حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد ابن عمر، قال: حدثني يونس بن محمد، عن أبيه، قال: وحدثني عبد الحميد، عن محمد بن يحيى بن حبان؛ قالا: تسمية القوم الرجال والنساء: عثمان بن عفان معه امرأته رقية بنت رسول الله ص، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة معه امرأته سهلة بنت سهيل ابن عمرو، والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد، ومصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ابن الحارث بن زهرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم؛ معه امرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم، وعثمان بن مظعون الجمحي، وعامر بن ربيعة العنزي، من عنز بن وائل - ليس من عنزة - حليف بنى عدي بن كعب، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وسهيل بن بيضاء، من بنى الحارث بن فهر، وعبد الله بن مسعود حليف بنى زهرة.
قال أبو جعفر: وقال آخرون: كان الذين لحقوا بأرض الحبشة، وهاجروا إليها من المسلمين - سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارًا وولدوا بها - اثنين وثمانين رجلا؛ إن كان عمار بن ياسر فيهم؛ وهو يشك فيه!
ذكر من قال ذلك
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: لما رأى رسول الله ص ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية بمكانه من الله وعمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة! فإن بها ملكًا لا يظلم أحدٌ عنده، وهي أرض صدق؛ حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه! فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ص إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة؛ وفرارًا إلى الله عز وجل بدينهم؛ فكانت أول هجرة كانت في الإسلام؛ فكان أول من خرج من المسلمين من بنى أمية بن عبد شمس بن عبد مناف عثمان بن عفان بن أبي العاص ابن أمية؛ ومعه امرأته رقية ابنة رسول الله ص، ومن بنى عبد شمس أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو؛ أحد بنى عامر بن لؤي؛، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصي الزبير بن العوام.
فعد النفر الذين ذكرهم الواقدي؛ غير أنه قال: من بنى عامر بن لؤي ابن غالب بن فهر أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، ويقال: بل أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل ابن عامر بن لؤي. قال: ويقال: هو أول من قدمها، فجعلهم ابن إسحاق عشرة؛ وقال: كان هؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة - فيما بلغنى.
قال: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة؛ فكانوا بها، منهم من خرج بأهله معه، ومنهم من خرج بنفسه لا أهل معه؛ ثم عد بعد ذلك تمام اثنين وثمانين رجلًا؛ بالعشرة الذين ذكرت بأسمائهم؛ ومن كان منهم معه أهله وولده؛ ومن ولد له بأرض الحبشة، ومن كان منهم لا أهل معه.
قال أبو جعفر: ولما خرج من خرج من أصحاب رسول الله ص إلى أرض الحبشة مهاجرًا إليها، ورسول الله ص مقيمٌ بمكة، يدعو إلى الله سرًا وجهرًا، قد منعه الله بعمه أبي طالب وبمن استجاب لنصرته من عشيرته، ورأت قريش أنهم لا سبيل لهم إليه، رموه بالسحر والكهانة والجنون؛ وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا منه أن يسمع قوله فيتبعه؛ فكان أشد ما بلغوا منه حينئذٍ - فيما ذكر - ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه عروة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قلت له: ما أكثر ما رأيت قريشًاُ أصابت من رسول الله ص فيما كانت تظهر من عداوته! قال: قد حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يومًا في الحجر، فذكروا رسول الله ص فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط! سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا! لقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا.
فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ص فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول. قال: فعرفت ذلك في وجه رسول الله ص، ثم مضى، فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها؛ فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى، ثم مر بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها، فوقف فقال: أتسمعون يا معشر قريش! أما والذي نفس محمد بيده، لقد جئتكم بالذبح! قال: فأخذت القوم كلمته؛ حتى ما منهم رجلٌ إلا كأنما على رأسه طائر واقع؛ وحتى إن أشدهم فيه وصاةً قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول؛ حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا، فوالله ما كنت جهولًا! قال: فانصرف رسول الله ص وآله وسلم؛ حتى إذا كان الغد، اجتمعوا في الحجر، وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه؛ حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه! فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله ص، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا! لما يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم؛ فيقول رسول الله ص: نعم أنا الذي أقول ذلك؛ قال: فلقد رأيت رجلًا منهم آخذًا بجمع ردائه. قال: وقام أبو بكر الصديق دونه، يقول وهو يبكي: ويلكم! أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه. فإن ذلك أشد ما رأيت قريشًا بلغت منه قط.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا بشر بن بكر، قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: قلت لعبد الله بن عمرو: حدثني بأشد شيء رأيت المشركين صنعوا برسول الله ص. قال: أقبل عقبة بن أبي معيط ورسول الله ص عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه، وخنقه خنقًا شديدًا، فقام أبو بكر من خلفه، فوضع يده على منكبه، فدفعه عن رسول الله ص، ثم قال أبو بكر: يا قوم: " أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله " إلى قوله: " إن الله لا يهدي من هو مسرفٌ كذابٌ " ".
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل من أسلم كان واعيةً، أن أبا جهل ابن هشام مر برسول الله ص، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، فلم يكلمه رسول الله ص، ومولاةٌ لعبد الله بن جدعان التيمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك. ثم انصرف عنه، فعمد إلى نادى قريش عند الكعبة، فجلس معهم فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشحًا قوسه، راجعًا من قنص له - وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدها شكيمة - فلما مر بالمولاة وقد قام رسول اللهورجع إلى بيته، قالت: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفًا قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام! وجده هاهنا جالسًا فسبه وآذاه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد.
قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعًا - لا يقف على أحد كما كان يصنع - يريد الطواف بالكعبة، معدًا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبل نحوه؛ حتى إذا قام على رأسه، رفع القوس فضربه بها ضبة فشجه بها شجةً منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول! فرد ذلك علي إن استطعت! وقامت رجال بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة، فإنى والله لقد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.
وتم حمزة على إسلامه، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله ص قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن رسول الله ص بعض ما كانوا ينالون منه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عروة بن الزبير، عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ص بمكة عبد الله بن مسعود، قال: اجتمع يومًا أصحاب رسول الله ص فقالوا: والله ما سمعت قريشٌ بهذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله ابن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك؛ إنما نريد رجلًا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، فقال: دعوني، فإن الله سيمنعني، قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " - رافعًا بها صوته - " الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان "، قال: ثم استقبلها يقرأ فيها، قال: وتأملوا وجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد! ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه، فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.
ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك! قال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن! لئن شئتم لأغادينهم غدًا بمثلها، قالوا: لا حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون.
قال أبو جعفر: ولما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي واطمأنوا، تآمرت قريشٌ فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي، مع هدايا كثيرة أهدوها إليه وإلى بطارقته، وأمروهما أن يسألا النجاشي تسليم من قبله وبأرضه من المسلمين إليهم. فشخص عمرو وعبد الله إليه في ذلك، فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما، فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين، وأسلم عمر بن الخطاب رحمه الله، فلما أسلم - وكان رجلًا جلدًا جليدًا منيعًا، وكان قد أسلم قبل ذلك حمزة ابن عبد المطلب، ووجد أصحاب رسول الله ص في أنفسهم قوةً، وجعل الإسلام يفشو في القبائل، وحمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم - اجتمعت قريش، فائتمرت بينها: أن يكتبوا بينهم كتابًا يتعاقدون فيه؛ على ألا ينحكوا إلى بني هاشم وبني عبد الطلب، ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئًا، ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا بذلك صحيفة، وتعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة، توكيدًا بذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت ذلك قريش، انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه، واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش، وظاهرهم عليه، فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثًا؛ حتى جهدوا ألا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سرًا، مستخفيًا به من أراد صلتهم من قريش. وذكر أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحًا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله ص ومعه في الشعب، فتعلق به، وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة! فجاء أبو البختري بن هشام بن الحارث ابن أسد، فقال: مالك وله! قال: يحمل الطعام إلى بني هاشم، فقال له أبو البختري: طعامٌ لعمته عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها! خل سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير، فضربه فشجه، ووطئه وطئًا شديدًا، وحمزة ابن عبد المطلب قريبٌ يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله ص وأصحابه، فيشمتوا بهم، ورسول الله ص في كل ذلك، يدعو قومه سرًا وجهرًا، آناء الليل وآناء النهار، والوحي عليه من الله متتابعٌ بأمره ونهيه، ووعيد من ناصبه العداوة، والحجج لرسول الله ص على من خالفه.
فذكر أن أشراف قومه اجتمعوا له يومًا - فيما حدثني محمد بن موسى الحرشي، قال: حدثنا أبو خلف عبد الله بن عيسى، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا وعدوا رسول الله ص أن يعطوه مالًا فيكون أغنى رجل بمكة، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطئوا عقبه، فقالوا: هذا لك عندنا يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا فلا تذكرها بسوء؛ فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فهي لك ولنا فيها صلاح. قال: ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنةً؛ اللات والعزى، ونعبد إلهك سنة، قال: حتى أنظر ما يأتي من عند ربي! فجاء الوحي من اللوح المحفوظ: " قل يأيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون " السورة وأنزل الله عز وجل: " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون " إلى قوله: " بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن ميناء، مولى أبي البختري، قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله ص، فقالوا: يا محمد، هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، ونشركك في أمرنا كله، فإن كان الذي جئت به خيرًا مما في أيدينا، كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه؛ وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما في يدك، كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت بحظك منه. فأنزل الله عز وجل: " قل يأيها الكافرون "؛ حتى انقضت السورة.
فكان رسول الله ص حريصًا على صلاح قومه، محبًا مقاربتهم بما وجد إليه السبيل، قد ذكر أنه تمنى السبيل إلى مقارنتهم، فكان من أمره في ذلك ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن زياد المدني، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما رأى رسول الله ص تولى قومه عنه، وشق عليه ما يرى من مباعدتهم ما جاءهم به من الله، تمنى في نفسه أن يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه، وكان يسره مع حبه لقومه، وحرصه عليهم أن يلين له بعض ما قد غلظ عليه من أمرهم؛ حتى حدث بذلك نفسه، وتمناه وأحبه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى "، فلما انتهى إلى قوله: " أفرأيتم اللات والعزى، مناة الثالثة الأخرى "، ألقى الشيطان على لسانه، لما كان يحدث به نفسه، ويتمنى أن يأتي به قومه: " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى "؛ فلما سمعت ذلك قريش فرحوا، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم، فأصاخوا له - والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاءهم به عن ربهم، ولا يتهمونه على خطإ ولا وهم زلل - فلما انتهى إلى السجدة منها وختم السورة سجد فيها، فسجد المسلمون بسجود نبيهم، تصديقًا لما جاء به، واتباعًا لأمره، وسجد من في المسجد من المشركين من قريش وغيرهم، لما سمعوا من ذكر آلهتهم، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، فإنه كان شيخًا كبيرًا، فلم يستطع السجود، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها، ثم تفرق الناس من المسجد، وخرجت قريش، وقد سرهم ما سمعوا من ذكر آلهتهم، يقولون: قد ذكر محمد آلهتنا بآحسن الذكر، قد زعم فيما يتلو: " أنها الغرانيق العلا، وأن شفاعتهن ترتضى " وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى اللهه عليه وسلم؛ وقيل: أسلمت قريش، فنهض منهم رجال، وتخلف آخرون، وأتى جبريل رسول الله صص، فقال: يا محمد، ماذا صنعت! لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله عز وجل، وقلت ما لم يقل لك! فحزن رسول الله ص عند ذلك حزنًا شديدًا، وخاف من الله خوفًا كثيرًا، فأنزل الله عز وجل - وكان به رحيمًا - يعزيه ويخفض عليه الأمر، ويخبره أنه لم يك قبله نبي ولا رسول تمنى كما تمنى، ولا أحب كما أحب إلا والشيطان قد ألقى في أمنيته، كما ألقى على لسانه ص، فنسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم آياته؛ أي فإنما أنت كبعض الأنبياء والرسل، فأنزل الله عز وجل: " وما أرسلنا من قبلك رسولٍ ولا نبيٍ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم آياته والله عليمٌ حكيمٌ "، فأذهب الله عز وجل عن نبيه الحزن، وآمنه من الذي كان يخاف، ونسخ ما ألقى الشيطان على لسانه من ذكر آلهتهم: " أنها الغرانيق العلا وأن شفاعتهن ترتضى "، بقول الله عز وجل حين ذكر اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى: " ألكم الذكر وله الأنثى، تلك إذًا قسمة ضيزى " أي عوجاء، " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " - إلى قوله - " لمن يشاء ويرضى "، أي فكيف تنفع شفاعة آلهتكم عنده! فلما جاء من الله ما نسخ ما كان الشيطان ألقى على لسان نبيه، قالت قريش: ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتكم عند الله، فغير ذلك وجاء بغيره؛ وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عله وسلم قد وقعا في فم كل مشرك، فازداودا شرًا إلى ما كانوا عليه، وشدةً على من أسلم واتبع رسول الله ص منهم، وأقبل أولئك النفر من أصحاب رسول الله ص منهم الذين خرجوا من أرض الحبشة لما بلغهم من إسلام أهل مكة، حين سجدوا مع رسول الله ص؛ حتى إذا دنوا من مكة، بلغهم أن الذي كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلًا، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار، أو مستخفيًا، فكان ممن قدم مكة منهم فأقام بها حتى هاجر إلى المدينة، فشهد معه بدرًا من بني عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، عثمان بن عفان ابن أبي العاص بن أمية، معه امرأته رقية بنت رسول الله ص منهم، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس معه امرأته سهلة بنت سهيل، وجماعة أخر معهم، عددهم ثلاثة وثلاثون رجلًا.
حدثني القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس، قالا: جلس رسول الله ص في ناد من أندية قريش، كثير أهله، فتمنى يومئذ ألا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عز وجل: " والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى "، فقرأها رسول الله ص حتى إذا بلغ: " أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة، الأخرى " ألقى الشيطان عليه كلمتين " تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترجى " فتكلم بهما، ثم مضى فقرأ السورة كلها، فسجد في آخر السورة، وسجد القوم معه جميعًا، ورفع الوليد بن المغيرة ترابًا إلى جبهته، فسجد عليه - وكان شيخًا كبيرًا لا يقدر على السجود - فرضوا بما تكلم به، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيى ويميت؛ وهو الذي يخلق ويرزق؛ ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، فإذا جعلت لها نصيبًا فنحن معك. قالا: فلما أمسى أتاه جبرئيل عليه السلام، فعرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين! فقال رسول الله ص: افتريت على الله، وقلت على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره " إلى قوله: " ثم لا تجد لك علينا نصيرًا "؛ فما زال مغمومًا مهمومًا، حتى نزلت: " وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍ " - إلى قوله: " والله عليمٌ حكيمٌ ".
قال: فسمع من كان بأرض الحبشة من المهاجرين أن أهل مكة قد أسلموا كلهم، فرجعوا إلى عشائرهم، وقالوا: هم أحب إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ثم قام - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نقضٍ الصحيفة التي كانت قريش كتبت بينها على بني هاشم وبني عبد المطلب - نفرٌ من قريش.
وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن الحارث العامري، من عامر بن لؤي - وكان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه - وإنه مشى إلى زهير ابن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال: يا زهير، أرضيت أن تأكل الطعم، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث قد علمت؛ لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ور ينكح إليهم! أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم ابن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليهم منهم ما أجابك إليه أبدًا. قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع! إنما أنا رجلٌ واحد؛ والله لو كان معي رجلٌ آخر لقمت في نقضها حتى انقضها. قال: قد وجدت رجلًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال له زهير: ابغنا ثالثًا، فذهب إلى المطعم بن عدي ابن نوفل بن عبد مناف، فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك، موافق لقريش فيه! أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سرعًا. قال: ويحك! فماذا أصنع! إنما أنا رجلٌ واحد، قال: قد وجدت ثانيًا، قال: من هو؟ قال: أنا، قال: ابغنا ثالثًا، قال: قد فعلت، قال من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية، قال: ابغنا رأبعًا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحوًا مما قال للمطعم بن عدي، فقال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك. قال: ابغنا خامسًا، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم، ثم سمى له القوم. فاتعدوا له خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم، وتعاهدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أولكم يتكلم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية، عليه حلة له؛ فطاف بالبيت سبعًا، ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة؛ أنأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبايعون ولا يبتاع منهم! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة، قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد: كذبت، والله لا تشق! قال زمعة ابن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت؛ قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها ولا نقر به! قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك؛ نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها؛ وقال هشام بن عمرو نحوًا من ذلك، قال أبو جهل: هذا أمرٌ قضى بليلٍ، وتشوور فيه بغير هذا المكان - وأبو طالب جالس في ناحية المسجد - وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها؛ فوجد الأرضة قد أكلتها؛ إلا ما كان من " باسمك اللهم "، وهي فاتحة ما كانت تكتب قريش؛ تفتتح بها كتابها إذا كتبت.
قال: وكان كاتب صحيفة قريش - فيما بلغني - التي كتبوا على رسول الله ص ورهطه من بني هاشم وبني المطلب، منصور بن عكرمة ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فشلت يده.
وأقام بقيتهم بأرض الحبشة؛ حتى بعث فيهم رسول الله إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمري، فحملهم في سفينتين، فقدم بهم على رسول الله، وهو بخيبر بعد الحديبية. وكان جميع من قدم في السفينتين ستة عشر رجلًا.
ولم يزل رسول الله ص مقيمًا مع قريش بمكة يدعوهم إلى الله سرًا وجهرًا، صابرًا على أذاهم وتكذيبهم إياه واستهزائهم به؛ حتى إن كان بعضهم - فيما ذكر - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، ويطرحها في برمته إذا نصبت له؛ حتى اتخذ رسول الله منهم - فيما بلغني - حجرًا يستتر به منهم إذا صلى.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني عمر بن عبد الله بن عروة بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: كان رسول الله ص يخرج بذلك إذا رمى به في داره على العود فيقف على بابه، ثم يقول: يا بنى عبد مناف، أي جوار هذا! ثم يلقيه بالطريق.
ثم إن أبا طالب وخديجة هلكا في عام واحد - وذلك فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن إبن إسحاق - قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين، فعظمت المصيبة على رسول الله بهلاكهما؛ وذلك أن قريشًا وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه؛ حتى نثر بعضهم على رأسه التراب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما نثر ذلك السفيه التراب على رأس رسول الله ص، دخل رسول الله ص بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب؛ وهي تبكي، ورسول الله ص يقول لها: يا بنية لا تبكي؛ فإن الله مانعٌ أباك! قال: ويقول رسول اللهص: ما نالت منى قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب.
ولما هلك أبو طالب خرج رسول الله ص إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه؛ وذكر أنه خرج إليهم وحده؛ فحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما انتهى رسول الله ص إلى الطائف عمد إلى نفرٍ من ثقيف - هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم؛ وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود ابن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير؛ وعندهم امرأة من قريش من بنى جمح، فجلس إليهم - فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاء لهم من نصرته على الإسلام. والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدًا؛ لئن كنت رسولًا من الله كما تقول؛ لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام؛ ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله ص من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف؛ وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا على. وكره رسول الله ص أن يبلغ قومه عنه، فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به؛ حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلةٍ من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقى من سفهاء ثقيف. وقد لقى رسول الله ص - فيما ذكر لي - تلك المرأة من بنى جمح، فقال لها: ماذا لقينا من أحمائك! فلما اطمأن رسول الله ص قال - فيما ذكر لي: اللهم إليك أشكو صعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي؛ إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؛ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي! ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن ينزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، لا حول ولا قوة إلا بك.
فلما رأى ابنا ربيعة: عتبة وشيبة ما لقى، تحركت له رحمهما، فدعوا له غلامًا لهما نصرانيًا؛ يقال له عدس، فقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب وضعه في ذلك الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه؛ ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ص، فلما وضع رسول الله ص يده، قال: " بسم الله "، ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، قال له رسول الله ص: ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال: أنا نصراني، وأنا رجلٌ من أهل نينوى. فقال رسول الله ص: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ قال له: وما يدريك ما يونس بن متى؟ قال رسول الله ص: ذاك أخي، كان نبيًا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله ص يقبل رأسه ويديه ورجليه، قال: يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه! قال: يا سيدي ما في هذه الأرض خيرٌ من هذا الرجل! لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبيٌ، فقالا: ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خيرٌ من دينه.
ثم إن رسول اللهانصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خبر ثقيف، حتى إذا كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفرٌ من الجن الذين ذكر الله عز وجل.
قال محمد بن إسحاق: وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص الله عز وجل خبرهم عليه: " وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن " - إلى قوله: " ويجركم من عذابٍ أليمٍ ". وقال: " قل أوحى إلي أنه استمع نفرٌ من الجن.. " إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.
قال محمد: وتسمية النفر من الجن الذين استمعوا الوحي - فيما بلغني - حسّا، ومسّا، وناصر، واينا الأرد، وأينين، والأحقم.
قال: ثم قدم رسول الله ص مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلًا مستضعفين ممن آمن به.
وذكر بعضهم أن رسول الله ص لما انصرف من الطائف مريدًا مكة مر به بعض أهل مكة، فقال له رسول الله ص: هل أنت مبلغ عني رسالة أرسلك بها؟ قال: نعم، قال: ائت الأخنس ابن شريق، فقل له: يقول لك محمد: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالة ربي؟ قال: فأتاه، فقال له ذلك، فقال الأخنس: إن الحليف لا يجير على الصريح.
قال: فأتى النبي ص، فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت سهيل بن عمرو، فقل له: إن محمدًا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ فأتاه فقال له ذلك، قال: فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب. قال: فرجع إلى النبي ص، فأخبره، قال: تعود؟ قال: نعم، قال: ائت المطعم بن عدي، فقل له: إن محمدًا يقول لك: هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي؟ قال: نعم، فليدخل، قال: فرجع الرجل إليه، فأخبره، وأصبح المطعم ابن عدي قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه، فدخلوا المسجد، فلما رآه أبو جهل، قال: أمجيرٌ أم متابع؟ قال: بل مجير، قال: فقال: قد أجرنا من أجرت، فدخل النبي ص مكة؛ وأقام بها، فدخل يومًا المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة، فلما رآه أبو جهل، قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف، قال عتبة بن ربيعة: وما تنكر أن يكون منا نبي أو ملك! فأخبر بذلك النبي ص - أو سمعه - فأتاهم، فقال: أما أنت يا عتبة بن ربيعة فوالله ما حميت لله ولا لرسوله؛ ولكن حميت لأنفك، وأما أنت ياأبو جهل بن هشام؛ فوالله لا يأتي عليك غير كبير من الدهر حتى تضحك قليلًا وتبكي كثيرًا. وأما أنتم يا معشر الملإ من قريش؛ فوالله لا يأتي عليكم غير كبير من الدهر حتى تدخلوا فيما تنكرون، وأنتم كارهون.
وكان رسول الله ص يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب، يدعوهم إلى الله وإلى نصرته، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني حسين بن عبيد الله بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدث أبي، قال: إني لغلامٌ شابٌ مع أبي بمنىً، ورسول الله ص يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به.
قال: وخلفه رجلٌ أحول وضىء، له غديرتان، عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله ص من قوله، وما دعا إليه، قال الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
قال: فقلت لأبي: يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه؛ يرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه عبد العزى أبو لهب بن عبد المطلب.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: وحدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أن رسول الله ص أتى كنده في منازلهم، وفيهم سيد لهم، يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين، أنه أتى كلبًا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه؛ حتى إنه ليقول لهم: يا بني عبد الله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: محمد بن إسحاق: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن كعب بن مالك، أن رسول الله ص أتى بني حنيفة في منازلهم، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فلم يكن أحدٌ من العرب أقبح ردًا عليه منهم.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: قال محمد بن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم، يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك؛ أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال: فقال له: أفتهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه، فلما صدر الناس، رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم؛ قد كانت أدركته السن؛ حتى لا يقدر على أن يوافي معهم الموسم، فكانوا إذا رجعوا إليه، حدثوه بما يكون في ذلك الموسم؛ فلما قدموا عليه ذلك العام، سألهم عما كان في موسمهم، فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، ويدعو إلى أن نمنعه ونقوم معه؛ ونخرج به معنا إلى بلادنا. قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر، هل لها من تلافٍ! هل لذناباها من مطلب! والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط! وإنها لحق، فأين كان رأيكم عنه! فكان رسول اللهعلى ذلك من أمره؛ كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام، ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، لا يسمع بقادم يقدم من العرب؛ له اسمٌ وشرفٌ إلا تصدى له فدعاه إلى الله، وعرض عليه ما عنده.
حدثنا ابن حميد:، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الظفري، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت - أخو بني عمرو بن عوف - مكة حاجًا أو معتمرًا، قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل، لجلده وشعره، ونسبه وشرفه؛ وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ** مقالته بالغيب ساءك ما يفرى
مقالته كالشحم ما كان شاهدًا ** وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ** نميمة غشٍ تبترى عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ** ولا جن بالبغضاء والنظر الشزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ** وخير الموالي من يريش ولا يبرى
مع أشعار له كثيرة يقولها.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)