الفصل الثامن و العشرون في صناعة التوليد
و هي صناعة يعرف بها العمل في استخراج المولود الآدمي من بطن أمه من الرفق في إخراجه من رحمها و تهيئة أسباب ذلك. ثم ما يصلحه بعد الخروج على ما نذكر. و هي مختصة بالنساء في غالب الأمر لما أنهن الظاهرات بعضهن على عورات بعض. و تسمى القائمة على ذلك منهن القابلة. استعير فيها معنى الإعطاء و القبول كأن النساء تعطيها الجنين و كأنها تقبله. و ذلك أن الجنين إذا استكمل خلقه في الرحم و أطواره و بلغ إلى غايته و المدة التي قدرها الله لمكثه هي تسعة أشهر في الغالب فيطلب الخروج بما جعل الله في المولود من النزوع لذلك و يضيق عليه المنفذ فيعسر. و ربما مزق بعض جوانب الفرج بالضغط و ربما انقطع بعض ما كان من الأغشية من الالتصاق و الالتحام بالرحم. و هذه كلها آلام يشتد لها الوجع و هو معنى الطلق فتكون القابلة معينة في ذلك بعض الشيء بغمز الظهر و الوركين و ما يحاذي الرحم من الأسافل تساوق بذلك فعل الدافعة في إخراج الجنين و تسهيل ما يصعب منه بما يمكنها و على ما تهتدي إلى معرفة عسرة.
ثم إن أخرج الجنين بقيت بينه و بين الرحم الوصلة حيث كان يتغذى منها متصلة من سرته بمعاه. و تلك الوصلة عضو فضلي لتغذية المولود خاصة فتقطعها القابلة من حيث لا تتعدى مكان الفضلة و لا تضر بمعاه و لا برحم أمه ثم تدمل مكان الجراحة منه بالكي أو بما تراه من وجوه الاندمال. ثم إن الجنين عند خروجه من ذلك المنفذ الضيق و هو رطب العظام سهل الانعطاف و الانثناء فربما تتغير أشكال أعضائه و أوصافها لقرب التكوين و رطوبة المواد فتتناوله القابلة بالغمز و الإصلاح حتى يرجع كل عضو إلى شكله الطبيعي و وضعه المقدر له و يرتد خلقه سوياً. ثم بعد ذلك تراجع النفساء و تحاذيها بالغمز و الملاينة لخروج أغشية الجنين لأنها ربما تتأخر عن خروجه قليلاً. و يخشى عند ذلك أن تراجع الماسكة حالها الطبيعية قبل استكمال خروج الأغشية و هي فضلات فتتعفن و يسري عفنها إلى الرحم فيقع الهلاك فتحاذر القابلة هذا و تحاول في إعانة الدفع إلى أن تخرج تلك الأغشية التي كانت قد تأخرت ثم ترجع إلى المولود فتمرخ أعضاءه بالأدهان و الذرورات القابضة لتشده و تجفف رطوبات الرحم و تحنكه لرفع لهاته و تسعطه لاستفراغ نطوف دماغه و تغرغره باللعوق لدفع السدد من معاه و تجويفها عن الالتصاق.
ثم تداوي النفساء بعد ذلك من الوهن الذي أصابها بالطلق و ما لحق رحمها من ألم الانفصال، إذ المولود إن لم يكن عضواً طبيعياً فحالة التكوين في الرحم صيرته بالالتحام كالعضو المتصل فلذلك كان في انفصاله ألم يقرب من ألم القطع. و تداوي مع ذلك ما يلحق الفرج من ألم من جراحة التمزيق عند الضغط في الخروج. و هذه كلها أدواء نجد هولاء القوابل أبصر بدوائها. و كذلك ما يعرض للمولود مدة الرضاع من أدواء في بدنه إلى حين الفصال نجدهن أبصر بها من الطبيب الماهر. و ما ذاك إلا لأن بدن الإنسان في تلك الحالة إنما هو بدن إنساني بالقوة فقط. فإذا جاوز الفصال صار بدناً إنسانياً بالفعل فكانت حاجته حينئذ إلى الطبيب أشد. فهذه الصناعة كما تراه ضرورية في العمران للنوع الإنساني، لا يتم كون أشخاصه في الغالب دونها. و قد يعرض لبعض أشخاص النوع الاستغناء عن هذه الصناعة، إما بخلق الله ذلك لهم معجزة و خرقاً للعادة كما في حق الأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم أو بإلهام و هداية يلهم لها المولود و يفطرعليها فيتم وجودهم من دون هذه الصناعة. فأما شأن المعجزة من ذلك فقد وقع كثيراً. و منه ما روي أن النبي صلى الله عليه و سلم ولد مسروراً مختوناً واضعاً يديه على الأرض شاخصاً ببصره إلى السماء. و كذلك شأن عيسى في المهد و غير ذلك.
و أما شأن الإلهام فلا ينكر. و إذا كانت الحيوانات العجم تختص بغرائب الإلهامات كالنحل و غيرها فما ظنك بالإنسان المفضل عليها. و خصوصاً بمن اختص بكرامة الله. ثم الإلهام العام للمولودين في الإقبال على الثدي أوضح شاهد على وجوب الإلهام العام لهم. فشأن العناية الإلهية أعظم من أن يحاط به. و من هنا يفهم بطلان رأي الفارابي و حكماء الأندلس فيما احتجوا به لعدم انقراض الالواح و استحالة انقطاع المكونات. و خصوصاً في النوع الإنساني، و قالوا: لو انقطعت أشخاصه لاستحال وجودها بعد ذلك لتوقفه على وجود هذه الصناعة التي لا يتم كون الإنسان إلا بها. إذ لو قدرنا مولوداً دون هذه الصناعة و كفالتها إلى حين الفصال لم يتم بقاؤه أصلاً. و وجود الصنائع دون الفكر ممتنع لأنها ثمرته و تابعة له. و تكلف ابن سينا في الرد على هذا الرأي لمخالفته إياه و ذهابه إلى إمكان انقطاع الأنواع و خراب عالم التكوين ثم عوده ثانياً لاقتضاءات فلكية و أوضاع غريبة تنذر في الأحقاب بزعمه فتقتضي تخمير طينة مناسبة لمزاجه بحرارة مناسبة فيتم كونه إنساناً ثم يقيض له حيوان يخلق فيه إلهاماً لتربيته و الحنو عليه إلى أن يتم وجوده و فصاله. و أطنب في بيان ذلك في الرسالة التي سماها رسالة حي بن يقظان. و هذا الاستدلال غير صحيح و إن كنا نوافقه على انقطاع الأنواع لكن من غير ما استدل به. فإن دليله مبني على إسناد الأفعال إلى العلة الموجبة.
و دليل القول بالفاعل المختار يرد عليه و لا واسطة على القول بالفاعل المختار بين الأفعال و القدرة القديمة و لا حاجة إلى هذا التكلف. ثم لو سلمناه جدلاً فغاية ما ينبني عليه اطراد وجوب هذا الشخص بخلق الإلهام لترتيبه في الحيوان الأعجم. و ما الضرورة الداعية لذلك ؟ و إذا كان الإلهام يخلق في الحيوان الأعجم فما المانع من خلقه للمولود نفسه كما قررناه أولاً. و خلق الإلهام في شخص لمصالح نفسه أقرب من خلقه فيه لمصالح غيره فكلا المذهبين شاهدان على أنفسهما بالبطلان في مناحيهما لما قررته لك و الله تعالى أعلم.
الفصل التاسع و العشرون في صناعة الطب و أنها محتاج إليها في الحواضر و الأمصار دون البادية
هذه الصناعة ضرورية في المدن و الأمصار لما عرف من فائدتها فإن ثمرتها حفظ الصحة للأصحاء و دفع المرض عن المرضى بالمداواة حتى يحصل لهم البرء من أمراضهم. و اعلم أن أصل الأمراض كلها إنما هو من الأغذية كما قال صلى الله عليه و سلم في الحديث الجامع للطب و هو قوله: المعدة بيت الداء و الحمية رأس الدواء و أصل كل داء البردة فأما قوله المعدة بيت الداء فهو ظاهر و أما قوله الحمية رأس الدواء فالحمية الجوع و هو الاحتماء من الطعام. و المعنى أن الجوع هو الدواء العظيم الذي هو أصل الأدوية و أما قوله أصل كل داء البردة فمعنى البردة إدخال الطعام على الطعام في المعدة قبل أن يتم هضم الأول.
و شرح هذا أن الله سبحانه خلق الإنسان و حفظ حياته بالغذاء يستعمله بالأكل و ينفذ فيه القوى الهاضمة و الغاذية إلى أن يصير دماً فلا ملائماً لأجزاء البدن من اللحم و العظم، ثم تأخذه النامية فينقلب لحماً و عظماً. و معنى الهضم طبخ الغذاء بالحرارة الغريزية طوراً بعد طور حتى يصيرجزءاً بالفعل من البدن و تفسيره أن الغذاء إذا حصل في الفم و لاكته الأشداق أثرت فيه حرارة الفم طبخاً يسيراً و قلبت مزاجه بعض الشيء، كما تراه في اللقمة إذا تناولتها طعاماً ثم أجدتها مضغاً فترى مزاجها غير مزاج الطعام ثم يحصل في المعدة فتطبخه حرارة المعدة إلى أن يصير كيموساً و هو صفو ذلك المطبوخ و ترسله إلى الكبد و ترسل ما رسب منه في المعى ثقلاً ينفذ إلى المخرجين. ثم تطبخ حرارة الكبد ذلك الكيموس إلى أن يصير دماً عبيطاً و تطفو عليه رغوة من الطبخ هي الصفراء. و ترسب منه أجزاء يابسة هي السوداء و يقصر الحار الغريزي بعض الشيء عن طبخ الغليظ منه فهو البلغم. ثم ترسلها الكبد كلها في العزوق و الجداول، و يأخذها طبخ الحال الغريزي هناك فيكون عن الدم الخالص بخار حار رطب يمد الروح الحيواني و تأخذ النامية مأخذها في الدم فيكون لحماً ثم غليظة عظاماً.
ثم يرسل البدن ما يفضل عن حاجاته من ذلك فضلات مختلفة من العرق و اللعاب و المخاط و الدمع. هذه صورة الغذاء و خروجه من القوة إلى الفعل لحماً. ثم إن أصل الأمراض و معظمها هي الحميات. و سببها أن الحار الغريزي قد يضعف عن تمام النضج في طبخه في كل طور من هذه، فيبقى ذلك الغذاء دون نضج، و سببه غالباً كثرة الغذاء في المعدة حتى يكون أغلب على الحار الغزيري أو إدخال الطعام إلى المعدة قبل أن تستوفي طبخ الأول فيستقل به الحار الغريزي و يترك الأول بحالة أو يتوزع عليهما فيقصر عن تمام الطبخ و النضج. و ترسله المعدة كذلك إلى الكبد فلا تقوى حرارة الكبد أيضاً على إنضاجه. و ربما بقي في الكبد من الغذاء الأول فضلة غير ناضجة. و ترسل الكبد جميع ذلك إلى العروق غير ناضج كما هو. فإذا أخذ البدن حاجته الملائمة أرسله مع الفضلات الأخرى من العرق و الدمع و اللعاب إن اقتدر على ذلك. و ربما يعجز عن الكثير منه فيبقى في العروق و الكبد و المعدة و تتزايد مع الأيام. و كل ذي رطوبة من الممتزجات إذا لم يأخذه الطبخ و النضج يعفن فيتعفن ذلك الغذاء غير الناضج و هو المسمى بالخلط.
و كل متعفن ففيه حرارة غريبة و تلك هي المسماة في بدن الإنسان بالحمى. و اختبر ذلك بالطعام إذا ترك حتى يتعفن و في الزبل إذا تعفن أيضاً، كيف تنبعث فيه الحرارة و تأخذ مأخذها. فهذا معنى الحميات في الأبدان و هي رأس الأمراض و أصلها كما وقع في الحديث. و هذه الحميات علاجها بقطع الغذاء عن المريض أسابيع معلومة ثم يتناول الأغذية الملائمة حتى يتم برؤه. و ذلك في حال الصحة له علاج في التحفظ من هذا المرض و غيره و أصله كما وقع في الحديث و قد يكون ذلك العفن في عضو مخصوص، فيتولد عنه مرض في ذلك العضو و يحدث جراحات في البدن، إما في الأعضاء الرئيسية أو في غيرها. و قد يمرض العضو و يحدث عنه مرض القوى الموجودة له. هذه كلها جماع الأمراض، و أصلها في الغالب من الأغذية و هذا كله مرفوع إلى الطبيب. و وقوع هذه الأمراض في أهل الحضر و الامصار أكثر. لخصب عيشهم و كثرة مآكلهم و قلة اقتصارهم على نوع واحد من الأغذية و عدم توقيتهم لتناولها. و كثيراً ما يخلطون بالأغذية من التوابل و البقول و الفواكه، رصباً و يابساً في سبيل العلاج بالطبخ و لا يقتصرون في ذلك على نوع أو أنواع. فربما عددنا في اليوم ا الواحد من ألوان الطبخ أربعين نوعاً من النبات و الحيوان فيصير للغذاء مزاج غريب. و ربما يكون غريباً عن ملاءمة البدن و أجزائه. ثم إن الأهوية في الأمصار تفسد بمخالطة الأبخرة العفنة من كثرة الفصلات. و الأهوية فنشطة للأرواح و مقوية بنشاطها الأثر الحار الغريزي في الهضم.
ثم الرياضة مفقودة لأهل الأمصار إذ هم في الغالب وادعون ساكنون لا تأخذ منهم الرياضة شيئاً و لا تؤثر فيهم أثراً، فكان وقوع الأمراض كثيراً في المدن و الأمصار و على قدر وقوعه كانت حاجتهم إلى هذه الصناعة. و أما أهل البدو فمأكولهم قليل في الغالب و الجوع أغلب عليهم لقلة الحبوب حتى صار لهم ذلك عادة. و ربما يظن أنها جبلة لاستمرارها. ثم الأدم قليلة لديهم أو مفقودة بالجملة.
و علاج الطبخ بالتوابل و الفواكه إنما يدعو إلى ترف الحضارة الذين هم بمعزل عنه فيتناولون أغذيتهم بسيطة بعيدة عما يخالطها و يقرب مزاجها من ملاءمة البدن. و أما أهويتهم فقليلة العفن لقلة الرطوبات و العفونات إن كانوا آهلين، أو لاختلاف الأهوية إن كانوا ظواعن. ثم إن الرياضة موجودة فيهم لكثرة الحركة في ركض الخيل أو الصيد أو طلب الحاجات لمهنة أنفسهم في حاجاتهم فيحسن بذلك كله الهضم و يجود و يفقد إدخال الطعام على الطعام فتكون أمزجتهم أصلح و أبعد من الأمراض فتقل حاجتهم إلى الطب. و لهذا لا يوجد الطبيب في البادية بوجه. و ما ذاك إلا للاستغناء عنه إذ لو احتيج إليه لوجد، لأنه يكون له بذلك في البدو معاش يدعوه إلى سكناه سنة الله في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلاً.
الفصل الثلاثون في أن الخط و الكتابة من عداد الصنائع الإنسانية
و هو رسوم و أشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس. فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية و هو صناعة شريفة إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان. و أيضاً فهي تطلع على ما في الضمائر و تتأدى بها الأغراض إلى البلاد البعيدة فتقضي الحاجات و قد دفعت مؤنة المباشرة لها و يطلع بها على العلوم و المعارف و صحف الأولين و ما كتبوه من علومهم و أخبارهم فهي شريفة بهذه الوجوه و المنافع. و خروجها في الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم و على قدر الاجتماع و العمران و التناغي في الكمالات و الطلب لذلك تكون جودة الخط في المدينة. إذ هو من جملة الصنائع.
و قد قدمنا أن هذا شأنها و أنها تابعة للعمران و لهذا نجد أكثر البدو أميين لا يكتبون و لا يقرأون و من قرأ منهم أو كتب فيكون خطه قاصراً أو قراءته غير نافذة. و نجد تعليم الخط في الأمصار الخارج عمرانها عن الحد أبلغ و أحسن و أسهل طريقاً لاستحكام الصنعة فيها. كما يحكى لنا عن مصر لهذا العهد و أن بها معلمين منتصبين لتعليم الخط يلقون على المتعلم قوانين و أحكاماً في وضع كل حرف و يزيدون إلى ذلك المباشر بتعليم وضعه فتعتضد لديه رتبة العلم و الحس في التعليم و تأتي ملكته على أتم الوجوه. و إنما أتى هذا من كمال الصنائع و وفورها بكثرة العمران و انفساح الأعمال و قد كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الإحكام و الإتقان و الجودة في دولة التبابعة لما بلغت من الحضارة و الترف و هو المسمى بالخط الحميري. و انتقل منها إلى الحيرة لما كان بها من دولة آل المنذر نسباء التبابعة في العصبية و المجددين لملك العرب بأرض العراق. و لم يكن الخط عندهم من الإجادة كما كان عند التبابعة لقصور ما بين الدولتين.
و كانت الحضارة و توابعها من الصنائع و غيرها قاصرة عن ذلك. و من الحيرة لقنه أهل الطائف و قريش فيما ذكر. و يقال إن الذي تعلم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن أمية و يقال حرب بن أمية و أخذها من أسلم بن سدرة. و هو قول ممكن و أقرب ممن ذهب إلى أنهم تعلموها من إياد أهل العراق لقول شاعرهم:
قوم لهم ساحة العراقإذا ساروا جميعاً و الخط و القلم
و هو قول بعيد لأن إياداً و إن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة. و الخط من الصنائع الحضرية. و إنما معنى قول الشاعر أنهم أقرب إلى الخط و القلم من غيرهم من العرب لقربهم من ساحة الأمصار و ضواحيها فالقول بأن أهل الحجاز إنما لقنوها من الحيرة و لقنها أهل الحيرة من التبابعة و حمير هو الأليق من الأقوال و رأيت في كتاب التكملة لابن الأبار عند التعريف بابن فروخ الفيرواني القاسي الأندلسي من أصحاب مالك رضي الله عنه و اسمه عبد الله بن فروخ بن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم. عن أبيه قال قلت لعبد الله بن عباس: يا معشر قريش، خبروني عن هذا الكتاب العربي، هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم تجمعون منه ما أجتمع و تفرقون منه ما افترق مثل الألف و اللام و الميم و النون ؟ قال: نعم.
قلت و ممن أخذتموه ؟ قال، من حرب بن أمية. قلت: و ممن أخذه حرب ؟ قال، من عبد الله بن جدعان. قلت: و ممن أخذه عبد الله بن جدعان ؟ قال من أهل الأنبار. قلت: و ممن أخذه أهل الأنبار ؟ قال: من طارئ طرأ عليه من أهل اليمن. قلت و ممن أخذه ذلك لطاريء ؟
قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي ليهود النبى عليه السلام. و هو الذي يقول:
أفي كل عام سنة تحدثونها و رأي على غير الطريق يعبر و الموت خير من حياة تسبنا بها جرهم فيمن يسب و حمير
انتهى ما نقله ابن الأبار في كتاب التكملة. و زاد في آخره حدثني بذلك أبو بكر بن أبي حميره في كتابه عن أبي بحر بن العاص عن أبي الوليد الوقشي عن أبي عمر الطلعنكي بن أبي عبد الله بن مفرح. و من خطه نقلته عن أبي سعيد بن يونس عن محمد بن موسى بن النعمان عن يحيى بن محمد بن حشيش بن عمر بن أيوب المغافري التونسي عن بهلول بن عبيدة الحمي عن عبد الله بن فروخ. انتهى.
و كان لحمير كتابة تسمى المسند حروفها منفصلة و كانوا يمنعون من تعلمها إلا بإذنهم. و من حمير تعلمت مصر الكتابة العربية إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لها شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو فلا تكون محكمة المذاهب و لا مائلة إلى الإتقان والتنميق لبون ما بين البدو و الصناعة و استغناء البدو عنها في الأكثر. و كانت كتابة العرب بدوية مثل كتابتهم أو قريباً من كتابتهم لهذا العهد أو نقول أن كتابتهم لهذا العهد أحسن صناعة لأن هؤلاء أقرب إلى الحضارة و مخالطة الأمصار و الدول. و أما مصر فكانوا أعرق في البدو و أبعد عن الحضر من أهل اليمن و أهل العراق و أهل الشام و مصر فكان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام و الإتقان و الإجادة و لا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة و التوحش و بعدهم عن الصنائع، و انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم و كانت غير مستحكمة في الإجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته أقيسة رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركاً بما رسمه أصحاب الرسول صلى الله عليه و سلم و خير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله و كلامه. كما يقتفى لهذا العهد خط ولي أو عالم تبركاً و يتبع رسمه خطاً أو صواباً. و أين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتبع ذلك و أثبت رسماً و نبه العلماء بالرسم على مواضعه. و لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط و أن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه. يقولون في مثل زيادة الألف في لا أذبحنه: إنه تنبيه على الذبح لم يقع و في زيادة الياء في بأييد إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية و أمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض. و ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيهاً للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط. و حسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه و نسبوا إليهم الكمال بإجادته و طلبوا تعليل ما خالف الإجادة من رسمه و ذلك ليس بصحيح. و اعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذ الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر. و الكمال في الصنائع إضافي و ليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين و لا في الخلال و إنما يعود على أسباب المعا ش و بحسب العمران و التعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس. و قد كان صلى الله عليه و سلم أمياً و كان ذلك كمالاً في حقه و بالنسبة إلى مقامه لشرفه و تنزهه عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعا ش و العمران كلها. و ليست الأمية كمالاً في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه و نحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فإن الكمال في حقه تنزهه عنها جملةً بخلافنا. ثم لما جاء الملك للعرب و فتحوا الأمصار و ملكوا الممالك و نزلوا البصرة و الكوفة و احتاجت الدولة إلى الكتابة استعملوا الخط و طلبوا صناعته و تعلموه و تداولوه فترقت الإجادة فيه و استحكم و بلغ في الكوفة و البصرة رتبة من الإتقان إلا أنها كانت دون الغاية. و الخط الكوفي معروف الرسم لهذا العهد. ثم انتشر العرب في الأقطار و الممالك و افتتحوا أفريقية و الأندلس و اختط بنو العباس بغداد و ترقت الخطوط فيها إلى الغاية لما استبحرت في العمران و كانت دار الإسلام و مركز الدولة العربية و خالفت أوضاع الخط ببغداد أوضاعه بالكوفة. في الميل إلى إجادة الرسوم و جمال الرونق و حسن الرواء. و استحكمت هذه المخالفة في الأمصار إلى أن رفع رايتها ببغداد علي بن مقلة الوزير. ثم تلاه في ذلك علي بن هلال. الكاتب الشهير بابن البواب. و وقف سند تعليمها عليه في الماية الثالثة و ما بعدها.
و بعدت رسوم الخط البغدادي و أوضاعه عن الكوفة حتى انتهى إلى المباينة. ثم ازدادت المخالفة بعد تلك القصور بتفنن الجهابذة في إحكام رسومه و أوضاعه، حتى انتهت إلى المتأخرين مثل ياقوت و الولي علي العجمي. و وقف سند تعليم الخط عليهم و انتقل ذلك إلى مصر، و خالفت طريقة العراق بعض الشيء و لقنها العجم هنالك، و ظهرت مخالفة لخط أهل مصر أو مباينة. و كان الخط البغدادي معروف الرسم و تبعه الإفريقي المعروف رسمه القديم لهذا العهد. و يقرب من أوضاع الخط المشرقي و تحيز ملك الأندلس بالأمويين فتميزوا بأحوالهم من الحضارة و الصنائع و الخطوط فتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد. و طما بحر العمران و الحضارة في الدول الإسلامية في كل قطر. و عظم الملك و نفقت أسواق العلوم و انتسخت الكتب و أجيد كتبها و تجليدها و ملئت بها القصور و الخزائن الملوكية بما لا كفاء له و تنافس أهل الأقطار في ذلك و تناغوا فيه.
ثم لما انحل نظام الدولة الإسلامية و تناقص ذلك أجمع و درست معالم بغداد بدروس الخلافة فانتقل شأنها من الخط و الكتابة بل و العلم إلى مصر و القاهرة فلم تزل أسواقه بها نافقة لهذا العهد و له بها معلمون يرسمون لتعليم الحروف بقوانين في وضعها و أشكالها متعارفة بينهم فلا يلبث المتعلم أن يحكم أشكال تلك الحروف على تلك الأوضاع و قد لقنها حسناً و حذق فيها دربةً و كتاباً و أخذها قوانين علمية فتجئ أحسن ما يكون. و أما أهل الأندلس فافترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها و من خلفهم من البربر، و تغلبت عليهم أمم النصرانية فانتشروا في عدوة المغرب و أفريقية من لدن الدولة اللمتونية إلى هذا العهد. و شاركوا أهل العمران بما لديهم من الصنائع و تعلقوا بأذيال الدولة فغلب خطهم على الخط الأفريقي و عفى عليه و نسي خط القيروان و المهدية بنسيان عوائدهما و صنائعهما. و صارت خطوط أهل أفريقية كلها على الرسم الأندلسي بتونس و ما إليها لتوفر أهل الأندلس بها عند الحالية من شرق الأندلس.
و بقي منه رسم ببلاد الجريد الذين لم يخالطوا كتاب الأندلس و لا تمرسوا بجوارهم. إنما كانوا يغدون على دار الملك بتونس فصار خط أهل أفريقية من أحسن خطوط أهل الأندلس حتى إذا تقلص ظل الدولة الموحدية بعض الشيء و تراجع أمر الحضارة و الترف بتراجع العمران نقص حينئذ حال الخط و فسدت رسومه و جهل فيه وجه التعليم بفساد الحضارة و تناقص العمران. و بقيت فيه آثار الخط الأندلسي تشهد بما كان لهم من ذلك لما قدمناه من أن الصنائع إذا رسخت بالحضارة فيعسر محوها و حصل في دولة بني مرين من بعد ذلك بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي لقرب جرارهم و سقوط من خرج منهم إلى فاس قريباً و استعمالهم إياهم سائر الدولة. و نسي عهد الخط فيما بعد عن سدة الملك و داره. كأنه لم يعرف. فصارت الخطوط بإفريقية و المغربيين مائلة إلى الرداءة بعيدة عن الجودة و صارت الكتب إذا انتسخت فلا فائدة تحصل لمتصفحها منها إلا العناء و المشقة لكثرة ما يقع فيها من الفساد و التصحيف و تغيير الأشكال الخطية عن الجودة حتى لا تكاد تقرأ إلا بعد عسر و وقع فيه ما وقع في سائر الصنائع بنقص الحضارة و فساد الدول و الله يحكم لا معقب لحكمه. و للأستاذ أبي الحسن علي بن هلال الكاتب البغدادي الشهير بابن البواب قصيدة من بحر البسيط على روي الراء يذكر فيها صناعة الخط و قوادها من أحسن ما كتب في ذلك. رأيت إثباتها في هذا الكتاب من هذا الباب لينتفع بها من يريد تعلم هذه الصناعة.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)