صفحة 17 من 23 الأولىالأولى ... 71516171819 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 65 إلى 68 من 91

الموضوع: ذاكرة جسد - للروائية أحلام


  1. #65
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 258
    Array

    أقف وجهاً لوجه مع الوطن. وتشعرني بغربة من نوع آخر تنفرد بها المطاراتالعربية.

    وحده وجه حسّان ملأني دفئاً مفاجئاً عندما أطلّ، وأذاب جليد اللقاءالأول.. مع ذلك المطار.

    وعندما احتضنني، وأخذ عني حمولة يدي، وقال بلهجةجزائرية مازحة وهو يحمل عني تلك اللوحة:

    "
    واش.. مازلت تنقّل فيالطابلوهات..؟" ثم أضاف "آ سيدي.. هذا نهار مبروك من هو اللي قال نشوفكهنا..!".

    شعرت أن قسنطينة أخذت فجأة ملامحه، وأنها أخيرا جات ترحّببي.

    وهل كان حسان غير تلك المدينة نفسها. غير حجارتها.. قرميدها.. وجسورهاومدارسها.. وأزقّتها وذاكرتها؟

    هنا ولد، وهنا تربّى ودرس، وهنا أصبح مدرّسا. لم يغادرها إلا نادراً في زيارات قصيرة إلى تونس أو إلى باريس.

    كان يحضرلزيارتي من سنة إلى أخرى، لكي يطمئنّ عليّ وليشتري بالمناسبة بعض لوازم عائلته التيما فتئت تكبر وتتضاعف. وكأن حسان قرر أن يتحمل بمفرده مسؤولية عدم اندثار اسمالعائلة، بعدما يئس من تزويجي وأدرك بعد محاولات إغراء فاشلة، أنه لن يكون لي بناتو لا بنون.. ما عدا تلك اللوحات التي تنفرد بحمل اسمي.

    أكتشف اليوم، أن هذاالرجل الفارع القامة، المهذّب المظهر، والذي يتحدث دائماً بحماسة الأساتذة وعنادهموتكرارهم، وكأنه يواصل حديثه لتلاميذه وليس للآخرين، هو أخي.. لا غير.

    أكنتأجهل هذا؟ لا!

    ولكن في هذا اليوم الاستثنائي الألم والخيبة.. والفرحة! أشعرأن قرابته بي تصبح الأرض الصلبة الوحيدة التي يمكن أن أقف عليها وسط زلازليالداخلية، والصدر الوحيد الذي كنت لولا الكبرياء، بكيت عليه في تلكاللحظة.

    عشر سنوات.. حدث خلالها في بعض المرّات أن انتظرته أنا في مطار (أورلي الدولي).

    كانت الأدوار معكوسة. كان هو القادم.. وأنا المنتظر. وكنتأشعر آنذاك أنني أقوم بواجب عائلي لستُ ملزماُ به، ولكن كنت أحرص عليه. فقد كانتتلك إحدى فرصي القليلة لألعب دور "الأخ الكبير" بكل مسؤولياته وواجباته. ذلك الدورالذي لم أوفّق دائماً في أدائه. فقد عشت في الواقع دائماً بعيداً عن حسّان، حسانالذي كنت أدرك جوعه للحنان ويتمه المبكّر.. وتعلقه العاطفي بي.

    تُراه لهذاأيضاً تزوّج باكرا على عجل، وراح يكثر من الأولاد ليحيط نفسه أخيراً بتلك العائلةالتي حرم منها دائماً في طفولته، والتي كنت عاجزاً عن أن أعوضها له بحضوري العابر.. وغيابي المتنقّل من منفى إلى آخر.



    فلماذا يقلب لقائي بحسان اليوم كلمقاييسي السابقة، ويشعرني برغم فارق العمر، وبرغم أولاده الستة، أنني الأخ الأصغروأنه في هذه اللحظة يكبرني بسبع سنوات، وربما بأكثر..

    ترى لأنه هو الذي يحملحقيبتي ويمشي أمامي، ويسألني عن تفاصيل سفري.. أم أن هذا المطار الذي يستفزّ رجولتيوكبريائي يجرّدني من وقار عمري. فأترك حسان يتصرف فيه نيابة عني، وكأن تجربته معهذه المدينة ومعايشته لطباعها المتقلّبة، جعلته اليوم يبدو أكبر..

    أم تراهاقسنطينة.. تلك الأم المتطرفة العواطف، حباً وكراهية.. حنانا وقسوة، هي التي حوّلتنيبوطأة قدم واحدة على ترابها، إلى ذلك الشاب المرتبك الخجول الذي كنته قبل ثلاثينسنة؟

    نظرت إليها من زجاج سيارة كانت تنقلني من المطار إلى البيت، وتساءلت: أتراها تعرفني؟

    هذه المدينة الوطن، التي تُدخل المخبرين وأصحاب الأكتافالعريضة والأيدي القذرة من أبوابها الشرفيّة.. وتدخلني مع طوابير الغرباء وتجّارالشنطة.. والبؤساء.

    أتعرفني.. هي التي تتأمل جوازي بإمعان.. وتنسى أنتتأملني؟

    سُئلت أعرابية يوماً: "من أحبّ أولادك إليك؟" قالت: "غائبهم حتىيعود.. ومريضهم حتى يشفى.. وصغيرهم حتى يكبر".

    وكنت أنا غائبها الذي لميعد.. ومريضها الذي لم يشف وصغيرها الذي لم يكبر..

    ولكن قسنطينة لم تكن قدسمعت بقول تلك الأعرابية. فلم أعتب عليها. عتبت على ما قرأت من كتب التراثالعربي!

    لم أنم تلك الليلة..
    أكان ذلك العشاء الذي أعدته عتيقة زوجةحسان، وكأنها تعدّ وليمة، والذي استسلمت له بشهية أكاد أقول تاريخية، هو الذي كانسبب قلقي، بعدما تناولت الكثير من أطباقه التي لم أذق معظمها من سنين؟

    أم أنالسبب هو صدمة لقائي العاطفي الآخر مع ذلك البيت، الذي ولدت فيه وتربّيت، والذي علىجدرانه وأدراجه ونوافذه وغرفه وممراته، كثير من ذاكرتي، من أفراح ومآتم وأعياد.. وأيام عادية أخرى، تراكمت ذكراها في أعماقي لتطفو الآن فجأة.. كذكريات فوق العادةتلغي كل شيء عداها؟

    ها أنا أسكن ذاكرتي وأنا أسكن هذا البيت، فكيف ينام منيتوسّد ذاكرته؟

    مازال طيف الذين غادروه يعبر هذه الغرف أمامي. أكاد أرى ذيلكندورة (أمّا) العنابي يمر هنا، ويروح ويجيء بذلك الحضور السري للأمومة. وصوت أبييطالب بالماء للوضوء، أو يصيح من أسفل الدرج "الطريق.. الطريق" لينبّه النساء فيالبيت أنه قادم صحبة رجل غريب، وأن عليهن أن يفسحن الطريق ويذهبن للاختباء في الغرفالبعيدة.

    أكاد أرى خلف الجدران الجديدة البياض آثار المسمار الذي علق عليهأبي يوماً شهادتي الابتدائية منذ أربعين سنة. ثم جوارها بعد سنوات شهادةأخرى..

    وبعدها لا شيء..

    توقّف اهتمامه بي ليبدأاهتمامه بأشياء أخرى،ومشاريع أخرى، انتهت بموت (أما) وزواجه الذي كان جاهزاً للاستهلاك، ومعداً في ذهنهمنذ مدة.

    أكاد أرى جثمان (أما) يخرج مرة أخرى من ها الباب الضيق يليه حشد منقراء القرآن.. ونساء يحترفن البكاء في المآتم.

    أكاد أرى موكباً آخر يعود بعدأسابيع، بعروس صغيرة هذه المرة.. ونساء يحترفن الزغاريد والمواويل.
    ثم تلكالليلة التي قبّلت فيها حسان وودعته قبل أن ألتحق بالجبهة.

    لم يسألني ليلتهاإلى أين كنت ذاهباً. كان حسان وهو في عامه الخامس عشر، قد سبق عمرهبسنوات.

    كان مثلي جعله اليتم يكبر على عجل.. وعلّمه ذلّه أن يصمت ويحتفظلنفسه بالأسئلة.

    سألني:

    - ..
    وأنا؟

    وأجبته بالذهولنفسه:

    -
    مازلت صغيراً يا حسان.. انتظرني..

    فقال وكأنه يتقمّص فجأةصوت (أما) وخوفها المرضيّ عليّ:

    -
    عندك على روحك.. آ خالد..

    وأجهشبالبكاء.

    ها هو الوطن الذي استبدلته بأمي يوماً.
    كنت أعتقد أنه وحده قادرعلى شفائي من عقدة الطفولة، من يتمي ومن ذلّي.

    اليوم.. بعد كل هذا العمر،بعد أكثر من صدمة وأكثر من جرح، أدري.. أن هناك يُتم الأوطان أيضاً. هنالك مذلّةالأوطان، ظلمها قسوتها، هنالك جبروتها وأنانيتها.

    هنالك أوطان لا أمومةلها.. أوطان شبيهة بالآباء.


    ***





    لم أنم ليلتها حتى ساعة متقدمة من الصباح.

    █║S│█│Y║▌║R│║█


رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #66
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 258
    Array

    كان للقائي الليلي مع تلك المدينة مذاق مسبق لمرارة ما. وما كدتأغفو حتى أيقظني من غفوتي أصغر أولاد حسان، الذي استيقظ باكراً وراح يبكي بكاء رضيعيطالب بحضن أمه، ووجبته الصباحية.

    حسدت براءته وجرأته الطفولية.. وقدرته علىقول ما يريد دون كلام.

    في ذلك الصباح، وفي أول لقاء لي مع تلك المدينة، فقدتلغتي.
    شعرت أن قسنطينة هزمتني حتى قبل أن نلتقي، وأنها جاءت بي إلى هنا، لتقنعنيبذلك لا غير!

    ولم أشعر برغبة في مقاومة قدري.

    لقد هزمت من مرّواقبلي، وصنعت من جنونهم بها أضرحة للعبرة.

    وأنا آخر عشاقهالمجانين..

    أنا ذا العاهة الآخر الذي أحبها، أنا"أحدب نوتردام" الآخر، وأحمققسنطينة الآخر.. ما الذي أوصلني إلى جنون كهذا؟ ما الذي أوقفني عند أبواب قلبهاعمراً؟

    وكانت تشبهك..
    تحمل اسمين مثلك، وعدة تواريخ للميلاد. خارجةلتوّها من التاريخ، باسمين: واحد للتداول.. وآخر للتذكار.

    كان اسمها يوماً "سيرتا". قاهرة كانت.. كمدينة أنثى.

    وكانوا رجالاً.. في غرورالعسكر!

    من هنا مرّ صيفاكس.. ماسّينيسا.. ويوغررطة.. وقبلهمآخرون.

    تركوا في كهوفها ذاكرتهم. نقشوا حبّهم وخوفهم وآلهتهم.

    تركواتماثيلهم وأدواتهم، وصكوكهم النقدية، أقواس نصرهم وجسوراً رومانية..

    ..
    ورحلوا.

    لم يصمد من الجسور سوى واحد. ولم يبق من أسمائها سوى اسم "قسنطينة" الذي منحه لها من ستة عشرة قرناً "قسطنطن".

    أحسد ذلك الإمبراطور الرومانيالمغرور، الذي منح اسمه لمدينة لم تكن حبيبته بالدرجة الأولى.. وإنما اقترن بهالأسباب تاريخية محض.

    وحدي منحتك اسما لم يكن اسمي.

    وربما لذلك، يحدثأن أعاكس قانون الحماقات هذا. وأنادي تلك المدينة "سيرتا" لأعيدها إلى شرعيّتهاالأولى.

    تماما.. كما أناديك "حياة".

    ككلّ الغزاة.. أخطأقسطنطين.

    المدن كالنساء.. نحن لا نمتلكها لمجرد أننا منحناهااسمنا.

    لقد كانت "سيرتا" مدينة نذرت للحب والحروب، تمارس إغراء التاريخ،وتتربّص بكل فاتح سبق أن ابتسمت له يوماً من علوّ صخرتها.

    كنسائها كانت تغريبالفتوحات الوهمية..

    ولكن لم يعتبر من مقابرها أحد!

    هنا أضرحةالرومان.. والوندال.. والبيزنطيين.. والفاطميين.. والحفصيين.. والعثمانيين.. وواحدوأربعين باياً تناوبوا علها قبل أن تسقط في يد الفرنسيين.

    هنا وقفت جيوشفرنسا سبع سنوات بأكملها على أبواب قسنطينة.

    فرنسا التي دخلت الجزائر سنة 1830، لم تفتح هذه المدينة الجالسة على صخرة، إلا سنة 1837، سالكة ممراً جبليا تركتفيه نصف جيشها، وتركت فيه قسنطينة خيرة رجالها.

    منذ ذلك اليوم، ولد أكثر منجسر حول تلك المدينة، وكثرت الطرقات المؤدية إليها.

    ولكن، كانت الصخرةدائماً أكبر من الجسور، لأنها تدري أن لا شيء تحت الجسور سوى الهاوية!

    ها هيمدينة تتربص بكل فاتح.. تلف نفسها بملاءتها السوداء وتخفي سرّها عن كلسائح.

    تحرسها الوهاد العميقة من كل جانب، تحرسها كهوفها السرية وأكثر منوليّ صالح، تبعثرت أضرحتهم على المنعرجات الخضراء تحت الجسور.

    هنا القنطرة.. أقرب جسر لبيتي ولذاكرتي. أعبرها تلقائيا وكأنني أرسمها، مشياً على الأقدام، بينالدوار المبهم والتذكار وكأنني أعبر حياتي، أجتاز العمر من طرف إلى آخر.

    كلشيء كان يبدو مسرعاً على هذا الجسر. السيارات والعابرون وحتى الطيور، وكأن شيئاً ماكان ينتظرهم على الطرف الآخر.

    ربما كان بعضهم يجهل آنذاك أن الذي يبحث عنه،قد يكون تركه خلفه، وأنه في الحقيقة، لا فرق بين طرفي الجسر. الفرق الوحيد هو ما فيفوقه.. وما تحته.

    تلك الهاوية المخيفة التي يفصلك عنها حاجز حديدي لا أكثر،والتي لا يتوقف أحد لبنظر إليها، ربما لأن الإنسان بطبعه لا يحب أن يتأمل الموت.. كثيرا.

    وحدي تستوقفني هذه الهاوية الموغلة في العمق.

    ترى لأننيأتيتها بأفكار مسبقة وذاكرة متوارثة؟ أم سلكت هذا الطريق، لأنفرد بهذه المدينة علىجسر؟


    ***



    هنالك حماقات يجب عدم ارتكابها، كأن تأخذ موعداً مع ذاكرتك على جسر.
    خاصة عندما تتذكر فجأة، تلك القصة التي نسيتها تماماً منذ سنين..
    قصة جدك البعيد الذي رمى بنفسه يوماً من جسر ربما كان هذا.. بعدما توعده أحد البايات بالقتل.. عندما جاءه خبر خيانته وتآمره عليه مع بعض وجهاء قسنطينة للإطاحة به. هو الذي كان مبعوثه ورسوله الخاص.. ورجل ثقته.

    كان جدّي يومها أضعف من أن يقف بمفرده في وجه ذلك الأمر القاطع بالقتل. وكان أيضاً أكبر من أن يُقاد ليقف بين يدي ذلك الباي ذليلاً..
    ولذا عندما أرسل الباي من يحضره إليه.. كان جدي جثة في هوة سحيقة كهذه، أسفل وادي الرمال، فقد رفض أن يمنح الباي شرف قتله.

    سمعت هذه القصة مرة واحدة من فم أبي، يوم سألته عن سر هذا الاسم الذي نحمله.

    يبدو أنه كان لا يحب رواية هذه الحادثة. فقد كان الانتحار في حدّ ذاته عاراً وكفراً في مجتمع قسنطيني متدين. ولهذا هاجرت عائلتنا بعد ذلك إلى غرب الجزائر مستبدلة باسم نكرة اسمها الأول. ولم تعد إلى قسنطينة إلا بعد جيل وأكثر، باسمٍ لمدينة أخرى.

    أعيد نظري إلى أسفل.
    ماذا تراني جئت أبحث هنا، في هذا الجسر المعلّق على ارتفاع مئة وسبعين متراً من جوف الأرض، والذي تعبره أسراب الغربان على عجل؟

    تراني أبحث عن بقايا جدّ ما، كان اسمه أحمد.. يقال إنه كان وسيماً وذا مالٍ وعلم كبير، وأنه رمى يوماً كل شيء من هنا.. ليترك حزنه وجرحه إرثاً لتلك العائلة.

    هذه هي قسنطينة..

    مدينة لا يهمها غير نظرة الآخرين لها، تحرص على صيتها خوفاً من القيل والقال الذي تمارسه بتفوق. وتشتري شرفها بالدم تارة.. والبُعد والهجرة تارة أخرى.

    تراها تغيّرت؟

    أذكر أنني سمعت وأنا شاب بعائلة غادرت قسنطينة فجأة إلى مدينة أخرى، بعدما شاع أن إحدى الأغاني التي ما يزال يغنّيها "الفرقاني" اليوم، قد نظمها أحدهم تغزّلاً في إحدى بناتها!
    ويظل السؤال.. ما الذي جئت أفعل هنا فوق هذا الجسر؟
    تراني على موعد مع ذاكرتي، أم فقط مع لوحتي في هذا الصباح؟
    ها أنا أقف أمامها اليوم دون فرشاة ولا ألوان، وبلا قلق أو خوف من مربّع القماش الأبيض.

    أنا لست خالقها في هذه اللحظة. لست رسّامها ولا مبدعها. أنا جزء منها. ويمكنني أن أصبح حتى جزءاً من تفاصيلها وتضاريسها.
    يمكنني أن أجتاز هذا الحاجز الحديدي الذي يفصلني
    █║S│█│Y║▌║R│║█




  • #67
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 258
    Array

    عنها،وكأنني أجتاز إطار لوحة.. كأنني أخترقها لأسكنها إلى الأبد.
    أتدحرج نحو هذاالوادي الصخري العميق نقطة بشرية، قطرة للونٍ ما.. على لوحةٍ أبدية، لمنظر أردت أنأرسمه.. فرسمني.
    أليست هذه أجمل نهاية لرسّام، أن يتوحد مع لوحته في مشهدواحد؟

    كنت أدري في تلك اللحظة وأنا أنظر إلى الوهاد العميقة تحتي، إلى تلكالأنفاق الصخرية التي يشطرها نهر الرمال ببطء زبديّ، أن "الهاوية الأنثى" كانتتستدرجني إلى العمق، في موت شبقيّ أخير، ربما كان فرصتي الأخيرة للتوحد الجسديّ معقسنطينة، ومع ذاكرة جدّ بدأت أشعر بتواطؤ غامض معه.

    ترى شهوة السقوط والتحطمهي التي أشعرتني عندئذٍ بالدوار، وأنا معلّق على ذلك الجسر وحدي؟

    وإذا بيأشعر فجأة بالخجل من هذه المدينة.. وأكاد أعتذر لها. وحدهم الغرباء هنا يشعرونبالدوار. فمتى بالتحديد وضعتني قسنطينة في خانتهم؟

    ورغم ذلك أعترف، أنني لمأكن يومها مستعداً للموت.

    ليس تمسكاً منيّ بالحياة. ولكن لأنني وصلت بذلكالحزن الجارف العميق الذي اجتاحني منذ وطئت هذه المدينة، إلى عاطفة غامضة متطرفةأخرى.

    لقد وصلت بمرارتي وخيبتي حد الطمأنينة والسعادة المبهمة.

    فلقدتعلّمت أن أسخر من استفزاز الأشياء لي، وأقابل تلك المواجهة مع الذاكرة بشيء منالتهكم المرّ.

    ألم آت هنا إثر قرارٍ جنوني، ربما بحثاً عن الجنون في مدينةتكاد تحترفه! ولذا بدأت أتلذّذ سراً بهذه اللعبة الموجعة، وأحرص على أن أعيش صدماتيبمازوشيّة متعمّدة. فربما كانت خيبتي اليوم مع هذه المدينة، هي منجم جنوني وعبقريتيالقادمة.

    وبرغم ذلك قررت فجأة أن أهرب من ذلك الجسر الذي كان بداية جنونييوماً.
    فجأة تطيّرت منه، أن الذي أولعت به طويلاً وحولته إلى ديكور لحياتي،بعدما أحطت نفسي بأكثر من نسخة منه.
    أيكون ذلك الإحساس جاءني، وأنا ألمح من حيثكنت تلك السفوح الجبلية التي كانت يوماً مرشوشة بشقائق النعمان.. وأزهار النرجسالمنثور بين الممرات الخضراء، والتي كان أهل قسنطينة يأتون إليها كل سنةلاستقبالالربيع.. محمّلين بما أعدّته النساء لتلك المناسبة من "براج" وحلويات وقهوة.. والتيتبدو اليوم حزينة، وكأن أزهارها غادرتها لسبب غامض؟

    أم تراه منظر مزار (سيديمحمد الغراب) الذي يعود فجأة إلى الذاكرة. وإذا بي أستعيد ما قرأته عنه مؤخراً فيكتاب تاريخي عن قسنطينة. فتعبرني قشعريرة غامضة.

    ماذا لو لاحقتني دون أنأدري اللعنة التي لاحقت صالح باي أكبر بايات قسنطينة على الإطلاق بسبب هذا الجسر؟هو الذي كان يريد أن يختم إنجازاته المعمارية الهائلة، وإصلاحاته المختلفة التيوهبها لتلك المدينة، بإصلاح جسر القنطرة، اللسان الترابي الوحيد الذي كان يربطالمدينة بالخارج، والجسر الوحيد الذي صمد من بين خمسة جسور رومانية.

    تقولأسطورة شعبية، إن هذا الجسر كان أحد أسباب هلاك (صالح باي) ونهايتهالمفجعة..

    فقد قتل فوقه (سيدي محمد)، أحد الأولياء الذين كانوا يتمتّعونبشعبية كبيرة. وعندما سقط رأس الرجل الولي على الأرض، تحول جسمه إلى غراب، وطارمتوجهاً نحو دار صالح باي الريفية التي كانت على تلك السفوح. ولعنه واعداً إياهبنهاية لا تقل قسوة ولا ظلماً عن نهاية الولي الذي قتله.

    فما كان من صالحباي إلا أن غادر بيته وأراضيه إلى الأبد، تطيّراً من ذلك الغراب، واكتفى بداره فيالمدينة.
    هكذا أطلق الناس على ذلك المكان اسم "سيدي محمد الغراب"، ليبقى بعدقرنين مزار المسلمين واليهود في قسنطينة، يأتونه في نهايات الأسبوع وفي المواسم،لقضاء أسبوع كامل يرتدون خلاله ثياباً وردية، يؤدون بها طقوساً متوارثة جيلاً عنجيل، فيقدّمون له ذبائح الحمام، ويستحمّون في المياه الدافئة لبركته الصخرية حيثكانت تستحمّ السلاحف، ويعيشون على شرب "العروق" لا غير، والاستسلام لنوبات رقصبدائية، في حلقات جماعية يؤدونها في الهواء الطلق.. على وقع بندير "الفقيرات".

    ولكن قسنطينة، لم تحقد على بايها الذي وهبها الكثير من الوجاهةوالرفاهية.
    سوّت فقط بطيبة أو بجنون.. بين القاتل والقتيل.

    صنعت من (سيديمحمد الغراب) أشهر مزار وليّ قسنطيني على الإطلاق، في مدينة يحمل كل شارع فيها اسموليّ.
    وخلّدت من بين واحد وأربعين باياً حكمها، اسم صالح باي وحده، فكتبت فيهأجمل أشعارها، وغنّت فجيعة موته في أجمل أغنية رثاء. ومازالت تلبس حداده حتى اليوممع ملاءات نسائها السوداء.. دون أن تدري!

    هذه هي قسنطينة..
    لا فرق بينلعنتها ورحمتها، لا حاجز بين حبّها وكراهيّتها، لا مقاييس معروفة لمنطقها.
    تمنحالخلود لمن تشاء، وتنزل العقاب بمن تشاء.
    فمن عساه يحاسبها على جنونها، ومن عساهيحسم موقفه منها، حباً أو كراهية.. إجراماً أو براءةً.. دون أن يعترف أنها تحمل فيكل الحالات ضدّها؟


    ***


    في كل يوم كنت أقضيه في تلك المدينة، كنت أتورط أكثر في ذاكرتها، فرحت أبحث في سهراتي مع حسان، وأحاديثنا الجانبية الطويلة، التي تمتد بنا أحياناً حتى ساعة متأخرة من الليل.. عن وصفة أخرى للنسيان.

    أبحث في ذلك الجو العائلي الذي افتقدته طويلاً عن طمأنينة أخرى خارج فضائها.
    كان لوجودي في ذلك البيت العائلي الذي أعرفه ويعرفني، تأثير على نفسيّتي في تلك الأيام. وربما كان سندي السريّ الذي لم أتوقّعه. لقد كنت أعود إليه كل ليلة، وكأنني أصعد نحو دهاليز طفولتي البعيدة، لأصبح جنيناً من جديد..

    أختبئ في جوف أمٍ وهمية، مازال مكانها هنا فارغاً منذ ثلاثين سنة.

    يحدث في تلك الليالي أن أذكر زياد، يوم أقام عندي لبضعة أشهر في الجزائر، عندما رفض مستأجره أن يجدّد له عقد إيجار البيت.

    تعوّدت وقتها أن أترك له سريري، وأنام على فراش آخر وضعته على الأرض في غرفة أخرى.
    وكان زياد يحتج ويشعر بشيء من الإحراج، معتقداً أنني أفعل ذلك مجاملة له.

    وكنت أوكّد له كل مرة، أنني اكتشفت بفضله أنني أسعد أكثر بالنوم على الأرض. فقد كان ذلك الفراش الأرضي يذكّرني بطفولتي وبنومي إلى جوار أمي لعدة سنوات، على ذلك المطرح الصوفي الذي ما زلت أذكر لونه الأزرق. بل وتلك الأيام التي كانت تخصّصها (أمّا) كل خريف، لغسل الصوف وتجديد تلك المطارح الصوفية التي كانت الأثاث الأساسي لغرفة نومي.

    تمنّيت لو طلبت من عتيقة أن تضع لي في المستقبل فراشاً على الأرض، تماماً كما تفعل مع أولادها الذين ينامون في الغرف الأخرى، على فراش أرضي مشترك يوحي بالدفء والرغبة بالانزلاق تحت أغطيته الصوفية الجميلة التي تثير غيرتي وحنيني لزمنٍ لم أعد أدري لبعده، إن كنت عشته حقاً.. أم تخيّلته.

    ولكن أيعقل أن أطلب هذا الطلب من عتيقة؟ هي التي أعطتني أجمل غرف بيتها، غرفة نومها العصرية المعدّة لاستقبال الضيوف، أكثر منها لقضاء ليالٍ زوجية.. للحب؟
    لو فعلت هذا فلربما أحرجتها، ولما وجدت تفسيراً لجنوني هذا. فقد كانت عتيقة تشارك أحياناً في سهرتنا، وتحاول أن تستنجد بي، بصفتي رجلاً متحضّراً قادماً من باريس، لأقنع أخي بالتخلي عن هذا البيت العربي القديم، وهذه الطريقة المتخلّفة في العيش. وتكاد تعتذر لي عن كل الأشياء التي كانت تبدو في نظري جميلة.. ونادرة.

    ولأنني لم أكن أملك القدرة على إقناعها برأيي، ولا الجرأة على معاكسة رأيها، كنت أكتفي بالاستماع إلى نقاشها مع حسان، ذلك النقاش الذي يكاد يتحول أحياناً إلى شجار قبل أن تنسحب هي إلى النوم، ويعلّق حسان شبه معتذر:

    "لا يمكن أن تقنع امرأة تشاهد مسلسل (دالاس) على التلفزيون، أن تسكن بيتاً كهذا وتحمد الله.. لا بد أن يوقفوا هذا المسلسل، ماداموا عاجزين عن منح الناس سكناً محترماً.. وحياة أفضل..".

    كنت أحسد قناعة حسان. وأعجب بفلسفته في الحياة.

    كان يقول: "لكي تكون سعيداً عليك أن تنظر إلى من تحتك. فإذا كان في يدك قطعة رغيف، ونظرت لمن ليس في يده شيء، ستسعد وتحمد الله. وأما إذا رفعت رأسك كثيراً ونظرت لمن في يدهم قطعة "كعك" فأنت لن تشبع، بل ستموت قهراً فقط.. وتتعس باكتشافك!".

    وهكذا ففي نظر حسان أن العيش في بيت كهذا برغم كل سلبياته التي تبدو أحياناً مزعجة، بتفاصيلها الصغيرة التي تجاوزها العصر، يظل أفضل مما يعانيه آلاف الناس. بل وعشرات الآلاف الذين لم يجدوا بيتاً واسعاً كهذا يسكنونه بمفردهم مع أولادهم وزوجتهم. بل كثيراً ما يتقاسمون مع أهلهم وأقاربهم، الشقة الضيقة التي تكون بيتاً لعائلتين لعدة سنوات.

    هكذا كان حسان..
    "لقد كانت نظرته إلى الأشياء نظرة عمودية، فقد تعلم كل ما تعلمه في صباه على سبورة بالحائط..".
    وكان سعيداً بتلك النظرة التي قد تعود أيضاً إلى عقليته كموظف محدود الدخل.. ومحدود الأحلام!
    فَبِمَ يمكن أن يحلم أستاذ للعربية يقضي يومه في شرح النصوص الأدبية، وسرد سيرة الكتّاب والشعراء القدامى على تلاميذه.. وتصحيح أخطائهم النحوية والإنشائية، ولا يجد متسعاً من الوقت _أو الجرأة_ لشرح ما كان يحدث أمامه، وتصحيح أخطاء أكبر ترتكب على مرأى منه باسم كلمات خرجت فجأة من اللغة، لتدخل قاموس الشعارات والمزايدات؟.
    كان في أعماق حسان مرارة غامضة تبدو على كل تفاصيل حياته. ولكنه كان يحتفظ بها لنفسه.

    من الواضح أنه كان متعباً وغارقاً في مشكلات أولاده الستّة وزوجته الشابة التي تحلم بحياة أخرى غير حياة قسنطينة المغلقة. وأما هو فلم يكن يجرؤ على الحلم، أو بالأحرى كان يحلم آنذاك بالعثور على شخص يتوسط له ليحصل على ثلاجة جديدة.. لا غير!

    عندما عرفت أمنيته البسيطة الصعبة، حزنت وأنا أكتشف أننا لم نكن متخلّفين عن أوربا وفرنسا فقط، كما كنت اعتقد، وإلا لهان الأمر.. وبدا منطقياً. لقد كنا متخلّفين عما كنّا عليه منذ نصف قرن وأكثر. يوم كنّا تحت الاستعمار.

    يومها كانت أمنياتنا أجمل.. وأحلامنا أكبر.


    █║S│█│Y║▌║R│║█




  • #68
    مشرف أخــبار متنوعة ( غريب جدا جرائم وحوادث طرائف ألخ) في كل أنحاء العالم
    الحالة : Don.Ayman غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: May 2010
    رقم العضوية: 1026
    الدولة: U.A.E - DUBAI
    العمل: محاسب
    المشاركات: 3,321
    الحالة الإجتماعية: اعزب
    معدل تقييم المستوى : 258
    Array

    يكفي أن تتأمل وجوه الناس اليوم وأن تسمع أحاديثهم وأن تلقي نظرة على واجهات المكتبات لتفهم ذلك.
    يومها كنّا وطناً يصدّر الأحلام.. مع كل نشرة أخبار إلى كل شعوب العالم.

    وكانت هذه المدينة بمفردها تصدّر من الجرائد والمجلات والكتب ما لا تصدّره اليوم المؤسسات الوطنية لا نوعاً.. ولا عداً.

    يومها كان لنا من المفكرين والعلماء.. والشعراء والظرفاء والكتاب، ما يملأنا زهواً وغروراً بعروبتنا.

    اليوم.. لم يعد أحد يشتري الجرائد ليحتفظ بها في خزانة، إذ لم يعد في الجرائد ما يستحق الحفظ.

    ولم يعد أحد يجلس إلى كتاب ليتعلّم منه شيئاً. لقد أصبح البؤس الثقافي ظاهرة جماعية، وعدوى قد تنتقل إليك وأنت تتصفّح كتاباً. " لقد كانت الكتب دائماً على صواب في ذلك العهد، وكان الواحد منّا فصيحاً يتكلم كما تتكلم الكتب..".

    واليوم أصبحت الكتب تكذب أيضاً.. مثلها مثل الجرائد. ولذا تقلّص صدقنا.. وماتت فصاحتنا، منذ أصبح حديثنا يدور فقط حول المواد الاستهلاكية المفقودة!

    عندما قلت يومها هذا الكلام لحسان، ظل يتأملني بذهول وكأنه اكتشف شيئاً لم ينتبه له من قبل.. ثم قال بشيء من الحسرة:

    - صحيح.. لقد خلقوا لنا أهدافاً صغيرة لا علاقة لها بقضايا العصر. وانتصارات فردية وهمية، قد تكون بالنسبة للبعض الحصول على شقة صغيرة بعد سنوات من الانتظار.. أو قد تكون الحصول على ثلاجة، أو التمكن من شراء سيارة.. أو حتى دواليبها فقط! ولا أحد عنده متسع من الوقت والأعصاب ليذهب أكثر من هذا، ويطالب بأكثر من هذا..

    نحن متعبون.. أهلكتنا هموم الحياة اليومية المعقّدة التي تحتاج دائماً إلى وساطة لحل تفاصيلها العادية. فكيف تريد أن نفكّر في أشياء أخرى، عن أيّ حياة ثقافية تتحدث؟ نحن همّنا الحياة لا غير.. وما عدا هذا ترف.. لقد تحولنا إلى أمة من النمل، تبحث عن قوتها وجحر تختبئ فيه مع أولادها لا أكثر..

    سألته بسذاجة:

    - وماذا يفعل الناس؟

    قال مازحاً:

    - الناس..؟ لا شيء.. البعض ينتظر.. والبعض يسرق.. والبعض الآخر ينتحر، هذه مدينة تقدم لك الاختيارات الثلاثة بالمبررات نفسها.. والحجة نفسها!

    يومها خفت على حسان من تلك المدينة.. وانتابتني فجأة قشعريرة مبهمة.

    سألته دون تفكير.. وكأنني أسأله أي الوصفات الثلاثة أختار:

    - وهل لك أصدقاء هنا تلتقي بهم.. وتخرج معهم؟

    أجابني وكأنه يعجب لسؤالي، أو يسعد لاهتمامي المفاجئ بكل تفاصيل حياته:

    - لي أصدقاء معظمهم مدرسون معي في الثانوية.. ما عدا هذا ليس لي أحد.. لقد فرغت قسنطينة من أهلها، ورحلت كل العائلات القديمة التي عرفناها.

    وراح يسرد عليّ أسماء عائلات كبيرة هاجرت أو راحت تستقر في العاصمة أو في الخارج، لتترك تلك المدينة لآخرين.. جاء معظمهم من القرى و المدن الصغيرة المجاورة.

    قبل أن يضيف تلك الجملة التي لم تستوقفني ساعتها، والتي أخذت بعد ست سنوات كل أبعاد القدر الأحمق، قال:

    - لقد أصبح سكان هذه المدينة الأصليون، لا يزورونها سوى في الأعراس.. أو في المآتم!

    وقبل أن أعلّق على كلامه، أضاف وكأنه تذكّر شيئاً:

    - سأعرفك على ناصر ابن سي الطاهر.. من المؤكد أنه سيأتي بعد غدٍ لحضور زواج أخته. سترى.. لقد أصبح رجلاً بطولك وبضخامتك، وهو يتردد عليّ منذ بضعة أشهر، منذ قرّر أن يستقر في قسنطينة. إنه الوحيد الذي قام بهجرة معاكسة. لقد رفض حتى منحة إلى الخارج.. تصور! لا أحد يصدّق هذا.. عندما سألته لماذا لم يسافر مثل الآخرين ويهرب من هذا البلد، قال لي: "أخاف إن سافرت ألا أعود أبداً.. كل أصحابي الذين سافروا لم يعودوا..".

    ضحكت وأنا أكتشف هذا التطرف الذي يذكّرني بك، وكأنه سمة عائلية. وشعرت برغبة في إطالة ذلك الحديث الذي كان يؤدي إليك بطريقة.. أو بأخرى..

    سألته:

    - وماذا يفعل الآن؟

    - لقد أعطوه بصفته ابن شهيد محلاً تجارياً وشاحنة يعودان عليه بدخل كبير. ولكنه مازال ضائعاً متردداً، يفكر أحياناً في مواصلة دراسته، ثم أحياناً أخرى في التفرّغ للتجارة. والحقيقة أنني عاجز عن نصحه. فمن المؤسف أن ينقطع إنسان عن دراسته العليا، لأنه سيظل يشعر بذلك النقص طوال حياته.. ومن ناحية أخرى، لم تعد تفيد الشهادات اليوم في شيء حسب قوله، وهو يرى شباباً بشهادات عليا عاطلين عن العمل، وآخرين جهلة يتنقّلون في سيارات مرسيدس ويسكنون فيلات فخمة.. ليس هذا زمناً للعلم.. إنه زمن الشّطارة.. فكيف يمكن أن تقنع اليوم صديقك أو حتى تلميذك بالتفاني في المعرفة؟. لقد اختلت المقاييس نهائياً..

    قلت لحسان:

    المهم أن يعرف الإنسان ما هو هدفه الحقيقي في الحياة.. هل المال هو مشكلته الأولى.. أم المعرفة وتوازنه الداخلي؟

    ردّ حسان مازحاً:

    - توازن..؟ عن أي توازن تتحدث.. نحن شعب نصف مختلّ. لا أحد فينا يدري ما يريد بالضبط.. ولا ماذا ينتظر بالتحديد.. إن المشكل الحقيقي هو هذا الجو الذي يعيشه الناس، وهذا الإحباط العام لشعبٍ بأكمله. إنه يفقدك شهية المبادرة والحلم والتخطيط لأي مشروع. فلا المثقفون سعداء.. ولا الجاهلون ولا البسطاء ولا الأغنياء. قل لي يرحم والديك.. ماذا يمكن أن تفعل بعلمك إذا كنت ستنتهي موظفاً يعمل تحت إشراف مدير جاهل، وُجِد في منصبه مصادفة ليس لسعة معرفته، وإنما.. لكثرة معارفه وعرض أكتافه.! وماذا يمكن أن تفعل بأموالك في قسنطينة مثلاً.. سوى أن تدفعها عمولة لتحصل على شقة غير صالحة للسكن في معظم الأحيان.. أو تقيم عرساً بها يغنّي فيه "الفرقاني"؟ أما إذا كان كل ما تملكه لا يتجاوز العشرين ألف دينار.. فيبقى أمامك أن تدفعها "شراب قهوة" لمسؤول محليّ يختبئ خلف أيّ موظّف آخر، ليبيع جوازات سفر إلى الحجّ. وهكذا يمكنك أن تؤدي فريضتك وتحجز لك غرفة صغيرة في الآخرة.. بعدما ضاقت بك الدنيا!

    صحت عجباً:

    - واش.. أحقاً تقول.. هل يبيعون جوازات سفر إلى الحج بمليونين!؟

    - طبعاً.. لأن الحكومة حددت عدد الحجاج كل عام بسبب تكاليفهم الباهظة بالعملة الصعبة، بعدما اكتشفت أن معظمهم يسافر عدة مرات لأسباب لا علاقة لها بالحج، وإنما لأغراض تجارية محض. وإلا كيف تفسر أن يكون بعضهم قد حج ست مرات أو سبعاً دون أن يكون ذلك واضحاً على سلوكه وأخلاقه؟ أنا أعرف حاجاً "سوكارجي" لا تفارق الخمرة بيته، وأعرف آخر متفرغاً للترافيك و"البزنيس".. وتغيير العملة الصعبة في الأسواق السوداء.. هؤلاء مازالوا يسافرون كل عام للحج. يمكنهم أن يحصلوا على عشرين ألف دينار بسهولة. وأما أنا فمن أين لي هذا المبلغ لأقوم بتأدية فريضتي، ودخلي لا يتجاوز الأربعة آلاف دينار في الشهر؟

    قلت له وأنا أنتقل من دهشة إلى أخرى:

    - علاش.. هل تنوي الحج؟

    - طبعاً.. ولم لا.. ألست مسلماً؟ لقد عدت إلى الصلاة منذ سنتين ولولا إيماني لأصبحت مجنوناً. كيف يمكن أن تصمد أمام كل هذا المنكر وهذا الظلم دون إيمان؟ وحدها التقوى تعطيك القدرة على الصمود.. انظر حولك: لقد توصّل جميع الناس إلى هذه النتيجة وربما الشباب أكثر من غيرهم لأنهم الضحية الأولى في هذا الوطن.. وحتى ناصر نفسه أصبح يصلّي منذ عاد إلى قسنطينة، ربما لهذا السبب وربما لأن الدين كالكفر.. عدوى أيضاً! والله يا خالد.. لو رأيتهم يوم الجمعة يتجهون إلى المساجد بالآلاف حتى تضيق بهم جدرانها.. وتفيض بهم الشوارع.. لوقفت معهم تصلي دون أن تتساءل لماذا!

    لم أجد شيئا أعلّق به على كلام حسان في تلك السهرة العجيبة، التي طالت بنا حتى الثانية صباحاً. فقد كان حسان سعيداً بوجودي، وسعيداً ببدء العطلة الصيفية التي تسمح له بالسهر والتحدث إليّ طويلاً بعد كل هذه السنوات التي باعدتنا.

    █║S│█│Y║▌║R│║█



  • صفحة 17 من 23 الأولىالأولى ... 71516171819 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. أحلام مستغانمي
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 07-06-2010, 02:28 AM
    2. أحلام الفتيات مابين سن 18- 25 والواقعية
      بواسطة روح الحلا في المنتدى ملتقى الحـــوار العام للمغتربين السوريينDialogue Discussion Forum
      مشاركات: 4
      آخر مشاركة: 05-30-2010, 12:13 AM
    3. تمارين لجمال وقوة عينيك
      بواسطة أحمد فرحات في المنتدى ملتقى المرأة السورية Syrian women forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-26-2010, 10:02 PM
    4. أحلام ثمنها العمر
      بواسطة En.muhammed manla في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 2
      آخر مشاركة: 05-11-2010, 12:13 AM
    5. نصائح لجمال ونظافة مطبخك
      بواسطة سارة في المنتدى ملتقى المطبخ والمأكولات والحلويات السورية Syrian food and sweets
      مشاركات: 1
      آخر مشاركة: 05-05-2010, 09:42 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1