صفحة 18 من 21 الأولىالأولى ... 81617181920 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 69 إلى 72 من 84

الموضوع: تاريخ الرسل والملوك(للطبري)1-


  1. #69
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فلما كان من الغد أمر كيخسرو أن يدخل عليه رؤساء أجناده والوجوه من أهل مملكته، فلما دخلوا عليه أعلمهم ما عزم عليه من محاربة الأتراك، وكتب إلى عمّاله في الآفاق يُعلمهم ذلك، ويأمر بموافاتهم في صحراء تُعرف بشاه أسطون، من كُوره بلْخ، في وقت وقّته لهم. فتوافت رؤساء الأجناد في ذلك الموضع، وشخص إليه كيخسرو بإصبهبذته وأصحابهم، وفيهم برزافره عمّه وأهل بيته، وجوذرز وبقية ولده. فلما تكاملت الملحمة، واجتمعت المرزابة، تولى كيخسرو بنفسه عرْض الجند حتى عرف مبلغهم، وفهم أحوالهم، ثم دعا بجوذرز بن جشوادغان، وميلاذ بن جرجين وأغص بن بهذان - وأغص ابن وصيفة كانت لسياوخش، يقال لها: شوماهان - فأعلمهم أنه قد أراد إدخال العساكر على الترك من أربعة أوجه، حتى يحيطوا بهم برًّا وبحرًا، وأنه قد قوّد على تلك العساكر، وجعل أعظمها إلى جوذرز، وصيّر مدخله من ناحية خراسان، وجعل فيمن ضم إليه برزافره عمه وبي بم جوذرز وجماعة من الأصبهبذين كثيرة، ودفع إليه يومئذ العلَم الأكبر الذي كانوا يسمّونه درفش كابيان، وزعموا أن ذلك العلَم لم يكن دفعه أحد من الملوك إلى أحد من القوّاد قبل ذلك، وإنما كانوا يسيّرونه مع أولاد الملوك إذا وجّهوهم في الأمور العظام. وأمر ميلاذ بالدخول مما يلي الصين، وضمّ إليه جماعة كثيرة دون مَنْ ضمّ إلى جوذرز، وأمر أغص بالدخول من ناحية الخزر في مثل مَنْ ضمّ إلى ميلاذ، وضمّ إلى شموهان إخوتها وبني عمها وتمام ثلاثين ألف رجل من الجند، وأمرها بالدخول من طريق بين طريق جوذرز وميلاذ.
    ويقال: إن كيخسرو إنما غزا شومهان لخاصتها بسياوخش، وكانت تذرت أن تطالب بدمه. فمضى جميعُ هؤلاء لوجههم، ودخل جوذرز بلادَ الترك من ناحية خُراسان، وبدأ بفيران بن ويسغان، فالتحمت بينهما حَرْبٌ شديدة مذكورة، وهي الحرب التي قتل فيها بيزن بن بي خُمان بن ويسغان مبارزة، وقتل جوذرز فيران أيضًا، ثم قصد جوذرز فراسياب، وألحّت عليه العساكر الثلاثة، كل عسكر من الوجه الذي دخل منه، واتبع القوم بعد ذلك كيخسرو بنفسه، وجعل قصْده للوجه الذي كان فيه جوذرز، وصيّر مدخله منه، فوافى عسكر جوذرز، وقد أثخن في الترك، وقتل فيران رئيس إصبهبذي فراسياب، والمرشّح للملك من بعده، وجماعة كثيرة من إخوته؛ مثل خُمان، وأوستهن، وجلباد، وسيامق، وبهرام، وفرشخاذ، وفرخلاذ. ومن ولده، مثل روين بن فيران، وكان مقدما عند فراسياب، وجماعة من إخوة فراسياب، مثل: رتدراي، وأندرمان، وأسفخرم، وأخست. وأسَربروا بن فشنجان قاتل سياوخش، ووجد جوذرز قد أحصى القتلى والأسرى، وما غنِم من الكُراع والأموال، فوجد مبلغ ما في يده من الأسرى ثلاثين ألفًا، ومن القتلى خمسمائة ألف ونيفًا وستين ألف رجل، ومن الكُراع والورق والأموال ما لا يحصى كثرة، وأمر كل واحد من الوجوه الذين كانوا معه أن يجعل أسيره أو قتيله من الأتراك عند علمه لينظر كيخسرو إلى ذلك عند موافاته.
    فلما وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة اصطفّت له الرجال، وتلقاه جوذرز وسائر الإصبهبذين، فلما دخل العسكر جعل يمرّ بعلم علم، فكان أول قتيل رآه جثة فيران عند علم جوذرز، فلما نظر إليها وقف ثم قال: أيها الجبل الصعب الذرا المنيع الأركان! ألم أنهك عن هذه المحاربة، وعن نصْب نفسك لنا دون فراسياب في هذه المطالبة؟! ألم أبذل لك نفسي، وأعرِض عليك ملكي فلم تحسِن الاختيار؟ ألست الصدوق اللسان، الحافظَ للإخوان، الكاتم للأسرار؟! ألم أعلمْك مكْر فراسياب وقلة وفائه فلم تفعل ما أمرتُك بل مضيت في نومك حتى احتوشتك الليوث من مقاتلتنا وأبناء مملكتنا؟ ما أغنى عنك فراسياب، وقد فارقت الدنيا وأفنيت آل ويسغان! فويلٌ لحلمك وفهمِك! وويل لسخائك وصدقك! إنا بك اليوم لموجَعون!
    ولم يزل كيخسرو يرثي فيران حتى صار إلى علْم بي جوذرز، فلما وقف عليه وجد بروا بن فشنجان حيًّا أسيرًا في يدي بي، فسأل عنه فأخبر أنه بروا قاتل سياوخش المائل به عند قتله إياه. فقرّب منه كيخسرو، ثم طأطأ رأسَه بالسجود شكرًا لربه، ثم قال: الحمد لله الذي أمكنني منك يا بروا! أنت الذي قتلت سياوخش، ومثّلت به! وأنت الذي سلبته زينته وتكلّفت من بين الأتراك إبارته، فغرست لنا بفعلك هذه الشجرة من العداوة، وهيّجت بيننا هذه المحاربة، وأشعلت في كلا الفريقين نارًا موقدة! أنت الذي جرى على يديك تبديل صورته، وتوهين قوته! أما تهيّبت أيها التركي جماله! ألا بقيت عليه للنور الساطع على وجهه! أين نجدتُك وقوتك اليوم! وأين أخوك الساحر عن نصرتك! لست أقتلُك لقتلك إياه؛ بل لكلفتك وتوليك ما كان صلاحًا لك ألا تتولاه، وسأقتل مَنْ قتله ببغيه وجرمه.
    ثم أمر أن تقطع أعضاؤه حيًا ثم يذبح ففعل ذلك به بي، ولم يزل كيخسرو يمر بعلم علَم، وأصبهبذ أصبهبذ؛ فإذا صار إلى الواحد منهم قال له نحو ما ذكرنا، ثم صار إلى مضاربه، فلما استقر فيها دعا ببرافره عمه، فلما دخل عليه أجلسَه عن يمينه، وأظهر له السرور بقتله جلباذ بن ويسغان مبارزة، ثم أجزل جائزته وملّكه على كِرْمان ومُكران ونواحيها، ثم دعا بجوذرز، فلما دخل قال له: أيها الأصبهبذ الرشيد، والكهل الشفيق، إنه مهما كان من هذا الفتح العظيم فمن ربنا عز وجل، وعن غير حيلة منا ولا قوة، ثم برعايتك حقنا، وبذلك نفسك وأولادك لنا، وذلك مذْخور لك عندنا، وقد حبوناك بالمرتبة التي يقال لها " بُزُرْجفر مذار "؛ وهي الوزارة، وجعلنا لك أصبهان وجُرْجان وجبالهما، فأحسِنْ رعاية أهلها.
    فشكر جوذرز ذلك، وخرَج من عنده بَهِجًا مسرورًا، ثم أمر بالوجوه من أصبهبذته الذين كانوا مع جوذرز ممن حسن بلاؤه، وتولى قتل طراخنة الأتراك، ولد فشنجان وويسغان؛ مثل جرجين بن ميلاذان، وبي، وشادوس ولخام، وجدمير بن جوذرز، وبيزن بن بي، وبرازه بن بيفغان، وفروذه بن فامدان وزنده بن شابريغان، وبسطام بن كزدهمان، وفرته بن تفارغان. فدخلوا عليه رجلًا رجلًا؛ فمنهم من ملّكه على البلدان الشريفة، ومنهم من خصّه بأعمال من أعمال حضرته، ثم لم يلبث أن وردت عليه الكتب من ميلاذ وأغص شومهان بإثخانهم في بلاد الترك، وأنهم قد هزموا فراسياب عسكرًا بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدوا في محاربة القوم، وأن يوافوه بموضع سمّاه لهم من بلاد الترك. فزعموا أن العساكر الأربعة لما أحاطت بفراسياب، وأتاه مِنْ قتل مَنْ قتل، وأسْر مَنْ أسر، وخراب ما خرّب ما أتاه، ضاقت عليه المذاهب، ولم يبق معه من ولده إلا شيده - وكان ساحرًا - فوجّهه نحو كيخسرو بالعدة والعتاد، فلما وافى كيخسرو أعلم أن أباه إنما وجهه للاحتيال عليه، فجمع أصبهبذته وتقدم إليهم في الاحتراس من غلبته.
    وقيل: إن كيخسرو أشفق يومئذ من شيده وهابه، وظن ألا طاقة له به، وأن القتال اتصل بينهما أربعة أيام، وإن رجلًا من خاصة كيخسرو يقال له جرد بن جرهمان عبّى يومئذ أصحاب كيخسرو، فأحسن تعبيتهم، فكثرت القتلى بينهم واستماتت رجال خنيارث وجدّت، وأيقن شيده ألا طاقة له بهم فانهزم، واتبعه كيخسرو بمن معه، ولحقه جرد فضربه على هامته بالعمود ضربةً خرّ منها ميتًا، ووقف كيخسرو على جيفته، فعاين منها سماجة شنِعة، وغنم كيخسرو ما كانَ من عسكرهم، وبلغ الخبر فراسياب، فأقبل بجميع طراخنته، فلما التقى وكيخسرو، ونشبت بينهما حرب شديدة لا يقال إن مثلها كان على وجه الأرض قبلها، فاختلط رجال خنيارث برجال الترك، وامتدّ الأمر بينهم حتى لم تقع العين يومئذ إلا على الدماء، والأسر من جوذرز ولده وجرجين وجرد بسطام، ونظر فراسياب وهم يحمون كيخسرو كأنهم أسود ضاربة، فانهزم مولّيًا على وجهه هاربًا، فأحصيت القتلى فيما ذكر يومئذ؛ فبلغت عدتهم مائة ألف، وجد كيخسرو وأصحابه في طلب فراسياب، وقد تجرد للهرب فلم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى أتى أذربيجان، فاستتر في غدير هناك يعرف ببئر خاسف، ثم ظُفِر به، فلما أتى كيخسرو استوثق منه بالحديد، ثم أقام للاستراحة بموضِعه ثلاثة أيام، ثم دعاه، فسأله عن عذره في أمر سياوخش، فلم يكن له عذر ولا حُجّة، فأمر بقتله، فقام إليه بي بن جوذرز، فذبحه كما ذبح سياوخش، ثم أتى كيخسرو وبدمه، فغَمس فيه يده، وقال هذا بِتِرة سياوخش، وظُلمكم إياه واعتدائكم عليه. ثم انصرف من أذربيجان ظافرًا غانمًا بهجًا.
    وذُكر أن عدة من أولاد كيبيه جدّ كيخسرو الكبر وأولادهم كانوا مع كيخسرو في حرب الترك، وأن ممن كان معه كى أرش بن كيبيه، وكان مُمَلّكًا على خوزستان وما يليها من بابل وكى به أرش، وكان مملكًا على كرمان ونواحيها، وكى أوجى بن كيمنوش بن كيفاشين بن كيبيه، وكان مملّكًا على فارس، وكى أوجى هذا هو أبوكى لهراسف الملك؛ ويقال إن أخًا لفراسياب كان يقال له: كى شراسف، صار إلى بلاد الترك بعد قتل كيخسرو أخاه، فاستولى على ملكها، وكان له ابن يقال له خرزاسف، فملك البلاد بعد أبيه، وكان جبارًا عاتيًا، وهو ابن أخي فراسياب ملك الترك الذي كان حارب منوشهر، وجوذرز هو ابن جشواغان بن يسحره بن قرحين بن حبر بن رسود بن أورب بن تاج بن رشيك بن أرس بن وندح بن رعر بن نودراحاع بن مسواغ بن نوذر بن منوشهر.
    فلما فرغ كيخسرو من المطالبة بوِتْره، واستقرّ في مملكته زهد في الملك، وتنسّك، وأعلم الوجوه من أهله وأهل مملكته أنه على التخلي من الأمر، فاشتد لذلك جزعُهم، وعظمت له وحشتهم، واستغاثوا إليه، وطلبوا وتضرّعوا، وراودوه على المقام بتدبير ملكهم، فلم يجدوا عنده في ذلك شيئًا، فلما يئِسوا قالوا بأجمعهم: فإذا قمتَ على ما أنت عليه فسمّ للملك رجلًا نقلّده إياه، وكان لهراسف حاضرًا، فأشار بيده إليه، وأعلمهم أنه خاصته ووصيّه، فأقبل الناس إلى لهراسف، وذلك بعد قَبُوله الوصية. وفُقِد كيخسرو، فبعض يقول: إنه غاب للنسك فلا يدرَى أين مات، ولا كيف كانت منيته، وبعضٌ يقول غيرَ ذلك.
    وتقلد لهراسف الملك بعده على الرسم الذي رسم له، وولد كيخسرو: جاماس، وأسبهر، ورمى، ورمين.
    وكان ملك كيخسرو ستين سنة.
    أمر إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام

    رجع الحديث إلى الخبر عن أمر بني إسرائيل بعد سليمان بن داود عليهما السلام.
    ثم ملك بعد سليمان بن داود على جميع بني إسرائيل ابنه رُحُبْعُم بن سليمان، وكان ملكه - فيما قيل - سبع عشرة سنة. ثم افترقت ممالك بني إسرائيل فيما ذكر بعد رُحُبْعُم، فكان أبيًا بن رُحُبْعُم ملك سبط يهوذا وبنيامين، دون سائر الأسباط؛ وذلك أن سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن نابط، عبد سليمان، لسبب القربان الذي كانت زوجة سليمان قرّبته في داره، وكانت قرّبت فيها جُرادة لصنم، فتوعده الله بإزالة بعضِ المُلك عن ولده، فكان ملك رُحُبْعُم إلى أن تُوفِيَ - فيما ذكر - ثلاث سنين.
    ثم ملك أسا بن أبيّا أمر السِّبطين اللذيْن كان أبوه يملك أمرهما - وهما سبط يهوذا وسبط بنيامين - إلى أن توفي، إحدى وأربعين سنة.
    ؟ ذكر خبر أسا بن أبيّا وزرح الهنديّ
    حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم؛ قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، أنه سمع وهب بن منبّه يقول: إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل يقال له أسا بن أبيّا، كان رجلًا صالحًا، وكان أعرجَ، وكان ملك من ملوك الهند يقال له زرح، وكان ملكًا جبارًا فاسقًا يدعو الناس إلى عبادته، وكان أبيّا عابدَ أصنام؛ له صنمان يعبدهما من دون الله، ويدعو الناسَ إلى عبادتهما؛ حتى أضلّ عامة بني إسرائيل، وكان يعبدُ الأصنام حتى توفي. ثم ملك ابنه أسا من بعدِه، فلما ملكهم بعث فيهم مناديًا ينادي: إلا إن الكفر قد مات وأهلُه، وعاش الإيمان وأهله، وانتكست الأصنام وعبادتُها، وظهرت طاعة الله وأعمالُها، فليس كافر من بني إسرائيل يُطلع رأسه بعد اليوم بكُفْر في ولايتي ودهري، إلا أني قاتله. فإن الطوفان لم يُغرِق الدنيا وأهلها، ولم يخسف بالقرى، ولم تمطر الحجارة والنار من السماء إلا بترك طاعة الله، وإظهار معصيته؛ فمن أجل ذلك ينبغي لنا ألا نقرّ لله معصية يُعمَل بها، ولا نترك طاعة لله إلا أظهرناها جهدَنا، حتى نطهّر الأرض من نَجَسها، ونُنقِّبها من دنسها، ونجاهد مَنْ خالفَنا في ذلك بالحرب والنفي من بلادنا.
    فلما سمع ذلك قومُه ضجّوا وكرهوا، فأتوا أمّ أسا الملك فشكوْا إليها فعل ابنها بهم وبآلهتهم، ودعاءه إياهم إلى مفارقة دينهم، والدخول في عبادة ربِّهم، فتحمّلت لهم أمه أن تكلِّمه وتصرفه إلى عبادة أصنام والده؛ فبينا الملك قاعد وعنده أشراف قومه ورؤوسهم وذوو طاعتهم؛ إذ أقبلت أمّ الملك فقام لها الملك من مجلسه، وأمرَها أن تجلس فيه، معرفةً بحقها وتوقيرًا لها. فأبت عليه وقالت: لستَ ابني إن لم تجبني إلى ما أدعوك إليه، وتضع طاعتك في يدي حتى تفعل ما آمرك به، وتجيبني إلى أمر؛ إن أطعتني فيه رَشَدت وأخذت بحظّك، وإن عصيتَني فحظَّك بخَست، ونفسَك ظلمت. إنه بلغني يا بني أنك بدأت قومك بالعظيم؛ دعوتهم إلى مخالفة دينهم، والكفرِ بآلهتهم، والتحول عما كان عليه آباؤهم، وأحدثت فيهم سنّة، وأظهرت فيهم بدعة؛ أردت بذلك - فيما زعمت - تعظيمًا لوقارك، ومعرفةً بمكانك، وتشديدًا لسلطانك؛ وفي التقصير يا بني دخلت، وبالشَّين أخذت. ودعوت جميعَ الناس إلى حربك، وانتدبت لقتالهم وحدك؛ أردت بذلك أن تُعيد الأحرار لك عبيدًا، والضعيف لك شديدًا؛ سفّهت بذلك رأيَ العلماء، وخالفتَ الحكماء، واتّبعت رأي السفهاء، ولعمري ما حملك على ذلك يا بني إلا كثرة طيشك، وحداثةُ سنك، وقلةُ علمك؛ فإن أنت رددت علي كلامي، ولم تعرف حقي، فلستَ من نسل والدك، ولا ينبغي الملْك لمثلك. يا بني بأي شيء تُدلُّ على قومك؟ لعلك أوتيت من الحروف مثل ما أتى موسى إلى فرعون؛ أن غرّقه وأنجى قومه من الظَّلمة. أو لعلك أوتيت من القوة ما أوتي داود؛ أن قتلَ الأسد لقومه، ولحِق الذئب فشقّ شِدْقه، وقتل جالوت الجبّار وحده. أو لعلك أوتيت من الملك والحكمة أفضلَ مما أوتي سليمان بن داود رأس الحكماء؛ إذ صارت حكمتُه مثلًا للباقين بعده! يا بني إنه ما يأتِك من حسنة فأنا أحظى الناس بها، وإن تكن لأخرى فأنا أشقاهم بشقوتك.
    فلما سمعها الملك اشتد غضبُه، وضاق صدره، فقال لها: يا أمّه! إنه لا ينبغي أن آكل على مائدة واحدة مع حبيبي وعدوي، كذلك لا ينبغي أن أعبد غير ربي. هلّمي إلى أمر إن أطَعتني فيه رَشدت، وإن تركتِه غويت؛ أن تعبدي الله وتكفري بكل آلهة دونه، فإنه ليس أحد يردّ هذا علي إلا هو لله عدو، وإنا ناصره لأني عبدُه.
    قالت له: ما كنت لأفارق أصنامي، ولا دينَ آبائي وقومي. ولا أترك ذلك لقولك، ولا أعبد الربّ الذي تدعوني إليه.
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #70
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فقال لها الملك: حينئذ يا أمّه، إن قولَك هذا قد قطع فيما بيني وبينك رحِمي.
    وأمر بها الملك عند ذلك فأخرجَها وغرّبوها، ثم أوصى إلى صاحب شُرطته وبابه أن يقتلها إن هي ألمّت بمكانه.
    فلما سمع ذلك منه الأسباط الذين كانوا حوله وقعت في قلوبهم المهابة، فأذعنوا له بالطاعة، وانقطعت فيما بينهم وبينه كل حيلة، وقالوا: قد فعل هذا بأمّه، فأين نقع نحن منه إذا خالفنا في أمره، ولم نجبه إلى دينه! فاحتالوا له كل حيلة، فحفظه الله وأباد مكرَهم. فلما لم يكن لهم عن ذلك صبر، ولا على فراق دينهم قوام؛ ائتمروا بأن يهربوا من بلاده، ويسكنوا بلادًا غيرها؛ فخرجوا متوجّهين إلى زَرْح ملك الهند يطلبون أن يستحملوه على أسا ومن اتبعه؛ فلما دخلوا على زرْح سجدوا له، فقال لهم: من أنتم؟ قالوا: نحن عبيدك، قال: وأي عبيد أنتم؟ قالوا: نحن من أرضك أرضِ الشام، وإنا كنا نعتز بملكك، حتى ظهر فينا ملك صبي حديث السن سفيه، فغيّر ديننا، وسفّه رأينا، وكفّر آباءنا، وهان عليه سخطُنا، فأتيناك لنُعلمك ذلك، فتكون أنت أولى بملكنا؛ ونحن رؤوسهم، وهي أرض كثير مالها، ضعيف أهلها، طيّبة معيشتها، كثيرة أنضارها، وفيهم الكنوز وملْك ثلاثين ملكًا، وهم الذين كان يوشع بن نون خليفة موسى سار بهم في البحر هو وقومه؛ فنحن وأرضنا لك، وبلادنا بلادك، وليس أحدٌ فيها يناصبك، هم دافعون أيديَهم إليك بغير قتال، بأموالهم وأنفسهم مسالمة.
    قال: لهم زرح: لعمْري، ما كنت لأجيبكم إلى ما دعوتموني إليه، ولا أستجيب إلى مقاتلة قوم لعلّهم أطوعُ لي منكم، حتى أبعثَ إليهم من قومي أمناء، فإن وقع الأمرُ على ما تكلّمتم به قدّامي نفعكم ذلك عندي، وجعلتُكم عليها ملوكًا، وإن كان كلامكم كذبًا فإني منزِل بكم العقوبة التي تنبغي لمن كذَبني.
    قال القوم: تكلّمت بالعدل، وحكمتَ بالقسط، ونحن به راضون. فأمر عند ذلك بالأرزاق فأجريَت عليهم، واختار من قومه أمناء ليبعثهم جواسيس، فأوصاهم بوصيته، وخوّفهم وحذّرهم بطشه إن هم كذَبوه، ووعدهم المعروف إن هم صدَقوه. وقال زرح: إني مرسلكم لأمانتكم، وشحّكم على دينكم، وحسن رأيكم في قومكم، لتطالعوا لي أرضًا من أرضي، وتبحثوا لي عن شأنها، وتُعلموني علْم أهلها وملِكها وجنودها وعددها وعدد مياههَا، وفِجاجها وطرقها، ومداخلها ومخارجها، وسهولتها وصعوبتها؛ حتى كأني شاهد ذلك وعالمه، وحاضر ذلك وخابره. وخذوا معَكم من الخزائن من الياقوت والمرجان والكسوة ما يفرغون إليه إذا رأوْه، ويشترون منكم إذا نظروا إليه.
    فأمكنهم من خزائنه حتى أخذوا منها، فجهّزهم لبرّهم وبحرهم، ووصف لهم القوم الذين أتوهم الطرقَ، ودلّوهم على مقاصدها، فساروا كالتجار؛ حتى نزلوا ساحلَ البحر، ثم ركبوا منه حتى أرسوا على ساحل إيلياء، ثم ساروا حتى دخلوها، فخلّفوا أثقالهم فيها، وأظهروا أمتعتهم وبضاعتهم، ودعوا الناس إلى أن يشتروا منهم؛ فلم يُفرغوا لبضاعتهم، وكسدت تجارتُهم، فجعلوا يُعطون بالشيء القليل الكثير؛ لكيلا يخرجوهم من قريتهم، حتى يعلموا أخبارَهم، ويحقّوا شأنهم ويستخرجوا ما أمرهم به ملكهم من أخبارهم.
    وكان أسا الملك قد تقدّم إلى نساء بني إسرائيل ألا يُقْدّر على امرأة لا زوج لها بهيئة امرأة لها زوج إلا قتلها أو نفاها من بلاده إلى جزائر البحار؛ فإن إبليس لم يدخل على أهل الدين في دينهم بمكيدة هي أشد من النساء؛ فكانت المرأة التي لا زوج لها لا تخرج إلا منتقبة في رِثّة الثياب لئلا تعرف؛ فلما بذل هؤلاء الأمناء بضاعتهم ما ثمنُه مئة درهم بدرهم، جعل نساء بني إسرائيل يشترين خُفية بالليل سرًا، لا يعلم بهنّ أحد من أهل دينهن؛ حتى أنفقوا بضاعتهم واشتروا بها حاجتهم، واستوعبوا خبر مدينتهم وحصونهم، وعدد مياههم، وكانوا قد كتموا رؤوس بضاعتهم ومحاسنها من اللؤلؤ والمرجان والياقوت هديّة للملك، وجعل الأمناء يسألون من رأوا من أهل القرية عن خبر الملك وشأنه إذ لم يشترِ منهم شيئًا، ما شأن الملك لا يشتري منا شيئًا! إن كان غنيًا فإن عندنا من طرائف البضاعات فنعطيه ما شاء مما لم يدخل مثله في خزائنه، وإن كان محتاجًا فما يمنعه أن يشهدّنا فنعطيَه ما شاء بغير ثمن! قال لهم منْ حضرهم من أهل القرية: إن له من الغنى والخزائن وفنون المتاع ما لم يُقْدر على مثله؛ إنه استفرغ الخزائن التي كان موسى سار بها من مصر، والحلي الذي كان بنو إسرائيل أخذوا، وما جمع يوشع بن نون خليفةُ موسى، وما جمع سليمان رأس الحكماء والملوك، من الغنى الكثير والآنية التي لا يقدّر على مثلها.
    قال الأمناء: فما قتاله؟ وبأي شيء عظمته؟ وما جنوده؟ أرأيتم لو أن ملكًا انحرف عليه ففتق ملكه ما كان إذًا قتالُه إياه؟ وما عدّته وعدد جنوده؟ أم بأي الخيل والفرسان غلبته؟ أم من أجل كثرة جمعه وخزائنه وقعت في قلوب الرجال هيبته! فأجابهم القوم وقالوا: إن أسا قليلةٌ عدّته، ضعيفة قوته، غير أن له صديقًا لو دعاه واستعان به على أن يزيل الجبال أزالها؛ فإذا كان معه صديقه فليس شيء من الخلْق يطيقه.
    قال لهم الأمناء: ومنْ صديق أسا؟ وكم عدد جنوده؟ وكيف مواجهته وقتالُه؟ وكم عدد عساكره ومراكبه؟ وأين قراره ومسكنه؟ فأجابهم القوم: أما مسكنُه ففوق السموات العلا، مستوٍ على عرشه، لا يحصى عدد جنوده، وكل شيء من الخلق له عبد، لو أمر البحر لطمّ على البر، ولو أمر الأنهار لغارت في عنصرها ولا يُرى ولا يعرف قراره، وهو صديق أسا وناصره.
    فجعل الأمناء يكتبون كل شيء أخبروا به من أمر أسا وقضية أمره، فدخل بعض هؤلاء الأمناء عليه فقالوا: يأيها الملك، إن معنا هدية نريد أن نهديها لك من طرائف بلادنا، أو تشتري منا فنُرخصه عليك.
    قال لهم: أئتوني بذلك حتى أنظر إليه، فلما أتوه به قال لهم: هل يبقى هذا لأهله ويبقون له؟ قالوا: بل يفنى هذا ويفنى أهله. قال لهم أسا: لا حاجة لي فيه، إنما طَلِبتي ما تبقى بهجتُه لأهله، لا تزول ولا يزولون عنه.
    فخرجوا من عنده، وردّ عليهم هديتهم، فساروا من بيت المقدس متوجهين إلى زرح الهندي ملكهم. فلما أتوه نشروا له كتاب خبرهم وأنبئوه بما انتهى إليهم من أمر ملكهم، وأخبروه بصديق أسا. فلما سمع زرح كلامَهم استحلفهم بعزّته، وبالشمس والقمر اللذين يعبدونهما ولهما يصلّون ألا يكتموه من خبر ما رأوا في بني إسرائيل شيئًا. فصدّقوه.
    فلما فرغوا من خبرهم وخبرُ أسا ملكهم وصديقه، قال لهم زرح: إن بني إسرائيل لما علموا أنكم جواسيس، وأنكم قد اطلعتم على عوراتهم ذكروا لكم صديق أسا وهم كاذبون؛ أرادوا بذلك ترهيبكم. إن صديق أسا لا يطيق أن يأتيَ بأكثر من جندي، ولا بأكمل من عدّتي، ولا بأقسى قلوبًا ولا أجرأ على القتال من قومي؛ إن لقيَني بألف لقيته بأكثر من ذلك.
    ثم عمد زرح عند ذلك فكتب إلى كل من في طاعته أن يجهّزوا من كل مخلاف جندًا بعدّتهم حتى استمد يأجوج ومأجوج والترك وفارس مَنْ سواهم من الأمم ممن جرت عليه لزرح طاعة، كتب: من زرح الجبار الهندي ملك الأرضين، إلى من بلغته كتبي: أما بعد فإن لي أرضًا قد دنا حصادُها وأينع ثمرُها؛ وأردت أن تبعثوا إلي بعمال أغنّمهم ما حصدوا منها، وهم قوم قصَوْا عني، وغلَبوا على أطراف من أرضي وقهروا مَنْ تحت أيديهم من رقيقي، وقد منحتهم مَنْ نهض إليهم معي، فإن قصّرت بكم قوّة فعندي قوّتكم، فإنه لا تتعطل خزائني.
    فاجتمعوا إليه من كل ناحية، وأمدّوه بالخيل والفرسان والرجالة والعدة؛ فلما اجتمعوا عنده أمكنهم من السلاح والجهاز من خزائنه، ثم أمر بإحصاء عددهم وتعبيتهم، فبلغ عددهم ألف ألف ومائة ألف سوى أهل بلادهم. وأمر بمائة مركب فقِرن له البغال، كل أربعة أبغُل جميعًا عليها سرير وقبّة، وفي كل قبّة منها جارية، ومع كل مركب عشرة من الخدم، وخمسة أفيال من فيلَته، فبلغ في كل عسكر من عساكره مائة ألف، وجعل خاصته الذين يركبون معه مائة من رؤوسهم، وجعل في كل عسكر عرفاء، وخطبهم وحرّضهم على القتال، فلما نظر إليهم وسار فيهم تعزّز وتعظّم شأنه في قلوب مَنْ حضره، ثم قال زرح: أين صديق أسا؟ هل يستطيع أن يعصمَه مني؟ أو مَنْ يطيق غلبتي؟ فلو أن أسا وصديقه ينظران إلي وإلى جندي ما اجترأ على قتالي؛ لأن عندي بكل واحد من جنده ألفًا من جنودي، ليَدخُلنّ أسا أرضي أسيرًا، ولأقدمنّ سُبِيًّا في جنودي.
    فجعل زرح ينتقص أسا ويقول فيه ما لا ينبغي، فبلغ أسا صنيعُ زرح وجمعُه عليه، فدعا ربه فقال: اللهم أنت الذي بقوّتك خلقت السموات والأرض ومَنْ فيهنّ حتى صار جميع ذلك في قبضتك، أنت ذو الأناة الرفيقة، والغضب الشديد، أسألك ألا تذكرنا بخطايانا فيما بيننا وبينك، ولا تعمدنا ولا تجزينا على معصيتك؛ ولكن تذكرنا برحمتك التي جعلتَها للخلائق، فانظر إلى ضَعفنا وقوة عدونا، وانظر إلى قلّتنا وكثرة عدونا، وانظر إلى ما نحن فيه من الضيق والغمّ، وانظر إلى ما فيه عدوّنا من الفرح والراحة، فغرق زرحًا وجنوده في اليم بالقدرة التي غرّقت بها فرعون وجنوده، وأنجيت موسى وقومه. وأسألك أن تُحلّ على زرح وقومه عذابك بغتة! فأرِيَ أسا في المنام - والله أعلم - أني قد سمعت كلامَك، ووصل إلي جُؤارُك، وأني على عرشي، وأني إن غرّقت زرحًا الهندي وقومه، لم يعلم بنو إسرائيل ولا مَنْ كان بحضرتهم كيف صنعت بهم، ولكن سأظهِر في زرح وقومه لك ولمن اتبعك قدرة من قدرتي، حتى أكفيك مؤنتهم، وأهبَ لك غنيمتهم، وأضعَ في أيديكم عساكرَهم؛ حتى يعلم أعداؤك أن صديق أسا لا يطاق وليّه، ولا يهزَم جنده، ولا يخيب مُطيعُه، فأنا أتمهل له حتى يفرغ من حاجته، ثم أسوقه إليك عبدًا، وعساكره لك ولقومك خَوَلًا.
    فسار زرح ومن معه حتى حلّوا على ساحل ترشيش، فلم يكن إلا محلة يوم حتى دفنوا أنهارها، ومحوا مروجَها؛ حتى كان الطير ينقصف عليهم، والوحش لا تستطيع الهرب منهم، فساروا حتى كانوا على مرحلتين من إيلياء، ففرّق زرح عساكره منها إلى إيلياء، وامتلأت منهم تلك الأرضُ جبالها وسهولها، وامتلأت قلوبُ أهل الشام منهم رُعبًا، وعاينوا هَلكتهم.
    فسمع بهم أسا الملك؛ فبعث إليهم طليعة من قومه، وأمرهم أن يخبروه بعددهم وهيئتهم. فسار القوم الذين بعثهم أسا حتى نظروا إليهم من رأس تلّ، ثم رجعوا إلى أسا فأخبروه أنه لم تر عيون بني آدم، ولا سمعت آذانهم مثلَهم ومثلَ أفيالهم وخيولهم وفرسانهم؛ وما ظننّا أن في الناس مثلَهم كثرة وعدة، فلَّت من إحصائهم عقولُنا، وفُلَّت من قتالهم حيلتنا، وانقطع بيننا وبينهم رجائنا فسمع بذلك أهلُ القرية فشقّوا ثيابهم، وذرّوا التراب على رؤوسهم، وعجّوا بالعويل في أزقّتهم وأسواقهم، وجعل بعضُهم يودّع بعضًا. ثم ساروا حتى أتوا الملك فقالوا: نحن خارجون بأجمعنا إلى هؤلاء القوم فدافعون إليهم أيديَنا، لعلهم أن يرحمونا فيقرّونا في بلادنا. قال لهم أسا الملك: معاذ الله أن نُلقي بأيدينا في أيدي الكفرة، وأن نُخلّيَ بيت الله وكتابه للفجرة! قالوا: فاحتلْ لنا حيلة، واطلب إلى صديقك وربك الذي كنت تعدُنا بنصره وتدهونا إلى الإيمان به، فإن هو كشفَ عنا هذا البلاء؛ وإلا وضعنا أيدينا في أيدي عدونا لعلنا نتخلّص بذلك من القتل.
    قال لهم أسا: إن ربي لا يطاق إلا بالتضرع والتبتل والاستكانة. قالوا: فابرز له لعله أن يجيبك فيرحم ضعيفنا، فإن الصديق لا يسلِم صديقه على مثل هذا. فدخل أسا المصلى، ووضع تاجه من رأسه، وخلّى ثيابه، ولبس المُسوح وافترش الرماد، ثم مدّ يده يدعو ربع بقلب حزين، وتضرّع كثير، ودموع سِجال، وهو يقول: اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم، إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ أنت المستخفى من خلْقك حيث شئت ولا يدرَك قرارك، ولا يطاق كنْهُ عظمتك، أنت اليقظان الذي لا تنام، والجديد الذي لا تبليك الليالي والأيام؛ أسألك بالمسألة التي سألك بها إبراهيم خليلك فأطفأت بها عنه النار، وألحقته بها بالأبرار، وبالدعاء الذي دعاك به نجيُّك موسى فأنجيت بني إسرائيل من الظلَمة، وأعتقهم به من العبودية، وسيّرتهم في البر والبحر، وغرّقت فرعون ومن اتبعه. وبالتضرّع الذي تضرّع لك عبدك داود فرفعته، ووهبتَ له من بعد الضعف القوة، ونصرتَه على جالوت الجبار، وهزمتَه. وبالمسألة التي سألك بها سليمان نبيك فمنحته الحكمة، ووهبت له الرفعة، وملّكته على كل دابّة. أنت محيي الموتى، ومُفني الدنيا، وتبْقَى وحدك خالدًا لا تفنى، وجديدًا لا تبلى. أسألك يا إلهي أن ترحمني بإجابة دعوتي، فإني أعرجُ مسكين من أضعف عبادك، وأقلهم حيلة، وقد حل بنا كرب عظيم، وحزب شديد، لا يطيق كشفه غيرك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك، فارحم ضعفنا بما شئت، فإنك ترحم من تشاء بما تشاء.
    وجعل علماء بني إسرائيل يدعون الله خارجًا وهم يقولون: اللهم أجب اليوم عبدك، فإنه قد اعتصم بك وحدك، ولا تخل بينه وبين عدوك، واذكر حبه إياك، وفراقه أمه وجميع الخلائق إلا من أطاعك.
    فألقى الله على أسا النوم وهو في مصلاه ساجدًا، ثم أتاه من الله آت - والله أعلم - فقال: يا أسا، إن الحبيب لا يُسلم حبيبه، وإن الله عز وجل يقول إني قد ألقيت عليك محبتي ووجب لك نصري فأنا الذي أكفيك عدوك، فإنه لا يهون من توكل علي، ولا يضعف من تقوي بي. كنت تذكرني في الرخاء، وأسلمك عند الشدائد، وكنت تدعوني آمنًا، وأنا أسلمك خائفًا، إن الله القوي يقول: أنا أقسم أن لو كايدتك السموات والأرض بمن فيهن لجعلت لك من جميع ذلك مخرجًا، فأنا الذي أبعث طرفًا من زبانيتي يقتلون أعدائي، فإني معك، ولن يخلُص إليك ولا إلى من معك أحد.
    فخرج أسا من مصلاه وهو يحمد الله، مسفرًا وجهه، فأخبرهم بما قيل له، فأما المؤمنون فصدقوه، وأما المنافقون فكذبوه، وقال بعضهم لبعض: إن أسا دخل أعرج وخرج أعرج، ولو كان صادقًا أن الله قد أجابه إذًا لأصلح رجله، ولكن يغرنا ويمنينا، حتى تقع الحرب فينا فيهلكنا! فبينا الملك يخبرهم عن صنع الله بهم إذ قدم رسل من زرح فدخلوا إيلياء ومعهم كتب من زرح إلى أسا، فيها شتم له ولقومه، وتكذيب بالله، وكتب فيها: أن أدعُ صديقك الذي أضللت به قومك فليبارزني بجنوده، وليظهر لي مع أني أعلم أنه لن يطيقني هو ولا غيره، لأني أنا زرح الهندي الملك.
    فلما قرأ أسا الكتب التي قدم بها عليه هملت عيناه بالبكاء، ثم دخل مصلاه ونشر تلك الكتب بين يدي الله، ثم قال: اللهم ليس لي شيء من الأشياء أحب إلي من لقائك، غير أني أتخوف أن يطفأ هذا النور الذي أظهرته في أيامي هذه، وقد حضرت هذه الصحائف وعلمتُ ما فيها، ولو كنت المراد بها كان ذلك يسيرًا، غير أن عبدك زرحًا يكايدك ويتناولك، فخر بغير فخر، وتكلم بغير صدق، وأنت حاضر ذلك وشاهده.
    فأوحى الله إلى أسا - والله أعلم - أنه لا تبديل لكلماتي، ولا خلف لموعدي، ولا تحويل لأمري، فاخرج من مصلاك، ثم مر خيلك أن تجتمع، ثم اخرج بهم وبمن اتبعك حتى تقفوا على نشز من الأرض.
    فخرج أسا فأخبرهم بما قيل له، فخرج اثنا عشر رجلًا من رؤسائهم، مع كل رجل منهم رهط من قومه، فلما أن خرجوا، ودعوا أهاليهم بألا يرجعوا إلى الدنيا. فوقفوا لزرح على رابية من الأرض، فأبصروا منها زرحًا وقومه، فلما أبصرهم زرح نفض رأسه ليسخر منهم، وقال: إنما نهضت من بلادي، وأنفقت أموالي لمثل هؤلاء! ودعا عند ذلك بالنفر الذين كانوا نعتوا عنده أسا وقومه، فقال: كذبتموني وزعمتم أن قومكم كثير عددهم! فأمر بهم وبالأمناء الذين كان بعثهم ليخبروه خبرهم، فقتلوا جميعًا، وأسا في ذلك كثير تضرعه، معتصم بربه، فقال زرح: ما أدري ما أفعل بهؤلاء القوم؟ وما أدري ما قدر قلتهم في كثرتنا؟ إني لأستقلهم عن المحاربة وأرى ألا أقاتلهم.
    فأرسل زرح إلى أسا فقال له: أين صديقك الذي كنت تعدنا به، وتزعم أنه يخلصك مما يحل بكم من سطواتي! أفتضعون أيديكم في يدي فأمضى فيكم حكمي، أو تلتمسون قتالي! فأجابه أسا فقال: يا شقي، إنك لست تعلم ما تقول. ولست تدري! أتريد أن تغالب ربك بضعفك، أم تريد أن تكاثره بقلتك؟ هو أعز شيء وأعظمه، وأغلبُ شيء وأقهره، وعبادهُ أذل وأضعف عنده من أن ينظروا إليه معاينة هو معي في موقفي هذا ولن يغلب أحد كان الله معه فاجتهد يا شقي بجهدك حتى تعلم ماذا يحل بك.


  • #71
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فلما اصطف قوم زرح وأخذوا مراتبهم، أمر زرح الرماة من قومه أن يرموهم بنشابهم. فبعث الله ملائكة من كل سماء - والله أعلم - عونًا لأسا وقومه، ومادة له، فوقفهم أسا في مواقفهم، فلما رموا نشابهم، حال المشركون بين ضوء الشمس وبين الأرض، كأنها سحابة طلعت فنحتها الملائكة عن أسا وقومه، ثم رمت بها الملائكة قوم زرح، فأصابت كل رجل منهم نشابته التي رمى بها، فقتل رماتهم بها كلها وأسا وقومه في كل ذلك يحمدون الله كثيرًا، ويعجون إليه بالتسبيح، وتراءت الملائكة لهم - والله أعلم - فلما رآهم الشقي زرح وقع الرعب في قلبه، وسقط في يده، وقال: إن أسا لعظيم كيده، ماض سحره، وكذلك بنو إسرائيل، حيث كانوا لا يغلب سحرهم ساحر، ولا يطيق مكرهم عالم، وإنما تعلّموه من مصر، وبه ساروا في البحر، ثم نادى الهندي في قومه: أن سلوا سيوفكم، ثم احملوا عليهم حملة واحدة فدقوهم.
    فسلوا سيوفهم ثم حملوا على الملائكة فقتلتهم الملائكة، فلم يبقى منهم غير زرح ونسائه ورقيقه.
    فلما رأى ذلك زرح ولى مدبرًا فارًا هو ومن معه، وهو يقول: إن أسا ظهر علانية، وأهلكني صديقه سرًا، وإن كنتُ أنظر إلى أسا ومن معه واقفين لا يقاتلون والحرب واقعة في قومي.
    فلما رأى اسا أن زرحا قد ولى مدبرًا قال: اللهم إن زرحًا قد ولى مدبرًا، وإنك إن لم تحل بيني وبينه استنفر علينا قومه ثانية. فأوحى الله إلى أسا إنك لم تقتل من قتل منهم ولكني قتلتهم، فقف مكانك، إني لو خليت بنيك وبينهم أهلكوكم جميعًا، إنما يتلقب زرح في قبضتي، ولن ينصره أحد مني، وأنا لزرح بالمكان الذي لا يستطيع صدودًا عنه ولا تحويلًا، وإني قد وهبت لك ولقومك عساكره وما فيها من فضة ومتاع ودابة، فهذا أجرك إذ اعتصمت بي، ولا ألتمس منك أجرًا على نصرتك! فسار زرح حتى أتى البحر يريد بذلك الهرب، ومعه مائة ألف، فهيئوا سفنهم ثم ركبوا فيها، فلما ساروا في البحر بعث الله الرياح من أطراف الأرضين والبحار إلى ذلك البحر واضطربت من كل ناحية أمواجُه، وضربت السفن بعضها بعضًا حتى تكسرت، فغرق زرح ومن كان معه، واضطربت بهم الأمواج حتى فزع لذلك أهلُ القرى حولهم، ورجفت الأرض، فبعث أسا من يعلمه علم ذلك، فأوحى الله إليه - والله أعلم - أن اهبط أنت وقومك أهل قراكم فخذوا ما غنّمكم الله بقوة، وكونوا فيه من الشاكرين، فإني قد سوغت كل من أخذ من هذه العساكر شيئًا ما أخذه. فهبطوا يحمدون الله ويقدسونه، فنقلوا تلك العساكر إلى قراهم ثلاثة أشهر. والله أعلم.
    ثم ملك بعده يهوشافاظ بن أسا إلى أن هلك خمسًا وعشرين سنة ثم ملكت عتليا وتسمى عزليا ابنة عمرم أم أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني إسرائيل، فلم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، فإنه ستر عنها، ثم قتلها يواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين.
    ثم ملك يواش بن أخزيا إلى أن قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدته فكان ملكه أربيعن سنة.
    ثم ملك أموصيا بن يواش إلى أن قتله أصحابه تسعًا وعشرين سنة، ثم ملك عوزيا بن أموصيا - وقد يقال لعوزيا: غوزيا - إلى أن توفي، اثنتين وخمسين سنة.
    ثم ملك يوتام بن عوزيا إلى أن توفي ست عشرة سنة.
    ثم ملك أحاز بن يوتام إلى أن توفي، ست عشرة سنة.
    ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي. وقيل إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرع إلى ربه فزاده وأمهله، وأمر شعيا بإعلامه ذلك.
    وأما محمد بن إسحاق فإنه قال: صاحب شعيا الذي هذه القصة قصته اسمه صديقة.
    ذكر صاحب قصة شعيا من ملوك بني إسرائيل وسنحاريب

    حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: كان فيما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل وإحداثهم وما هم فاعلون بعده، قال: " وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوًا كبيرًا " - إلى - " وجعلنا جهنم للكافرين حصيرًا "، فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزًا عنهم، متعطفًا عليهم، محسنًا إليهم، وكان مما أنزل الله بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر عنهم على لسان موسى. فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع، أن ملكًا منهم كان يدعى صديقة، وكان الله إذا ملك الملك عليهم بعث نبيًا يسدده ويرشده، فيكون فيما بينه وبين الله، يحدث إليه في أمرهم. لا ينزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها، وينهونهم عن المعصية، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة.
    فلما ملك ذلك الملك بعث الله معه شعيا بن أمصيا، وذلك قبل مبعث عيسى وزكرياء ويحيى وشعيا الذي بشر بعيسى ومحمد، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانًا، فلما انقضى ملكه، وعظمت فيهم الأحداث، وشعيا معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل معه ستمائة ألف راية، فأقبل سائرًا حتى نزل حول بيت المقدس والملك مريض، في ساقه قرحة، فجاءه النبي شعيا، فقال له: يا ملك بني إسرائيل، إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده في ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكُبر ذلك على الملك، فقال: يا نبي الله، هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده؟ فقال له النبي عليه السلام: لم يأتني وحي حدث إلي في شأنك.
    فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعيا النبي: أن ائت ملك بني إسرائيل فأمره أن يوصى بوصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتى النبي شعيا ملك نبي إسرائيل صديقة، فقال له: إن ربك قد أوحى إلى أن آمرك توصى وصيتك، وتستخلف من شئت على الملك من أهل بيتك، فإنك ميت.
    فلما قال ذلك شعيا لصديقة: أقبل على القبلة، فصلى وسبح، ودعا وبكى، وقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص، وتوكل وصبر، وظن صادق: اللهم رب الأرباب، وإله الآلهة والقدوس المتقدس، يا رحمن يا رحيم، المترحم، الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم. اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك، فأنت أعلم به من نفسي وسري وعلانيتي لك. وإن الرحمن استجاب له وكان عبدًا صالحًا. فأوحى الله إلى شعيا، فأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه، وقد رأى بكاءه، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده. فلما قال له ذلك، ذهب عنه الوجع، وانقطع عنه الشر والحزن، وخر ساجدًا، وقال: يا إلهي وإله آبائي، لك سجدت وسبحت، وكرمت وعظمت. أنت الذي تعطي الملك من تشاء، وتنزعه من تشاء، وتعز من تشاء، وتذلك من تشاء، عالم الغيب والشهادة، أنت الأول والآخر، والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي، ورحمت تضرعي.
    فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعيا: أن قل للملك صديقة، فيأمر عبدًا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ويصبح وقد برئ. ففعل ذلك فشفي. وقال الملك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا فقال الله لشعيا النبي قل له إني قد كفيناه عدوك لشعيا النبي: سل ربك أن يجعل لنا علمًا بما هو صانع بعدونا هذا. فقال الله لشعيا النبي: قل له إن قد كفيتك عدوك، وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه.
    فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فاخرج، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يودد في الموتى، فبعث الملك في طلبه، فأدركه الطلب في مغاره وخمسة من كتابه أحدهم بختنصر، فجعلوهم في الجوامع، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل، فلما رآهم خر ساجدًا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون! فقال سنحاريب له: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي، فلم أطع مرشدًا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي. فقال ملك بني إسرائيل: الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك إلى ما هو شر لك ولمن معك. لتزدادوا شقوة في الدنيا، وعذابًا في الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا، ولتنذروا من بعدكم، ولولا ذلك ما أبقاكم. ولدمك ودم من معك أهونُ على الله من دم قُراد لو قتلته! ثم إن ملك بن إسرائيل أمر أمير حرسه فقذف في رقابهم الجوامع، وطاف بهم سبعين يومًا حول بيت المقدس، وكان يرزقهم كل يوم خبزتين من شعير، لكل رجل منهم، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتلُ خير مما تفعل بنا: فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك إلى سجن القتل، فأوحى الله إلى شعيا النبي: أن قل لملك نبي إسرائيل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، ولكيرمهم وليحملهم. حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ النبي شعيا الملك ذلك، ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل، فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهانهو وسحرته: يا ملك بابل، قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحى الله إلى نبيهم، فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد من ربهم، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا به، ثم كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
    وقد زعم بعض أهل الكتاب أن هذا الملك من بين إسرائيل الذي سار إليه سنحاريب كان أعرج، وكان عرجه من عرق النسا، وأن سنحاريب إنما طمع في مملكته لزمانته وضعفه، وأنه قد كان سار إليه قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل، يقال له ليفر، وكان بختنصر ابن عمه كاتبه، وأن الله أرسل عليه ريحًا أهلكت جيشه، وأفلتَ هو وكاتبه، وأن هذا البابلي قتله ابن له، وأن بختنصر غضب لصاحبه، فقتل ابنه الذي قتل أباه، وأن سنحاريب سار بعد ذلك إليه، وكان مسكنه بنينوى مع ملك أذربيجان يومئذ، وكان يدعي سلمان الأعسر، وأن سنحاريب وسليمان اختلفا، فتحاربا حتى تفانيا جنداهما، وصار ما كان معهما غنيمة لبني إسرائيل.
    وقال بعضهم: بل الذي غزا حزقيا صاحب شعيا سنحاريبُ ملك الموصل وزعم أنه لما أحاط ببيت المقدس وبجنوده بعث الله ملكًا، فقتل من أصحابه في ليلة واحدة مائة ألف وخمسة وثمانين ألف رجل. وكان ملكه إلى أن توفي تسعًا وعشرين سنة.
    ثم ملك بعده - فيما قيل - أمرهم منشيا بن حزيقيا إن أن توفي خمسًا وخمسين سنة.
    ثم ملك بعد أمون بن منشيا إلى أن قتله أصحابهُ، اثنتى عشرة سنة.
    ثم ملك بعده يوشيا بن أمون إلى أن قتله فرعون الأجدع المقعد ملك مصر، إحدى وثلاثين سنة.
    ثم ****احاز بن يوشيا، وكان فرعون الأجدع قد غزاه وأسره وأشخصه إلى مصر، وملك فرعون الأجدع يوياقيم بن ****احاز على ما كان عليه أبوه، ووظف عليه خراجًا يؤديه إليه، فكان يوياقيم يجبى ذلك - فيما زعموا - من بني إسرائيل، ويحمله - فيما زعموا - اثنتي عشرة سنة.
    ثم ملك أمرهم من بعده يوياحين بن يوياقيم، فغزاه بختنصر، فأسره وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه. وملك مكانه متنيًا عمه وسماه صديقيا فخالفه، فغزاه فظفر به، فأوثقه وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده بين يديه، وسمل عينيه وخرب المدينة والهيكل، وسبى بني إسرائيل، وحملهم إلى بابل، فمكثوا بها إلى أن ردهم إلى بيت المقدس كيرش بن جاماسب ابن أسب، من أجل القرابة التي كانت بينه وبينهم، وذلك أن أمه أشتر ابنة جاويل - وقيل حاويل - الإسرائيلي، فكان جميع ما ملك صديقيًا مع الثلاثة الأشهر التي ملك فيها يوياحين - فيما قيل - إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر.
    ثم صار ملك بيت المقدس والشام لأشتاسب بن لهراسب، وعامله على ذلك كله بختنصر.
    وذكر محمد بن إسحاق، فيما حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه: أن صديقة ملك بني إسرائيل الذي قد ذكرنا خبره، لما قبضه الله مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، حتى قتل بعضهم بعضًا عليه، ونبيهم شعيا معهم، لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك قال الله - فميا بلغنا - لشعيا: قم في قومك أوح على سانك، فلما قام أنطق الله لسانه بالوحي، فوعظهم وذكرهم وخوفهم الغير، بعد أن عدد عليهم نعم الله عليهم، وتعرضهم للغير.
    قال: فلما فرغ شعيا إليهم من مقالته عدوا عليه - فيما بلغني - ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة، فانفلقت له، فدخل فيها وأدركه الشيطان. فاخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها، فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها.
    وقد حدثني بقصة شعيا وقومه من بني إسرائيل وقتلهم إياه، محمد بن سهل البخاري، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه.


  • #72
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ذكر خبر لهراسب وابنه بشتاسب وغزو بختنصر بني إسرائيل وتخريبه بيت المقدس

    ثم ملك بعد كيخسرو من الفرس لهراسب بن كيوجي بن كيمنوش بن كيفاشين، باختيار كيخسرو إياه، فلما عقد التاج على رأسه قال: نحن مؤثرون البر على غيره. واتخذ سريرًا من ذهب مكللًا بأنواع الجواهر للجلوس عليه، وأمر فبنيت له بأرض خرسان مدينة بلخ، وسماها الحسناء، ودون الدواوين، وقوى ملكه بانتخابه لنفسه الجنود، وعمر الأرض واجتبى الخراج لأرزاق الجنود، ووجه بختنصر، وكان اسمه بالفارسية - فيما قيل - بخترشه.
    فحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك لهراسب - وهو ابن أخي قبوس - فبنى مدينة بلخ، فاشتدت شوكة الترك في زمانه، وكان منزله ببلخ يقاتل الترك. قال: وكان بختنصر في زمانه، وكان أصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم في غربي دجلة، فشخص حتى أتى دمشق فصالحه أهلها ووجه قائدًا له فأتى بيت المقدس فصالح ملك بني إسرائيل، وهو رجل من ولد داود، وأخذ منه رهائن وانصرف. فلما بلغ طبرية وثبت بنو إسرائيل على ملكهم فقتلوه، وقالوا: راهنت أهل بابل وخذلتنا! واستعدوا للقتال، فكتب قائد بختنصر إليه بما كان، فكتب إليه يأمره أن يقيم بموضعه حتى يوافيه، وأن يضرب أعناق الرهائن الذين معه، فسار بختنصر حتى أتى بيت المقدس، فأخذ المدينة عنوة، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية.
    قال: وبلغنا أنه وجد في سجن بني إسرائيل إرميا النبي، وكان الله تعالى بعثه نبيًا - فيما بلغنا - إلى بني إسرائيل. يحذرهم ما حلّ بهم من بختنصر، ويعلهم أن الله مسلط عليهم من يقتل مقاتلتهم، ويسبى ذراريهم، إن لم يتوبوا وينزعوا عن سيء أعمالهم. فقال له بختنصر: ما خطبك؟ فأخبره أن الله بعثه إلى قومه ليحذرهم الذي حل بهم، فكذبوه حبسوه. فقال بختنصر: بئس القوم قوم عصوا رسول ربهم! وخلى سبيله، وأحسن إليه. فاجتمع إليه من بقي من ضعفاء بني إسرائيل، فقالوا: إنا قد أسأنا وظلمنا، ونحن نتوب إلى الله مما صنعنا، فادع الله أن يقبل توبتنا. فدعا ربه فأوحى إليه أنهم غيرُ فاعلين، فإن كانوا صادقين فليقيموا معك بهذه البلدة، فأخبرهم بما أمرهم الله به، فقالوا: كيف نقيم ببلدة قد خربت وغضب الله على أهلها! فأبوا أن يقيموا، فكتب بختنصر إلى ملك مصر: إن عبيدًا لي هربوا مني إليك، فسرحهم إلي، وإلا عزوتك وأوطأت بلادك الخيل. فكتب إليه ملك مصر: ماهم بعبيدك، ولكنهم الأحرار أبناء الأحرار، فغزاه بختنصر فقتله، وسبى أهل مصر، ثم سار في أرض المغرب، حتى بلغ أقصى تلك الناحية، ثم انطلق بسبي كثير من أهل فلسطين والأردن، فيهم دانيال وغيره من الأنبياء.
    قال: وفي ذلك الزمان تفرقت بنو إسرائيل، ونزل بعضهم أرض الحجاز بيثرب ووادي القرى، وغيرها.
    قال: ثم أوحى الله إلى إرميا - فيما بلغنا: إنى عامر بيت المقدس فاخرج إليها، فأنزلها. فخرج إليها حتى قدمها وهي خراب، فقال في نفسه: سبحان الله! أمرني الله أن أنزل هذه البلدة، وأخبرني أنه عامرها، فمتى يعمر هذه، ومتى يحييها الله بعد موتها! ثم وضع رأسه فنام ومعه حماره وسلة فيها طعام، فمكث في نومه سبعين سنة، حتى هلك بختنصر والملك الذي فوقه، وهو لهراسب الملك الأعظم وكان ملك لهراسب مائة وعشرين سنة. وملك بعده بشتاسب ابنه، فبلغه، عن بلاد الشأم أنها خراب، وأن السباع قد كثرت في أرض فلسطين، فلم يبق بها من الإنس أحد، فنادى في أرض بابل في بني إسرائيل: إن من شاء أن يرجع إلى الشام فليرجع. وملك عليهم رجلًا من آل داود، وأمره أن يعمر بيت المقدس ويبني مسجدها، فرجعوا فعمروها، وفتح الله لإرميا عينيه، فنظر إلى المدينة كيف تعمر وتبنى، ومكث في نومه ذلك، حتى تمت له مائة سنة، ثم بعثه الله وهو لا يظن أنه نام أكثر من ساعة وقد عهد المدينة خرابًا يبابًا، فلما نظر إليها قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
    قال: وأقام بنو إسرائيل ببيت المقدس ورد إليهم أمرهم، وكثروا بها حتى غلبت عليهم الروم في زمان ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
    قال هشام: وفي زمان بشتاسب ظهر زرادشت، الذي تزعم المجوس أنه نبيهم، وكان زرادشت - فيما زعم قوم من علماء أهل الكتاب - من أهل فلسطين، خادمًا لعبض تلامذة إرميا النبي خاصًا به، أثيرًا عنده، فخانه فكذب عليه، فدعا الله عليه، فبرص فلحق ببلاد أذربيجان، فشرع بها دين المجوسية، ثم خرج منها متوجهًا نحو بشتاسب، وهو ببلخ، فلما قدم عليه وشرح له دينه أعجبه فقسر الناس على الدخول فيه، وقتل في ذلك من رعيته مقتلة عظيمة، ودانوا به، فكان ملك بشتاسب مائة سنة واثنتى عشرة سنة.
    وأما غيره من أهل الأخبار والعلم بأمور الأوائل فإنه ذكر أن كي لهراسب كان محمودًا في أهل مملكته، شديد القمع للملوك المحيطة بإيران شهر، شديد التفقد لأصحابه، بعيد الهمة كثير الفكر في تشييد البنيان، وشق الأنهار وعمارة البلاد، فكانت ملوك الروم والمغرب والهند وغيرهم يحملون إليه في كل سنة وظيفة معروفة وإتاوتة معلومة، ويكاتبونه بالتعظيم ويقرون له أنه ملك الملوك هيبة له وحذرًا.
    قال: ويقال: إن بختنصر حمل إليه من أوريشلم خزائن وأموالًا، فلما أحس بالضعف من قوته ملك ابنه بشتاسب، واعتزل الملك وفوضه إليه، وكان ملك لهراسب - فيما ذكر - مائة سنة وعشرين سنة.
    وزعم أن بختنصر هذا الذي غزا بني إسرائيل اسمه " بخترشه "، وأنه رجل من العجم، من ولد جوذرز، وأنه عاش دهرًا طويلًا جاوزت مدته ثلثمائة سنة، وأنه كان في خدمة لهراسب الملك، أبي بشتاسب، وأن لهراسب وجهه إلى الشام وبيت المقدس ليجلي عنها اليهود. فسار إليها ثم انصرف، وأنه لم يزل من بعد لهراسب في خدمة ابنه بشتاسب، ثم في خدمة بهمن من بعده، وأن بهمن كان مقيمًا بمدينة بلخ - وهي التي كانت تسمى الحسناء - وأنه أمر بخترشه بالتوجه إلى بيت المقدس ليجلي اليهود عنها، وأنّ السبب في ذلك وثوبُ صاحب بيت المقدس على رسل كان بهمن وجههم إليه، وقتله بعضهم. فلما ورد الخبر على بهمن دعا بخرشه فملكه على بابل، وأمره بالمسير إليها، والنفوذ منها إلى الشام وبيت المقدس، والقصد إلى اليهود حتى يقتل مقاتلهم، ويسبى ذراريهم، وبسط يده فيمن يختار من الأشراف والقواد، فاختار من أهل بيت المملكة داريوش بن مهرى، من ولد ماذي بن يافث بن نوح، وكان ابن أخت يخترشه. واختار كبرش كيكوان من ولد غليم بن سام، وكان خازنًا على بيت مال بهمن، وأخشويرش بن كيرش بن جاماسب الملقب بالعالم، وبهرام بن كيرش بن بشتاسب. فضم بهمن إليه من أهله وخاصته هؤلاء الأربعة، وضم إليه من وجوه الأساورة ورؤسائهم ثلثمائة رجل، ومن الجند خمسين ألف رجل، وأذن له من أن يفرض ما احتاج إليه، وفي إثباتهم. ثم أقبل بهم حتى صار إلى بابل، فأقام بها للتجهز والاستعداد سنة، والتفت إليه جماعة عظيمة، وكان فيمن سار إليه رجل من ولد سنحاريب، الملك الذي كان غزا حزقيا بن أحاز الملك، الذي كان بالشام وببيت المقدس من ولد سليمان بن داود صاحب شعيا، يقال له بختنصر بن نبوزرادان بن سنحاريب، صاحب الموصل وناحيتها، بن داريوش بن عبيري بن تيرى بن روبا ابن رابيا بن سلامون بن داود بن طامي بن هامل بن هرمان بن فودي بن همول بن درمي بن قمائل بن صاما بن رغما بن نمروذ بن كوش بن حام بن نوح عليه السلام.
    وكان مسيره إليه بسبب ما كان آتى خزقيًا وبنو إسرائيل إلى جده سنحاريب عند غزوه إياهم، وتوسل إليه بذلك فقدمه في جماعة كثيرة، ثم اتبعه، فلما توافت العساكر ببيت المقدس، نصر بخترشه على بني إسرائيل لما أراد الله بهم من العقوبة، فسباهم، وهدم البيت وانصرف إلى بابل، ومعه يوياحن بن يوياقيم ملك بني أسرائيل في ذلك الوقت، من ولد سليمان بعد أن ملك متنيا عم يوحينا، وسماه صدقيا.
    فلما صار بختنصر ببابل خالفه صدقيا، فغزاه بختنصر ثانية فظفر به، وأخرب المدينة والهيكل، وأوثق صدقيا، وحمله إلى بابل بعد أن ذبح ولده، وسمل عينيه. فمكث بنو إسرائيل ببابل إلى أن رجعوا إلى بيت المقدس، فكان غلبة بختنصر - المسمى بخترشه - على بيت المقدس إلى أن مات - في قوله هذا الذي حكينا قوله - أربعين سنة.
    ثم قام من بعده ابن يقال له أولمرودخ، فملك الناحية ثلاثًا وعشرين سنة، ثم هلك وملك مكانه ابن يقال له بلتشصر بن أولمرودخ سنة، فلما ملك بلتشصر خلط في أمره، فعزله بهمن وملك مكانه على بابل. وما يتصل بها من الشأم وغيرها داريوش الماذوي، المنسوب إلى ماذي بن يافث بن نوح عليه السلام حين صار إلى المشرق، فقتل بلتشصر، وملك بابل وناحية الشأم ثلاث سنين. ثم عزله بهمن وولى مكانه كيرش الغيلمي، من ولد غيلم بن سام ابن نوح، الذي كان نزع إلى جامر مع ماذي عندما مضى جامر إلى المشرق، فلما صار الأمر إلى كيرش كتب بهمن أن يرفق ببني إسرائيل، ويطلق لهم النزول حيث أحبوا، والرجوع إلى أرضهم، وأن يولى عليهم من يختارونه، فاختاروا دانيال النبي عليه السلام، فولى أمرهم، وكان ملك كيرش على بابل وما يتصل بها ثلاث سنين، فصارت هذه السنون - من وقت غلبة بختنصر إلى انقضاء أمره وأمر ولده وملك كيرش الغيلمي - معدودة من خراب بيت المقدس، منسوبة إلى بختنصر، ومبلغها سبعون سنة.
    ثم ملك بابل وناحيتها من قبل بهمن رجل من قرابته، يقال له أخشوارش ابن كيرش بن جاماسب، الملقب بالعالم، من الأربعة الوجوه الذين اختارهم بخترشه عند توجهه إلى الشأم من قبل بهمن، وذلك أن أخشوارش انصرف إلى بهمن من عند بختنصر محمودًا، فولاه ذلك الوقت بابل وناحيتها، وكان السبب في ولايته - فيما زعم - أنّ رجلًا كان يتولى لبهمن ناحية السند والهند يقال له كراردشير بن دشكال خالفه، ومعه من الأتباع ستمائة ألف، فولى بهمن أخشويرش الناحية، وأمره بالمسير إلى كراردشير، ففعل ذلك وحاربه، فقتله وقتل أكثر أصحابه، فتابع له بهمن الزيادة في العمل، وجمع له طوائف من البلاد، فلزم السوس، وجمع الأشراف، وأطعم الناس اللحم، وسقاهم الخمر، وملك بابل إلى ناحية الهند والحبشة وما يلي البحر، وعقد لمائة وعشرين قائدًا في يوم واحد الألوية، وصير تحت يد كل قائد ألف رجل من أبطال الجند الذين يعدل الواحد منهم في الحرب بمائة رجل، وأوطن بابل، وأكثر المقام بالسوس، وتزوج من سبى بن إسرائيل امرأة يقال لها أشتر ابنة أبي جاويل، كان رباها ابن عم لها يقال له مردخي، وكان أخاها من الرضاعة، لأن أم مردخي أرضعت أشتر، وكان السبب في تزوجه إياها قتله امرأة كانت له جليلة جميلة خطيرة يقال لها وشتا فأمرها بالبزور ليراها الناس ليعرفوا جلالتها وجمالها، فامتنعت من ذلك قتلها، فلما قتلها جزع لقتلها جزعًا شديدًا، فأشير عليه باعتراض نساء العالم، ففعل ذلك، وحببت إليه أشتر صنعًا لبني إسرائيل، فتزعم النصارى أنها ولدت له عند مسيره إلى بابل ابنًا فسماه كيرش، وأن ملك أخشويرش كان أربع عشرة سنة، وقد علمه مردخ التوراة، ودخل في دين بني إسرائيل، وفهم عن دانيال النبي عليه السلام ومن كان معه حينئذ، مثل حتنيا وميشايل وعازريا، فسألوه بأن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس فأبى وقال: لو كان معني منكم ألف نبي ما فارقني منكم أحد ما دمت حيًا. وولى دانيال القضاء، وجعل إليه جميع أمره أن يخرج كل شيء في الخزائن مما كان بختنصر أخذه من بيت المقدس ويرده، وتقدم في بناء بيت المقدس، فبنى وعمر في أيام كيرش بن أخشويرش. وكان ملك كيرش، مما دخل في ملك بهمن وخماني اثنتين وعشرين سنة.
    ومات بهمن لثلاثة عشرة سنة مضت من ملك كيرش، وكان موت كيرش لأربع سنين مضين من ملك خماني، فكان جميع ملك كيرش بن أخشويرش اثنتين وعشرين سنة.
    فهذا ما ذكر أهل السير والأخبار في أمر بختنصر وما كان من أمره وأمر بني إسرائيل.
    وأمّا السلف من أهل العلم فإنهم قالوا في أمرهم أقوالًا مختلفة، فمن ذلك ما حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: حدثني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جنبير، أنه سمعه يقول: كان رجل من بني إسرائيل يقرأ، حتى إذا بلغ: " بعثنا عليكم عبادًا لنا أولى بأس شديد " بكى، وفاضت عيناه، ثم أطبق المصحف، فقال: ذلك ما شاء الله من الزمان! ثم قال: أي رب، أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه. فأرى في المنام مسكينًا ببابل يقال له بختنصر، فانطلق بمال وأعبد له - وكان رجلًا موسرًا - فقيل له: أين تريد؟ فقال: أريد التجارة، حتى نزل دارًا ببابل فاستكراها، ليس فيها أحد غيرهُ، فجعل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لا يأتيه أحد إلا أعطاه، فقال هل بقي مسكين غيركم؟ فقالوا: نعم مسكين بفج آل فلان مريض، يقال له بختنصر، فقال لغلمته: انطلقوا بنا، فانطلق حتى أتاه فقال: ما اسمك؟ قال: بختنصر، فقال لغلمته: احتملوه فنقله إليه فمرضه حتى برئ، وكساه وأعطاه نفقة، ثم أذن الإسرائيلي بالرحيل، فبكى بختنصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟ قال: أبكي أنك فعلت بي ما فعلت، ولا أجد شيئًا أجزيك! قال: بل شيئًا يسيرًا، إن ملكت أطعتني. فجعل الآخر يتبعه ويقول تستهزئ بي! ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله إلا أنه يرى أنه يستهزئ به. فبكى الإسرائيلي وقال: لقد علمتُ ما يمنعك ان تعطيني ما سألتك، إلا أن الله عز وجل يريد أن ينفذ ما قضى وكتب في كتابه.
    وضرب الدهر من ضربه، فقال صيحون، وهو ملك فارس ببابل: لو أنا بعثنا طليعة إلى الشأم! قالوا: وما ضرك لو فعلت! قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، فبعث رجلًا، وأعطاه مائة ألف، وخرج بختنصر في مطبخه لا يخرج إلا ليأكل في مطبخه، فلما قدم الشام رأى صاحبُ الطليعة أكثر أرض الله فرسًا ورجلًا جلدًا، فكسره ذلك في ذرعه، فلم يسأل، فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل؟ فلو غزوتموها، فما دون بيت مالها شيء. قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتى تنفد مجالس أهل الشام، ثم رجعوا. فأخبر متقدم الطليعة ملكهم بما رأى، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان. فرفع ذلك إليه، فدعاه فأخبره الخبر، وقال: إن فلانًا لما رأى أكثر أرض الله كراعًا ورجلًا جلدًا، كسر ذلك في ذرعه، ولم يسألهم عن شيء، وإني لم أدع مجلسًا بالشام إلا جالست أهله، فقلت لهم كذا وكذا، فقالوا لي كذا وكذا - للذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم - فقال متقدم الطليعة لبختنصر: فضحتني! لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعتُ. وضرب الدهر من ضربه، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشأم، فإن وجدوا مساغًا ساغوا، وإلا امتشوا ما قدروا عليه. قالوا: ما ضرك لو فعلت! قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان، قال: بل الرجل الذي أخبرني بما أخبرني، فدعا بختنصر، فأرسله وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا، ورمى في جنازة صيحون، قالوا: استخلفوا رجلًا، قالوا: على رسلكم حتى نأتي أصحابكم، فإنهم فرسانكم، أن ينغصوا عليكم شيئًا! فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبى وما معه، فقسمه في الناس فقالوا: ما رأينا أحدًا أحق بالملك من هذا! فملكوه.
    وقال آخرون منهم: إنما كان خروج بختنصر إلى بني إسرائيل لحربهم حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكرياء.

  • صفحة 18 من 21 الأولىالأولى ... 81617181920 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. الرزء الأليم
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الحـــوار العام للمغتربين السوريينDialogue Discussion Forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 07-06-2010, 06:39 PM
    2. فن الرسم في الماء
      بواسطة رامون في المنتدى مكتبــة صــــور المنتدى
      مشاركات: 6
      آخر مشاركة: 07-03-2010, 10:24 PM
    3. فن الرسم على البطاطس
      بواسطة رامون في المنتدى مكتبــة صــــور المنتدى
      مشاركات: 8
      آخر مشاركة: 06-07-2010, 09:56 PM
    4. فن الرسم بالقهوة
      بواسطة رامون في المنتدى مكتبــة صــــور المنتدى
      مشاركات: 5
      آخر مشاركة: 06-06-2010, 01:19 AM
    5. فن الرسم في الفحم
      بواسطة رامون في المنتدى مكتبــة صــــور المنتدى
      مشاركات: 5
      آخر مشاركة: 06-02-2010, 07:42 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1