صفحة 19 من 28 الأولىالأولى ... 91718192021 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 73 إلى 76 من 110

الموضوع: تاريخ الرسل والملوك(الجزء التاسع)


  1. #73
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فلما بلغ القارئ من الكتاب إلى الموضع الذي قال: " ولم يصل إلي إلا قدر خمسة عشر ألف دينار " أشار أبو القاسم إلى القارئ، فسكت ثم قال: وهذا ما قدر، هذا قد كان أمير المؤمنين في أيام إمارته يستحق في أقل من من هذه المدة ما هو أكثر منه بأرزاقه ومعونته، وقد تعلمون ما كان من تقدمه يصرفه في صلات المخنثين والمغنين وأصحاب الملاهي وبناء القصور وغير ذلك، فادعوا الله لأمير المؤمنين. ثم قرأ الكتاب حتى أتى على الكتاب.
    فلما فرغ كثر الكلام وقالوا قولًا، فقال لهم أبو القاسم: اكتبوا بذلك كتابًا صدروه على مجاري الكتب إلى الخلفاء، واكتبوه عن القواد وخلفائهم والرفاء بالكرخ والدور بسامرا فكتبوا - بعد أن دعوا الله فيه لأمير المؤمنين: إن الذي يسألون، أن ترد الأمور إلى أمير المؤمنين في الخاص والعام، ولا يعترض عليه معترض، وأن ترد رسومهم إلى ما كانت عليه أيام المستعين بالله؛ وهو أن يكون على كل تسعة منهم عريف، وعلى كل خمسين خليفة، وعلى كل مائة قائد، وأن تسقط النساء والزيادات والمعاون، ولا يدخل مولى في قبالة ولا غيرها، وأن يوضع لهم العطاء في كل شهرين على ما لم يزل، وأن تبطل الإقطاعات، وأن يكون أمير المؤمنين يزيد من شاء ويرفع من شاء. وذكروا أنهم صائرون في أثر كتابهم إلى باب أمير المؤمنين، ومقيمون هناك إلى أن تقضى حوائجهم. وأنه إن بلغهم أن أحدًا اعترض أمير المؤمنين في شئ من الأمور أخذوا رأسه، وإن سقط من رأس أمير المؤمنين شعرة قتلوا به موسى بن بغا وبايكباك ومفلحًا وياجور وبكالبا وغيرهم.
    ودعوا الله لأمير المؤمنين ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم، فانصرف به حتى أوصله، وتحرك الموالي بسامرا، واى ضطرب القواد جدًا، وكان المهتدي قعد للمظالم وأدخل الفقهاء والضاة، وأخذوا مجالسهم، وقام القواد في مراتبهم، وسبق دخول أبي القاسم دخول المتظلمين.
    فقرأ المهتدي الكتاب قراءة ظاهرة، وخلا بموسى بن بغا، ثم أمر سليمان بن وهب أن يوقع في رقعتهم بإجابتهم إلى ما سألوا، فلما فعل ذلك في فصل من الكتاب أو فصلين، قال أبو القاسم: يا أمير المؤمنين، لا يقنعهم إلا خط أمير المؤمنين وتوقيعه، فأخذ المهتدي كتابهم فضرب على ما كان سليمان وقع في ذلك، ووقع في كل باب بإجابتهم إلى ما سألوا وبأن يفعل ذلك. ثم كتب كتابًا مفردًا بخطه وختمه بخاتمه، ودفعه إلى أبي القاسم فقال أبو القاسم لموسى وبايكباك ومحمد بن بغا: وجهوا إليهم معي رسلًا يعتذرون إليهم مما بلغهم عنكم. فوجه كل واحد منهم رجلًا. وصار أبو القاسم إليهم وهم في مواضعهم، وقد صاروا زهاء ألف فارس وثلاثة آلاف راجل؛ وذلك في وقت الظهر من يوم الخميس لخمس ليال خلون من صفر من هذه السنة، فأقرأهم من أمير المؤمنين السلام، وقال لهم: إن أمير المؤمنين، قد أجابكم إلى كل ما سألتم، فادعوا الله لأمير المؤمنين. ثم دفع كتابهم إلى كاتبهم، فقرأه عليهم بما فيه من التوقيات؛ ثم قرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم؛ أرشدكم الله وحاطكم، وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم؛ وعلى أيديكم. فهمت كتابكم، وقرأته على رؤسائكم، فذكروا مثل الذي ذكرتم، وسألوا مثل الذي سألتم، وقد أجبتكم إلى جميع ما سألتم محبة لصلاحكم وألفتكم واجتماع كلمتكم، وقد أمرت بتقرير أرزاقكم، وأن تصير دارة عليكم، فليست لكم حاجة إلى حركة، فطيبوا نفسًا، والسلام أرشدكم الله وحاطكم وأمتع بكم، وأصلح أموركم وأمور المسلمين بكم، وعلى أيديكم! فلما فرغ القارئ من الكتاب، قال لهم أبو القاسم: وهؤلاء رسل رؤسائكم يعتذرون إليكم من شئ إن كان بلغكم عنهم، وهو يقولون: إنما أنتم إخوة وأنتم منا وإلينا.
    وتكلم الرسل بمثل ذلك، فتكلموا أيضًا كلامًا كثيرًا ثم كتبوا كتابًا يعتذرون فيه بمثل العذر الأول إلى أمير المؤمنين، وذكروا فيه خصالًا مما ذكروه في الكتاب الذي قبله، ووصفوا أنه لا يقنعهم إلا أن ينفذ إليهم خمس توقيعات، توقيعًا بحط الزيادات، وتوقيعًا برد الإقطاعات، وتوقيعًا بإخراج الموالي البوابين من الخاصة إلى عداد البرانيين، وتوقيعًا برد الرسوم إلى ما كانت عليه أيام المستعين، وتوقيعًا برد التلاجئ حتى يدفعوها إلى رجل يضمون إليه خمسين رجلًا من أهل الدور، وخمسين رجلًا من أهل سامرا يتنجزون من الدواوين، ثم يصير أمير المؤمنين الجيش إلى أحد إخوته أو غيرهم ممن يرى ليسفر بينه وبينهم بأمورهم، ولا يكون رجلًا من الموالي، وأن يؤمر صالح بن وصيف فيحاسب هو وموسى بن بغا على ما عندهم من الأموال، وأنه لا يرضيهم دون ما سألوا في كتبهم كلها مع تعجيل العطاء، وإدرار أرزاقهم عليهم في كل شهرين، وأنهم قد كتبوا إلى أهل سامرا والمغاربة في موافاتهم، وأنهم صائرون إلى باب أمير المؤمنين لينجز ذلك لهم، ودفعوا الكتاب إلى أبي القاسم أخي أمير المؤمنين، وكتبوا كتابًا آخر إلى موسى بن بغا وبايكباك ومحمد بن بغا ومفلح وياجور وبكالبا وغيرهم من القواد الذين ذكروا أنهم كتبوا إلى أمير المؤمنين بما كتبوا، وأن أمير المؤمنين لا يمنعهم ما سألوا إلا أن يعترضوا عليه، وأنهم إن فعلوا ذلك وخالفوهم لم يوافقهم على شئ، وأن أمير المؤمنين إن شاكته شوكة أو أخذ من رأسه شعرة، أخذوا رءوسهم جميعًا، وأنه ليس يقنعهم إلا أن يظهر صالح بن وصيف حتى يجمع بينه وبين موسى ابن بغا، حتى ينظر أين موضع الأموال؛ فإن صالحًا قد كان وعدهم قبل استتاره أن يعطيهم أرزاق ستة أشهر.
    ثم دفعوا هذا الكتاب إلى رسول موسى، ووجهوا مع أبي القاسم عدة نفر منهم؛ ليوصلوا إلى أميرالمؤمنين كتابهم، وليستمعوا كلامه.
    فلما رجع أبو القاسم وجه موسى زهاء خمسمائة فارس، فوافقوا على باب الحيربين الجوسق والكرخ، فمال إليهم أبو القاسم ورسل القوم ورسل أنفسهم، فدفع رسول موسى إلى موسى كتاب القوم إليه وإلى أصحابه - وفي الجماعة سليمان بن وهب وولده وأحمد بن محمد بن ثوابة وغيرهم من الكتاب - فلما قرأ الكتاب عليهم أعلمهم أبو القاسم أن معه كتابًا من القوم إلى أمير المؤمنين، ولم يدفعه إليهم. فركبوا جميعًا وانصرفوا إلى المهتدي، فوجدوه في الشمس قاعدًا على لبد، قد صلى المكتوبة؛ وكسر جميع ما كان في القصر من الملاهي وآلاتها وآلات اللعب والهزل، فدخلوا فأوصلوا إليه الكتب، وخلوا مليًا، ثم أمر المهتدي سليمان بن وهب بإنشاء الكتب على ما سألوا في خمس رقاع، فأنفذها المهتدي في درج كتاب منه بخطه، ودفه إلى أخيه، وكتب القواد إليهم جواب كتابهم، ودفعوه إلى صاحب موسى، فصار إليهم أبو القاسم في وقت المغرب، فأقرأهم من المهتدي السلام، وقرأ عليهم كتابه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه، فهمت كتابكم. حاطكم الله، وقد أنفذت إليكم التوقيعات الخمس على ما سألتم، فوكلوا من يتنجزها من الدواوين إن شاء الله، وأما ما سألتم من تصير أمركم إلى أحد إخوتي ليوصل إلى أخباركم، ويؤدي إلى حوائجكم؛ فوالله إني لأحب أن أتفقد ذلك بنفسي، وأن أطلع على كل أمركم وما فيه مصلحتكم، وأنا مختار لكم الرجل الذي سألتم، من إخوتي أو غيرهم إن شاء الله؛ فاكتبوا إلي بحوائجكم وما تعلمون أن فيه صلاحكم؛ فإني صائر من ذلك إلى ما تحبون إن شاء الله، وفقنا الله وإياكم لطاعته وما يرضيه.
    وأوصل إليهم رسول موسى كتاب موسى وأصحابه؛ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم، فهمنا كتابكم؛ وإنما أنتم إخواننا وبنو عمنا، ونحن صائرون إلى ما تحبون، وقد أمر أمير المؤمنين أعزه الله في كل ما سألتم بما تحبون وأنفذ التوقيعات به إليكم.
    وأما ذكرتم من أمر صالح مولى أمير المؤمنين وتغيرنا له فهو الأخ وابن العم، وما أردنا من ذلك ما تكرهون؛ فإن وعدكم أن يعطيكم أرزاق ستة أشهر فقد رفعنا إلى أمير المؤمنين رقاعًا، نسأله مثل الذي سألتم. وأما ما قلتم من ترك الاعتراض على أمير المؤمنين وتفريض الأمر إليه، فنحن سامعون مطيعون لأمير المؤمنين، والأمور مفوضة إلى الله وهو مولانا ونحن عبيده وما نعترض عليه في شىء من الأمور أصلًا وأما ما ذكرتم أنا نريد بأمير المؤمنين سوءًا، فمن أراد ذلك فجعل الله دائرة السوء عليه، وأخزاه في دنياه وآخرته. أبقاكم الله وحفظكم، وأتم نعمته عليكم! فلما قرأ الكتابات عليهم، قالوا لأبي القاسم: هذا المساء قد أقبل، ننظر في أمرنا الليلة، ونعود بالغداة لنعرفك رأينا، فافترقوا، وانصرف أبو القاسم إلى أمير المؤمنين.
    ثم أصبح القوم من غداة يوم الجمعة، فلما كان في آخر الساعة الأولى، ركب موسى بن بغا من دار أمير المؤمنين، وركب الناس معه وهم قدر ألف وخمسمائة رجل؛ حتى خرج من باب الحير الذي يلي القطائع من الجوسق والكرخ، فعسكر هناك، وخرج أبو القاسم أخوالمهتدي، ومعه الكرخي، حتى صار إلى القوم، وهم زهاء خمسمائة فارس وثلاثة آلاف راجل؛ وقد كان أبو القاسم انصرف في الليل ومعه التوقيعات؛ فلما صار بينهم أخرج كتابًا من المهتدي نسخته شبيه بالكتاب الذي في درجة التوقيعات. فلما قرأ الكتاب ضجوا، واختلفت أقاويلهم، وكثر من يلحق بهم من رجالة الموالي من ناحية سامرا في الحير فلم يزل أبو القاسم ينتظر أن ينصرف من عندهم بجواب يحصله يؤديه إلى أميرالمؤمنين، فلم يتهيأ ذلك إلى الساعة الرابعة وانصرفوا، فطائفة يقولون: نريد أن يعز الله أمير المؤمنين، وزيوفر علينا أرزاقنا؛ فإنا قد هلكنا بتأخيرها عنا. وطائفة يقولون: لا نرضى حتى يولى علينا أمير المؤمنين إخوانه، فيكون واحدٌ بالكرخ، وآخر بالدور، وآخر بسامرا، ولا نريد أحدًا من الموالي يكون علينا رأسًا. وطائفة تقول: نريد أن يظهر صالح بن وصيف - وهي الأقل.
    فلما طال الكلام بهذا منهم، انصرف أبو القاسم إلى المهتدى بجملة من الخبر، وبدأ بموسى في الموضع الذي هو معسكر فيه؛ فانصرف بانصرافه، فلما صلى المهتدي الجمعة صيّر الجيش إلى محمد بن بغا، وأمره بالمصير إلى القوم مع أخيه أبي القاسم، فركب معه محمد بن بغا في زهاء خمسمائة فارس، ورجع موسى إلى الموضع الذي كان فيه بالغداة، ومضى أبو القاسم ومحمد بن بغا حتى خالطا الجميع به، فقال أبو القاسم لهم: إن أمير المؤمنين يقول: قد أخرجت التوقعات لكم بجميع ما سألتم، ولم يبق لكم مما تحبون شيء إلا وأمير المؤمنين يبلغ في الغاية؛ وهذا أمان لصالح بن وصيف بالظهور. وقرأ عليهم أمانًا لصالح، بأن موسى وبابكباك سألا أمير المؤمنين أعزه ذلك، فأجابهما إليه، وأكده بغاية التأكيد، ثم قال: فعلام: اجتماعكم! فأكثروا الكلام؛ فكان الذي حصله عند انصرافه أن قالوا: نريد أن يكون موسى في مرتبة بغا الكبير، وصالح في مرتبة وصيف أيام بغا، وبايكباك في مرتبته الأولى، ويكون الجيش في يد من هو في يده؛ إلى أن يظهر صالح بن وصيف، فيوضع لهم العطاء، وتنتجز لهم الأرزاق بما في التوقعات، فقال: نعم.
    فانصرف القوم، فلما صاروا على قدر خمسمائة ذراع اختلفوا، فقال قوم: قد رضينا، وقال قوم: لم نرض، وانصرف رسل المهتدي إليه: إن القوم قد تفرقوا؛ وهم على أن ينصرفوا، فانصرف موسى عند ذلك، وتفرق الناس إلى مواضعهم من الكرخ والدور وسامرا. فلما كان غداة يوم السبت، ركب ولد وصيف وجماعة من مواليهم وغلمانهم، وتنادى الناس: السلاح! وانتهب دواب العامة الرجالة؛ رجالة أصحاب صالح بن وصيف. ومضوا فعسكروا بسامرا في طرف وادي إسحاق بن إبراهيم، عند مسجد لجين أن ولد المتوكل وركب أبو القاسم عند ذلك يريد دار المهتدي، فمر بهم في طريقه، فتعلقوا به وبمن كان معه من حشمه وغلمانه، فقالوا له: تؤدي إلى أمير المؤمنين عنا رسالة؟ فقال لهم: قولوا، فخلطوا ولم يتحصل من قولهم شيئًا إلا: إنا نريد صالحًا، فمضى حتى أدى إلى أمير المؤمنين ذلك وإلى موسى، وجماعة القواد حضور.
    فذكر عمن حضر المجلس أن موسى بن بغا، قال: يطلبون صالحًا مني؛ كأني أنا أخفيته وهو عندي! فإن كان عندهم فينبغي لهم أن يظهروه. وتأكد عندهم الخبر باجتماع القوم، وتجلب الناس إليهم، وتهايجوا من دار أمير المؤمنين؛ فركبوا في السلاح، وأخذوا في الحير حتى اجتمعوا ما بين الدكة وظهر المسجد الجامع؛ فاتصل الخبر بالأتراك ومن كان ضوى إليهم، فانصرفوا ركضًا وعدوًا لا يلوى فارس على راجل، ولا كبير على صغير حتى دخلوا الدروب والأزقة، ولحقوا بمنازلهم، وزحف موسى وأصحابه جميعًا، فلم يبق بسامرا قائد يركب إلى دار أمير المؤمنين إلا ركب معه، ولزموا الحير حتى خرجوا مما يلي الحائطين. ثم خرجوا؛ فأما مفلح وواجن ومن انضم إليهما فسلكوا شارع بغداد حتى بلغوا سوق الغنم، ثم عطفوا إلى شارع أبي أحمد، حتى لحقوا بجيش موسى. وأما موسى وجماعة القواد الذين كانوا معه مثل ياجور وساتكين ويارجوخ وعيسى الكرخي، فإنهم سلكوا على سمت شارع أبي أحمد، حتى صاروا إلى الوادي، وانصرفوا إلى الجوسق؛ فكان تقدير الجيش الذين كانوا مع موسى في هذا اليوم - وهو يوم السبت - أربعة آلاف فارس في السلاح والقسي الموترة والدروع والجواشن والرماح والطبرزينات. وكان أكثر القواد الذين كانوا بالكرخ يطلبون صالحًا مع موسى في هذا الجيش يريدون محاربة من يطلب صالحًا.
    وقد ذكر عن بعض من تخير أمرهم؛ أن أكثر من كان راكبًا مع موسى كان هواه مع صالح، ولم يكن للكرخيين والدوريين في هذا اليوم حركة؛ فلما وصل القوم إلى الجوسق كان أول ما ظهر منهم النداء بأن من لم يحضر دار أمير المؤمنين في غداة يوم الأحد من قواد صالح وأهله وغلمانه وأصحابه أسقط اسمه، وخرب منزله، وضرب وقيد وحذر إلى المطبق؛ ومن وجد بعد ثالثة من هذه الطبقة ظاهرًا بعد استتار، فقد حل به مثل ذلك، ومن أخذ دابة لعامي أو تعرض له في طريق؛ فقد حلت به العقوبة الموجعة.
    وبات الناس ليلة الأحد لثمان خلون من صفر على ذلك؛ فلما كان غداة يوم الاثنين انتهى إلى المهتدي أن مساورا الشاري صار إلى بلد، فقتل بها وحرق، فنادى في مجلسه بالنفير، وأمر موسى ومفلحًا وبايكباك بالخروج، وأخرج موسى مضاربه؛ فلما كان يوم الأربعاء لإحدى عشرة مضت من صفر بطل أمر موسى ومحمد بن بغا ومفلح في الخروج، وقالوا: لا يبرح أحدٌ منا حتى ينقطع أمرنا وأمر صالح؛ وهم مجمعون على ذلك، يخافون من صالح أن يخلفهم بمكروه.
    وذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت بعض بني وصيف - وهو الذي كان جمع تلك الجموع - يلعب مع موسى وبايكباك بالصوالجة في ميدان بغا الصغير يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر. ثم جد هؤلاء في طلب صالح بن وصيف، فهجم بسببه على جماعة ممن كان متصلًا به قبل ذلك. وممن اتهموه أنه آواه، منهم إبراهيم بن سعدان النحوي وإبراهيم الطالبي وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر الشيعي وأبو الأحوص بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة وأبو يكر ختن أبي حرملة الحجام وشارية المغنية والسرخسي صاحب شرطة الخاصة وجماعة غيرهم.
    فذكر عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مصعب بن زريق، قال: حدثني صاحب ربع القبة - وهو ربع تلقاء دار صالح بن وصيف - قال: بينا نحن قعود يوم الأحد، إذا غلام قد خرج من زقاق، وأراه مذعورًا، فأنكرناه، فأردنا مسألته عن شأنه؛ ففاتنا؛ فلم يلبث أن أقبل عيار من موالي صالح بن وصيف يعرف بروزبه، ومعه ثلاثة نفر أو أربعة، فدخلوا الزقاق، فأنكرناهم، فلم يلبثوا أن خرجوا صالح بن وصيف، فسألنا عن الخبر، فإذا الغلام قد دخل دارًا في الزقاق يطلب ماءً ليشربه. فسمع الخبر قائلًا يقول بالفارسية: أيها الأمير تنح، فإن غلامًا قد جاء يطلب ماء؛ فسمع الغلام ذلك، وكان بينه وبين هذا العبار معرفة، فجاء فأخبره، فجمع العيار ثلاثة أناسي، وهم عليه فأخرجه.
    وذكر عن العيار الذي هجم عليه، أنه قال: قال لي الغلام ما قال، فأقبلت ومعي ثلاثة نفر، فإذا بصالح بن وصيف بيده مرآة ومشط، وهو يسرح لحيته، فلما رآني بادر فدخل بيتًا، فخفت أن يكون قصد لأخذ سيف أو سلاح، فتلومت ثم نظرت إليه؛ فإذا هو لجأ إلى زاوية، فدخلت إليه فاستخرجته فلم يزدني على المتضرع شيئًا. قال: فلما تضرع إلي قلت: ليس إلى تركك سبيل؛ ولكني أمر بك على أبواب إخوتك وأصحابك وقوادك وصنائعك؛ فإن اعترض لي منهم اثنان أطلقتك في أيديهم. قال: فأخرجته فما لقيت إلا من هو عوني على مكروهه.


  • #74
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فذكر أنه لما أخذ مضى به نحو ميلين، ليس معه إلا أقل من خمسة نفر من أصحاب السلطان. وذكر أنه أخذ حين أخذ، وعليه قميص ومبطنة ملحم وسراويل، وليس على رأسه شيء وهو حاف.
    وقيل إنه حمل على برذون صنابي والعامة تعدو خلفه وخمسة من الخاصة يمنعون منه؛ حتى انتهوا به إلى دار موسى بن بغا؛ فلما صاروا به إلى دار موسى بن بغا أتاه بايكباك ومفلح وياجور وساتكين وغيرهم من القواد، ثم أخرجوه من باب الحير الذي يلي قبلة المسجد الجامع؛ ليذهبوا به إلى الجوسق، وهو على بغل بإكاف، فلما صاروا به إلى حد المنارة، ضربه رجل من أصحاب مفلح ضربة من ورائه على عاتقه كان يقذه منها، ثم احتزوا رأسه وتركوا جيفته هناك، وصاروا به إلى المهتدي؛ فوافوا به قبيل المغرب وهو في بركة قباء رجل من غلمان مفلح يقطر دمًا، فوصلوا به إليه، وقد قام لصلاة المغرب، فلم يره، فأخرجوه ليصلح، فلما قضى المهتدي صلاته، وخبروه أنهم قتلوا صالحًا، وجاءوا برأسه لم يزدهم على أن قال: واروه؛ وأخذ في تسبيحه. ووصل الخبر إلى منزله، فارتفعت الواعية وباتوا ليلتهم.
    فلما كان يوم الاثنين لسبع بقين من صفر حمل رأس صالح بن وصيف على قناة، وطيف به، ونودي عليه: هذا جزاء من قتل مولاه، ونصب بباب العامة ساعة ثم نحي، وفعل به ذلك ثلاثة أيام تتابعًا، وأخرج رأس بغا الصغير في وقت صلب رأس صالح يوم الاثنين، فدفع إلى أهله ليدفنوه.
    فذكر عن بعض الموالي أنه قال: رأيت مفلحًا وقد نظر إلى رأس بغا، فبكى وقال: قتلني الله إن لم أقتل قاتلك؛ فلما كان يوم الخميس لأربع بقين من صفر، وجه موسى بالرأس إلى أم الفضل ابنة وصيف، وهي امرأة النوشري، وكانت قبله عند سلمة بن خاقان.
    فذكر عن بعض بني هاشم أنه قال: هنأت موسى بن بغا بقتل صالح فقال: كان عدو أمير المؤمنين استحق القتل. قال: وهنأت بايكباك بذلك؛ فقال: مالي أنا وهذا! إنما كان صالح أخي، فقال السلولي لموسى إذ قتل صالح بن وصيف.
    ونلت وترك من فرعون حين طغى ** وجئت إذ جئت يا موسى على قدر
    ثلاثةٌ باغٍ أخو حسد ** يرميك بالظلم والعدوان عن وتر
    وصيف بالكرخ ممثول به وبغا ** بالجسر محترقٌ بالجمر والشرر
    وصالح بن وصيف بعد منعفرٌ ** في الحير جيفته، والروح في سقر
    وفي مستهل جمادى الأولى من هذه السنة رحل موسى بن بغا وبايكباك إلى مساور، وشيعهم محمد بن الواثق.
    وفي جمادى الأولى أيضًا منها التقى مساور بن عبد الحميد وعبيدة العمروسي الشاري بالكحيل، وكانا مختلفي الآراء، فظفر مساور بعبيدة فقتله.
    وفي هذا الشهر من هذه السنة التقى مساور الشاري ومفلح، فحدثت عن مساور، أنه انصرف من الكحيل بعد قتله العمروسي، وقد كلم كثير من أصحابه فلم تندمل كلومهم، ولغبوا من الحرب التي كانت جرت بين الفريقين إلى عسكر موسى ومن ضمه ذلك العسكر وهم حامون، فأوقع بهم؛ فلما يصل إلى ما أراد منهم من الظفر بهم، وكان التقاهم بجبل زيني تعلق هو وأصحابه بالجبل فصاروا إلى ذروته، ثم أوقدوا النيران، وركزوا رماحهم، وعسكر موسى بسفح الجبل ثم هبط مساور وأصحابه من الجبل، من غير الوجه الذي عسكر به موسى، فمضى وموسى وأصحابه يحسبون أنهم فوق الجبل ففاتوهم.
    ذكر الخبر عن خلع المهتدي ثم موته

    وفي رجب من هذه السنة لأربع عشرة ليلة خلت منه خلع المهتدي، وتوفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب.
    ذكر الخبر عن سبب خلعه ووفاته
    ذكر أن ساكني الكرخ بسامرا والدور تحركوا لليلتين خلتا من رجب من هذه السنة، يطلبون أرزاقهم فوجه إليهم المهتدي طبايغو الرئيس ليهم وعبد الله أخا المهتدي، فكلمهم فلم يقبلوا منهما، وقالوا: نحن نريد أن نكلم أمير المؤمنين مشافهة. وخرج أبو نصر بن بغا تحت ليلته إلى عسكر أخيه، وهو بالسن بالقرب من الشاري، ودخل دار الجوسق جماعة منهم؛ وذلك يوم الأربعاء، فكلمهم المهتدي بكلام كثير وقطع العطاء عن الناس يوم الأربعاء والخميس والناس متوقفون حتى يعرفوا ما يصنع موسى بن بغا، وكان موسى وضع العطاء في عسكره لشهر، وكان على مناجزة الشاري إذا استوى أصحابه، فوقع الاختلاف، ومضى موسى يريد طريق خراسان.
    واختلف في سبب الاختلاف الذي جرى، فصار من أجله موسى إلى طريق خراسان، والسبب الذي من أجله خرج المهتدي لحرب من حاربه من الأتراك، فقال بعضهم: كان السبب الذي من أجله تنحى عن وجه الشاري وترك حربه وصار إلى طريق خراسان، أن المهتدي استمال بايكباك، وهو مع موسى مقيم في وجه الشاري مساور، وكتب إليه يأمره أن يضم العسكر الذي مع موسى إلى نفسه، وأن يكون هو الأمير عليهم، وأن يقتل موسى بن بغا ومفلحًا، أو يحملهما إليه مقيدين. فلما وصل الكتاب إلى بايكباك، أخذه ومضى به إلى موسى بن بغا، فقال: إني لست أفرح بهذا؛ وإنما هذا تدبير علينا جميعًا، وإذا فعل بك اليوم شئ فعل بي غدًا مثله، فما ترى؟ قال: أرى أن تصير إلى سامرا، فتخبره أنك في طاعته، وناصره لى موسى ومفلح؛ فإنه يطمئن إليك، ثم ندبر في قتله.
    فقدم بايكباك فدخل على المهتدي، وقد مضوا إلى منازلهم كما قدموا من عند الشاري؛ فأظهر له المهتدي الغضب، وقال: تركت العسكر، وقد أمرتك أن تقتل موسى ومفلحًا، وداهنت في أمرهما! قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لي بهما؟ وكيف يتهيأ لي قتلهما؟ وهما أعظم جيشًا مني، وأعز مني! ولقد جرى بيني وبين مفلح شئ في بعض الأمر؛ فما انتصفت منه؛ ولكني قد قدمت بجيشي وأصحابي ومن أطاعني لأنصرك عليهما، وأقوى أمرك؛ وقد بقى موسى في أقل العدد. قال: ضع سلاحك، وأمر بإدخاله دارًا، فقال: يا أمير المؤمنين، ليس هذا سبيل مثلي إذا قدم من مثل هذا الوجه؛ حتى أصير إلى منزلي، وآمر أصحابي وأهلي بأمري. قال: ليس إلى ذلك سبيل، أحتاج، أحتاج إلى مناظرتك. فأخذ سلاحه، فلما أبطأ خبره على أصحابه سعى فيهم أحمد بن خاقان حاجب بايكباك، فقال: اطلبوا صاحبكم قبل أن يحدث به حدث؛ فجاشت الترك، وأحاطوا بالجوسق. فلما رأى ذلك المهتدي وعنده صالح بن علي بن يعقوب بن أبي جعفر المنصور شاوره، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين؛ إنه لم يبلغ أحد من آبائك ما بلغته من الشجاعة والإقدام، وقد كان أبو مسلم أعظم شأنًا عند أهل خراسان من هذا التركي عند أصحابه؛ فما كان إلّا أن طرح رأسه إليهم حتى سكنوا، وقد كان فيهم من يعبده ويتخّذه ربًّا، فلو فعلت مثل ذلك سكنوا؛ فأنت أشدّ من المنصور إقدامًا، وأشجع قلبًا. فأمر المهتدي الكرخي - واسمه محمد ابن المباشر، وكان حدّادًا بالكرخ يطرق المسامير، فانقطع إلى المهدي ببغداد فوثق به ولزمه - فأمره بضرب عنق بايكباك، فضرب عنقه، والأتراك مصطفون في الجوسق في السلاح، يطلبون بايكباك؛ فأمر المهتدي عتّاب القائد أن يرميهم برأسه فأخذ عتّاب الرأس؛ فرمى به إليهم، فتأخروا وجاشوا، ثم شدّ رجل منهم على عتّاب، فقتله، فوجّه المهتدي إلى الفراعنة والمغاربة والأوكشيّة والأشروسنيّة والأتراك الذين بايعوه على الدرهمين والسويق، فجاءوا، فكانت بينهم قتلى كثيرة، كثر فيها الناس، فقيل: قتل من الأتراك الذين قتلوا نحو من أربعة آلاف، وقيل ألفان وقيل ألف؛ وذلك يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب من هذه السنة.
    ثمّ تتامّ القوم يوم الأحد، فاجتمع جميع الأتراك، فصار أمرهم واحدًا، فجاء منهم زهاء عشرة آلاف رجل، وجاء طوغيتا أخو بايكباك وأحمد بن خاقان حاجب بايكباك في نحو من خمسمائة؛ مع من جاء مع طوغيتا من الأتراك والعجم، وخرج المهتدي ومعه صالح بن علي والمصحف في عنقه، يدعوا الناس إلى أن ينصروا خليفتهم. فلما التحم الشرّ مال الأتراك الذين مع الهتدي إلى أصحابهم الذين مع أخي بايكباك، وبقي المهتدي في الفرانة والمغاربة ومن خفّ معه من العامة، فحمل عليهم طوغيتا أخو بايكباك حملة ثائر حرّان موتور، فنقض تعبيتهم، وهزمهم، وأكثر فيهم القتل وولّوا منهزمين، ومضى المهتدي يركض منهزمًا، والسيف في يده مشهور، وهو ينادي: يا معشر الناس، انصروا خليفتكم؛ حتى صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وهي بعد خشبة بابك؛ وفيها أحمد بن جميل صاحب المعونة، فدخلها ووضع سلاحه، ولبس البياض ليعلو دارًا وينزل أخرى ويهرب. فطلب فلم يوجد، وجاء أحمد بن خاقان في ثلاثين فارسًا يسأل عنه حتى وقف على خبره في دار ابن جميل، فبادرهم ليصعد، فرمى بسهم وبعج بالسيف، ثم حمله أحمد بن خاان على دابة أو بغل، وأردف خلفه سائسًا حتى صار عليه، فجعلوا يصفونه ويبزقون في وجهه، وسألوه عن ثمن ما باع من المتاع والخرثي، فأقرّ لهم بستمائة ألف قد أودعها الكرخي الناس ببغداد، وأصابوا عنده خسف الواضحة مغنية، فأخذوا رقعته بستمائة ألف دينار؛ ودفعوه إلى رجل، فوظئ لى خصييه حتى قتله.


  • #75
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    وقال بعضهم: كان السبب وأوال الخلاف، أن اللاحقين من أولاد الأتراك اجتمعوا، وقالوا: لا نرضى أن يكون علينا رئيس غير أمير المؤمنين، وكتبوا إلى موسى بن بغا وبايكباك؛ وهما في وجه الشاري، فوافى موسى في رجاله حتى صاروا إلى قنطرة في ناحية الوزريرية يوم الجمعة، وعسكر المهتدي في الحير، وقرب منهم، ثم خرج إلى الجوسق، وعليه السلاح؛ فلما كان يوم السبت لثلاث عشرة خلت من رجب، دخل بايكباك طائعًا، ومضى موسى إلى ناحية طريق خراسان في نحو من ألفي رجل، وجاء المهتدي في رجل من الموالي، فقال له: إن بايكباك قد وعد موسى أن يفتك بك في الجوسق، فأخذ المهتدي بايكباك، وأمر بنزع سلاحه وحبسه، فحبس يوم السبت إلى وقت العصر، ثم خرج أهل الكرخ وأهل الدور يطلبونه، وانصرفوا وبكروا يوم الأحد، فلم يتخلف منهم أحد إلا حضر راكبًا وراجلًا في السلاح، فلما صاروا إلى الجوسق، صلى المهتدي الظهر، وخرج إليهم في الفراعنة والمغاربة، فتطارد لهم الأتراك، فحملوا عليهم، فلما تبعوهم خرج كمين لهم، فقتل الفراعنة والمغاربة جماعة كبيرة، وهرب المهتدي، ومر على باب أبي الوزير وغلام له يصيح: يا معشر الناس، هذا خليفتكم، وتراكض الأتراك خلفه، فدخل دار أحمد بن جميل، وتسلق المهتدي من دار إلى دار، وأحدق الأتراك بتلك الناحية كلها، فأخرجوه من دار غلام لعبد الله بن عمر البازيار، وحملوه وبه طعنة في خاصرته على برذون أعجف، في قميص وسراويل، وانتهبوا دار الكرخي ودور بني ثوابة وجماعة من الناس؛ فلما كان يوم الاثنين حمل أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان إلى دار يارجوج، والأتراك يدورون في الشوارع، ويحمدون العامة إذ لم يتعرضوا لهم.
    وقال آخرون: بل كان السبب في ذلك: أن أهل دور سامرا والكرخ تحركوا في يوم الاثنين خلت من رجب من هذه السنة، واجتمعوا بالكرخ وفوقها، فوجه المهتدي إليهم كيغلغ وطبايغو بن صول أرتكين وعبد الله أخا نفسه، فلم يزالوا بهم حتى سكنوا ورجعوا إلى الدار، وبلغ أنا نصر محمد بن بغا الكبير أن المهتدي قد تكلم فيه وفي أخيه موسى، وقال للمواي: إن الأموال عندهم، فتخوفه وإياهم، فهرب في ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب، فكتب إليه المهتدي أربعة كتب يعطيه فهيا الأمان على نفسه ومن معه، ووصل كتابان إليه وهو بالمحمدية مع أبرتكين بن برنماتكين، ووصل الآخرونإليه مع فرج الصغير، فرثق بذلك، فرجع حتى دخل الدار هو وأخوه حبشون وبكالبا، فحبسوا وحبس معهم كيغلغ، فأفرد أبو نصر عنهم؛ فطلب منه المال، فقبض من وكيله خمسة عشر ألف دينار، وقتل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب، ورمى به في بئر من آبار القناة، وأخرج من البئر يوم الاثنين للنصف من رجب ومضى به إلى منزله وقد أراح، فأشترى له ثلثمائة مثقال مسك وستمائة مثقال كافور، وصيرّ عليه فلم تنقطع الرائحة، وصلى عليه الحسن بن المأمون، وكتب المهتدي إلى موسى بن بغا عند حبسه أبا نصر يأمره بتسليم العسكر إلى بايكباك والإقبال إلى سامرا في مواليه، وكتب إلى بايكباك في تسلم العسكر والقيام بقتال الشاري، فصار بايكباك بالكتاب إلى موسى فقرأه، فاجتمعوا على الانصراف إلى سامرا، وبلغ المهتدي ذلك، وأنهم على خلافه، فجمع الموالي، فحضهم على الطاعة، وأمرهم بلزومه في الدار وترك الإخلال به، وأجرى على كل رجل من الأتراك ومن يجري مجراهم في كل يوم درهمين، وعلى كل رجل من المغاربة درهمًا. فاجتمع له من الفريقين وأخذانهم زهاء خمسة عشر ألف إنسان، منهم من الأتراك بالكاملي في الجوسق وغيره من المقاصير. وكان القيم بأمر الدار بعد حبس كيغلغ مسرور البلخي والرئيس من القواد طبايغو، والقيم بحبس من هؤلاء عبد الله بن تكين. وبلغ موسى ومفلحًا وبايكباك حبس أبي نصر وحبشون ومن حبس، فأخذوا حذرهم.
    وجرت الرسل والكتب بينهم وبين المهتدي يوم الخميس، وخرج المهتدي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب بجمعه متوقعًا ورود القوم عليه؛ فلم يأت أحد، فلما كان يوم الجمعة لاثني عشرة خلت من رجب صح الخبر بأن موسى قد عرج عن طريق سامرا إلى ناحية الجبل مع مفلح، ودخل يوم السبت بايكباك ويارجوج وأسكاتين وعلى بن بارس وسيما الطويل وخطارمش إلى الدار، فحبس بايكباك وأحمد بن خاقان خليفته، وصرف الباقون، فاجتمع أصحاب بايكباك وغيره من الأتراك، وقالوا: لم يحبس قائدنا؟ ولم قتل أبو نصر؟ فخرج إليهم المهتدي يوم السبت - ولم يكن بينهم حرب - فرجع وخرج يوم الأحد وقد اجتمعوا له، وجمع هو المغاربة والأتراك البرانيين والفراعنة فصير على الميمنة مسرورًا البلخي، وعلى الميسرة يارجوج، والمهتدي في القلب مع أسكاتين وطبايغوا وغيرهما من القواد.
    فلما اجتمعت الشمس، قرب القوم بضهم من بعض، وهاجت الحرب، وطلبوا بايكباك، فرمى إليهم المهتدي برأسه - وكان عتاب بن عتاب أخرجه من بركة قبائه - فلما رأوه شد أخوه طغوتيا في جماعة من خاصته على جمع المهتدي، وعطف الميمنة والميسرة من عسكر المهتدي، فصاروا معهم، وانهزم الباقون عن المهتدي، وقتل جماعة من الفريقين.
    فذكر عن حبشون بن بغا، أنه قال: قتل سبعمائة وثمانون إنسانًا، وتفرق الناس، ودخل المهتدي الدار، فأغلق الباب الذي دخل منه، وخرج من باب المصاف حتى خرج من الباب المعروف بإيتاخ، ثم إلى سويقة مسرور، ثم درب الواث؛ حتى خرج إلى باب العامة، وهو ينادي: يا مشر الناس، أنا أمير المؤمنين؛ قاتلوا عن خليفتكم. فلم تجبه العامة إلى ذلك، وهو يمر في الشار وينادي، فلم يرهم وينصرونه، فصار إلى باب السجن، فأطلق من فيه، وهو يظن أنهم يعينونه، فلم يكن منهم إلا الهرب، ولم يجبه أحد، فلما لم يجيبوه، صار إلى دار أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، وفيه أحمد بن جميل صاحب الشرطة نازل فدخل عليه، فأخرج من ناحية ديوان الضياع، ثم صير به إلى الجوسق، فحبس فيه عند أحمد بن خاقان، وانتهب دار أحمد ابن جميل.
    وكان ممن قتل في المعركة من قواد المغاربة نصر بن أحمد الزبيري، ومن قواد الشاكرية عتاب بن عتاب حين جاء برأس بايكباك إليهم، وقتل المهتدي - فيما قيل - في الوقة عدة كثيرة بيده، ثم جرى بينهم وبينه بعد أن حبس كلام شديد، وأراده على الخل فأبى، واستسلم للقتل، فقالوا: إنه كان كتب رقعة بيده لموسى بن بغا وبايكباك وجماعة من القواد؛ أنه لا يغدر بهم ولا يغتالهم، ولا يفتك بهم بذلك، وأنه متى فعل ذلك بهم أو بأحد منهم ووقفوا عليه فهم في حل من بيعته، والأمر إليهم يقعدون من شاءوا. فاستحلوا بذلك نقض أمره.
    وقد كان يارجوخ بعد انهزام الناس صار إلى الدار، فأخرج من ولد المتوكل جماعة، فصار بهم إلى داره، فبايعوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من رجب، وسمي المعتمد على الله، وأشهد يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب على وفاة المهتدي محمد بن الواثق، وأنه سليم ليس به إلا الجراحتان اللتان نالتاه يوم الأحد في الوقعة؛ إحداهما من سهم والأخرى من ضربة، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد وعدة من إخوة أمير المؤمنين، ودفن في مقبرة المنتصر، ودخل موسى بن بغا ومفلح سامرا يوم السبت لشر بقين من رجب، فسلم لى المعتمد فخلع عليه، وصار إلى منزله وسكن الناس.
    وقال بضهم - وذكر أنه كان شاهدًا أمرهم: لما كان ليلة الاثنين لليلة خلت من رجب ثار أهل الكرخ والدور جميعًا، فاجتمعوا، وكان المهتدي يوجه إليهم إذا تحركوا أخاه عبد الله، فوجه إليهم في هذا اليوم عبد الله أخاه كما كان يوجهه، فصار إليهم؛ فوجدهم قد أقبلوا يريدون الجوسق، فكلمهم، وضمن لهم القيام بحوائجهم، فأبوا وقالوا: لا نرج حتى نصير إلى أمير المؤمنين ونشكو إليه قصتنا. فانصرف منهم عبد الله، وفي الدار في هذا الوقت أبو نصر محمد بن بغا وحبشون وكيغلغ ومسرور البلخي وجماعة، فلما أدى عبد الله إلى المهتدي ما دار بينه وبينهم، أمره بالرجوع إليهم، وأن يأتي بجماعة منهم فيوصلهم إليه، فخرج فتلقاهم قريبًا من الجوسق، فأدارهم على أن يقفوا بموضعهم، ويوجهوا معه جماعة منهم فأبوا، فلما تناهى الخبر إلى أبي نصر ومن كان معه في الدار بأن جمعهم قد أقبل، خرجوا جميعًا من الدار مما يلي النزالة، فلم يبق في الدار إلا مسرور البلخي وألطون خليفة كيغلغ، ومن الكتاب عيسى بن فرخانشاه، ودخل الموالي مما يلي القصر الأحمر، فمثلوا الدار زهاء أربة آلاف، فصاروا إلى المهتدي، فشكوا إليه حالهم.
    وكان اعتمادهم في مسألتهم أن يعزل عنهم أمراءهم، ويصم أمورهم إلى إخوة أمير المؤمنين، وأن يؤخذ الأمراء والكتاب بالخروج مما اختانوه من أموال السلطان؛ وذكروا أن قدره خمسون ومائة ألف ألف. فوعدهم النظر في أمرهم وإجابتهم إلى ما سألوا، فأقاموا يومهم ذلك في الدار، فوجه المهتدي محمد ابن مباشر الكرخي، فاشترى لهم الأسوقة، ومضى أبو نصر بن بغا من فوره ذلك؛ حتى عسكر في الحير بالقرب من موضع الحلبة، فلحق به زهاء خمسمائة رجل، ثم تفرقوا عنه في ليلتهم، فلم يبق إلا في أقل من مائة، ومضى فصار إلى المحمدية، وأصبح الموالي في غداة يوم الأربعاء يطالبون بما كانوا يطالبون به أولًا، فقيل لهم: إن هذا الأمر الذي تريدونه أمر صعب، وإخراج الأمر عن أيدي هؤلاء الأمراء ليس بسهل عليكم؛ فكيف إذا جمع إلى ذلك أخذهم بالأموال! فانظروا في أموركم؛ فإن كنتم تصبرون على هذا الأمر حتى يبلغ منه غايته أجابكم إليه أمير المؤمنين، وإن تكن الأخرى فإن أمير المؤمنين يحسن لكم النظر، فأبوا إلا ما سألوه أولًا فدعوا إلى أيمان البيعة على أن يقيموا على هذا القول، ولا يرجعوا عنه، وأن يقاتلوا من قاتلهم فيه، وينصحوا لأمير المؤمنين ويوالوه، فأجابوه إلى ذلك، فأخذت عليهم أيمان البيعة، فبايع في ذلك اليوم زهاء ألف رجل وعيسى بن فرخانشاه الذي تجري على يده الأمور، ومقامه مام الوزير، ثم كتبوا إلى أبي نصر كتابًا عن أنفسهم؛ كتبه لهم عيسى بن فرخانشاه، يذكرون فيه إنكارهم خروجه من الدار عن غير سبب، وأنهم إنما قصدوا أمير المؤمنين ليشكوا إليه حاجتهم، وأنهم لما وجدوا الدار فارغة أقاموا فيها، وأنهم إذا عاد ردوه إلى حاله، ولم يهيجوه. وكتب عيسى عن الخليفة بمثل ذلك إليه، فأقبل من المحمدية بين العصر والعشاء، فدخل الدار، ومعه أخوه حبشون وكيغلغ وبكالبا وجماعة منهم؛ فقام الموالي في وجوههم معهم السلاح، وقد المهتدي، فوصل إليه أبو نصر ومن معه، فسلم عليه، ودنا فقبل يد المهتدي ورجله والبساط، وتأخر فخاطبه المهتدي بأن قال له: يا محمد: ما عندك فيما يقول الموالي؟ وما يولون؟ قال: يذكرون أنكم احتجنتم الأموال، واستبددتم بالأعمال، فما تنظرون في شيء من أمورهم، ولا فيما عاد لمصلحتهم، فقال محمد: يا أمير المؤمننين؛ وما أنا والأموال! ما كنت كاتب ديوان، ولا جرت على يدي أعمال. فقال له: فأين هي الأموال؟ وهل هي إلا عندك وعند أخيك، وكتابكم وأصحابكم! ودنا الموالي، فتقدم عبد الله بن تكين وجماة من هم، فأخذوا بيد أبي نصر وقالوا: هذا عدو أمير المؤمنين، يقوم بين يديه بسيفٍ، فأخذوا سيفه، ودخل غلام لأبي نصر كان حاضرًا يقال له ثيتل، فسل سيفه، وخطا ليمنعهم من أبي نصر، وكانت حظوته تلي الخليفة، فسبقه عبد الله بن تكين، فضرب رأسه بالسيف، فما بقي في الدار أحدٌ إلا سل سيفه، وقام المهتدي، فدخل بيتًا كان بقربه، وأخذ محمد بن بغا، فأدخل حجرة في الدار، وحبس أصحابه الباقون، وأراد القوم قتل الغلام، فمنعهم المهتدي، وقال: إن لي في ذها نظرًا. ثم أمر فأعطي قميصًا من الخزانة، وأمر بغسل رأسه من الدم، وحبس.
    فأصبح الناس يوم الأربعاء وقد كثروا، والبيعة تؤخذ، ثم أمر عبد الله بن الواثق بالخروج إلى الرفيف في ألف رجل من الشاكرية والفراغنة وغيرهم؛ وكان ممن أمر بالخروج من قواد خراسان محمد بن يحيى الواثقي وعتاب بن عتاب وهارون بن عبد الرحمن بن الأزهر وإبراهيم أخو أبي عون ويحيى بن محمد داود ولد نصر بن شيث وعبد الرحمن بن دينار وأحمد بن فريدون وغيرهم.
    ثم إن عبد الله بن الواثق بلغه عن هؤلاء القواد أنهم يقولون: إنه ليس بصواب شخوصهم إلى تلك الناحية، فترك الخروج إليها.


  • #76
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ثم إنهم أراوا أن يكتبوا إلى موسى ومفلح بالانصراف وتسليم العسكر إلى من فيه من القواد، فأجمعوا على أن يكتبوا إليهما بذلك كتابًا، وكتبا إلى بعض القواد في تسليم العسكر منهما، وكتبا إلى الصغار بما سأل أصحابهم بسامرا، وما أجيبوا إليه، وأمر بنسخ الكتب التي كتبت إلى القواد، وأن ينظروا؛ فإن سارع موسى ومفلح إلى ما أمرا به من الإقبال إلى الباب في غلمانهم وتسليم العسكر إلى من أمرا بتسليمه إليه. وإلا شدوهما وثاقًا، وحملوهما إلى الباب، ووجهوا هذه الكتب مع ثلاثين رجلًا منهم، فشخصوا عن سامرا ليلة الجمعة لخمس خلون من رجب من هذه السنة، وأجري على من أخذت عليه البيعة في الدار على كل رجل منهم في اليوم درهمان، فكان المتولى لفرقة ذلك عليهم عبد الله بن تكين، وهو خال ولد كنجور.
    ولما تناهى الخبر إلى موسى وأصحابه اتهم كنجور، وأمر بحبسه بعد أن ناله بالضرب، وموسى حينئذ بالسن، ولما انتهى الخبر إلى بايكباك وهو بالحديثة أقبل إلى السن، فاستخرج كنجور من الحبس، واجتمع العسكر بالسن، ووصل إليهم الرسل، وأوصلوا الكتب، وقرءوا بعضها على أهل العسكر، وأخذوا عليهم البيعة بالنصرة لهم، فارتحلوا حتى نزلوا قنطرة الرفيف يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب؛ وخرج المهتدي في هذا اليوم إلى الحير، وعرض الناس، وسار قليلًا، ثم عاد وأمر أن تخرج الخيام والمضارب فتضرب في الحير، وأصبح الناس يوم الجمعة، وقد انصرف من عسكر موسى زهاء ألف رجل؛ منهم كوتكين وحشنج.
    ثم خرج المهتدي إلى الحير، ثم صير ميمنته عليها كوتكين، وميسرته عليها حشنج، وصار هو في القلب، ثم رجع الرسل تختلف بين العسكرين. والذي يريد موسى بن بغا أن يولى ناحية ينصرف إليها، والذي يريد القوم من موسى أن يقبل في غلمانه ليناظرهم؛ فلم يتهيأ بينهم في ذلك اليوم شيء. فلما كان ليلة السبت، انصرف من أراد الانصراف عن موسى، ورجع موسى ومفلح يريدان طريق خراسان في زهاء ألف رجل، ومضى بايكباك وجماعة من قواده في ليلتهم مع عيسى الكرخي، فباتوا معه، ثم أصبحوا يوم السبت، وأقبل بايكباك ومن معه حتى دخلوا الدار، فأخذت سيوفهم بايكباك ويارجوخ وأساتكين وأحمد بن خاقان وخطارمش وغيرهم. فوصلوا جميعًا إلى المهتدي، فسلموا، فأمروا بالانصراف إلا بايكباك؛ فإن المهتدي أمر أن يوقف بين يديه، ثم أقبل يعدد عليه ذنوبه، وما ركب من أمر المسلمين والإسلام.
    ثم إن الموالى اعترضوه، فأدخلوا حجرة في الدار، وأغلقوا ليه الباب، ثم لم يلبث إلا قدر خمس ساعات حتى قتل يوم السبت من الزوال. واستوى الأمر، فلم تكن حركة، ولا تكلم أحد إلا نفر يسير أنكروا أمر بايكباك، ولم يظهروا كل الجزع. فلما كان يوم الأحد، أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار ودخولهم معهم، ووضح عندهم أن التدبير إنما جرى في قتل رؤسائهم حتى يقدم عليهم الفراغنة والمغاربة، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة والمغاربة، وأنكر الأتراك بناحية الكرخ ذلك، وأضافوا إليه طلب بايكباك لاجتماع أصحاب بايكباك معهم، فأدخل المهتدي إليه جماعة من الفراعنة وأخبرهم بما أنكره الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تعلمون أنكم تقومون بهم؛ فما يكره أمير المؤمنين قربكم؛ وإن كنتم بأنفسكم تظنون عجزًا عنهم أرضيناهم بالمصير إلى محبتهم من قبل تفاقم الأمر. فذكر الفراعنة أنهم يقومون بهم ويقهرونهم، إذا اجتمعت كلمتهم وكلمة المغاربة، وعددوا أشياء كثيرة من تقديمهم عليهم، وأرادوا المهتدي لى الخروج إليهم، فلم يزل كذلك إلى الظهر، ثم ركب وأكثر الفرسان الفراعنة وأكثر الرجالة المغاربة، ووجه إليهم وهم بين الكرخ والقطائع والأتراك زهاء عشرة آلاف، وهم في ستة آلاف لم يكن معهم من الأتراك إلا أقل من ألف، وهم أصحاب صالح ابن وصيف وجماعة مع يارجوخ. فلما التقى الزحفان، انحاز يارجوخ بمن معه من الأتراك، وانهزم أصحاب صالح بن وصيف، فرجوا إلى منازلهم وخرج طاشتمر من خلف الدكة، وكانوا جعلوا كمينًا، وتصادم القوم، فكانت الحرب بينهم ساعة من النهار، ضربًا وطعنًا ورميًا.
    ثم وقت الهزيمة على أصحاب المهتدي، فثبت وأقبل يدعوهم إلى نفسه، ويقاتل حتى يئس من رجوعهم، ثم انهزم وبيده سيف مشطب، وعليه درع وقباء، ظاهر به حرير أبيض معين، فمضى حتى صار إلى موضع خشبة بابك، وهو يحث الناس على مجاهدة القوم ونصرته؛ فلم يتبعه أحد إلا جماعة من العيارين؛ فلما صاروا إلى باب السجن تعلقوا بلجامه، وسألوه إطلاق من في السجن، فانصرف بوجهه عنهم؛ فلم يتركوه حتى أمر بإطلاقهم، فانصرفوا عنه، واشتغلوا بباب السجن، وبقي وحده، فمر حتى صار إلى موضع دار أبي صالح بن يزداد، وفيهما أحمد بن جميل، فدخل الدار وأغلقت الأبواب، فنزع ثيابه وسلاحه، وكانت به طنة في وركه، فطلب قميصًا وسراويل، فأعطاه محمد بن جميل، وغسل الدم عن نفسه، وشرب ماء وصلى، فأقبل جماعة من الأتراك مع يارجوخ نحو من ثلاثين رجلًا؛ حتى صاروا إلى دار أبي صالح، فضربوا الباب حتى دخلوها، فلما أحس بهم أخذ السيف وسعى؛ فصد على درجة في الدار، ودخل القوم؛ وقد علا السطح، فأراد بعضهم الصعود لأخذه، فضربه بالسيف فأخطأه، وسقط الرجل عن الدراجة، فرموه بالنشاب، فوقعت نشابة في صدره، فجرحته جراحة خفيفة، وعلم أنه الموت؛ فأعطى بيده، ونزل فرمى بسيفه فأخذوه، فجعلوه على دابة بين يدي أحدهم، وسلكوا الطريق الذي جاء منه، حتى صيروه إلى دار يارجوخ في القطائع، وأنهبوا الجوسق، فلم يبق شئ، وأخرجوا أحمد بن المتوكل المعروف بابن فتيان - وكان محبوسًا في الجوسق - وكتبوا إلى موسى بن بغا وسألوه الانصراف إليهم، فأقام المهتدي عندهم لم يحدثوا في أمره شيئًا، فلما كان يوم الثلاثاء بايعوا أحمد بن المتوكل في القطائع، وصاروا به يوم الأربعاء إلى الجوسق فبايعه الهاشميون والخاصة، وأرادوا المهتدي على الخلع في هذه الأيام، فأبى ولم يحبهم، ومات يوم الأربعاء، وأظهروه يوم الخميس لجماعة الهاشميين والخاصة، فكشفوا عن وجهه وغسلوه، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين.
    وقدم موسى بن بغا يوم السبت لعشر بقين من رجب وركب أحمد بن فتيان إلى دار العامة يوم الاثنين لثمان بقين من رجب، فبايعوه بيعة العامة.
    فذكر عن محمد بن عيسى القرشي أنه قال: لما صار المهتدي في أيديهم أبى أن يخل نفسه، فخلعوا أصابع يديه ورجليه من كفيه وقدميه، حتى ورمت كفاه وقدماه، وفعلوا به غير شيء حتى مات.
    وقد ذكر في سبب قتل أبي نصر محمد بن بغا أنه كان خرج من سامرا يريد أخاه موسى، فوجه إليه المهتدي أخاه عبد الله في جماعة من المغاربة والفراغنة، فلحقوه بالرفيف، فجىء به فحبس، وكان قد دخل على المهتدي مسلمًا قبل خلافهم، فقال له: يا محمد؛ إنما قدم أخوك موسى في جيشه وعبيده حتى يقتل صالح بن وصيف ويتصرف، قال: يا أمير المؤمنين؛ أيذك بالله! موسى عبدك وفي طاتك؛ وهو مع هذا في وجه عدو كلب، قال: قد كان صالح أنفع لنا منه؛ وأحسن سياسة للملك، وهذا العلوي قد رجع إلى الري، قال: وما حيلته يا أمير المؤمنين؟ قد هزمه وقتل أصحابه وشرد به كل مشرد، فلما انصرف عاد، وهذا فعله أبدًا؛ اللهم إلا أن تأمره بالمقام بالري دهره. قال: دع هذا علتك، فإن أخاك ما صنع شيئًا أكثر من أخذ الأموال واحتجانها لنفسه. فأغلظ له أبو نصر، وقال: ينظر فيما صار إليه وإلى أهل بيته وليت الخلافة فيرد، وينظر ما صار إليك وإلى إخوتك فيرد، فأمر به فأخذ وضرب وحبس، وانتهبت داره ودار ابن ثوابة، ثم أباح دم الحسن بن مخلد وابن ثوابة وسليمان بن وهب القطان كاتب مفلح، فهربوا فانتهبت دورهم. ثم جاء المهتدي بالفراعنة والأشروسنية والطبرية والديالمة والإشتاخنية ومن بقي من أتراك الكرخ وولد وصيف، فسألهم النصرة على موسى ومفلح، وضرب بينهم، وقال: قد أخذوا الأموال واستأثروا بالفئ، وأنا أخاف أن يقتلوني، وإن نصرتموني أعطيتكم جميع ما فاتكم، وزدتكم في أرزاقكم. فأجابوه إلى نصره والخلاف على موسى وأصحابه، ولزموا الجوسق، وبايعوه بيعة جديدة وأمر بالسويق والسكر فاشترى لهم، وأجرى على كل رجل منهم كل يوم درهمين، وأطعموا في بض أيامهم الخبز واللحم. وتولى أمر جيشه أحمد بن وصيف وعبد الله بن بغا الشرابي والتفت، معهم بنو هاشم، وجعل يركب في بني هاشم، ويدور في الأسواق، ويسأل الناس النصرة، ويقول: هؤلاء الفساق يقتلون الخلفاء، ويثبون على مواليهم، وقد استأثروا بالفيء، فأعينوا أمير المؤمنين وانصروه. وتكلم صالح بن يعقوب بن المنصور وغيره من بني هاشم، ثم كتب بعد إلى بايكباك يأمره أن يضم الجيش كله إليه، وأنه الأمير على الجيش أجمع، ويأمره بأخذ موسى ومفلح.
    ولما هلك المهتدي طلبوا أبا نصر بن بغا، وهم يظنون أنه حي، فدلوا على موضعه، فنبش فوجدوه مذبوحًا، فحمل إلى أهله، وحملت جثة بايكباك فدفنت. وكسرت الأتراك على قبر محمد بن بغا ألف سيف، وكذلك يفعلون بالسيد منهم إذا مات. وقيل إن المهتدي لما أبى أن يخلعها، أمروا من عصر خصيته حتى مات؛ وقيل: إن المهتدي لما احتضر قال:

  • صفحة 19 من 28 الأولىالأولى ... 91718192021 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثامن)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 40
      آخر مشاركة: 09-01-2010, 05:38 AM
    2. تاريخ الرسل والملوك(الجزء السابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 80
      آخر مشاركة: 08-15-2010, 11:10 PM
    3. تاريخ الرسل والملوك(الجزء السادس)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 72
      آخر مشاركة: 08-14-2010, 11:05 PM
    4. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الخامس)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 107
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 09:12 PM
    5. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الرابع)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الثقافة و الأدب و الشعر و القصص والروايات
      مشاركات: 49
      آخر مشاركة: 08-05-2010, 05:26 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1