الله بن طاهر وهو يهنّئ بقتل يحيى وبالفتح وعنده جماعة الهاشميّين من العبّاسيّين والطالبيّين وغيرهم من الوجوه. فدخل عليه أبو هاشم داود بن الهيثم الجعفري فسمعهم يهنّئونه، فقال:
« أيّها الأمير، إنّك لتهنّأ بقتل رجل لو كان رسول الله حيّا لعزّى به. »
فما ردّ عليه محمد شيئا فحلم عنه. فخرج وهو يقول:
يا بنى طاهر كلوه وبيّا ** إنّ لحم النّبيّ غير مريّ
وكان المستعين قد وجّه كلباتكين التركيّ مددا للحسين ومستظهرا به، فلحق حسينا بعد أن انهزم القوم وقتل يحيى بن عمر ولحق في طريقه قوما معهم الأسوقة والأطعمة يريدون عسكر يحيى. فوضع فيهم السيف فقتلهم ودخل الكوفة وأراد أن ينهبها ويضع السيف في أهلها، فمنعه من ذلك الحسين وآمن الأسود والأبيض بها وأقام أيّاما حتى أمن الناس ثم انصرف عنها.
خروج الحسن بن زيد
وفي هذه السنة كان خروج الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
ذكر السبب في خروجه
كان سبب ذلك أنّ محمد بن طاهر لمّا جرى على يده ما جرى من قتل يحيى بن عمر ودخول أصحابه الكوفة، أقطعه المستعين من صوافي السلطان بطبرستان قطائع، وكان فيها قطيعة تقرب من ثغرى طبرستان ما يلي الديلم وهما كلار وشالوس وكان بحذائها أرض لأهل تلك الناحية فيها مرافق محتطبهم ومراعى مواشيهم ومسرح سارحتهم ليس لأحد عليها ملك وإنّما هي صحراء من موتان الأرض، غير أنّها غياض وأشجار وكلأ. وكان وجّه محمد بن عبد الله بن طاهر أخا لكاتبه بشر بن هارون النصراني يقال له:
جابر، لحيازة ما أقطع هناك، وعامل طبرستان سليمان بن عبد الله خليفة محمد بن طاهر بن عبد الله ابن أخي محمد بن عبد الله بن طاهر والمستولى على سليمان بن عبد الله والغالب على أمره محمد بن أوس البلخي، وقد فرّق محمد بن أوس ولده في مدن طبرستان وجعلهم ولاتها وهم أحداث سفهاء.
فتأذّى بهم الرعيّة وأنكروا منهم ومن والدهم ومن سليمان بن عبد الله سيرهم وسوء أثرهم فيهم، ووتر مع ذلك محمد بن أوس الديلم بدخوله إليهم من حدود طبرستان وهم أهل سلم وموادعة على اغترار من الديلم، فأغار عليهم وسبى منهم وقتل فكان ذلك ممّا زاد أهل طبرستان عليه حنقا وغيظا.
فلمّا صار النصراني إلى طبرستان لحيازة ما أقطع صاحبه محمد حاز أيضا ما اتصل به من موات الأرض الذي يرتفق به أهل تلك الناحية، وكان بقرب ثغرين كما ذكرت، وكان بتلك الناحية يومئذ رجلان معروفان بالشجاعة والرأي مذكوران قديما بضبط تلك الناحية ممّن رامها من الديلم، وبإطعام الناس والإحسان إلى من ضوى إليهما يقال له: محمد وجعفر ابنا رستم، فأنكرا ما فعل جابر من حيازة الموات الذي ذكرت وقطع مرافق الناس منه.
وكان ابنا رستم مطاعين، فاستنهضا من أطاعهما وقصدا جابرا ليمنعاه، فهرب جابر ولحق بسليمان بن عبد الله بن طاهر وأيقن محمد وجعفر ابنا رستم في منعهما جابرا ممّا حاوله بالشر وذلك أنّ عامل طبرستان كلّها سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو أخو محمد بن عبد الله وعمّ محمد بن طاهر بن عبد الله وإلى خراسان والريّ والمشرق. فلمّا أيقنا بالشرّ راسلا الديلم وذكّراهم وفاءهما لهم بالعهد الذي بينهم وما ركبهم به محمد بن أوس من الغدر والقتل والسبي وأنّهم لا يأمنون عودته ويسألانهم مظاهرتهما عليه وعلى من معه.
فأعلمهم الديلم أنّ ما يلي أرضهم من جميع نواحيها من الأرضين هم عمّال آل طاهر والسلطان الأعظم وأنّ ما سألوا من معاونتهم لا سبيل إليه إلّا بزوال الخوف عنهم من أن يؤتوا من قبل ظهورهم إذا هم اشتغلوا بحرب من بين أيديهم من عمّال سليمان بن عبد الله، فأعلماهم أنّهما لا يغفلان عن كفايتهم ذلك حتى يأمنوا ما خافوه. فأجابهم الديلم إلى ما سألوه وتعاقدوا وأهل كلار وشالوس على حرب من قصدهم. ثم أرسل ابنا رستم إلى رجل من الطالبيّين المقيمين يومئذ بطبرستان يقال له: محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى البيعة له، فأبى وقال لهم:
« أنا لا أجيب إلى ما سألتم، ولكني أدلّكم على رجل منّا هو أقوم بما دعوتموني إليه. » فقالوا: « من هو؟ » فأخبرهم أنّه الحسن بن زيد، ودلّهم على منزله بالريّ. فوجّه القوم إلى الريّ برسالتهم ورسالة العلويّ محمد بن إبراهيم، يدعونه إلى الشخوص إلى طبرستان فشخص إليهم الحسن بن زيد وقد صارت كلمة الديلم وأهل كلار وشالوس والرويان على بيعة واحدة فلمّا وافاهم بايعه ابنا رستم وجماعة أهل الثغرين ورؤساء الديلم كجايا والاشلام ووهسوذان بن جستان.
ثم ناهضوا من في تلك النواحي من عمّال ابن أوس فطردوهم عنها فلحقوا بابن أوس وسليمان بن عبد الله وهما بمدينة ساريه، وانضوى إلى الحسن بن زيد مع من بايعه لمّا بلغهم ظهوره كلّ من بجبال طبرستان، كلّها إلّا سكّان جبل فريم، فإنّ ملكهم قارن بن شهريار كان ممتنعا بجبله وأصحابه، فلم ينقد للحسن بن زيد وقوّاده نحو مدينة آمل وهي أوّل مدينة طبرستان ممّا يلي كلار وسالوس من السفح.
وأقبل ابن أوس من سارية إليها يريد دفعه عنها فالتقى جيشاهما في بعض نواحي مدينة آمل ونشبت الحرب بينهم وخالف الحسن بن زيد وجماعة معه موضع المعركة إلى ناحية أخرى، فدخلوها واتصل خبرهم بابن أوس وهو مشغول بحرب من هو في وجهه من رجال الحسن بن زيد. فلم يكن له همّ إلّا النجاء بنفسه واللحاق بسليمان وسارية.
فلمّا دخل الحسن بن زيد آمل كثف جيشه وغلظ أمره وانقضّ إليه كلّ طالب نهب من الصعاليك والحوزيّة وغيرهم. فأقام الحسن بن زيد بآمل أيّاما حتى جبى الخراج واستعدّ.
ثم نهض بمن معه نحو سارية مريدا سارية ومن بها من سليمان وابن أوس، فخرجوا بمن معهم والتقى القوم خارج مدينة سارية ونشبت الحرب بينهم، فخالف الوجه الذي التقى فيه الجيشان بعض قوّاد الحسن بن زيد إلى وجه آخر من وجوه سارية فدخلها برجاله، وانتهى الخبر إلى سليمان ومن معه فطاروا على وجوههم ونجوا بأنفسهم وترك سليمان أهله وعياله وثقله وكلّ ما كان له بسارية من مال وأثاث، فلم تكن له عرجة دون جرجان، وغلب جند الحسن بن زيد على ما كان له ولغيره.
فأمّا عيال سليمان وأهله وآباؤه فإنّ الحسن أمر لهم بمركب حملهم فيه حتى ألحقهم بسليمان وهو بجرجان واجتمع للحسن أمره بطبرستان كلّها.
ثم وجّه الحسن خيلا مع رجل من أهل بيته يقال له: الحسن بن زيد، إلى الريّ فصار إليها وطرد عنها عاملها من قبل الطاهرية واستخلف بها بعض الطالبيّين وانصرف عنها فاجتمعت للحسن بن زيد مع طبرستان الريّ إلى حدّ همذان.
فورد الخبر بذلك على المستعين ومدبّر أمره وصيف التركيّ وكتابه أحمد بن صالح بن شيرزاد. فوجّه إسماعيل بن فراشة في جمع كثير إلى همذان وأمره بالمقام بها وضبطها وذلك أنّ ما وراء عمل همذان كان إلى محمد بن طاهر، بن عبد الله بن طاهر وبه عمّاله وإليه إصلاحه.
فلمّا استقرّ بخليفة الحسن بن زيد القرار بالريّ واسمه محمد بن جعفر، ظهرت منه أمور كرهها أهل الريّ. فوجّه محمد بن طاهر قائدا من خراسان يقال له: محمد بن ميكال وهو أخو الشاه بن ميكال، في جمع عظيم من الخيل والرجّالة إلى الريّ فالتقى هو ومحمد بن جعفر العلوي. فأسر محمد بن ميكال محمد بن جعفر وفضّ جمعه ودخل الريّ.
فوجّه إليه الحسن بن زيد خيلا عليها ويجن قائد من قوّاد أهل الأرز فخرج إليه محمد بن ميكال فهزمه ويجن والتجأ محمد بن ميكال إلى الريّ معتصما، بها فاتبعه ويجن قبل أن يشخص حتى قتله وعادت الريّ إلى أصحاب الحسن بن زيد.
ودخلت سنة إحدى وخمسين ومائتين
وفيها قتل وصيف وبغا الصغير باغر التركيّ واضطرب الموالي
ذكر السبب في قتله
كان سبب ذلك أنّ باغر كان أحد قتلة المتوكّل فزيد في أرزاقه وأقطع قطائع. فكان ممّا أقطع ضياع بسواد الكوفة، فتضمن تلك الضياع رجل من دهاقين باروسما ونهر الملك بألفي دينار. فوقع بين هذا الدهقان وبين رجل بتلك الناحية يقال له ابن مارمّة شرّ فتناوله ابن مارمّه بمكروه. فحبس ابن مارمّه وقيّد فعمل حتى تخلّص من الحبس وصار إلى سرّ من رأى، فلقى دليل بن يعقوب النصراني وهو يومئذ كاتب بغا الشرابي وصاحب أمره وإليه العسكر يركب إليه القوّاد والعمّال، وكان ابن مارمّه صديقا لدليل وكان باغر أحد قوّاد بغا فمنع دليل باغر من ظلم أحمد بن مارمّه وانتصف له منه فأوغر ذلك بصدر باغر وباين كلّ واحد من دليل وباغر صاحبه بذلك السبب.
وكان باغر شجاعا بطلا عظيم القدر في الأتراك يتوقّاه بغا وغيره ويخافون شرّه، فجاء باغر يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي الحجّة سنة خمسين ومائتين إلى بغا وهو في الحمّام وباغر سكران فانتظره حتى خرج من الحمّام، ثم دخل إليه فقال له:
« والله ما لي من قتل دليل من بدّ. » ثم شتمه. فقال له بغا:
« لو أردت قتل ابني فارس ما منعتك منه، فكيف دليل النصرانيّ، ولكن أمر الخليفة وأمري في يده فتصبر حتى أصيّر مكانه إنسانا ثم شأنك به. » ثم وجّه بغا إلى دليل يأمره ألّا يركب فاستخفى، وبعث بغا إلى محمد بن يحيى بن فيروز، وكان ابن فيروز يكتب له قديما، فجعله مكان دليل يوهم باغر أنّه قد عزل دليلا فسكن باغر. ثم أصلح بغا بين باغر ودليل، وباغر يتهدّد دليلا إذا خلا بأصحابه، ثم تلطّف باغر للمستعين ولزم الخدمة في الدار وكره المستعين مكانه لجرأته وقتله المتوكّل. فلمّا كان نوبة بغا في منزله قال المستعين:
« أيّ شيء كان إلى إيتاخ من الأعمال؟ »
فأخبره وصيف فقال:
« ينبغي أن تصيّر هذه الأعمال إلى أبي محمد باغر. » فقال وصيف:
« نعم. » وبلغت القصّة دليلا فركب إلى بغا وقال له:
« أنت في بيتك وهم في تدبير عزلك عن جميع أعمالك، وإذا عزلت فما بقاؤك إلّا أن يقتلوك. » فركب بغا إلى دار الخليفة في اليوم الذي نوبته في منزله بالعشي فقال لوصيف:
« أردت أن تحطّنى عن مرتبتي فتجيء بباغر وتصيّره مكاني، وإنّما باغر عبد من عبيدي. » فقال وصيف:
« ما أردت ذلك ولا علمت ما أراد الخليفة من ذلك. » ثم تعاقد وصيف وبغا على تنحية باغر من الدار وأرجفوا أنّه يؤمّر ويضمّ إليه جيش سوى جيشه ويخلع عليه ويجلس مجلس بغا ووصيف وهما يسمّيان الأميرين، وكان قصد المستعين التقرّب إليه ليأمن ناحيته فأحسّ هو ومن في جنبته بالشرّ فجمع إليه الذين كانوا بايعوه على قتل المتوكّل مع غيرهم. ثم ناظرهم ووكّد البيعة عليهم كما كان وكّدها في قتل المتوكّل. ثم قال:
« الزموا الدار حتى نقتل المستعين وبغا ووصيفا ونجيء بمن نقعده خليفة ليكون الأمر لنا كما هو لهذين اللذين قد استوليا على الدنيا وبقينا نحن في غير شيء. » فبعث إلى المستعين ووصيف فقال لهما:
« إني ما طلبت إليكما أن تجعلانى خليفة وإنّما فعلتما أنتما ذلك وأصحابكما ثم تريدون أن تقتلوني؟ » فحلفا أنّهما ما علما بذلك.
فيقال: إنّ امرأة مطلّقة لباغر بعثت إلى المستعين وبغا بما عزم عليه باغر وبكّر دليل إلى بغا، ووصيف حاضر منزل بغا مع كاتبه، فاتّفق رأيهم على أخذ باغر ونفسين من الأتراك معه وحبسهم حتى يروا رأيهم. فأحضر باغر فأقبل في عدّة.
فلمّا دخل دار بغا منع من الوصول إلى وصيف وبغا وعدل به إلى حمّام فحبس فيه ودعى له بقيد فامتنع عليهم. وبلغ ذلك الأتراك ووثبوا على إصطبل السلطان فأخذوا ما فيه من الدوابّ وانتهبوها وركبوا وحضروا الجوسق بالسلاح. فلمّا أمسوا بعث بغا ووصيف إلى باغر بجماعة وشدخوه بالطبرزينات حتى برد وعملوا على أن يرموا برأسه إليهم إن أقاموا على الشغب.
فلمّا انتهى قتله إلى الأتراك أقاموا على ما هم عليه وأبوا أن ينصرفوا واجتمع رأى المستعين ووصيف وبغا وشاهك على أن ينحدروا إلى بغداد ففعلوا ذلك وانكسر الأتراك لذلك وأظهروا الندم.
ثم صاروا إلى دار دليل بن يعقوب ودور أهل بيته وانتهبوها ونقضوها ثم منعوا من الانحدار إلى بغداد من همّ بذلك، وأخذوا ملّاحا قد أكرى سفينته فصلبوه على دقل سفينته، فامتنع الملّاحون من الانحدار بعده.
واجتمع من كان من الجند والأتراك بسرّ من رأى على المعتزّ فبايعوه، وأقام من كان ببغداد على الوفاء للمستعين.
ذكر الفتنة التي وقعت بين الأتراك وأهل بغداد وما انتهى إليه
لمّا انحدر المستعين وبغا ووصيف وشاهك وأحمد بن صالح بن شيرزاد إلى بغداد نزل المستعين على محمد بن عبد الله بن طاهر في داره. ثم وافى بغداد القوّاد سوى جعفر بن دينار وسليمان بن يحيى بن معاذ مع جلّة الكتّاب والعمّال وبنى هاشم. ووافى أيضا قوّاد الأتراك الذين في ناحية وصيف وبغا.
وكانت رسل وصيف وبغا تتردد إلى سرّ من رأى باستدعاء من بها وإصلاح نيّاتهم وكان كلّ من يرد بغداد يؤمر أن ينزل الجزيرة التي حيال دار محمد بن عبد الله بن طاهر وألّا يصيروا إلى الجسر فيرعبوا العامّة، فإذا اجتمعوا وجّه إليهم زواريق حتى يعبروا فيها.
فلمّا دخل الأتراك الواردون من سرّ من رأى إلى المستعين رموا بأنفسهم بين يديه وخلعوا مناطقهم من أوساطهم تذلّلا وخضوعا وكلّموا المستعين وسألوه الصفح عنهم فقال لهم:
« أنتم أهل بغى وبطر واستقلال للنعم. ألم ترفعوا إليّ في أولادكم فألحقتهم بكم، وهم نحو من ألفى غلام، وفي بناتكم فأمرت باجرائهن مجرى المتزوّجات وهنّ نحو من أربعة آلاف صبيّة، سوى المدركين، وأدررت عليكم الأرزاق حتى سبكت لكم آنية الذهب والفضّة، ومنعت نفسي شهواتها ولذّاتها، كلّ ذلك طلبا لرضاكم وصلاحكم وأنتم تزدادون بغيا وفسادا وتهديدا وإبعادا. » فتضرّعوا وقالوا:
« أمير المؤمنين صادق وقد أخطأنا ونحن الآن نسأله العفو. » فقال المستعين:
« قد عفوت عنكم. » فقال له بايكباك:
« فإن كنت رضيت عنّا وصفحت، فقم معنا إلى سرّ من رأى، فإنّ الأتراك ينتظرونك. » فأومأ محمد بن عبد الله إلى محمد بن أبي عون، فلكز في حلق بايكباك وقال له:
« هكذا يقال لأمير المؤمنين: قم معنا فاركب؟ » فضحك المستعين وقال:
« هؤلاء قوم عجم، لا يؤخذون بمعرفة حدود الكلام وأدائه. » ثم قال لهم المستعين:
« يصير من بسرّ من رأى فأرزاقهم دارّة عليهم، وأنظر أنا في أمري هاهنا. » فانصرفوا وقد أغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله ومضوا إلى سرّ من رأى وحرّضوا الأتراك على مخالفته، واجتمع رأيهم على إتمام البيعة لأبي عبد الله المعتزّ فأخرجوه والمؤيّد من الحبس فأخذوا من شعرهما، وكان قد طال، وبايعوه وأمر لهم بمال البيعة وكان المستعين خلّف بسرّ من رأى ما كان حمل من الموصل ومن الشام وهو خمسمائة ألف دينار وفي بيت مال أمّ المستعين قيمة ألفي ألف دينار وفي بيت مال ابن المستعين قيمة ستمائة ألف دينار وكتب نسخة البيعة التي أخذت للمعتزّ بسرّ من رأى على النسخة المعروفة.
وأحضر أبو أحمد بن الرشيد محمولا في محفّة وأمر بالبيعة فامتنع، وقال للمعتزّ:
« بل كنت مكرها وخفت السيف. » فقال أبو أحمد:
« ما علمت أنّك أكرهت وقد بايعنا هذا الرجل. أفتريد أن نطلّق نسائنا وتخرجنا عن أموالنا ولا ندري ما يكون أن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس وإلّا فهذا السيف. » فقال المعتزّ:
« اتركوه. » فردّ إلى منزله من غير بيعة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)