ذكر بعض من قال ذلك منهم
حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي، في الحديث الذي ذكرنا إسناده قبل: أن يختنصر بعثه صيحائين لحرب بني إسرائيل حين قتل ملكهم يحيى بن زكرياء عليه السلام، وبلغ صيحائين قتله.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال - فيما بلغني: استخلف الله عز وجل على بني إسرائيل بعد شعيا رجلًا منهم يقال له ياشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر نبيًا، واسم الخضر - فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل - إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون.
وأما وهب بن منبه فإنه قال فيه ما حدثني محمد بن سهل بن عسكر البخاري قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل، قال: سمعت وهب بن منبه يقول: وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله عز وجل لإرميا حين بعثه نبيًا إلى بني إسرائيل: " يا إرميا، من قبل أن أخلقك أخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبيتك، ومن قبل أن تبلغ الأشد اختبرتك، ولأمر عظيم اجتبيتك " فبعث الله عز وجل إرميا إلى ذلك الملك من بين إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالخبر من قبل الله فيما بينه وبين الله عز وجل.
قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سنحاريب وجنوده فأوحى الله عز وجل إلى إرميا أن أتت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكرهم نعمي عليهم، وعرفهم إحداثهم. فقال إرميا: إني ضعيف إن لم تقوني، عاجز إن لن تبلغني، مخطئ إن لم تسددني، مخذول إن لم تنصرني، ذليل إن لم تعزني. قال الله عز وجل: ألم تعلم أن الأمور كلها تصدرُ عن مشيئتي، وأن القلوب كلها والألسن بيدي، أقلبها كيف شئت فتطيعني! وإني أنا الله الذي لا شيء مثلي، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي، وأنا كلمت البحار ففهمت قولي، وأمرتها فعقلت أمري، وحددت عليها بالبطحاء فلا تعدي حدي، تأتي بأمواج كالجبال، حتى إذا بلغت حدي ألبستها مذلة طاعتي خوفًا واعترافًا لأمري، إن معك ولن يصل إليك شيء معي، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي، ونستحق بذلك مثل أجر من اتبعك منهم، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، وإن تقصر به عنها تستحق بذلك مثل وزر من تركت في عماه، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا. انطلق إلى قومك فقل: إن الله ذكر بكم صلاح آبائكم، فحمله ذلك على أن يستتيبكم يا معشر الأبناء. وسلهم كيف وجد أباءهم مغبة طاعتي، وكيف وجدوا هم مغبة معصيتي! وهل علموا أن أحدًا قبلهم أطاعني فشقى بطاعتي، أو عصاني فسعد بمعصيتي! وأن الدواب مما تذكر أوطانها الصالحة تنتابها، وأن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة. أما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولًا يتعبدونهم دوني، ويحكمون فهيم بغير كتابي. حتى أجهلوهم أمري، وأنسوهم ذكري، وعروهم مني. وأما أمراؤهم وقادتهم فبطروا نعمتي، وأمنوا مكري، ونبذوا كتابي، ونسوا عهدي، وغيروا سنتي، وادان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلا لي، فهم يطيعونهم في معصيتي، ويتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني، جرأة علي وغرة، وفرية علي وعلى رسلي، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني! وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي! وهل ينبغي أن أخلق عبادًا أجعلهم أربابًا من دوني! وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيتعبدون في المساجد، ويتنزينون بعمارتها لغيري لطب الدنيا بالدين، ويتفقهون فيها لغير العلم، ويتعلمون فيها لغير العمل. وأما أولاد الأنبياء فمكثورون مقهورون مغترون، يخوضون مع الخائضين، فيتمنون على مثل نصرة آبائهم، والكرامة التي أكرمتهم بها، ويزعمون أن لا أحد أولى بذلك منهم مني بغير صدق ولا تفكر ولا تدبر ولا يذكرون كيف نصر آبائهم لي، وكيف كان جدهم في أمري، حين غير المغيرون، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم، فصبروا وصدقوا حتى عز أمري، وظهر ديني، فتأنيت بهؤلاء القوم لعلهم يستجيبون، فأطولتُ لهم، وصفحت عنهم لعلهم يرجعون، وأكثرت ومددت لهم في العمر لعلهم يتفكرون، فأعذرت. وفي كل ذلك أمطر عليهم السماء، وأنبت لهم الأرض، وألبسهم العافية، وأظهرهم على العدو، فلا يزدادون إلا طغيانًا وبعدًا مني. فحي متى هذا! أني يتمرسون! أم إياي يخادعون! فإني أحلف بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ويضل فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم. ثم لأسلطن عليهم جبارًا قاسيًا عاتيًا، ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرأفة والرحمة والليان، يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، له عساكر مثل قطع السحاب، ومراكب أمثال العجاج، كأن خفيق راياته طيرانُ النسور، وكأن حملة فرسانه كرير العقبان.
ثم أوحى الله عز وجل إلى إرميا أني مهلك بني إسرائيل بيافث - ويافث أهل بابل، فهم من ولد يافث بن نوح عليه السلام - فلما سمع إرميا وحى ربه صاح وبكى وشق ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يوم ولدت فيه، ويوم لقنت فيه التوراة، ومن شر أيامي يوم ولدت فيه، فما أبقيتُ آخر الأنبياء إلا لما هو شر علي، لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأبنياء من بني إسرائيل، فمن أجلي تصيبهم الشقوة والهلاك!
فلما سمع الله عز وجل تضرع الخضر وبكاءه، وكيف يقول، ناداه: يا إرميا، أشق عليك ما أوحيت لك! قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أسر به، فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك ففرح عند ذلك إرميا لما قال له ربه، وطابت نفسه وقال: لا، والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا.
ثم أتى ملك بني إسرائيل فأخبره بما أوحى الله إليه فاستبشر وفرح، وقال: إن يعذبنا ربنا فبذنوب كثيرة قدمناها لأنفسنا، وإن عفا عنّا فبقدرته.
ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية وتماديًا في الشر، وذلك حين أقترب هلاكهم، فقل الوحي حين لم يكونوا يتذكرون الآخرة، وأمسك عنهم حين ألهتهم الدينا وشأنها، فقال لهم ملكهم: يا بني إسرائيل، انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسكم بأس الله، وقبل أن يبعث الله عليكم قومًا لا رحمة لهم بكم، فإن ربكم قريب التوبة مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن تاب إليه. فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه. وإن الله ألقى في قلب بختنصر بن نبوزراذان بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ ابن عابر - ونمروذ صاحب إبراهيم عليه السلام، الذي حاجه في ربه - أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعل. فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس، فلما فصل سائرًا أتى ملك بني إسرائيل الخبر أن بختنصر قد أقبل هو وجنوده يريدكم، فأرسل الملك إلى إرميا، فجاءه فقال: يا إرميا، أين ما زعمت لنا أن ربك أوحى إليك ألا يهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمر في ذلك! فقال إرميا للملك: إن ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
فلما اقترب الأجل ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله تعالى على هلاكهم، بعث الله عز وجل ملكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى إرميا واستفته. وأمره بالذي يستفتيه فيه. فأقبل الملك إلى إرميا، وقد تمثل له رجلًا من بني إسرائيل. فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال له الملك: يا نبي الله، أتيتك أستفتيك في أهل رحمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حسنًا، ولم آلهم كرامة. فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتنى فيهم يا نبي الله! فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله، وصل ما أمرك الله أن تصل وأبشر بخير. قال: فانصرف عنه الملك، فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي كان جاءه، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال. أنا الرجل الذي أتيتك أستفتيك في شأن أهلي، فقال له نبي الله: أو ما طهرت لك أخلاقهم بعد، ولم تر منهم الذي تحب! قال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحد من الناس إلا أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك. فقال النبي: ارجع إلى أهلك فأحسن إليهم، واسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنبكم سخطه. فقام الملك من عنده فلبث أيامًا وقد نزل بختصر وجنوده حول بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل فدعا إرميا فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق. ثم إن الملك أقبل إلى إرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له إرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت أتيتك في شأن أهلي مرتين، فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه! فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبل اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أن مآلهم في ذلك سخطي، فلما أتيتهم اليوم رأيتهم في عملٍ لا يرضاه الله ولا يحبه، قال له النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله، رأيتهم على عملٍ عظيم من سخط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم، لم يشتد غضبي عليهم، وصبرت لهم ورجوتهم، ولكني غضبت اليوم لله ولك، فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم أن يهلكهم الله. قال إرميا: يا ملك السموات والأرض، إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم.
فلما خرجت الكلمة من في إرميا أرسل الله عز وجل صاعقة من السماء في بيت المقدس فالتهب مكان القربان، وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشق ثيابه، ونبذ التراب على رأسه، وقال: يا ملك السماء ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني! فنودي: يا إرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت بها رسولنا. فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاث مرات، وأنه رسول ربه.
وطار إرميا حتى خالط الوحوش، ودخل بختصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشأم، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذقه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملئوه. ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بين إسرائيل، فاختار منهم مائة ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك عنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل. ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة - وكان من أولئك الغلمان: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل - وسبعة آلاف من أهل بيت داود، وأحد عشر ألفًا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه بنيامين، وثمانية آلاف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر ألفًا من سبط زبالون ابن يعقوب، ونفثالي بن يعقوب، وأربعة آلاف من سبط روبيل ولاوي ابني يعقوب، وأربعة آلاف من سبط يهوذا بن يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل. وجعلهم بختنصر ثلاث فرق، فثلثا أقر بالشام. وثلثًا سبى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. وذهب بالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، وكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزلها الله ببني إسرائيل بإحداثهم وظلمهم.
فلما ولى بختنصر عنهم راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل أقبل إرميا على حمار له معه عصير من عنب في ركوة وسلة تين، حتى غشى إيلياء فلما وقف عليها ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: إني يحيى هذه الله بعد موتها! فأماته الله مائة عام، وحماره وعصيره وسلة تينه عنده حيث أماته الله وأمات حماره معه، وأعمى الله عنه العيون فلم يره أحد، ثم بعثه الله فقال له: " كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " - يقول لم يتغير - " وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا " فنظر إلى حماره يتصل بعض إلى بعض - وقد كان مات معه - بالعروق والعصب، ثم كيف كسى ذلك منه اللحم حتى استوى، ثم جرى فيه الروح، فقال ينهق. ثم نظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: " أعلم أن الله على كل شيء قدير " ثم عمر الله إرميا بعد ذلك فهو الذي يرى بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثم رأى رؤيا، فبينما هو قد أعجبه ما رأى إذ رأى شيئًا أصابه فأنساه الذي كان رأى، فدعا دانيال، وحنانيا وعزاريا، وميشايل من ذ رارى الأنبياء، فقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها، ثم أصابني شيء فأنسانيها، وقد كانت أعجبتني ما هي؟ قالوا له: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها، قال: ما أذكرها، وإن لم تخبروني بتأويلها لأنزعن أكتافكم. فخرجوا من عنده، فدعوا الله واستغاثوا وتضرعوا إليه، وسألوه أن يعلمهم إياها. فأعلمهم الذي سألهم عنه. فجاءوه فقالوا له: رأيت تمثالًا؟ قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخار، وركبتاه وفخذاه من نحاس، وبطنه من فضة، وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد. قال: صدقتم. قالوا: فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك، فأرسل الله عليه صخرة من السماء فدقته، فهي التي أنستكها. قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: تأويلها أنك أريتَ ملك الملوك، فكان بعضهم ألين ملكًا من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكًا من بعض، وبعضهم كان أشد ملكًا من بعض، فكان أول الملك الخفار وهو أضعفه وألينه. ثم كان فوقه النحاس وهو أفضل منه وأشد، ثم كان فوق النحاس الفضة وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثم كان فوق الفضة الذهب، فهو أحسن من الفضة وأفضل، ثم كان الحديد ملكك، فهو كان أشد الملوك وأعز مما كان قبله، وكانت الصخرة التي رأيت أرسل الله عليه من السماء فدقته، نبيًا يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع، ويصير الأمر إليه.
ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين كنا سألناك أن تعطيناهم ففعلت! فإنا والله لقد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا علقن بهم، وصرفن وجوههن إليهم، فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم، قال: شأنكم بهم، فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده فليفعل، فأخرجوهم فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله قال: شأنكم بهم. فلما قربوهم للقتل تضرعوا إلى الله فقالوا: يا ربنا، أصابنا البلاء بذنوب غيرنا، فتحنن الله عليهم برحمته، فوعدهم أن يحيهم بعد قتلهم، فقتلوا إلا من اشتبقى بختنصر منهم، وكان ممن استبقى منهم: دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وميشايل.
ثم إن الله تبارك وتعالى حين أراد هلاك بختنصر، انبعث فقال لمن كان في يديه من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي أخربت، وهؤلاء الناس الذين قتلت، من هم؟ وما هذا البيت؟ قالوا: هذا بيت الله ومسحد من مساجده، وهؤلاء أهله كانوا من ذرارى الأنبياء فظلموا وتعدوا وعصوا فسلطت عليهم بذبوهم، وكان ربهم رب السموات والأرض، ورب الخلق كلهم يكرمهم ويمنعهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا، لعلي أطلع إليها فأقتل من فيها وأتخذها ملكًا؟، فإني قد فرغت من الأرض ومن فيها، قالوا له: ما تقدر على ذلك وما يقدر على ذلك أحد من الخلائق، قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم، فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله بقدرته - ليريه ضعفه وهوانه عليه - بعوضة فدخلت في منخره ثم ساخت في دماغه حتى عضت بأم دماغه، فما كان يقر ولا يسكن حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه، فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي، فانظروا ما هذا الذي قتلني؟ فلما مات شقوا رأسه، فوجدوا البعوضة عاضة بأم دماغه ليرى الله العباد قدرته وسلطانه، ونجى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى الشأم وإلى إيلياء المسجد المقدس، فبنوا فيه وربلوا وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
فيزعمون - والله أعلم - أن الله أحيا أولئك الموتى الذين قتلوا فلحقوا بهم.
ثم إنهم لما دخلوا الشأم دخلوها وليس معهم عهد من الله، كانت التوراة قد استبيت منهم فحرقت وهلكت، وكان عزير من السبايا الذين كانا ببابل فرجع إلى الشأم يبكي عليها ليله ونهاره، قد خرج من الناس فتوحد منهم، وإنما هو ببطون الأودية وبالفلوات يبكي، فبينما هو كذلك في حزنه على التوراة وبكائه عليها، إذا أقبل إليه رجل وهو جالس، فقال: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده، كان بين أظهرنا فبلغت بنا خطايانا، وغضب ربنا علينا أن سلط علينا عدونا، فقتل رجالنا، وأخرب بلادنا، وأحرق كتاب الله الذي بين أظهرنا، الذي لا يصلح دنيانا وآخرتنا غيره - أو كما قال - فعلام أبكي إذا لم أبك على هذا! قال: أفتحب أن يرد ذلك عليك؟ قال: وهل إلى ذلك من سبيل؟ قال: نعم أرجع فصم وتطهر وطهر ثيابك، ثم موعدك هذا المكان غدًا. فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه، ثم عمد إلى المكان الذي وعده. فجلس فيه، فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء - وكان ملكًا بعثه الله إليه - فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني إسرائيل، فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وسننها وفرائضها وحدودها، فأحبوه حبًا لم يحبوه شيئًا قط، وقامت التوراة بين أظهرهم، وصلح بها أمرهم، وأقام بين أظهرهم عزير مؤديًا لحق الله، ثم قبضه الله على ذلك، ثم حدثت فيهم الأحداث حتى قالوا لعزير: هو ابن الله، وعاد الله عليهم فبعث فيهم نبيًا كما كان يصنع بهم، يسدد أمرهم، ويعلمهم ويأمرهم بإقامة التوراة وما فيها.
وقال جماعة آخر عن وهب بن منبه في أمر بختنصر وبني إسرائيل وغزوه إياهم أقوالًا غير ذلك، تركنا ذكرها كراهة إطالة الكتاب بذكرها.
ذكر خبر غزو بختنصر للعرب
حدثت عن هشام بن محمد، قال: كان بدء نزول العرب أرض العراق وثبوتهم فيها، واتخاذهم الحيرة والأنبار منزلًا - فيما ذكر لنا والله أعلم - أن الله عز وجل أوحى إلى برخيا بن أحنيا بن زر بابل بن شلتيل من ولد يهوذا - قال هشام: قال الشرقي: وشلتيل أول من اتخذ الطفشيل - أن ائت بختنصر وأمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ولا أبواب، ويطأ بلادهم بالجنود، فيقتل مقاتلتهم ويستبيح أموالهم، وأعلمه كفرهم بي، واتخاذهم الآلهة دوني، وتكذيبهم أنبيائي ورسلي.
قال: فأقبل برخيا من نجران حتى قدم على بختنصر ببابل - وهو نبوخذ نصر فعربته العرب - وأخبره بما أوحي الله إليه وقص عليه ما أمره به وذلك في زمان معد بن عدنان قال فوثب بختنصر من كان في بلاده من تجار العرب، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارات والبياعات، ويمتارون من عندهم الحب والتمر والثياب وغيرها.
فجمع من ظفر به منهم، فبنى لهم حيرًا على النجف وحصنه، ثم ضمهم فيه ووكل بهم حرسًا وحفظة، ثم نادى في الناس بالغزو، فتأهبوا لذلك وانتشر الخبر فيمن يليهم من العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مسالمين مستأمنين، فاستشار بختنصر فيهم برخيا، فقال: إن خروجهم إليك من بلادهم قبل نهوضك إليهم رجوعًا منهم عما كانوا عليه، فأقبل منهم، فأحسن إليهم.
قال: فأنزلهم بختنصر السواد على شاطئ الفرات، فابتنوا موضع عسكرهم بعد، فسموه الأنبار. قال: وخلى عن أهل الحير، فاتخذوها منزلًا حياة بختنصر، فلما مات انضموا إلى أهل الأنبار، وبقي ذلك الحير خرابًا.
وأما غير هشام من أهل العلم بأخبار الماضين فإنه ذكر أن معد بن عدنان لما ولد، ابتدأت بنو إسرائيل بأنبيائهم فقتلوهم، فكان آخر من قتلوا يحيى بن زكريا، وعدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما أجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن الذين معد بن عدنان من أنبيائهم، فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفًا، فأوردهم أرض بابل أرى فيما يرى النائم - أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره - أن يدخل بلاد العرب فلا يستحي فيها إنسيًا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفًا، حتى لا يبقى لهم أثرًا. فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلًا، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه. وأن الله تعالى أوحى إلى إرميا وبرخيا أنّ الله قد أنذر قومكما، فلم ينتهوا، فعادوا بعد الملك عبيدًا، وبعد نعيم العيش عالة يسألون الناس، وقد تقدمت إلى أهل عربة بمثل ذلك فأبوا إلا الحاجة، وقد سلطت بختنصر عليهم لأنتقم منهم، فعليكما بمعدّ بن عدنان، الذي ولده محمد الذي أخرجه في آخر الزمان، أختم به النبوة، وأرفع به من الضعة.
فخرجا تطوى لهما الأرض حتى سبقا بختنصر، فلقيا عدنان قد تلقاهما، فطوياه إلى معد، ولمعدّ يومئذ اثنتا عشرة سنة، فحمله برخيا على البراق، وردف خلفه، فانتهيا إلى حران من ساعتهما، وطويت الأرض لإرميا فأصبح بحران، فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها، وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كمينًا - وذلك أول كمين كان فيما زعم - ثم نادى منادٍ من جو المساء: بالثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوفُ من خلفهم ومن أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، ونهى عدنان عن بختنصر ونهى بختنصر عن عدنان، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى يسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قال: وإياهم عنى الله بقوله: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة "، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، " فلما أحسوا بأسنا " انتقمنا منهم " إذ هم منها يركضون " يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم. " لا تركضوا " لا تهربوا " وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " إلى العيشة على النعم المكفورة " ومساكنكم " مصيركم " لعلكم تسألون ". فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: " يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدًا خامدين "، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار، وخالطهم بعد ذلك النبط.
فلما رجع بختنصر مات عدنان وبقيت بلاد العرب خرابًا حياة بختنصر، فلما مات بختنصر خرج معد بن عدنان معه الأنبياء، أنبياء بني إسرائيل صلوات الله عليهم حتى أتى مكة فأقام أعلامها، فحج وحج الأنبياء معه، ثم خرج معد حتى أتى ريسوب فاستخرج أهلها، وسأل عمن بقي من ولد الحارث بن مضاضٍ الجرهمي، وهو الذي قاتل دوس العتق، فأفنى أكثرهم جرهم على يديه، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معدّ ابنته معانة، فولدت له نزار بن معد.
رجع الخبر إلى:
قصة بشتاسب وذكر ملكه والحوادث التي كانت في أيام ملكه التي جرت على يديه ويد غيره من عماله في البلاد خلا ما جرى من ذلك على يد بختنصر
ذكر العلماء بأخبار الأمم السالفة من العجم والعرب أن بشتاسب بن كي لهراسب لما عقد له التاج، قال يوم ملك: نحن صارفون فكرنا وعملنا وعلمنا إلى كل ما ينال به البرّ. وقيل: إنه ابتنى بفارس مدينة فسا، وببلاد الهند وغيرها بيوتًا للنيران، ووكل بها الهرابذة، وإنه رتب سبعة نفر من عظماء أهل مملكته مراتب، وملك كل واحد منهم ناحية جعلها له، وإن زرادشت ابن أسفيمان ظهر بعد ثلاثين سنة من ملكه فادعى النبوة، وأراده على قبول دينه، فامتنع من ذلك ثم صدقه، وقبل ما دعاه إليه وأتاه به من كتاب ادعاه وحيًا، فكتب في جلد اثنى عشرة ألف بقرة حفرًا في الجلود، ونقشًا بالذهب، وصير بشتاسب ذلك في موضع من إصطخر، يقال له دزنبشت، وكل به الهرابذة، ومنع تعليمه العامة. وكان بشتاسب في أيامه تلك مهادنًا لخرزاسف بن كي سواسف، أخي فراسياب ملك الترك على ضربٍ من الصلح، وكان من شرط ذلك الصلح أن يكون لبشتاسب بباب خرزاسف دابةٌ موقوفة بمنزلة الدواب التي تنوب على أبواب الملوك، فأشار زرادشت على بشتاسب بمفاسدة ملك الترك، فقبل ذلك منه، وبعث إلى الدابة والموكل بها، فصرفهما إليه، وأظهر الخبر لخرزاسف، فغضب من ذلك - وكان ساحرًا عاتيًا - فأجمع على محاربة بشتاسب، وكتب إليه كتابًا غليظًا عنيفًا، أعلمه فيه أنه أحدث حدثًا عظيمًا، وأنكر قبوله ما قبل زرادشت، وأمره بتوجيهه إليه، وأقسم إن امتنع أن يغزوه حتى يسفك دمه، ودماء أهل بيته.
فلما ورد الرسول بالكتاب على بشتاسب، جمع إليه أهل بيته وعظماء أهل مملكته، وفيهم جاماسف عالمهم وحاسبهم، وزرين بن لهراسب. فكتب بشتاسب إلى ملك الترك كتابًا غليظًا جواب كتابه، آذنه فيه بالحرب، وأعلمه أنه غير ممسك عنه إن أمسك. فسار بعضهما إلى بعض، مع كل واحد منهما من المقاتلة ما لا يحصى كثرة، ومع بشتاسب يومئذ زرين أخوه ونسطور ابن زرين وإسفنديار وبشوتن ابنا بشتاسب، وآل لهراسب جميعًا، ومع خرزاسف وجوهر مز واندرمان أخواه وأهل بيته، وبيدرفش الساحر، فقتل في تلك الحروب زرين، واشتد ذلك على بشتاسب، فأحسن الغناء عنه ابنه إسفنديار، وقتل بيدرفش مبارزة، فصارت الدبرة على الترك، فقتلوا قتلًا ذريعًا، ومضى خرزاسف هاربًا، ورجع بشتاسب إلى بلخ، فلما مضت لتلك الحروب سنون سعى على إسفنديار رجل يقال له قرزم، فأفسد قلب بشتاسب عليه، فند به لحرب بعد حرب، ثم أمر بتقييده وصيره في الحصن الذي فيه حبس النساء، وشخص بشتاسب إلى ناحية كرمان وسجستان، وصار منهاإلى جبل يقال له طميذر لدراسة دينه والنسك هناك، وخلف لهراسب أباه مدينة بلخ شيخًا قد أبطله الكبر، وترك خزائنه وأمواله ونساءه مع خطوس امرأته، فحملت الجواسيس الخبر إلى خزاسف، فلما عرف جمع جنودًا لا يحصون كثرة، وشخص من بلاده نحو بلخ، وقد أمل أن يجد فرصة من بشتاسب ومملكته. فلما انتهى إلى تخوم ملك فارس قدم أمامه جوهر مز أخاه - وكان مرشحًا للملك بعده في جماعة من المقاتلة كثيرة - وأمره أن يغذ السير حتى يتوسط المملكة ويوقع بأهلها، ويغير على القرى والمدن، ففعل ذلك جوهرمز، وسفك الدماء واستباح من الحرم ما لا يحصى، واتبعه خرزاسف فأحرق الدواوين، وقتل لهراسف والهرابذة، وهدم بيوتَ النيران، واستولى على الأموال والكنوز، وسبى ابنتين لبشتاسب، يقال لإحداهما: خماني، وللأخرى باذافره، وأخذ - فميا أخذ - العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه درفش كابيان وشخص متبعًا لبشتاسب، وهرب منه بشتاسب حتى تحصن في تلك الناحية مما يلي فارس في الجبل الذي يعرف بطميذر، ونزل ببشتاسب ما ضاق به ذرعًا، فيقال إنه لما اشتد به الأمر خروجه إلى إسفنديار جاماسب حتى استخرجه من محبسه، ثم صار به إليه، فلما أدخل عليه اعتذر إليه، ووعده عقد التاج على رأسه، وأن يفعل به مثل الذي فعل لهراسب به، وقلده القيام بأمر عسكره، ومحاربة خرزاسف.
فلما سمع إسفنديار كلامه كفر له خاشعًا، ثم نهض من عنده، فتولى عرض الجند وتمييزهم، وتقدم فيما احتاج إلى التقدم فيه، وبات ليلته مشغولًا بتعبئته، فلما أصبح أمر بنفخ القرون، وجمع الجنود، ثم سار بهم نحو عسكر الترك، فلما رأت الترك عسكره خرجوا في وجوههم بتسابقون، وفي القوم جوهرمز وأندرمان، فالتحمت الحرب بينهم، وانقض إسفنديار وفي يده الرمح كالبرق الخاطف، حتى خالط القوم، وأكبّ عليهم بالطعن، فلم يكن إلا هنيهة حتى ثلم في العسكر ثلمة عظيمة، وفشا في الترك أن إسفندريار قد أطلق من الحبس، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار، وقد ارتجع العلم الأعظم، وحمله معه منشورًا، فلما دخل على بشتاسب استبشر بظفره، وأمره باتباع القوم، وكان مما أوصاه به أن يقل خرزاسف إن قدر عليه بلهراسف، ويقتل جوهر مز وأندرمان بمن قتل من ولده، ويهدم حصون الترك ويحرق مدنها، ويقتل أهلها بمن قتلوا من حملة الدين، ويستنقذ السبايا. ووجه معه ما احتاج إليه من القواد والعظماء.
فذكروا أن إسفنديار دخل بلاد الترك من طريق لم يرمه أحد قبله، وأنه قام - من حراسة جنده، وقتل ما قتل من السباع، ورمى العنقاء المذكورة - بما لم يقم به أحد قبله، ودخل مدينة الترك التي يسمونها دزر وئين - وتفسيرها بالعربية الصفرية - عنوة حتى قتل الملك وإخوته ومقاتلته، واستباح أمواله وسبى نساءه، واستنقذ أختيه، وكتب بالفتح إلى أبيه، وكان أعظم الغناء في تلك المحاربة بعد إسفنديار لفشوتن أخيه وأدرنوش ومهرين ابن ابنته. ويقال إنهم لم يصلوا إلى المدينة حتى قطعوا أنهارًا عظيمة مثل كاسروذ، ومهرروذ، ونهرا آخر لهم عظيمًا، وإن إسفنديار دخل أيضًا مدينة كانت لفراسياب، يقال لها وهشكند، ودوخ البلاد وصار إلى آخر حدودها، وإلى أتبت وباب صول، ثم قطع البلاد وصير كل ناحية منها إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم، ووظف على كل واحد منهم خراجًا يحمله إلى بشتاسب في كل سنة، ثم انصرف إلى بلخ.
ثم إن بشتاسب حسد ابنه إسفنديار لما ظهر منه، فوجهه إلى رستم بسجستان، فحدثت عن هشام بن محمد الكلبي أنه قال: قد كان بشتاسب جعل الملك من بعده لابنه إسفنديار، وأغزاه الترك، فظفر بهم، وانصرف إلى أبيه، فقال له: هذا رستم متوسطًا بلادنا، وليس يعطينا الطاعة لادعائه ما جعل له قابوس من العتق من رق الملك، فسر إليه فأتنى به، فسار إسفنديار إلى رستم فقاتله، فقتله رستم. ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتى عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن رجلًا من بني إسرائيل، يقال له سمى كان نبيًا، وأنه بعث إلى بشتاسب فصار إليه إلى بلخ، ودخل مدينتها، فأجتمع هو وزرادشت صاحب المجوس، وجاماسب العالم بن فخد، وكان سمى يتكلم بالعبرانية ويعرف زرادشت ذلك بتلقين، ويكتب بالفارسية ما يقول سمى بالعبرانية، ويدخل جاماسب معهما في ذلك، وبهذا السبب سمى جاماسب العالم.
وزغم بعض العجم أن جاماسب هو ابن فخد بن هو بن حكاو بن نذكاو بن فرس بن رج بن خوراسرو بن منوشهر الملك، وأن زرادشت بن يوسيسف ابن فردواسف بن اربحد بن منجدسف بن جخشنش بن فيافيل بن الحدي ابن هردان بن سفمان بن ويدس بن أدرا بن رج بن خوراسرو بني منو شهر.
وقيل إن بشتاسب وأباه لهراسب كانا على دين الصابئين، حتى أتاه سمى وزرادشت بما أيتاه به، وأنهما أتياه بذلك لثلاثين سنة مضت من ملكه.
وقال هذا القائل: كان ملك بشتاسب مائة وخمسين سنة، فكان ممن رتب بشتاسب من النفر السبعة المراتب الشريفة، وسماهم عظماء بهكا بهند ومسكنه دهستان من أرض جرجان، وقارن الفلهوي ومسكنه ما نهاوند، وسورين الفلهوي ومسكنه سجستان، وإسفنديار الفلهوي ومسكنه الرى.
وقال آخرون: كان ملك بشتاسب مائة وعشرين سنة.
ذكر الخبر عن ملوك اليمن في أيام قابوس وبعده إلى عهد بهمن بن إسفنديار
قال أبو جعفر: قد مضى ذكرنا الخبر عمن زعم أن قابوس كان في عهد سليمان بن داود عليهما السلام، ومضى ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت إيليشرح.
فحدثت عن هشام بن محمد الكلبي أن الملك باليمن صار بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي كان يقال له ياسر أنعم. قال: وإنما سموه ياسر أنعم لإنعامه عليهم بما قوى من ملكهم، وجمع من أمرهم.
قال: فزعم أهل اليمن أنه سار غازيًا نحو المغرب حتى بلغ واديًا يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلما انتهى إليه لم يجد وراءه مجازًا لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل، فأمر رجلًا من أهل بيته - يقال له عمرو - أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا فلم يرجعوا. فلما رأى ذلك أمر بصنم نحاس فصنع، ثم نصب على صخرة على شفير الوادي، وكتب في صدره بالمسند: " هذا الصنم لياسر أنعم الحميري، وليس وراءه مذهب، قلا يتكلفن ذلك أحدٌ فيعطب ".
قال: ثم ملك من بعده تبع، وهو تبان أسعد، وهو أبو كرب بن ملكي كرب تبع بن زيد بن عمرو بن تبع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبع ذي المنار ابن الرائش بن قيس بن صيفي بن سبأ. قال: وكان يقال له الرائد.
قال: فكان تبع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وأنه شخص متوجهًا من اليمن في الطريق الذي سلكه الرائش، حتى خرج على جبلي طيء، ثم سار يريد الأنبار فلما انتهى إلى الحيرة وذلك ليلًا بخير فأقام مكانه وسمى ذلك الموضع الحيرة ثم سار وخلف به قومًا من الأزد ولخم وجذام وعاملة وقضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثم انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيئ وكلب والسكون وبلحارث بن كعب وإياد. ثم توجه إلى الأنبار ثم إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقى الترك بها فهزمهم، فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، ثم أنكفأ راجعًا إلى اليمن. فأقام بها دهرًا، وهابته الملكوك وعظمته وأهدت إليه. فقدم عليه رسول ملك الهند بالهدايا والتحف، من الحرير والمسك والعود وسائر طرف بلاد الهند، فرأى ما لم ير مثله، فقال ويحك! أكل ما أرى في بلادكم! فقال: أبيت اللعن! أقل ما ترى في بلادنا، وأكثره في بلاد الصين، ووصف له بلاد الصين وسعتها وخصبها وكثرة طرفها فآلى بيمين ليغزونها. فسار بحمير مساحلا، حتى أتى الزكائك وأصحاب القلانس السود، ووجه رجلًا من أصحابه، يقال له ثابت نحو الصين، في جمع عظيم فأصيب، فسار تبع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلها، واكتسح ما وجد فيها. قال: ويزعمون أن مسيره كان إليها ومقامه بها ورجعته منها في سبع سنين، وأنه خلّف بالتبت اثنى عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التبت، وهم اليوم يزعمون أنهم عرب، وخلقهم وألوانهم خلق العرب وألوانها.
حدثني عبد الله بن أحمد المروزي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قرأت على عبد الله، عن إسحاق بن يحيى، عن موسى بن طلحة: أن تبعًا خرج في العرب يسير، حتى تحيروا بظاهر الكوفة، وكان منزلًا من منازله، فبقى فيها من ضعفة الناس فسميت الحيرة لتحيرهم وخرج تبع سائرًا فرجع إليهم وقد بنوا وأقاموا، وأقبل تبع إلى اليمن وأقاموا هم، ففيهم من قبائل العرب كلها من بني لحيان، وهذيل وتميم، وجعفى وطيء، وكلب.
ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني
ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن، فذكر أنه قال يوم ملك وعقد التاج على رأسه: نحن محافظون على الوفاء، ودائنون رعيتنا بالخير، فكان يدعى أردشير الطويل الباع، وإنما لقب بذلك - فيما قيل - لتناوله كل ما مدّ إليه يده من الممالك التي حوله، حتى ملك الأقاليم كلها، وقيل إنه ابتنى بالسواد مدينة، وسماها آباد أردشير هي القرية المعروفة بهمينا في الزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة مدينة وسماهن بهمن أردشير، وهي الأبلة، وسار إلى سجستان طلبًا بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وأخاه إزواره وابنه فرمرز، واجتبى الناس لأرزاق الجند ونفقات الهرابذة وبيوت النيران وغير ذلك أموالًا عظيمة، وهو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأخر أردشير بن بابك وولده، وأم دارا خماني بنت بهمن.
فحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك بعد بشتاسب أردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان - فيما ذكروا - متواضعًا مرضيًا فيهم، وكانت كتبه تخرج من أردشير: عبد الله وخادم الله، السائس لأمركم. قال: ويقال أنه غزا الرومية الداخلة في ألف ألف مقاتل.
وقال غير هشام: هلك بهمن ودارا في بطن أمه، فملكوا خماني شكرا لأبيها بهمن، ولم تزل ملوك الأرض تحمل إلى بهمن الإتاوة والصلح، وكان من أعظم ملوك الفرس - فيما قالوا - شأنًا، وأفضلهم تدبيرًا، وله كتب ورسائل تفوق كتب أردشير وعهده، وكانت أم بهمن أستوريا، وهي أستار بنت يائير بن شمعى بن قيس بن ميشا بن طالوت الملك بن قيس ابن أبل بن صارور بن بحرث بن أفيح بن إيشي بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. وكانت أمّ ولده راحب بنت فنحس من ولد رحبعم بن سليمان بن داود عليه السلام. وكان بهمن ملك أخاها زر بابل بن شلتايل على بني إسرائيل، وصير له رياسة الجالوت، ورده إلى الشام بمسألة راحب أخته إياه ذلك، فتوفي بهمن يوم توفي وله من الولد: ابناه دارا الأكبر وساسان، وبناته: خمانى التي ملكت بعده، وفرنك وبهمن دخت، وتفسير بهمن بالعربية الحسن النية، وكان ملكه مائة واثنتى عشرة سنة.
فأما ابن الكلبي هشام فإنه قال: كان ملكه ثمانين سنة.
ثم ملكت خماني بنت بهمن، وكانوا ملكوها حبًا لأبيها بهمن، وشكرًا لإحسانه ولكمال عقلها وبهائها وفروسيتها ونجدتها - فيما ذكره بعض أهل الأخبار - فكانت تلقب بشهرازاد. وقال بعضهم: إنما ملكت خمانى بعد أبيها بهمن أنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل ذلك بهمن بدارا، وعقد عليه التاج حملًا في بطنها، وساسان ابن بهمن في ذلك الوقت رجل يتصنع للملك لا يشك فيه. فلما رأى ساسان ما فعل أبوه في ذلك لحق بإصطخر، فتزهد وخرج من الحلية الأولى وتعبد فلحق برؤوس الجبال يتعبد فيها، واتخذ عنيمة، فكان يتولى ما شيته بنفسه، واستشنعت العامة ذلك من فعله، وفظعت به، وقالوا: صار ساسان راعيًا، فكان ذلك سبب نسبة الناس إياه إلى الرعي، وأم ساسان انبة شالتيال ابن يوحنّا بن أوشيا بن أمون بن منشى بن حازقيا بن أحاذ بن يوثام بن عوزيا ابن يورام بن يوشافط بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود.
وقيل: إن بهمن هلك وابنه دارا في بطن خمانى، وأنها ولدته بعد أشهر من ملكها وأنفت من إظهار ذلك، فجعلته في تابوت، وصيرت معه جوهرًا نفيسًا وأجرته في نهر الكبر من إصطخر. وقال بعضهم: بل نهر بلخ، وإن التابوت صار إلى رجل طحان من أهل إصطخر، كان له ولد صغير فهلك، فلما وجده الرجل أتى به امرأته، فسرت به لجماله ونفاسة ما وجد معه، فحضنوه، ثم أظهر أمره حين شب، وأقرت خمانى بإساءتها إليه وتعريضها إياه للتلف، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون عليه أبناء الملوك، فحولت التاج عن رأسها إليه، وتقلد أمر المملكة، وتنقلت خمانى وصارت إلى فارس وبنت مدينة إصطخر، وأغزت الروم جيشًا بعد جيش، وكانت قد أوتيت ظفرًا، فقمعت الأعداء، وشغلتهم عن تطرف شيء من بلادها، ونال رعيتُها في ملكها رفاهة وخفضًا. وكانت خماني حين أغزت أرض الروم سبى لها منها بشرٌ كثير، وحملوا إلى بلادها، فأمرت من فيهم من بنائي الروم، فبنوا لها في كلّ موضع من حيز مدينة إصطخر بنيانًا على بناء الروم منيفًا معجبًا، أحد ذلك البنيان في مدينة إصطخر. والثاني على المدرجة التي تسلك فيها إلى دارا بجرد، على فرسخ من هذه المدينة. والثالث على أربعة فراسخ منها في المدرجة التي تسلك فيها إلى خراسان. وإنها أجهدت نفسها في طلب مرضاة الله عز وجل، فأوتيت الظفر والنصر، وخففت عن رعيتها في الخراج.
وكان ملكها ثلاثين سنة.
ثم نرجع الآن إلى:
ذكر خبر بني إسرائيل ومقابلة تأريخ مدة أيامهم إلى حين تصرمها بتأريخ مدة من كان في أيامهم من ملوك الفرس
قد ذكرنا فيما مضى قبلُ سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني إسرائيل الذين كان بختنصر سباهم وحملهم معه إلى أرض بابل، وأنّ ذلك كان في أيام كيرش بن أخشويرش وملكه ببابل من قبل بهمن بن إسفنديار في حياته وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خمانى، وأن خمانى عاشت بعد هلاك كيرش بن أخشويرش ستًا وعشرين سنة في ملكها، تمام ثلاثين سنة. وكانت مدة خراب بيت المقدس من لدن خربه بختنصر إلى إن عمر - فيما ذكره أهل الكتب القديمة والعلماء بالإخبار - سبعين سنة، كل ذلك في أيام بهمن بن إسفنديار بن لهراسب بعضه وبعضه في أيام خمانى، على ما قد بين في هذا الكتاب.
وقد زعم بعضهم أن كيرش هو بشتاسب، وأنكر ذلك من قبله بعضهم وقال: كي أرش إنما هو عم لجد بشتاسب، وقال: هو كي إرش أخو كيقاوس ابن كيبيه بن كيقباذ الأكبر، وبشتاسب الملك هو ابن كيلهراسب بن كيوجي ابن كيمنوش بن كيقاوس بن كيبيه بن كيفباذ الأكبر. قال: ولم يملك كي أرش قط، وإنما كان مملكًا على خوزستان وما يتصل بها من أرض بابل من قبل كيقاوس، ومن قبل كيخسرو بن سياوخش بن كيقاوس، ومن قبل لهراسف من بعده. وكان طويل العمر، عظيم الشأن، ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله من بني إسرائيل كان فيهم عزير - وقد وصفت ما كان من أمره وأمر بني إسرائيل - وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس، إما رجل منهم وإما رجل من بني إسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم بسبب غلبة الإسكندر على تلك الناحية حين قتل دارا بن دارا. وكانت جملة مدة ذلك - فيما قيل - ثمانيًا وثمانين سنة.
ونذكر الآن:
خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر ابن دارا الأكبر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين
وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وكان ينبه بجهرازاد - يعني به كريم الطبع - فذكروا أنه نزل بابل، وكان ضابطًا لملكه، قاهرًا لمن حوله من الملوك، يؤدون إليه الخراج، وأنه ابتنى بفارس مدينة سماها دارا بجرد، وحذف دواب البرد ورتبها، وكان معجبًا بانبه دارا، وأنه من حبه إياه سماه باسم نفسه، وصير له الملك من بعده، وأنه كان له وزير يسمى رستين محمودًا في عقله، وأنه شجر بينه وبين غلام تربى مع دارا الأصغر، يقال له برى شر وعداوة، فسعى رستين عليه عند الملك، فقيل: إن الملك سقى برى شربة مات منها، واضطغن دارا على رستين الوزير وجماعة من القواد، كانوا عاونوه على برى ما كان منهم، وكان ملك دارا اثنتى عشرة سنة.
ثم ملك من بعده انبه دارا بن دارا بن بهمن، وكانت أمه ما هيا هند بنت هزار مرد بن بهرادمه، فلما عقد التاج على رأسه قال: لن ندفع أحدًا في مهوى الهلكة، ومن تردى فيها لم نكففه عنها. وقيل إنه بنى بأرض الجزيرة مدينة دارا، واستكتب أخا برى واستوزره لأنسه كان به وبأخيه، فأفسد قلبه على أصحابه، وحمله على قتل بعضهم، فاستوحشت لذلك منه الخاصة والعامة، ونفروا عنه، وكان شابًا غرًا حميًا حقودًا جبارًا.
وحدثت عن هشام بن محمد قال: ملك من بعد دارا بن أردشير دارا ابن دارا أربع عشرة سنة، فأساء السيرة في رعيته، وقتل رؤساءهم، وغزاه الإسكندر على تئفة ذلك، وقد مله أهل مملكته وسئموه، وأحبوا الراحة منه، فلحق كثير من وجوههم وأعلامهم بالإسكندر، فأطلعوه على عورة دارا، وقروه عليه. فالتقيا ببلاد الجزيرة، فاقتتلا سنة، ثم إن رجالًا من أصحاب دارا وثبوا به فقتلوه، وتقربوا برأسه إلى الإسكندر، فأمر بقتلهم، وقال: هذا جزاء من اجترأ على ملكه. وتزوج ابنته روشنك بنت دارا، وغزا الهند ومشارق الأرض، ثم انصرف وهو يريد الإسكندرية، فهلك بناحية السواد، فحمل إلى الإسكندرية في تابوت من ذهب، وكان ملكه أربع عشرة سنة، واجتمع ملك الروم، وكان قبل الإسكندر متفرقًا، وتفرق ملك فارس وكان قبل الإسكندر مجتمعًا.
قال: وذكر غير هشام أن دارا بن دارا لما ملك أمر فبنيت له بأرض الجزيرة مدينة واسعة وسماها دارنوا، وهي التي تسمى اليوم دارا، وأنه عمرها وشحنها من كل ما يحتاج إليه فيها، وأن فيلفوس أبا الإسكندر اليوناني من أهل بلدة من بلاد اليونانيين تدعى مقدونية، كان ملكًا عليها وعلى بلاد أخرى احتازها إليها، كان صالح دارا على خراج يحمله إليه في كل سنة، وأن فيلفوس هلك، فملك بعده ابنه الإسكندر، فلم يحمل إلى دارا ما كان يحمله إليه أبوه من الخراج، فأسخط ذلك عليه دارا، وكتب إليه يؤنبه بسوء صنيعه في تركه حمل ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج وغيره، وأنه دعاه إلى حبس ما كان أبوه يحمل إليه من الخراج الصبا والجهل، وبعث إليه بصولجان وكرة وقفيز من سمسم، وأعلمه فيما كتب إليه أنه صبى، وأنه إنما ينبغي له أن يلعب بالصولجان والكرة اللذين بعث بهما إليه، ولا يتقلد الملك، ولا يتلبس به، وأنه إن لم يقتصر على ما أمره به من ذلك، وتعاطى الملك واستعصى عليه، بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وأن عدة جنوده كعدة حب السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الإسكندر في جواب كتابه ذلك، أن قد فهم ما كتب، وأن قد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة، وتيمن به لإلقاء الملقى الكرة إلى الصولجان، واحترازه إياه، وشبه الأرض بالكرة، وأنه محتاز ملك دارا إلى ملكه، وبلاده إلى حيزه من الأرض، وأن نظره إلى السمسم الذي بعث به إليه كنظرة إلى الصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة. وبعث إلى دارا مع كتابه بصرة من خردل، وأعلمه في ذلك الجواب أن ما بعث به إليه قليل، غير أن ذلك مثل الذي بعث به في الحرافة والمرارة والقوة، وأن جنوده في كل ما وصف به منه.
فلما وصل إلى دارا جواب كتاب الإسكندر، جمع إليه جنده، وتأهب لمحاربة الإسكندر، وتأهب الإسكندر وسار نحو بلاد دارا.
وبلغ ذلك دارا، فزحف إليه فالتقى الفئتان، واقتتلا أشد القتال، وصارت الدبرة على جند دارا، فلما رأى ذلك رجلان من حرس دارا، يقال إنهما كانا من أهل همذان، طعنا دارا من خلفه فأردياه من مركبه، وأرادا بطعنهما إياه الحظوة عند الإسكندر، والوسيلة إليه، ونادى الإسكندر أن يؤسر دارا أسرًا ولا يقتل، فأخبر بشأن دارا، فسار الإسكندر حتى وقف عنده، فرآه يجود بنفسه، فنزل الإسكندر عن دابته حتى جلس عند رأسه، وأخبره أنه لم يهم قط بقتله، وأن الذي أصابه لم يكن عن رأيه، وقال له: سلني ما بدا لك فأسعفك فيه، فقال له دارا: لي إليك حاجتان: إحداهما أن تنتقم لي من الرجلين اللذين فتكا بي - وسماهما وبلادهما - والأخرى أن تتزوج ابنتي روشنك. فأجابه إلى الحاجتين، وأمر بصلب الرجلين اللذين أنتهكا من دارا ما انتهكا، وتزوج روشنك وتوسط بلاد دارا، وكان ملكه له.
وزعم بعض أهل العلم بأخبار الأولين أن الإسكندر هذا الذي حارب دارا الأصغر، هو أخو دارا الأصغر الذي حاربه، وأن أباه دارا الأكبر كان تزوج أم الإسكندر، وأنها ابنة ملك الروم واسمها هلاي، وأنها حُملت إلى زوجها دارا الأكبر، فلما وجد نتن ريحا وعرقها وسهكها، أمر أن يحتال لذلك منها، فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسية سندر فطبخت لها فغسلت بها وبمائها، فأذهب ذلك كثيرًا من ذلك النتن، ولم يذهب كله، وانتها نفسه عنها لبقية ما بها، وعافها وردها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت غلامًا في أهلها، فسمته باسمها واسم الشجرة التي غسلت بها، حتى أذهبت عنها نتنها: هلاى سندروس، فهذا أصل الإسكندروس.
قال: وهلك دارا الأكبر، وصار الملك إلى ابنه دارا الأصغر، وكانت ملوك الروم تؤدى الخراج إلى دارا الأكبر في كل سنة، فهلك أبو هلاي ملك الروم جد الإسكندر لأمه، فلما صار الملك لابن ابنته بعث دارا الأصغر إليه للعادة: إنك أبطأت علينا بالخراج الذي كنت تؤديه ويؤديه من كان قبلك، فابعث إلينا بخراج بلادك وإلا نابذناك المحاربة. فرجع إليه جوابه: أني قد ذحبت الدجاجة، وأكلت لحمها، ولم يبقى لها بقية، وقد بقيت الأطراف، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك. فعند ذلك نافره دارا وناجزه القتال، وجعل الإسكندروس لحاجبي دارا حكمها على الفتك به، فاحتكما شيئًا، ولم يشترطا أنفسهما، فلما التقوا للحرب، طعن حاجبا دارا دارا في الوقعة، فلحقه الإسكندر صريعًا، فنزل إليه وهو بآخر رمق، فمسح التراب عن وجهه ووضع رأسه في حجره، ثم قال له: إنما قتلك حاجباك، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريفَ الأشراف وحر الأحرار وملك الملوك، عن هذا المصرع، فأوصني بما أحببت. فأوصاه دارا أن يتزوح ابنته روشنك، ويتخذها لنفسه ويستبقي أحرار فارس، ولا يولى عليهم غيرهم. فقبل وصيته وعمل بأمره، وجاء اللذان قتلا دارا إلى الإسكندر فدفع إليهما حكمهما، ووفى لهما ثم قال لهما: قد وفيت لكما كما اشترطتما ولم تكونا اشترطتما أنفسكما، فأنا قاتلكما، فإنه ليس ينبغي لقتله الملوك أن يستبقوا إلا بذمة لا تخفر. فقتلهما.
وذكر بعضهم أن ملك الروم في أيام دارا الأكبر كان يؤدي إلى دارا الإتاوة فهلك، وملك الروم الإسكندر، وكان رجلًا ذا حزم وقوة ومكر، فيقال إنه غزا بعض ملوك المغرب فظفر به، وآنس لذلك من نفسه القوة فنشز على دارا الأصغر، وامتنع من حمل ما كان أبوه يحمله من الخراج، فحمى دارا لذلك، وكتب إليه كتبًا عنيفة، ففسد ما بينهما وسار كل واحد منهما إلى صاحبه وقد احتشدا والتقيا في الحدّ. واختلفت بينهما الكبتُ والرسائل، ووجل الإسكندر من محاربة دارا، ودعاه إلى الموادعة فاستشار دارا أصحابه في أمره، فزينوا له الحرب لفساد قلوبهم عليه. وقد اختلفوا في الحدّ وموضع التقائهما، فذكر بعضهم أن التقاءهما كان بناحية خُراسان مما يلي الخزر، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلص إليهما السلاح، وكان تحت الإسكندر يومئذ فرس له عجيب يقال له بو كفراسب، ويقال إن رجلًا من أهل فارس حمل ذلك اليوم حتى تخرق الصفوف، وضرب الإسكندر ضربة بالسيف خيف عليه منها، وأنه تعجب من فعله وقال: هذا من فرسان فارس الذين كانت توصف شدتهم، وتحركت على دارا ضغائن أصحابه، وكان في حرسه رجلان من أهل همذان، فراسلا الإسكندر والتمسا الحيلة لدارا حتى طعناه، فكانت منيته من طعنهما إياه، ثم هربا.
فقيل إنه لما وقعت الصيحة، وانتهى الخبر إلى الإسكندر ركب في أصحابه، فلما انتهى إلى دارا وجده يجود بنفسه، فكلّمه ووضع رأسه في حجره، وبكى عليه، وقال له: أتيت من مأمنك، وغد ربك ثقاتك، وصرت بين أعدائك وحيدًا، فسلني حوائجك فإني على المحافظة على القرابة بيننا - يعني القرابة بين سلم وهيرج ابني أفريذون - فيما زعم هذا القائل - وأظهر الجزع لما أصابه، وحمد ربه حين لم يبتله بأمره، فسأله دارا أن يتزوج ابنته روشنك ويرعى لها حقها، ويعظم قدرها، وأن يطلب بثأره، فأجابه الإسكندر إلى ذلك.
ثم أتاه الرجلان اللذان وثبا على دارا يطلبان الجزاء، فأمر يضرب رقابهما وصلبهما، وأن ينادى عليهما: هذا جزاء من اجترأ على ملكه، وغش أهل بلده.
ويقال: إن الإسكندر حمل كتبًا وعلومًا كانت لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة، بعد أن نقل ذلك إلى السريانية ثم إلى الرومية.
وزعم بعضهم أن دارا قتل وله من الولد الذكور: أشك بن دارا وبنو دارا وأردشير. وله من البنات روشنك، وكان ملك دارا أربع عشرة سنة.
وذكر بعضهم أن الأتاوة التي كان أبو الإسكندر يؤديها إلى ملوك الفرس كانت بيضًا من ذهب، فلما ملك الإسكندر بعث إليه دارا يطلب ذلك الخراج، فبعث إليه: إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض، وأكلت لحمها فأذن بالحرب. ثم ملك الإسكندر بعد دارا بن دارا. وقد ذكرت قول من يقول: هو أخو دارا بن دارا من أبيه دارا الأكبر.
وأما الروم وكثير من أهل الأنساب فإنهم يقولون: هو الإسكندر بن فيلفوس، وبعضهم يقول: هو ابن بيلبوس بن مطريوس، ويقال: ابن مصريم ابن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومى بن ليطى بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن رومية بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام. فجمع بعد مهلك دارا ملك دارا إلى ملكه، فملك العراق والروم والشأم ومصر، وعرض جنده بعد هلاك دارا فوجدهم - فيما قيل - ألف ألف وأربعمائة رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف ومن جند دارا ستمائة ألف.
وذكر أنه قال يوم جلس على سريره: قد أدالنا الله من دارا، ورزقنا خلاف ما كان يتوعدنا به، وأنه هدم ما كان في بلاد الفرس من المدن والحصون وبيوت النيران، وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم ودواوين دارا، واستعمل على مملكة دارا رجالًا من أصحابه، وسار قدمًا إلى أرض الهند، فقتل ملكها وفتح مدينتهم، ثم سار منها إلى الصين، فصنع بها كصنيعه بأرض الهند، ودانت له عامة الأرضين، وملك التبت والصين، ودخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي والشمس جنوبية في أربعمائة رجل يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يومًا، ثم خرج ورجع إلى العراق، وملك ملوك الطوائف، ومات في طريقه بشهر زور.
وكان عمره ستًا وثلاثين سنة في قول بعضهم، وحمل إلى أمه بالإسكندرية.
وأما الفرس فإنها تزعم أن ملك الإسكندر كان أربع عشرة سنة، والنصارى تزعم أن ذلك كان ثلاث عشرة سنة وأشهرًا، ويزعمون أن قتل دارا كان في أول السنة الثالثة من ملكه.
وقيل إنه أمر ببناء مدن فبنيت اثنتا عشرة مدينة، وسماها كلها إسكندرية، منها مدينة بأصبهان، يقال جى، بنيت على مثال الحية، وثلاث مدائن بخراسان، منهن مدينة هراة ومدينة مرو ومدينة سمرقند، وبأرض بابل مدينة أروشنك بنت دارا، وبأرض اليونانية في بلاد هيلاقوس مدينة للفرس، ومدنًا أخر غيرها.
ولما مات الإسكندر عرض الملك من بعده على ابنه الإسكندروس، فأبى واختار النسك والعبادة، فملكت اليونانية عليهم - فيما قيل - بطلميوس بن لوغوس، وكان ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة، فكانت المملكة أيام اليونانية بعد الإسكندر وحياة الإسكندر إلى أن تحول الملك إلى الروم المصاص لليونانية، ولبني إسرائيل ببيت المقدس ونواحيها الديانة والرياسة على غير وجه الملك إلى أن خربت بلادهم الفرس والروم، وطردوهم عنها بعد قتل يحيى بن زكرياء عليه السلام.
ثم كان الملك ببلاد الشأم ومصر ونواحي المغرب بعد بطلميوس بن لوغوس لبطلميوس دينايوس أربعين سنة.
ثم من بعده لبطليموس أورغاطس أربعًا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس فيلافطر إحدى وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أفيفانس أثنتين وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس أورغاطس تسعًا وعشرين سنة.
ثم من بعده لبطلميوس ساطر سبع عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس الأحسندر إحدى عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس الذي احتفى عن ملكه ثماني سنين.
ثم من بعده لبطلميوس دونسيوس ست عشرة سنة.
ثم من بعده لبطلميوس قالو بطري سبع عشرة سنة.
فكل هؤلاء كانوا يونانيين، فكل ملك منهم بعد الإسكندر كان يدعى بطلميوس، كما كانت ملوك الفرس يدعون أكاسرة، وهو الذين يقال لهم المفقانيون.
ثم ملك الشام بعد قالوبطرى - فيما ذكر الروم - المصاص، فكان أول من ملك منهم جايوس يوليوس خمس سنين.
ثم ملك الشام بعده أغوسطوس ستًا وخمسين سنة. فلما مضى من ملكه اثنتان وأربعون سنة ولد عيسى بن مريم عليه السلام، وبين مولده وقيام الإسكندر ثلثمائة سنة وثلاث سنين.
ذكر أخبار ملوك الفرس بعد الإسكندر وهم ملوك الطوائف
ونرجع الآن إلى ذكر خبر الفرس بعد مهلك الإسكندر لسياق التأريخ على ملكهم.
فاختلف أهلُ العلم بأخبار الماضين في الملك الذي كان بسواد العراق بعد الإسكندر، وفي عدد ملوك الطوائف الذين كانوا ملكوا إقليم بابل بعد ه إلى أن قام بالملك أردشير بابكان.
فأما هشام بن محمد فإنه قال - فيما حدثت عنه: ملك بعد الإسكندر يلاقس سلقيس، ثم أنطيحس. قال: وهو الذي بنى مدينة أنطاكية. قال: وكان في أيدي هؤلاء الملوك سواد الكوفة، قال: وكانوا يتطرقون الجبال وناحية الأهواز وفارس، حتى خرج رجل يقال له أشك، وهو ابن دارا الأكبر، وكان مولده ومنشؤه بالري، فجمع جمعًا كثيرًا وسار يريد أطيحس فزحف إليه أنطيحس فالتقيا ببلاد الموصل فقتل أنطيحس، وغلب أشك على السواد فصار في يده من الموصل إلى الري وأصبهان وعظمه سائرُ ملوك الطوائف لنسبه، وشرفه فيهم ما كان من فعله، وعرفوا له فضله، وبدءوا به في كتبهم، وكتب إليهم فبدأ بنفسه، وسموه ملكًا، وأهدوا إليه من غير أن يعزل أحدًا منهم أو يستعمله.
ثم ملك بعده جوذرز بن أشكان. قال: وهو الذي غزا بني إسرائيل المرة الثانية، وكان سبب تسليط الله إياه عليهم - فيما ذكر أهل العلم - قتلهم يحيى بن زكرياء، فأكثر القتل فيهم، فلم تعد لهم جماعة كجماعتهم الأولى، ورفع الله عنهم النبوة وأنزل بهم الذل. قال: وقد كانت الروم غزت بلاد فارس، يقودها ملكها الأعظم يلتمس أن يدرك بثأرها في فارس لقتل أشك ملك بابل أنطيحس، وملك بابل يومئذ بلاش أبو أردوان، الذي قتله أردشير ابن بابك، فكتب بلاش إلى ملوك الطوائف يعلمهم ما اجتمعت عليه الروم من غزو بلادهم، وأنه قد بلغه من حشدهم وجمعهم مالا كفاء له عنده، وأنه إن ضعف عنه ظفروا بهم جميعًا، فوجه كل ملك من ملوك الطوائف إلى بلاش من الرجال والسلاح والمال بقدر قوته، حتى اجتمع عنده أربعمائة ألف رجل، فولى عليهم صاحب الحضر - وكان ملكًا من ملوك الطوائف يلى ما بين انقطاع السواد إلى الجزيرة - فسار بهم حتى لقى ملك الروم فقتله واستباح عسكره، وذلك هيج الروم على بناء القسطنطينية ونقل الملك من رومية إليها. فكان الذي ولى إنشاءها الملك قسطنطين، وهو أول ملوك الروم تنصر، وهوأجلى من بقى من بني إسرائيل عن فلسطين والأردن لقتلهم - بزعمه - عيسى بن مريم، فأخذ الخشبة التي وجدهم يزعمون أنهم صلبوا المسيح عليها، فعظمها الروم، فأدخلوها خزائنهم، فهي عندهم، إلى اليوم.
قال: ولم يزل ملك فارس متفرقًا حتى ملك أردشير. فذكر هشام ما ذكرت عنه، ولم يبين مدة ملك القوم.
وقال غيره من أهل العلم بأخبار فارس: ملك بعد الإسكندر ملك دارا أناس من غير ملوك الفرس، غير أنهم كانوا يخضعون لكل من يملك بلاد الجبل ويمنحونه الطاعة.
قال: وهم الملوك الأشغانون الذين يدعون ملوك الطوائف. قال: فكان ملكهم مائتي سنة وستًا وستين سنة.
فملك من هذه السنين أشك بن أشجان عشر سنين.
ثم ملك بعده سابور بن أشغان ستين سنة، وفي سنة إحدى وأربعين من ملكه ظهر عيسى بن مريم بأرض فلسطين. وإن ططوس بن أسفسيانوس ملك رومية غزا بيت المقدس بعد ارتفاع عيسى بن مريم بنحو من أربعين سنة، فقتل من في مدينة بيت المقدس، وسبى ذراريهم، وأمرهم فنسفت مدينة بيت المقدس، حتى لم يترك بها حجرًا على حجر.
ثم ملك جوذرز بن أشغانان الأكبر، عشر سنين.
ثم ملك بيزن الأشغاني، إحدى وعشرين سنة.
ثم ملك جوذرز الأشغاني، تسع عشر سنة. ثم ملك نرسى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك هرمز الأشغاني، سبع عشرة سنة.
ثم ملك أردوان الأشغاني، اثنتى عشرة سنة.
ثم ملك كسرى الأشغاني، أربعين سنة.
ثم ملك بلاش الأشغاني، أربعًا وعشرين سنة.
ثم ملك أردوان الأصغر الأشغاني، ثلاث عشرة سنة.
ثم ملك أردشير بن بابك.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)