وقال حماد عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال: أن لي معك حقا فقال: لا فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله واعن مسجد حيكوذكر هشام بن حسان عن ابن سيرين أن رجلا كان يصيب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها ففطن له شريح فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تقام فقال الرجل: أف أف وسلمت بغلته وإنما أراد: أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها
وقال الأعمش عن إبراهيم: إنه سئل عن الرجل يبلغه عن الرجل الشيء يقوله فيه فيسأله عنه فقال: قل: والله إن الله ليعلم ما من ذلك من شيء يعني بـ(ما) الذي
وقال عقبة بن المغيرة: كنا نأتي إبراهيم وهو خائف من الحجاج فكنا إذا خرجنا من عنده يقول: إن سئلتم عني وحلفتم فاحلفوا بالله ما تدرون أين أنا ولا لنا به علم ولا في أي موضع هو واعنوا أنكم لا تدرون أي موضع أنا فيه قائم أو قاعد وقد صدقتم
وجاءه رجل فقال: إني اعترضت على دابة فنفقت فأخذت غيرها ويريدون أن يحلفوني أنها الدابة التي اعترضت عليها فقال: اركبها واعترض عليها على بطنك راكبا ثم احلف أنها الدابة التي اعترضت عليها
وقال أبو عوانة عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاقبه في جارية له وبيده مروحة فقال: أشهدكم أنها لها فلما خرجنا قال: علام شهدتم قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة إنما قلت لكم: اشهدوا أنها لها وأنا أعني المروحة وقال محمد بن الحسن عن عمر بن ذر عن الشعبي: من حلف على يمين لا يستثنى فالبر والإثم فيها على علمه قلت: ما تقول في الحيل قال: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز وإنما الحيل شيء يتخلص به الرجل من الحرام ويخرج به إلى الحلال فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به وإنما نكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق لرجل حتى يبطله أو يحتال في باطل حتى يموهه أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة وأما ما كان على السبيل الذي قلنا فلا بأس بذلك
وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به وضع يده على ضرسه ثم قال: ضرسي ضرسي
ووجه الرشيد إلى شريك رجلا ليحضره فسأله شريك أن ينصرف ويدافع بحضوره ففعل فحبسه الرشيد ثم أرسل إليه رسولا آخر فأحضره وسأله عن تخلفه لما جاءه رسوله فحلف له بالأيمان المغلظة أنه ما رأى الرسول في اليوم الذي أرسله فيه وعنى بذلك الرسول الثاني فصدقه وأمر بإطلاق الرجل وأحضر الثوري إلى مجلس المهدي فأراد أن يقوم فمنع فحلف بالله أنه يعود فترك نعله وخرج ثم رجع فلبسها ولم يعد فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله
قالوا: وليس مذهب من مذاهب الأئمة المتبوعين إلا وقد تضمن كثيرا من مسائل الحيل
فأبعد الناس عن القول بها مالك وأحمد وقد سئل أحمد عن المروزي وهو عنده ولم يرد أن يخرج إلى السائل فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال: ليس المروزي ههنا وماذا يصنع المروزي ههنا !
وقد سئل أحمد عن رجل حلف بالطلاق: ليطأن امرأته في نهار رمضان فقال: يسافر بها ويطؤها في السفر
وقال صاحب المستوعب: وجدت بخط شيخنا أبي حكيم: حكى أن رجلا سأل أحمد عن رجل حلف أن لا يفطر في رمضان فقال له: اذهب إلى بشر بن الوليد فاسأله ثم ائتني فأخبرني فذهب فسأله فقال له بشر إذا أفطر أهلك فاقعد معهم ولا تفطر فإذا كان وقت السحر فكل واحتج بقول النبي هلم إلى الغداء المبارك فاستحسنه أحمد
قالوا: وقد علم الله سبحانه نبيه يوسف عليه السلام الحيلة التي توصل بها إلى أخذ أخيه بإظهار أنه سارق ووضع الصواع في رحله ولم يكن كذلك حقيقة لكن أظهر ذلك توصلا إلى أخذ أخيه وجعله عنده وأخبر الله سبحانه أن ذلك كيد كاده سبحانه ليوسف ليأخذ أخاه ثم أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك من العلم الذي رفع به درجات من يشاء وأن الناس متفاوتون فيه ففوق كلع ذي علم عليم
فصل
قال منكرو الحيل: الحيل ثلاثة أنواع:
نوع هو قربة وطاعة وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى
ونوع هو جائز مباح لا حرج على فاعله ولا على تاركه وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله متضمن لإسقاط ما أوجبه وإبطال ما شرعه وتحليل ما حرمه وإنكار السلف والأئمة وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع فإن الحيلة لا تذم مطلقا ولا تحمد مطلقا ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة
وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه
فإن الحيلة فعلة من الحول وهو التصرف من حال إلى حال وهي من ذوات الواو وأصلها حولة فسكنت الواو وانكسر ما قبلها فقلبت ياء كميزان وميقات وميعاد
قال في المحكم: الحول والحيل والحول والحولة والحيلة والحويل والمحالة والمحال والاحتيال والتحول والتحيل: كل ذلك: الحذق وجودة النظر والقدرة على وجه التصرف قال: والحول والحيل والحيلات: جمع حيلة ورجل حول وحولة وحول وحولة وحوالي وحوالي وحولول وحولي: شديد الاحتيال وما أحوله وأحيله وهو أحول منك وأحيل انتهى
فالحيلة: فعلة من الحول وهو التحول من حال إلى حال وكل من حاول أمرا يريد فعله أو الخلاص منه فما يحاول به: حيلة يتوصل بها إليه
فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية فإن كان المقصود أمرا حسنا كانت الحيلة حسنة وإن كان قبيحا كانت الحيلة قبيحة وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك وإن كانت معصية وفسوقا كانت الحيلة عليه كذلك
ولما قال النبي لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود وكل حيلة تتضمن إسقاط حقي لله تعالى أو لآدمي فهي مما يستحل بها المحارم
ونظير ذلك لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم فإن كان بحق فهو محمود وإن كان بباطل فهو مذموم
ومن النوع المحمود: قوله الحرب خدعة وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها ورجل كذب بين اثنين ليصلح بينهما ورجل كذب في خدعة حرب ومن النوع المذموم: قوله في حديث عياض بن حمار الذي رواه مسلم في صحيحه: أهل النار خمسة ذكر منهم رجلا لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك
وقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. وقوله تعالى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله.
ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشرف وأبي رافع، عدوَّي رسول الله حتى قتلا وقتل خالد بن سفيان الهذلي
ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبي معبد الخزاعي لأبي سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين وردهم من فورهم
ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعي ليهود بني قريظة ولكفار قريش والأحزاب حتى ألقى الخلف بينهم وكان سبب تفرقهم ورجوعهم ونظائر ذلك كثيرة
وكذلك المكر ينقسم إلى محمود ومذموم فإن حقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده
فمن المحمود: مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم قال تعالى: ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وقال تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون.
وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين قال تعالى: وأملي لهم إن كيدي متين. وقال تعالى: كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله. وقال تعالى: إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا.
فصل
إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولا أو فعلا مقصوده به مقصود صالح وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره أو إبطال حيلة محرمة
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له فيصير مخادعا لله تعالى ورسوله كائدا لدينه ماكرا بشرعه فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة
وهذا ضد الذي قبله فإن ذلك مقصوده التوصل إلى إظهار دين الله تعالى ودفع معصيته وإبطال الظلم وإزالة المنكر فهذا لون وذاك لون آخر
ومثال ذلك: التأويل في اليمين فإنه نوعان: نوع لا ينفعه ولا يخلصه من الإثم وذلك إذا كان الحق عليه فجحده ثم حلف على إنكاره متأولا فإن تأويله لا يسقط عنه إثم اليمين الغموس والنية للمستحلف في ذلك باتفاق المسلمين بل لو تأول من غير حاجة لم ينفعه ذلك عند الأكثرين
وأما المظلوم المحتاج فإنه ينفعه تأويله ويخلصه من الإثم وتكون اليمين على نيته فإذا استحلفه ظالم بأيمان البيعة أو أيمان المسلمين فتأول الأيمان بجمع يمين وهي اليد أو حلفه بأن كل امرأة له طالق فتأول أنها طالق من وثاق أو طالق عند الولادة أو طالق من غيري ونحو ذلك
أو استحلفه بأن كل مملوك له حر أو عتيق فتأول أنه عتيق أو كريم من قولهم: فرس عتيق
أو استحلفه بأن تكون امرأته عليه كظهر أمه فتأول ظهر أمه بمركوبها فإن ضيق عليه وألزمه أن يقول: إنه مظاهر من امرأته تأول بأنه قد ظاهر بين ثوبين أو جبتين من عند امرأته
وإن استحلفه بالحرام تأول أن الحرام الذي حرمه الله تعالى عليه يلزمه تحريمه فإن ضيق عليه بأن يلزمه أن يقول: الحرام يلزمني من زوجتي أو أن تكون علي حراما قيد ذلك بنية: إذا أحرمت أو صامت أو قامت إلى الصلاة ونحو ذلك
وإن استحلفه بأن كل ماله أو كل ما يملكه صدقة تأول بأنه صدقة من الله سبحانه وتعالى عليه
وإن قال له: قل: وأن جميع ما أملكه: من دار وعقار وضيعة وقف على المساكين تأول الفعل المضارع بما يملكه في المستقبل بعد كذا وكذا سنة
فإن ضيق عليه وقال قل: جميع ما هو جار في ملكي الآن نوى إضافة الملك إلى الآن لا إلى نفسه والآن لا يملك شيئا فإن قال: مما هو في ملكي في هذا الوقت يكون وقفا أخرج معنى لفظ الوقف عن المعهود إلى معنى آخر والعرب تسمي سواء العاج وقفا
وإن استحلفه بالمشي إلى بيت الله نوى مسجدا من مساجد المسلمين
فإن قال قل: علي الحج إلى بيت الله نوى بالحج القصد إلى المسجد فإن قال: إلى البيت العتيق نوى المسجد القديم فإن قال: البيت الحرام نوى الحرام هدمه واتخاذه دارا أو حماما ونحو ذلك
وإن استحلفه بالأمانة نوى بها الوديعة أو اللقطة ونحو ذلك
وإن استحلفه بصوم سنة نوى بالصوم الإمساك عن كلام يمكنه الإمساك عنه سنة أو دائما
هذا كله في المحلوف به وأما المحلوف عليه فيجري هذا المجرى
فإذا استحلفه: ما رأيت فلانا نوى ما ضربت رئته أو ما كلمته نوى ما جرحته أو ما عاشرته ولا خالطته نوى بالمعاشرة والمخالطة معاشرة الزوجة والسرية أو ما بايعته ولا شاريته نوى بذلك ما بايعته بيعة اليمين ولا شاريته من المشاراة وهي اللجاج أو الغضب تقول: شري على مثال علم إذا لج واستشاط غضبا
وإن استحلفه لصك أنه لا يدل عليه ولا يعلم به ولا يخبر به أحدا نوى أنه لا يفعل ذلك ما دام معه وإن ضيق عليه وقال: ما عاش أو ما بقي أو ما دام في هذه البلدة نوى قطع الظرف عما قبله وأن لا يكون متعلقا به أو نوى بما: الذي أي لا أدل عليك الذي عاش أو بقي بعد أخذك
وإن استحلفه أن لا يطأ زوجته نوى وطأها برجله
وإن استحلفه أن لا يتزوج فلانة نوى أن لا يتزوجها نكاحا فاسدا
وكذلك إذا استحلفه أن لا يبيع كذا أو لا يشتريه أو لا يؤجره ونحو ذلك
وكذلك إذا استحلفه أن لا يدخل هذه الدار أو البلد أو المحلة قيد الدخول بنوع معين بالنية
وكذلك لو استحلفه: أنك لا تعلم أين فلان نوى مكانه الخاص من داره أو بلده أو سوقه
ولو استحلفه: أنه ليس عنده في داره نوى أنه ليس عنده إذا خرج من الدار فإن ضيق عليه وقال: الآن نوى أنه ليس حاضرا معه الآن وقد بر وصدق
وإن استحلفه ليس لي به علم نوى أنه ليس لي علم بسره وما ينطوي عليه وما يضمره أو ليس لي علم به على جهة التفصيل فإن هذا لا يعلمه إلا الله سبحانه وحده
فصل
وللمظلوم المستحلف مخرجان يتخلص بهما: مخرج بالتأويل حال الحلف فإن فاته فله مخرج يتخلص به بعده إن أمكنه كما إذا استحلفه قطاع الطريق أو اللصوص أن لا يخبر بهم أحدا فالحيلة في ذلك أن يجمع الوالي المتهمين ثم يسأله عن واحد واحد فيبرىء البرىء ويسكت عن المتهم وهذا المخرج أضيق من الأول
فإذا استحلفه ظالم أن لا يشكو غريمه ولا يطالبه بحقه فحلف ولم يتأول أحال عليه بذلك الحق من يطالبه به ولم يحنث في يمينه
وإذا استحلفه ظالم أن يبيعه شيئا فله أن يملكه زوجته أو ولده فإذا باعه بعد ذلك كان قد بر في يمينه ويمنع من تسليمه من ملكه إياه
فصل
وللحيل التي يتخلص بها من مكر غيره والغدر به أمثلة المثال
الأول: إن استأجر منه أرضا أو بستانا أو دارا سنين ثم لا يأمن من مكره إذا صلحت الأرض والبستان بنوع من أنواع المكر والغدر ولو لم يكن إلا بأن يدعي أن أجرة المثل في هذه الحال أكثر مما سمى فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يسمي لكل سنة أجرا معلوماويجعل أجرة السنين المتأخرة معظم الأجرة وأقلها للسنين الأول فلا يسهل عليه المكر بعد ذلك
وعكسه إذا خاف المؤجر مكر المستأجر وغدره في المستقبل جعل معظم الأجرة في السنين الأول وأقلها في الأواخر
المثال الثاني: أن يخاف المؤجر غيبة المستأجر فلا يتمكن من مطالبة امرأته بالأجرة ولا من إخراجها
فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يؤجرها رب الدار من المرأة فإن دخل عليه تعذر مطالبتها بالأجرة ضمن الزوج الأجرة أو أخذ بها رهنا فإن كان قد أجرها من الزوج وخاف غيبته أشهد على إقرار المرأة أن الدار له وأنها في يدها بحكم إجارة الزوج إلى مدة كذا وكذا وإن كفل المرأة وقت العقد أنها ترد إليه الدار عند انقضاء المدة نفعه ذلك
المثال الثالث: أن يخاف المستأجر أن يزاد عليه في الأجرة ويفسخ عقده إما بكون العين المؤجرة وقفا عند من يرى ذلك أو يتحيل عليه حتى يبطل عقده
فالحيلة في أمنه وتخليصه: أن يسمى للأجرة أكثر مما اتفقا عليه ثم يصارفه عليه بقدر المسمى ويدفعه إليه ويشهد عليه أنه قبض المسمى الذي وقع عليه العقد فإذا مكر به وطلب فسخ عقده طالبه بما قبضه من المسمى هذا إذا تعذر عليه رفع تلك الإجارة إلى حاكم يحكم بلزومها وعدم فسخها للزيادة
المثال الرابع: أن يخاف أن يؤجره ما لا يملك فيأبى المالك ويفسخ العقد ويرجع عليه بالأجرة فالحيلة في تخليصه: أن يضمن المؤجر درك العين المستأجرة وإن ضمن من يخاف منه الاستحقاق ومطالبته كان أقوى
المثال الخامس: أن يخاف فلس المستأجر ولم يجد من يضمنه الأجرة
فالحيلة في فسخه: أن يشهد عليه في العقد أنه متى تعذر عليه القيام بأجرة شهر أو سنة فله الفسخ ويصح هذا الشرط ولو لم يشرط ذلك فإنه يملك الفسخ عند تعذر قبض أجرة ذلك الشهر أو السنة ويكون حدوث الفلس عيبا في الذمة يتمكن به من الفسخ كما يكون حدوث العيب في العين المستأجرة مسوغا للفسخ وهذا ظاهر إذا سمى لكل شهر أو سنة قسطا معلوما ولا يعين مقدار المدة بل يقول آجرتك كل سنة بكذا أو كل شهر بكذا تقوم لي بالأجرة في أول الشهر أو السنة فإن أفلس قبل مضي شيء من المدة ملك المؤجر الفسخ وإن أفلس بعد مضي شيء منها فهل يملك الفسخ على وجهين:
أحدهما: لا يملكه لأن مضي بعضها كتلف بعض المبيع وهو يمنع الرجوع
والثاني: يملكه وهو قول القاضي وهو الصحيح لأن المنافع إنما تملك شيئا فشيئا بخلاف الأعيان فإنها تملك في ان واحد فيتعذر تجدد العقد عند تجدد المنافع
المثال السادس: إذا خاف المستأجر أن تنهدم الدار فيعمرها فلا يحتسب له المؤجر بما أنفق في ذلك
فالحيلة في ذلك: أن يقول وقت العقد: وأذن المؤجر للمستأجر أن يعمر ما تحتاج الدار إلى عمارته من أجرتها ويقدر لذلك قدرا معلوما فيقول مثلا: بمائة فما دونها أو يقول: من عشرة إلى مائة فإن لم يفعل ذلك واحتاجت إلى عمارة لا يتم الانتفاع إلا بها أشهد على ذلك وعلى ما أنفق عليها وأنه غير متبرع به وحسب له من الأجرة
وكذلك إذا استأجر منه دابة واحتاجت إلى علف وخاف أن لا يحتسب له به المؤجر فعل مثل ذلك
فإن قال: أذنت لك أن تنفق على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فادعى قدرا وأنكره المؤجر فالقول قول المؤجر
والحيلة في قبول قول المستأجر: أن يسلف رب الدار ما يعلم أنها تحتاج إليه من العمارة ويشهد عليه بقبضه من الأجرة ثم يدفعه إليه ويوكله أن ينفق منه على الدار أو الدابة ما تحتاج إليه فالقول حينئذ قوله لأنه أمين
فإن خاف المؤجر أن يستهلك المستأجر المال الذي قبضه ويقول: إنه تلف وهو أمانة فلا يلزمني ضمانه فالحيلة في أمنه من ذلك: أن يقرضه إياه ويجعله في ذمته ثم يوكله أن ينفق على العين ما تحتاج إليه من ذلك
المثال السابع: إذا آجره دابة أو دارا مدة معلومة وخاف أن يحبسها عنه بعد انقضاء المدة فطريق التخلص من ذلك: أن يقول: فإذا انقضت المدة فأجرتها بعد لكل يوم دينار أو نحوه فلا يسهل عليه حبسها بعد انقضاء المدة
المثال الثامن: إذا كان له عليه دين فقال: اشتر له به كذا وكذا ففعل لم يبرأ من الدين بذلك لأنه لا يكون مبرئا لنفسه من دين الغير بفعله
وطريق التخلص: أن يشهد على إقرار رب الدين أن من عليه الدين برىء منه بعد شرائه لمستحقه كذا وكذا والقياس أنه يبرأ بالشراء وإن لم يفعل ذلك لأنه بتوكيله له قد أقامه مقام نفسه فكما قام مقامه في التصرف قام مقامه في الإبراء فهو لم يبرأ بفعل نفسه لنفسه وإنما برىء بفعله لموكله القائم مقام فعل الموكل المثال التاسع: إذا أراد أن يستأجر إلى مكان بأجرة معلومة فإن لم يبلغه وأقام دونه فالأجرة كذا وكذا فقالوا: لا يصح العقد لأنا لا نعلم على أي المسافتين وقع العقد
قالوا: والحيلة في تصحيحه: أن يسمي للمكان الأقرب أجرة ثم يسمي منه إلى المكان الأبعد أجرة أخرى فيقول مثلا: آجرتك إلى الرملة بمائة ومن الرملة إلى مصر بمائة لكن لا يأمن المستأجر مطالبة المؤجر له بالأجرة إلى المكان الأقصى ويكون قد أقام في المكان الأقرب فالحيلة في تخلصه: أن يشترط عليه الخيار في العقد الثاني إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه ويصح اشتراط الخيار في عقد الإجارة إذا كانت على مدة لا تلي العقد والقياس يقتضي صحة الإجارة على أنه إن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائة وإن وصل إلى مكان كذا وكذا فالأجرة مائتان ولا غرر في ذلك ولا جهالة
وكذا إذا قال: إن خطت هذا الثوب روميا فلك درهم وإن خطته فارسيا فلك نصف درهم فإن العمل إنما يقع على وجه واحد
وكذلك قطع المسافة فإنه إما أن يقطع القريبة أو البعيدة فلا يشبه هذا قوله: بعتكه بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة فإنه إذا أخذه لا يدري بأي الثمنين أخذ فيقع التنازع ولا سبيل لنا إلى العلم بالمعين منهما بخلاف عقد الإجارة
فإن استيفاء المعقود عليه لا يقع إلا معينا فيجب أجرة عمله
المثال العاشر: إذا زرع أرضه ثم أراد أن يؤجرها والزرع قائم لم يجز لتعذر انتفاع المستأجر بالأرض
وطريق تصحيحها: أن يؤجره يبيعه الزرع ثم يؤجر الأرض فإن أحب بقاء الزرع على ملكه قدر لكماله مدة معينة ثم أجره الأرض بعد تلك المدة إجارة مضافة فإن خاف أن يفسخ عليه العقد حاكم يرى بطلان هذه الإجارة فالحيلة: أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض فإذا تم العقد اشترى منه الزرع فعاد الزرع إلى ملكه وصحت الإجارة المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يؤجر الأرض على أن خراجها على المستأجر لم يصح
لأن الخراج تابع لرقبة الأرض فهو على مالكها لا على المنتفع بها: من مستأجر أو مستعير
وطريق الجواز: أن يؤجره إياها بأجرة زائدة على أجر مثلها بقدر خراجها ثم يشهد عليه أنه قد أذن للمستأجر أن يدفع من أجرة الأرض في الخراج كل سنة كذا وكذا
وكذلك لو استأجر دابة على أن يكون علفها على المستأجر لم يصح وطريق الحيلة: أن يستأجرها بشيء مسمى ثم يقدر له ما تحتاج إليه الدابة ويوكله في إنفاقه عليها
والقياس يقتضي صحة العقد بدون ذلك فإنا نصحح استئجار الأجير بطعامه وكسوته كما أجر موسى عليه السلام نفسه بعفة فرجه وشبع بطنه فكذلك يجوز إجارة الدابة بعلفها وكما يجوز أن يكون علفها جميع الأجرة يجوز أن يكون بعض الأجرة والبعض الآخر شيء مسمى
المثال الثاني عشر: لا تجوز إجارة الأشجار لأن المقصود منها الفواكه وذلك بمنزلة بيعها قبل بدوها
قالوا: والحيلة في جوازه: أن يؤجره الأرض ويساقيه على الشجر بجزء معلوم
قال شيخ الإسلام: وهذا لا يحتاج إليه بل الصواب جواز إجارة الشجر كما فعل عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بحديقة أسيد بن حضير فإنه آجرها سنين وقضى بها دينه
قال: وإجارة الأرض لأجل ثمرها بمنزلة إجارة الأرض لمغلها فإن المستأجر يقوم على الشجر بالسقي والإصلاح والذيار في الكرم حتى تحصل الثمرة كما يقوم على الأرض بالحرث والسقي والبذر حتى يحصل المغل فثمرة الشجر تجري مجرى مغل الأرض
فإن قيل: الفرق بين المسألتين: أن المغل من البذر وهو ملك المستأجر والمعقود عليه الانتفاع بإيداعه في الأرض وسقيه والقيام عليه بخلاف استئجار الشجر فإن الثمرة من الشجرة وهي ملك المؤجر
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا لا تأثير له في صحة العقد وبطلانه وإنما هو فرق عديم التأثير
الثاني: أن هذا يبطل باستئجار الأرض لكلئها وعشبها الذي ينبته الله سبحانه وتعالى بدون بذر من المستأجر فهو نظير ثمرة الشجرة
الثالث: أن الثمرة إنما حصلت بالسقي والخدمة والقيام على الشجرة فهي متولدة من عمل المستأجر ومن الشجرة فللمستأجر سعي وعمل في حصولها
الرابع: أن تولد الزرع ليس من البذر وحده بل من البذر والتراب والماء والهواء فحصول الزرع من التراب الذي هو ملك المؤجر كحصول الثمرة من الشجرة والبذرفي الأرض قائم مقام السقي للشجرة فهذا أودع في أرض المؤجر عينا جامدة وهذا أودع في شجرة عينا مائعة ثم حصلت الثمرة من أصل هذا وماء المستأجر وعمله كما حصل العمل من أرض هذا وبذر المستأجر وعمله وهذا من أصح قياس على وجه الأرض
وبه يتبين أن الصحابة أفقه الأمة وأعلمهم بالمعاني المؤثرة في الأحكام ولم ينكر أحد من الصحابة على عمر رضي الله عنه فهو إجماع منهم
ثم إن هذه الحيلة التي ذكرها هؤلاء تتعذر غالبا إذا كان البستان ليتيم أو وقفا فإن المؤجر ليس له أن يحابي في المساقاة حينئذ ولا يخلص من ذلك محاباة المستحق في أجارة الأرض فإنه إذا أربحه في عقد لم يجز له أن يخسره في عقد آخر ولا يخلص من ذلك اشتراط عقد في عقد بأن يقول: إنما أساقيك على جزء من ألف جزء بشرط أن أؤجرك الأرض بكذا وكذا فإن هذا لا يصح فعلى ما فعله الصحابة وهو مقتضى القياس الصحيح لا يحتاج إلى هذه الحيلة وبالله التوفيق
المثال الثالث عشر: إذا اشترى دارا أو أرضا وخاف أن تخرج وقفا أو مستحقة فتؤخذ منه هي وأجرتها فالحيلة: أن يضمن البائع أو غيره درك المبيع وأنه ضامن لما غرمه المشتري من ذلك ويصح ضمان الدرك حتى عند من يبطل ضمان المجهول وضمان ما لم بجب للحاجة إلى ذلك فإن ضمن من يخاف استحقاقه: كان أقوى فإن خاف أن يظهر استحقاق على وارثه بعد موته ضمن الدرك ورثة البائع أو ورثه من يخاف استحقاقه إن أمكنه فإن كان على ثقة أنه متى استحق عليه المبيع رجع بثمنه ولكن يغرم قيمة المنفعة وهي أجرة المثل لمدة استيلائه على العين وهذا قول ضعيف جدا فإن المشتري إنما دخل على أن يستوفي المنفعة بلا عوض والعوض الذي بذله في مقابلة العين لا للانتفاع فإلزامه بالأجرة إلزام بما لا يلتزمه وكذلك نقول في المستعير: إذا استحقت العين لم يلزمه عوض المنفعة لأنه إنما دخل على أن ينتفع مجانا بلا عوض بخلاف المستأجر فإنه التزم الانتفاع بالعوض ولكن لا يلزمه إلا المسمى الذي دخل عليه
وكذلك الأمة المشتراة إذا وطئها ثم استحقت لم يلزمه المهر لأنه دخل على أن يطأها مجانا بخلاف الزوج فإنه دخل على أن الوطءفي مقابلةالمهر ولكن لا يلزمه إذا استحقت إلا المسمى وعلى هذا فليس للمستحق أن يطالب المغرور لأنه معذور غير ملتزم للضمان وهو محسن غير ظالم فما عليه من سبيل وهذا هو الصواب فإن طالبه على القول الآخر رجع على من غره بما لم يلتزم ضمانة خاصة ولا يرجع عليه بما التزم غرامته
فإذا غرم المودع أو المتهب قيمة العين والمنفعة رجع على الغار بهما وإذا غرم المستأجر ذلك رجع بقيمة العين دون قيمة المنفعة إلا أنه يرجع بالزائد على المسمى حيث لم يلتزم ضمانه وإذا ضمن وهو مشتر أو مستعير قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين لكنه يرجع بما زاد على الثمن المسمى
والمقصود: أن هذا المشتري متى خاف أن يطالب بقيمة المنفعة إذا استحق عليه المبيع فالحيلة في تخلصه من ذلك: أن يستأجر منه الدار أو الأرض سنين معلومة بأجرة مسماة ثم يشتريها منه بعد ذلك ويشهد عليه أنه أقبضه الأجرة فمتى استحقت العين وطولب بعوض المنفعة طالب هو المؤجر بما قبضه من الأجرة لما ظهرت الإجارة باطلة
المثال الرابع عشر: إذا وكله أن يزوجه امرأة معينة أو يشتري له جارية معينة ثم خاف الموكل أن تعجب وكليه فيتزوجها أو يشتريها لنفسه فطريق التخلص من ذلك في الجارية، أن يقول له: ومتى اشتريتها لنفسك فهي حرة ويصح هذا التعليق والعتق وأما الزوجة: فمن صحح هذا التعليق فيها كمالك وأبي حنيفة نفعه وأما على قول الشافعي وأحمد فإنه لا ينفعه
فطريق التخلص: أن يشهد عليه أنها لا تحل له وأن بينهما سببا يقتضي تحريمها عليه وأنه متى نكحها كان نكاحه باطلا
فإن أراد الوكيل أن يتزوجها أو يشتريها لنفسه ولا يأثم فيما بينه وبين الله تعالى فالحيلة: أن يعزل نفسه عن الوكالة ثم يعقد عليها لنفسه ولو عقد عليها لنفسه كان ذلك عزلا لنفسه عن الوكالة
فإن خاف أن لا يتم له ذلك بأن يرفعه إلى حاكم حنفي يرى أنه لا يملك الوكيل عزل نفسه في غيبة الموكل فأراد التخلص من ذلك فالطريق في ذلك: أن يشتريها لنفسه بغير جنس ما أذن له فيه فإنه إذا اشتراها لنفسه بجنس ما أذن له فيه تضمن ذلك عزل نفسه في غيبة موكله وهو ممتنع فإذا اشتراها بغير الجنس حصل الشراء له ولم يكن ذلك عزلا
المثال الخامس عشر: إذا وكله في بيع جارية ووكله آخر في شرائها فإن قلنا: الوكيل يتولى طرفي العقد جاز إن يكون بائعا مشتريا لهما وإن منعنا ذلك فالطريق: أن يبيعها لمن يستوثق منه أن يشتريها منه ثم يشتريها لموكله فإن خاف أن لا يفي له المشتري الذي توثق منه فالحيلة أن يبيعه إياها بشرط الخيار فإن وفى له بالبيع وإلا كان متمكنا من الفسخ
المثال السادس عشر: لا يملك خلع ابنته بصداقها فإن ظهرت المصلحة في ذلك لها فالطريق: أن يتملكه عليها ثم يخلعها من زوجها به فيكون قد اختلعها بماله والصحيح: أنه لا يحتاج إلى ذلك بل إذا ظهرت المصلحة في افتدائها من الزوج بصداقها جاز ذلك وكان بمنزلة افتدائها من الأسر بمالها وربما كان هذا خيرا لها
المثال السابع عشر: إذا وكله أن يشتري له متاعا فاشتراه ثم أراد أن يبعث به وإليه فخاف أن يهلك فيضمنه الوكيل فطريق التخلص من ذلك: أن يستأذن الوكيل أن يعمل في ذلك برأية ويفوض إليه ذلك فإذا أذن له فبعث به فتلف لم يضمنه
المثال الثامن عشر: إذا أراد أن يسلم وعنده خمر أو خنازير وأراد أن لا يتلف عليه فالحيلة: أن يبيعها لكافر قبل الإسلام ثم يسلم ويكون له المطالبة بالثمن سواء أسلم المشتري أو بقي على كفره نص على هذا أحمد في مجوسي باع مجوسيا خمرا ثم أسلما يأخذ الثمن الذي قد وجب له يوم باعه
المثال التاسع عشر: إذا كان له عصير فخاف أن يتخمر فلا يجوز له بعد ذلك أن يتخذه خلا فالحيلة: أن يلقي فيه أولا ما يمنع تخمره فإن لم يفعل حتى تخمر وجب عليه إراقته ولم يجز له حبسه حتى يتخلل فإن فعل لم يطهر لأن حبسه معصية وعوده خلا نعمة فلا تستباح بالمعصية
المثال العشرون: إذا كان له على رجل دين مؤجل وأراد رب الدين السفر وخاف أن يتوى ماله أو احتاج إليه ولا يمكنه المطالبة قبل الحلول فأراد ان يضع عن الغريم البعض ويعجل له باقيه فقد اختلف السلف والخلف في هذه المسألة فأجازها ابن عباس وحرمها ابن عمر وعن أحمد فيها روايتان أشهرهما عنه: المنع وهي اختيار جمهور أصحابه والثانية: الجواز حكاها ابن أبي موسى وهي اختيار شيخنا
وحكى ابن عبد البر في الاستذكار ذلك عن الشافعي قولا وأصحابه لا يكادون يعرفون هذا القول ولا يحكونه وأظن أن هذا إن صح عن الشافعي فإنما هو فيما إذا جرى ذلك بغير شرط بل لو عجل له بعض دينه وذلك جائز فأبرأه من الباقي حتى لو كان قد شرط ذلك قبل الوضع والتعجيل ثم فعلاه بناء على الشرط المتقدم صح عنده لأن الشرط المؤثر في مذهبه: هو الشرط المقارن لا السابق وقد صرح بذلك بعض أصحابه والباقون قالوا: لو فعل ذلك من غير شرط جاز ومرادهم الشرط المقارن
وأما مالك فإنه لا يجوزه مع الشرط ولا بدونه سدا للذريعة وأما أحمد فيجوزه في دين الكتابة وفي غيره عنه روايتان واحتج المانعون بالآثار والمعنى
أما الآثار: ففي سنن البيهقي عن المقداد بن الأسود قال: أسلفت رجلا مائة دينار ثم خرج سهمي في بعث بعثه رسول الله فقلت له: عجل تسعين دينارا وأحط عشرة دنانير فقال: نعم فذكرت ذلك لرسول الله فقال: أكلت ربا مقداد وأطعمته وفي سنده ضعف
وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه: قد سئل عن الرجل له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه ويعجل له الآخر فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه
وصح عن أبي المنهال أنه سأل ابن عمر رضي الله عنهما فقال: لرجل علي دين فقال لي: عجل لي لأضع عنك قال: فنهاني عنه وقال: نهى أمير المؤمنين يعني عمر أن يبيع العين بالدين
وقال أبو صالح مولى السفاح واسمه عبيد: بعت برا من أهل السوق إلى أجل ثم أردت الخروج إلى الكوفة فعرضوا علي أن أضع عنهم وينقدوني فسألت عن ذلك زيد بن ثابت فقال: لا آمرك أن تأكل هذا ولا تؤكله رواه مالك في الموطأ
وأما المعنى: فإنه إذا تعجل البعض وأسقط الباقي فقد باع الأجل بالقدر الذي أسقطه وذلك عين الربا كما لو باع الأجل بالقدر الذي يزيده إذا حل عليه الدين فقال: زدني في الدين وأزيدك في المدة فأي فرق بين أن تقول: حط من الأجل وأحط من الدين أو تقول: زد في الأجل وأزيد في الدين
قال زيد بن أسلم: كان ربا الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحق إلى أجل فإذا حل الحق قال له غريمه: أتقضي أم تربي فإن قضاه أخذه وإلا زاذه في حقه وأخر عنه في الأجل رواه مالك
وهذا الربا مجمع على تحريمه وبطلانه وتحريمه معلوم من دين الإسلام كما يعلم تحريم الزنى واللواطة والسرقة
قالوا: فنقص الأجل في مقابلة نقص العوض كزيادته في مقابلة زيادته فكما أن هذا ربا فكذلك الآخر
قال المبيحون: صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لا يرى بأسا أن يقول: أعجل لك وتضع عني وهو الذي روى أن رسول الله لما أمر بإخراج بني النضير من المدينة جاءه ناس منهم فقالوا: يا رسول الله إنك أمرت بإخراجهم ولهم على الناس ديون لم تحل فقال النبي : ضعوا وتعجلوا قال أبو عبد الله الحاكم: هو صحيح الإسناد
قلت: هو على شرط السنن وقد ضعفه البيهقي وإسناده ثقات: وإنما ضعف بمسلم بن خالد الزنجي وهو ثقة فقيه روى عنه الشافعي واحتج به وقال البيهقي: باب من عجل له أدنى من حقه قبل محله فوضع عنه طيبةبه أنفسهما وكأن مراده أن هذا وقع بغير شرط بل هذا عجل وهذا وضع ولا محذور في ذلك
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)