وهو آمن الناس عليك، وأحسنهم إليك صنيعًا! قال عمر: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق عن أبي حنين، قال: دخلت على عبد الله بن حسن وهو محبوس؛ فقال: هل حدث اليوم من خير؟ قلت: نعم، قد أمر ببيع متاعك ورقيقك، ولا أرى أحدًا يقدم على شرائه، فقال: ويحك يا أبا حنين! والله لو خرج بي وببناتي مسترقّين لاشترينا! قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق قال: شخص أبو جعفر، وعبد الله بن حسن محبوس، فأقام في الحبس ثلاث سنين.
قال عمر: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب، قال: حدثني أبو حرملة محمد بن عثمان، مولى آل عمرو بن عثمان، قال: حدثني أبو هبّار المزني، قال: لما حجّ أبو جعفر سنة أربعين ومائة، حجّ تلك السنة محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، وهما متغيبان، فاجتمعوا بمكة، فأرادوا اغتيال أبي جعفر، فقال لهم الأشتر: عبد الله بن محمد بن عبد الله، أنا أكفيكموه، فقال محمد: لا والله لا أقتله أبدًا غيلةً حتى أدعوه؛ قال: فنقض أمرهم ذلك وما كانوا أجمعوا عليه؛ وقد كان دخل معهم في أمرهم قائد من قوّاد أبي جعفر من أهل خراسان. قال: فاعترض لأبي جعفر إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرض، فنمّى إليه أمرهم، فأرسل في طلب القائد فلم يظفر به، وظفر بجماعة من أصحابه، وأفلت الرجل وغلام له بمال زهاء ألفي دينار كانت مع الغلام، فأتاه بها وهو مع محمد، فقسمها بين أصحابه. قال أبو هبّار: فأمرني محمد، فاشتريت للرّجل أباعر وجهّزته وحملته في قبّة وقطرته، وخرجت أريد به المدينة حتى أوردته إياها. وقدم محمد فضمّه إلى أبيه عبد الله، ووجّههما إلى ناحية من خراسان. قال: وجعل أبو جعفر يقتل أصحاب ذلك القائد الذي كان من أمره ما ذكرت.
قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى بن محمد، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: غ*** على زياد بن عبيد الله وأبو جعفر بالمدينة، قال: فقال: أخبركم عجبًا مما لقيته الليلة؛ طرقني رسل أمير المؤمنين نصف الليل - وكان زياد قد تحوّل لقدوم أمير المؤمنين إلى داره بالبلاط - قال: فدّقت علي رسله، فخرجت ملتحفًا بإزاري، ليس علي ثوب غيره، فنبهت غلمانًا لي وخصيانًا في سقيفة الدا، فقلت لهم: إن هدموا الدار فلا يكلمهم منكم أحد؛ قال: فدقوا طويلًا ثن انصرفوا، فأقاموا ساعة، ثم طلعوا بجرز شبيه أن يكون معهم مثله؛ مرّة أو مرّتين، فدقوا الباب بجرزة الحديد، وصيّحوا فلم يكلمهم أحد، فرجعوا فأقاموا ساعة، ثم جاءوا بأمر ليس عليه صبر؛ فظننت والله أن قد هدموا الدار علي، فأمرت بفتحها، وخرجت إليهم فاستحثوني وهمّوا أن يحملوني، وجعلت أسمع العزاء من بعضهم حتى أسلموني إلى دار مروان، فأخذ رجلان بعضدي، فخرّجاني على حال الدفيف على الأرض أو نحوه؛ حتى أتيا بي حجرة القبّة العظمى؛ فإذا الربيع واقف، فقال: ويحك يا زياد! ماذا فعلت بنا وبنفسك منذ الليلة! ومضى بي حتى كشف ستر باب القبّة، فأدخلني ووقف خلفي بين البابين؛ فإذا الشمع في نواحي القبّة، فهي تزهر، ووصيف قائم في ناحيتها، وأبو جعفر محتب بحمائل سيفه على بساط ليس تحته وسادة ولا مصلّى، وإذا هو منكس رأسه ينقر بجرز في يده. قال: فأخبرني الربيع أنها حاله من حين صلى العتمة إلى تلك الساعة. قال: فما زلت واقفًا حتى إني لأنتظر نداء الصبح، وأجد لذلك فرجًا؛ فما يكلمني بكلمة، ثم رفع رأسه إلي، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قال: نم نكس رأسه، ونكت أطول مما مضى له، ثم رفع رأسه الثانية، فقال: يا بن الفاعلة، أين محمد وإبراهيم؟ قتلني الله إن لم أقتلك! قال: قلت له: اسمع مني ودعني أكلّمك، قال: قل لي: أنت نفّرتهما عنك؛ بعثت رسولًا بالمال الذي أمرت بقسمه على بني هاشم، فنزل القادسيّة، ثم أخرج سكينًا يحدّه، وقال: بعثني أمير المؤمنين لأذبح محمدًا وإبراهيم، فجاءتهما بذلك الأخبار، فهربا. قال: فصرفني فانصرفت.
قال عمر: وحدثني عبد الله بن راشد بن يزيد - وكان يلقب الأكّار، من أهل فيد - قال: سمعت نصر بن قادم مولى بني محول الحنّاطين: قال: كان عبدويه وأصحاب له بمكة في سنة حجّها أبو جعفر. قال: فقال لأصحابه: إني أريد أن أوجر أبا جعفر هذه الحربة بين الصفا والمروة. قال: فبلغ ذلك عبد الله بن حسن فنهاه، وقال: أنت في موضع عظيم؛ فما أرى أن تفعل. وكان قائد لأبي جعفر يدعى خالد بن حسان، كان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، وكان قد مالأ عبدويه وأصحابه؛ فقال له أبو جعفر: أخبرني عنك وعن عبدويه والعطاردي، ما أردتم أن تصنعوا بمكة؟ قال: أردنا كذا وكذا، قال: فما منعكم؟ قال: عبد الله بن حسن، قال: فطمره فلم ير حتى الساعة.
قال عمر: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: جدّ أبو جعفر حين حبس عبد الله في طلب ابنيه، فبعث عينًا له، وكتب معه كتابًا على ألأسن الشيعة إلى محمد، يذكرون طاعتهم ومسارعتهم؛ وبعث معه بمال وألطاف، فقدم الرجل المدينة، فدخل على عبد الله بن حسن، فسأله عن محمد، فذكر له أنه في جبل جهينة، وقال: امرر بعلي بن حسن، الرجل الصالح الذي يدعى الأغر؛ وهو بذي الأبر؛ فهو يرشدك. فأتاه فأرشده. وكان لأبي جعفر كاتب على سرّه، كان متشيعًا، فكتب إلى عبد الله ابن حسن يأمر ذلك العين، وما بعث له، فقدم الكتاب على عبد الله فارتاعوا، وبعثوا أبا هبّار إلى علي بن الحسن وإلى محمد، فيحذرّهم الرجل؛ فخرج أبو هبّار حتى نزل بعلي بن حسن، فسأله فأخبره أن قد أرشده إليه. قال أبو هبّار: فجئت محمدًا في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف، معه عبد الله بن عامر الأسلمي وابنا شجاع وغيرهم، والرجل معهم أعلاهم صوتًا، وأشدّهم انبساطًا؛ فلما رآني ظهر عليه بعض النكرة، وجلست مع القوم؛ فتحدثت مليًا، ثم أصغيت إلى محمد، فقلت: إنّ لي حاجةً، فنهض ونهضت معه، فأخبرته بخبر الرجل، فاسترجع، وقال: فما الرأي؟ فقلت: إحدى ثلاث أيها شئت فافعل؛ قال: وما هي؟ قلت: تدعني فأقتل الرجل، قال: ما أنا بمقارف دمًا إلّا مكرهًا، أو ماذا؟ قلت: توقره حديدًا وتنقله معك حيث انتقلت، قال: وهل بنا فراغ له مع الخوف والإعجال! أو ماذا؟ قلت: تشدّه وتوثقه وتودعه بعض أهل ثقتك من جهينة؛ قال: هذه إذًا؛ فرجعنا وقد نذر الرجل فهرب، فقلت: أين الرجل؟ قالوا: قام بركوة فاصطبّ ماء؛ ثم توارى بهذا الظرب يتوضّأ، قال: فجلنا في الجبل وما حوله؛ فكأن الأرض التأمت عليه. قال: وسعى على قدميه حتى شرع على الطريق، فمرّ به أعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لبعضهم: فرّغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلًا لصاحبتها ولك كذا وكذا، قال: نعم؛ ففرّغها وحمله حتى أقدمه بالمدينة. ثم قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر كلّه، وعمى عن اسم أبي هبار وكنيته، وعلّق وبرًا. فكتب أبو جعفر في طلب وبر المزني، فحمل إليه رجل منهم يدعى وبرًا، فسأله عن قصّة محمد وما حكى له العين؛ فحلف أنه ما يعرف من ذلك شيئًا؛ فأمر به فضرب سبعمائة سوط، وحبس حتى مات أبو جعفر.
قال عمر: حدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: ألحّ أبو جعفر في طلب محمد، وكتب إلى زياد بن عبيد الله الحارثي يتنجزّه ما كان ضمن له، فقدم محمد المدينة قدمةً، فبلغ ذلك زيادًا، فتلطّف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس معه، فوعده ذلك محمد، فركب زياد مغلّسًا، ووعد محمدًا سوق الظهر، فالتقيا بها، ومحمد معلن غير مختفٍ، ووقف زياد إلى جنبه، وقال: يأيها الناس؛ هذا محمد بن عبد الله ابن حسن، ثم أقبل عليه، فقال: الحق بأن بلاد الله شئت، وتوارى محمد، وتواترت الأخبار بذلك على أبي جعفر.
قال عمر: حدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني من أصدّق، قال: دخل إبراهيم بن عبد الله على زياد، وعليه درع حديد تحت ثويه، فلمسها زياد. ثم قال: يا أبا إسحاق؛ كأنك اتّهمتني! ذلك والله ما ينالك مني أبدًا.
قال عمر: حدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: ركب زياد بمحمد؛ فأتى به السوق فتصايح أهل المدينة: المهدي المهدي! فتوارى فلم يظهر؛ حتى خرج.
قال عمر: حدثني محمد بن يحيى. قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لمّا أن تتابعت الأخبار على أبي جعفر بما فعل زياد بن عبيد الله، وجّه أبا الأزهر رجلًا من أهل خراسان إلى المدينة، وكتب معه كتابًا، ودفع إليه كتبًا، وأمره ألّا يقرأ كتابه إليه حتى ينزل الأعوص، على بريد من المدينة، فلما أن نزله قرأه؛ فإذا فيه تولية عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المدينة - وكان قاضيًا لزياد بن عبيد الله - وشد زياد في الحدي، واصطفاء ماله، وقبض جميع ما وجد له، وأخذ عمّاله وإشخاصه وإياهم إلى أبي جعفر. فقدم أبو الأزهر المدينة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة، فوجد زيادًا في موكب له، فقال: أين الأمير؟ فقيل: ركب، وخرجت الرسل إلى زياد بقدومه، فأقبل مسرعًا حتى دخل دار مروان، فدخل عليه أبو الأزهر، فدفع إليه كتابًا من أبي جعفر في ثلث يأمره أن يسمع ويطيع؛ فلما قرأه قال: سمعًا وطاعة، فمر يا أبا الأزهر بما أحببت؛ قال: ابعث إلى عبد العزيز بن المطلب. فبعث إليه، فدفع إليه كتابًا أن يسمع لأبي الأزهر؛ فلما قرأه قال: سمعًا وطاعة؛ ثم دفع إلى زياد كتابًا يأمره بتسليم العمل إلى ابن المطلب، ودفع إلى ابن المطلب كتابًا بتوليته، ثم قال لابن المطلب: ابعث إلي اربعة كبول وحدّادًا، فأتيَ بهما فقال: اشدد أبا يحيى، فشدّ فيها وقبض ماله - ووجد في بيت المال خمسة وثمانين ألف دينار - وأخذ عماله، فلم يغادر منهم أحدًا؛ فشخص بهم وبزياد، فلما كانوا في طرف المدينة وقف له عماله يسلّمون عليه، فقال: بأبي أنتم! والله ما أبالي إذا رآكم أبو جعفر ما صنع بي! أي من هيئتهم ومروّتهم.
قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، عن خاله علي بن عبد الحميد، قال: شيّعنا زيادًا، فسرت تحت محمله ليلة، فأقبل علي فقال: والله ما أعرف لي عند أمير المؤمنين ذنبًا؛ غير أني أحسبه وجد علي في ابني عبد الله، ووجد دماء بني فاطمة علي عزيزة. ثم مضوا حتى كانوا بالشقراء؛ فأفلت منهم محمد بن عبد العزيز، فرجع إلى المدينة، وحبس أبو جعفر الآخرين، ثم خلّى عنهم.
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني من أصدّق، قال: لما أن وجّه أبو جعفر مبهوتًا وابن أبي عاصية في طلب محمد، كان مبهوت الذي أخذ زيادًا، فقال زياد:
أكلّف ذنب قوم لست منهم ** وما جنت الشمال على اليمين
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال، حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنت أنا والشعباني - قائد كان لأبي جعفر - مع زياد بن عبيد الله نختلف إلى أبي الأزهر أيام بعثه أبو جعفر في طلب بني حسن، فإني لأسير مع أبي الأزهر يومًا إذ أتاه آتٍ فلصق به، فقال: إنّ عندي نصيحة في محمد وإبراهيم، قال: اذهب عنا، قال: إنها نصيحة لأمير المؤمنين، قال: اذهب عنا، ويلك قد قتل الخلق! قال: فأبى أن ينصرف، فتركه أبو الأزهر حتى خلا الطريق، ثم بعج بسيفه بطنه بعجةً ألقاه ناحية.
ثمّ استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد؛ فذكر عمر أن محمد بن يحيى حدثه، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: استعمل أبو جعفر على المدينة محمد بن خالد بعد زياد، وأمره بالجدّ في طلب محمد، وبسط يده في النفقة في طلبه. فأغذ السير حتّى قدم المدينة هلال رجب سنة إحدى وأربعين ومائة، ولم يعلم به أهل المدينة حتى جاء رسوله من الشقرة - وهى بين الأعوص والطرّف على ليلتين من المدينة - فوجد فى بيت المال سبعين ألف دينار وألف ألف درهم، فاستغرق ذلك المال؛ ورفع فى محاسبته أموالًا كثيرة أنفقها فى طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتّهمه، فكتب إليه أبو جعفر يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فأمر محمد بن خالد أهل الديوان أن يتجاعلوا لمن يخرج، فتجاعلوا رباع الغاضرىّ المضحك - وكان يداين الناس بألف دينار - فهلكت وتويت، وحرجوا إلى الأعراض لكشفها عن محمد، وأمر القسرىّ أهل المدينة؛ فلزموا بيوتهم سبعة أيام، وطافت رسله والجند ببيوت الناس يكشفونها؛ لا يحسون شيئًا، وكتب القسرىّ لأعوانه صكاكًا يتعزّزون بها، لئلا يعرض لهم أحد؛ فلمّا استبطأه أبو جعفر ورأى ما استغرق من الأموال عزله.
قال: وحدثنى عيسى بن عبد الله، قال: أخبرنى حسين بن يزيد، عن ابن ضبّة، قال: اشتد أمر محمد وإبراهيم على أبى جعفر؛ فبعث فدعا أبا السعلاء من قيس بن عيلان، فقال: ويلك! أشر علىّ فى أمر هذين الرجلين؛ فقد غمنّى أمرهما، قال: أرى لك أن تستعمل رجلًا من ولد الزبير أو طلحة، فإنهم يطلبونهما بذحل؛ فأشهد لا يلبثونهما إليك قال: قاتلك الله؛ ماأجود رأيًّا جئت به! والله ما غبى هذا علىّ؛ ولكنى أعاهد الله ألّا أثّئر من أهل بيتى بعدوى وعدوّهم؛ ولكنى أبعث عليهم صعيليكًا من العرب، فيفعل ما قلت، فبعث رياح بن عثمان بن حيّان.
قال: وحدثنى محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن يحيى، عن موسى بن عبد العزيز؛ قال: لما أراد أبو جعفر عزل محمد بن خالد عن المدينة ركب ذات يوم؛ فلما خرج من بيته استقبله يزيد بن أسيد السلمى، فدعاه فسايره. ثم قال: أما تدلنّى على فتى من قيس مقلّ أغنيه وأشرّفه وأمكّنه من سيد اليمن يلعب به؟ يعني ابن القسرىّ؛ قال: بلى، قد وجدته يا أمير المؤمنين، قال: من هو؟ قال: رياح بن عثمان بن حيّان المري، قال: فلا تذكرنّ هذا لأحد، ثم انصرف فأمر بنجائب وكسوة ورحال؛ فهيئت للمسير؛ فلما انصرف من صلاة العتمة دعا برياح، فذكر له ما بلا من غشّ زياد وابن القسري في ابني عبد الله، وولاه المدينة؛ وأمر بالمسير من ساعته قبل أن يصل إلى منزله، وأمره بالجدّ في طلبهما؛ فخرج مسرعًا، حتى قدمها يوم الجمعة لسبع ليال بقين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة.
قال: وحدثني محمد بن معروف، قال: أخبرني الفضل بن الربيع، عن أبيه، قال: لما بلغ أمر محمد وإبراهيم من أبي جعفر ما بلغ خرجت يومًا من عنده - أو من بيتي - أريده؛ فإذا أنا برجل قد دنا مني، فقال: أنا رسول رياح بن عثمان إليك، يقول لك: قد بلغني أمر محمد وإبراهيم وإدْهان الولاة في أمرهما؛ وإنْ ولّاني أمير المؤمنين المدينة ضمنت له أحدهما، وألّا أظهرهما. قال: فأبلغت ذلك أمير المؤمنين. فكتب إليه بولايته. وليس بشاهد.
ذكر عمر بن شبّة، عن محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يحيى، عن موسى ابن عبد العزيز، قال: لما دخل رباح دار مروان، فصار في سقيفتها، أقبل على بعض من معه، فقال: هذه دار مروان؟ قالوا: نعم، قال: هذه المحلال المظعان، ونحن أوّل من يظعن منها.
قال عمر: حدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني الزبير بن المنذر مولى عبد الرحمن بن العوّام، قال: قدم رياح بن عثمان، فقدم معه حاجب له يكنى أبا البختري - وكان لأبي صديقًا زمان الوليد بن يزيد. قال: فكنت آتيه لصداقته لأبي - فقال لي يومًا: يا زبير، إن رياحًا لما دخل دار مروان قال لي: هذه دار مروان؟ أما والله إنها لمحلال مظعان؛ فلما تكشف الناس عنه - وعبد الله محبوس في قبة الدار التي على الطريق إلى المقصورة، حبسه فيها زياد بن عبيد الله - قال لي: يا أبا البختري، خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، فأقبل متّكئًا علي حتى وقف على عبد الله بن حسن، فقال: أيّها الشيخ؛ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة، ولا يد سلفت إليه؛ والله لا لعبت بي كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم! قال: فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة. قال أبو البختري: فانصرف رياح والله آخذًا بيدي، أجد برد يده، وإنّ رجليه لتخطّان مما كلّمه، قال: قلت: والله إنّ هذا ما اطّلع على الغيب قال: إيهًا ويلك! فوالله ما قال إلا ما سمع؛ قال: فذبح والله فيها ذبح الشاة.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: قدم رياح المدينة، فدعا بالقسري، فسأله عن الأموال، فقال: هذا كاتبي هو أعلم بذلك مني، قال: أسألك وتحيلني على كاتبك! فأمر به فوجئت عنقه، وقنّع أسواطًا، ثم أخذ رزامًا كاتب محمد بن خالد القسري ومولاه فبسط عليه العذاب، وكان يضربه في كل غبّ خمسة عشر سوطًا، مغلولة يده إلى عنقه من بكرة إلى الليل؛ يتبع به أفناء المسجد والرّحبة، ودسّ إليه في الرفع على ابن خالد فلم يجد عنده في ذلك مساغًا، فأخرجه عمر بن عبد الله الجذامي - وكان خليفة صاحب الشرط يومًا من الأيام - وهو يريد ضربه، وما بين قدميه إلى قرنه قرحة، فقال له: هذا يوم غبّك، فأين تحبّ أن نجلدك؟ قال: والله ما في بدني موضع لضرب؛ فإن شئت فبطون كفي، فأخرج كفّيه فضرب في بطونهما خمسة عشر سوطًا. قال: فجعلت رسل رياح تختلف إليه، تأمره أن يرفع على ابن خالد ويخلّى سبيله، فأرسل إليه: مر بالكفّ عني حتى أكتب كتابًا، فأمر بالكفّ عنه، ثم ألحّ عليه وبعث إليه: أن رح بالكتاب العشيّة على رءوس الناس، فادفعه إلي. فلما كان العشي أرسل إليه فأتاه وعنده جماعة فقال: أيّها الناس؛ إن الأمير أمرني أن أكتب كتابًا، وأرفع على ابن خالد؛ وقد كتبت كتابًا أتنجّي به، وأنا أشهدكم أن كلّ ما فيه باطل. فأمر به رياح فضرب مائة سوط، وردّ إلى السجن.
قال عمر: حدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عمي عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي، قال: لما أهبط الله آدم من الجنّة رفعه على أبي قبيس، فرفع له الأرض جميعًا حتى رآها وقال: هذه كلها لك، قال: أي ربّ، كيف أعلم ما فيها؟ فجعل له النجوم، فقال: إذا رأيت نجم كذا وكذا كان كذا وكذا، وإذا رأيت نجم كاذ وكذا كان كذا وكذا؛ فكان يعلم ذلك بالنجوم. ثم إن ذلك اشتدّ عليه، فأنزل الله عز وجل مرآة من السماء يرى بها ما في الأرض حتى إذا ما مات آدم عمد إليها شيطان يقال له فقطس فكسرها، وبنى عليها مدينة بالمشرق يقال لها جابرت؛ فلما كان سليمان بن داود سأل عنها، فقيل له: أخذها فقطس. فدعاه فسأله عنها، فقال: هي تحت أواسي جابرت، قال: فأتني بها، قال ومن يهدمها؟ فقالوا لسليمان: قل له: أنت، فقال سليمان: أنت، فأتى بها سليمان، فكان يجبر بعضها إلى بعض ثم يشدّها في أقطارها بسير، ثم ينظر فيها؛ حتى هلك سليمان؛ فوثبت عليها الشياطين؛ فذهبت بها وبقيت منها بقية، فتوارثتها بنو إسرائيل حتى صارت إلى رأس الجالوت؛ فأتيَ بها مروان بن محمد؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها ما يكره، فرمى بها وضرب عنق رأس الجالوت، ودفعها إلى جارية له، فجعلتها في كرسفة، ثم جعلتها في حجر؛ فلما استخلف أبو جعفر سأل عنها فقيل له: هي عند فلانة؛ فطلبها حتى وجدها، فكانت عنده؛ فكان يحكّها ويجعلها على مرآة أخرى فيرى فيها؛ وكان يرى محمد ابن عبد الله؛ فكتب إلى رياح بن عثمان: إنّ محمدًا ببلاد فيها الأترجّ والأعناب فاطلبه بها. وقد كتب إلى محمد بعض أصحاب أبي جعفر: لا تقيمنّ في موضع إلّا بقدر مسير البريد من العراق إلى المدينة؛ فكان يتنقّل فيراه بالبيضاء، وهي من وراء الغابة على نحو من عشرين ميلًا؛ وهي لأشجع. فكتب إليه: إنه ببلاد بها الجبال والقلّات؛ فيطلبه فلا يجده. قال: فكتب إليه إنه بجبل به الحبّ الأخضر والقطران، قال: هذه رضوى؛ فطلبه فلم يجده.
قال أبو زيد: حدثني أبو صفوان نصر بن قديد بن نصر بن سيار، أنه بغله أنه كان عند أبي جعفر مرآة يرى فيها عدوّه من صديقه.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: جدّ رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى - جبل جهينة، وهي من عمل ينبع - فاستعمل عليها عمرو بن عثمان بن مالك الجهني أحد بني جشم، وأمره بطلب محمد، فطلبه فذكر له أنه بشعب من رضوى، فخرج إليه بالخيل والرّجال، ففزع منه محمد، فأحضر شدًا، فأقلت وله ابن صغير، ولد في خوفه ذلك؛ وكان مع جارية له؛ فهوى من الجبل فتقطّع، وانصرف عمرو بن عثمان.
قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي، قال: لما سقط ابن محمد فمات ولقي محمد ما لقي، قال:
منخرق السربال يشكو الوجى ** تنكبه أطراف مرو حداد
شرّده الخوف فأزرى به ** كذاك من يكره حر الجلاد
قد كان في الموت له راحة ** والموت حتم في رقاب العباد
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عمتي عبيد الله بن محمد، قال: قال محمد بن عبد الله: بينا أنا في رضوى مع أمة لي أمّ ولد، معها بنّى لي ترضعه؛ إذا ابن سنوطي مولى لأهل المدينة، قد هجم علي في الجبل يطلبني؛ فخرجت هاربًا، وهربت الجارية. فسقط الصبي منها فتقطّع، فقال عبيد الله: فأتيَ بابن سنوطي إلى محمد بعد حين ظهر، فقال: يا بن سنوطي، أتعرف حديث الصبي؟ قال: إي والله؛ إني لأعرفه، فأمر به فحبس؛ فلم يزل محبوسًا حتى قتل محمد.
قال: وحدثني عبد العزيز بن زياد، قال: حدثني أبي قال: قال محمد: إني بالحرّة مصعد ومنحدر، إذا أنا برياح والخيل، فعدلت إلى بئر فوقفت بين قرنيها، فجعلت أستقي، فلقيني رياح صفحًا، فقال: قاتله الله أعرابيًا ما أحسن ذراعه! قال: وحدثني ابن زبالة، قال: حدثني عثمان بن عبد الرحمن الجهني عن عثمان بن مالك، قال: أذلق رياح محمدًا بالطلب؛ فقال لي: اغد بنا إلى مسجد الفتح ندع الله فيه. قال: فصليت الصبح، ثم انصرفت إليه، فغدونا وعلى محمد قميص غليظ ورداء قرقبي مفتول؛ فخرجنا من موضع كان فيه؛ حتى إذا كان قريبًا التفت، فإذا رياح في جماعة من أصحابه ركبان، فقلت له: هذا رياح؛ إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال غير مكترث به: امض؛ فمضيت وما تنقلني رجلاي، وتنحّى هو عن الطريق؛ فجلس وجعل ظهره مما يلي الطريق، وسدل هدب ردائه على وجهه - وكان جسيمًا - فلما حاذاه رياح التفت إلى أصحابه، فقال: امرأة رأتنا فاستحيت. قال: ومضيت حتى طلعت الشمس، وجاء رياح فصعد وصلى ركعتين، ثم انصرف من ناحية بطحان، فأقبل محمد حتى دخل المسجد، فصلى ودعا، ولم يزل محمد بن عبد الله ينتقل من موضع إلى موضع إلى حين ظهوره.
ولما طال على المنصور أمره؛ ولم يقدر عليه وعبد الله بن حسن محبوس، قال عبد العزيز بن سعيد - فيما ذكر عن عيسى بن عبد الله، عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة - قال لأبي جعفر: يا أمير المؤمنين، أتطمع أن يخرج لك محمد وإبراهيم وبنو حسن مخلّون! والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد. قال: فكان ذلك الذي هاجه على حبسهم. قال؛ ثم دعاه فقال: من أشار عليك بهذا الرأي؟ قال: فليح بن سليمان، فلما مات عبد العزيز ابن سعد - وكان عينًا لأبي جعفر وواليًا على الصدقات - وضع فليح بن سليمان في موضعه، وأمر أبو جعفر بأخذ بني حسن.
قال عيسى: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر رياحًا يأخذ بني حسن، ووجّه في ذلك أبا الأزهر المهري - قال: وقد كان حبس عبد الله بن حسن فلم يزل محبوسًا ثلاث سنين؛ فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّيًا على عبد الله؛ فكان أبو جعفر يقول: ما فعلت الحادّة؟ قال: فأخذ رياح حسنًا وإبراهيم ابني حسن بن حسن، وحسن بن جعفر بن حسن بن حسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن، ومحمدًا وإسماعيل وإسحاق ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وعباس بن حسن بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب، أخذوه على بابه؛ فقالت أمه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دعوني أشمّه، قالوا: لا والله؛ ما كنت حيةً في الدنيا؛ وعلي بن حسن بن حسن بن حسن العابد.
قال: وحدثني إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم، قال: حبس معهم أبو جعفر عبد الله بن حسن بن حسن أخا علي.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثنا الحارث بن إسحاق، قال: جهر رياح بشتم محمد وإبراهيم ابني عبد الله، وشتم أهل المدينة. قال: ثم قال يومًا وهو على المنبر يذكرهما: الفاسقين الخالعين الحاربين. قال: ثم ذكر ابنة أبي عبيدة أمهما، فأفحش لها، فسبّح الناس وأعظموا ما قال، فأقبل عليهم، فقال: إنكم لا كلنا عن شتمهما، ألصق الله بوجوهكم الذلّ والهوان! أما والله لأكتبنّ إلى خليفتكم فلأعلمنّه غشكم وقلة نصحكم. فقال الناس: لا نسمع منك يا بن المحدود؛ وبادروه بالحصى، فبادر واقتحم دار مروان وأغلق عليه الباب، وخرج الناس حتى صفّوا وجاهه، فرموه وشتموه ثم تناهوا وكفّوا.
قال: وحدثني محمد بن يحيى؛ قال: حدثني الثقة عندي، قال: حبس معهم موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي وعلي بن محمد ابن عبد الله بن حسن بن حسن عند مقدمه من مصر.
قال: وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: وجّه محمد بن عبد الله ابنه عليًّا إلى مصر، فدلّ عليه عاملها، وقد همّ بالوثوب، فشدّه وأرسل به إلى أبي جعفر؛ فاعترف له، وسمّى أصحاب أبيه، فكان فيمن سمّى عبد الرحمن ابن أبي الموالي وأبو حنين؛ فأمر بهما أبو جعفر فحبسا، وضرب أبو حنين مائة سوط.
قال: وحدثني عيسى، قال: مرّ حسن بن حسن بن حسن على إبراهيم ابن حسن وهو يعلف إبلًا له؛ فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس! أطلق عقلها يا غلام، فأطلقها، ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها واحدة.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني علي بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، قال: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان هاهنا من بني حسين فليدخل؛ فقال لي عمتي عمر بن محمد: انظر ما يصنع القوم، قال: فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدّادون من باب مروان، فدعيَ بالقيود.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: كان رياح إذا صلى الصبح أرسل إلى وإلى قدامة بن موسى فيحدثنا ساعة؛ فإنا لعنده يومًا؛ فلما أسفرنا إذا برجل متلفّف في ساجٍ له؛ فقال له رياح: مرحبًا بك وأهلا، ما حاجتك؟ قال: جئت لتحبسني مع قومي؛ فإذا هو علي بن حسن بن حسن بن حسن، فقال: أما والله ليعرفنّها لك أمير المؤمنين، ثم حبسه معهم.
قال: وحدثني يعقوب بن القاسم، قال: حدثني سعيد بن ناشرة مولى جعفر بن سليمان، قال: بعث محمد ابنه عليًّا، فأخذ بمصر، فمات في سجن أبي جعفر.
قال: وحدثني موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن، قال: حدثني أبي، عن أبيه موسى بن عبد الله، قال: لما حبسنا ضاق الحبس بنا، فسأل أبي رياحًا أن يأذن له فيشتري دارًا، فيجعل حبسنا فيها، ففعل، فاشترى أبي دارًا فنقلنا إليها، فلما امتدّ بنا الحبس أتى محمد أمه هندًا فقال: إني قد حمّلت أبي وعمومتي ما لا طاقة لهم به؛ ولقد هممت أن أضع يدي في أيديهم؛ فعسى أن يخلّى عنهم. قال: فتنكرت ولبست أطمارًا، ثم جاءت السجن كهيئة الرسول، فأذن لها، فلما رآها أبي أثبتها، فنهض إليها فأخبرته عن محمد، فقال: كلّا بل نصبر؛ فوالله إني لأرجو أن يفتح الله به خيرًا، قولي له: فليدع إلى أمره، وليجدّ فيه، فإن فرجنا بيد الله. قال: فانصرفت وتمّ محمد على بغيته.
ذكر حمل ولد حسن بن حسن إلى العراق
وفي هذه السنة حمل ولد حسن بن حسن بن علي من المدينة إلى العراق.
ذكر الخبر عن سبب حملهم إلى العراق وما كان من أمرهم إذ حملوا
ذكر عمر، قال: حدثني موسى بن عبد الله، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما حجّ أبو جعفر أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة ومالك بن أنس إلى أصحابنا، فسألهم أن يدفعوا محمدًا وإبراهيم ابني عبد الله، قال: فدخل علينا الرجلان وأبي قائم يصلّي، فأبلغاهم رسالته، فقال حسن بن حسن: هذا عمل ابني المشئومة، أما والله ما هذا برأينا، ولا عن ملأ منا؛ ولا لنا فيه حيلة. قال: فأقبل عليه إبراهيم، فقال: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه؟ قال: وانصرف أبي من صلاته؛ فأبلغاه، فقال: لا والله لا أردّ عليكما حرفًا؛ إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل؛ فانصرف الرجلان فأبلغه، فقال: أراد أن يسخّرني؛ لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه.
قال: وحدثني ابن زبالة، قال: سمعت بعض علمائنا يقول: ما سارّ عبد الله بن حسن أحدًا قطّ إلا فتله عن رأيه.
قال: وحدثني موسى بن عبد الله، عن أبيه عن جده، قال: ثم سار أمير المؤمنين أبو جعفر لوجهه حاجًا، ثم رجع فلم يدخل المدينة؛ ومضى إلى الربذة حتى أتى ثنى رهوتها.
قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لم يزل بنو حسن محبوسين عند رياح حتى حجّ أبو جعفر سنة أربع وأربعين ومائة، فتلقّاه رياح بالرّبذة، فردّه إلى المدينة، وأمره بإشخاص بني حسن إليه، وبإشخاص محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان - وهو أخو بني حسن لأمهم. أمهم جميعًا فاطمة بنت حسين بن علي بن أبي طالب - فأرسل إليه رياح - وكان بماله ببدر - فحدرهم إلى المدينة، ثم خرج رياح ببني حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو إلى الربذة، فلما صار بقصر نفيس على ثلاثة أميال من المدينة، دعا بالحدّادين والقيود والأغلال، فألقى كلّ رجل منهم في كبل وغلّ، فضاقت حلقتا قيد عبد الله بن حسن بن حسن، فعضّتاه فتأوّه؛ فأقسم عليه أخوه علي بن حسن ليحوّلنّ حلقتيه عليه إن كانتا أوسع، فحوّلنا عليه، فمضى بهم رياح إلى الربذة.
قال: وحدثني إبراهيم بن خالد، ابن أخت سعيد بن عامر، عن جويرية بن أسماء - وهو خال أمه - قال: لما حمل بنو حسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يقيدون بها، وعلي بن حسن بن حسن قائم يصلي. قال: وكان في الأقياد قيد ثقيل، فكلّما قرب إلى رجل منهم تفادى منه واستعفى. قال: فانقتل علي من صلاته، فقال: لشدّ ما جزعتم، شرعه هذا، ثم مدّ رجليه فقيّد به.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران، قال: الذي حدّرهم إلى الربّذة أبو الأزهر.
قال عمر: حدثني ابن زبالة، قال: حدثني حسين بن زيد بن علي ابن حسين، قال: غ*** إلى المسجد، فرأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فانصرفت، فأرسل إلي جعفر ابن محمد فجئته، فقال: ما وراءك؟ فقلت: رأيت بني حسن يخرج بهم في محامل، قال: اجلس، فجلست، فدعا غلامًا له، ثم دعا ربه دعاء كثيرًا، ثم قال لغلامه: اذهب؛ فإذا حملوا فأت فأخبرني، فأتاه الرسول، فقال: قد أقبل بهم. قال: فقام جعفر بن محمد، فوقف من وراء ستر شعر يبصر من وراءه ولا يبصره أحد؛ فطلع بعبد الله بن حسن في محمل معادله مسود، وجميع أهل بيته كذلك. قال: فلما نظر إليهم جعفر هملت عيناه حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل علي فقال: يا أبا عبد الله؛ والله لا يحفظ لله حرمة بعد هؤلاء.
قال: وحدثني محمد بن الحسن بن زبالة، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: لما ذهب ببني حسن لقيهم الحارث بن عامر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بالرّبذة، فقال: الحمد لله الذي أخرجكم من بلادنا، قال: فاشرأبّ له حسن بن حسن، فقال له عبد الله: عزمت عليك إلا سكتّ! قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني ابن أبرود حاجب محمد بن عبد الله قال: لما حمل بنو حسن، كان محمد وإبراهيم يأتيان معتمّين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما ويسائلانه ويستأذنانه في الخروج؛ فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك؛ ويقول: إن منعكما أبو جعفر أن تعيشا كريمين؛ فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.
قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما صار بنو حسن إلى الربّذة دخل محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على أبي جعفر، وعليه قميص وساج وإزار رقيق تحت قميصه؛ فلما وقف بين يديه، قال: إيهًا يا ديّوث! قال محمد: سبحان الله! والله لقد عرفتني بغير ذلك صغيرًا وكبيرًا، قال: فممّ حملت ابنتك؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن - وقد أعطيتني الأيمان بالطلاق والعتاق ألا تغشني ولا تمالىء علي عدوًا، ثم أنت تدخل على ابنتك متخضبّة متعطّرة، ثم تراها حاملًا فلا يروعك حملها! فأنت بين أن تكون حانثًا أو ديوثًا؛ وأيم الله إني لأهمّ برجمها، فقال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غشّ علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية، فإن الله قد أكرمها عليه السلام ذلك بولادة رسول الله إياها؛ ولكني قد ظننت حين ظهر حملها أنّ زوجها ألمّ بها على حين غفلة منا، فاحتفظ أبو جعفر من كلامه، وأمر بشق ثيابه، فشق قميصه عن إزاره، فأشفّ عن عورته، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط؛ فبلغت منه كلّ مبلغ، وأبو جعفر يفتري عليه ولا يكنى؛ فأصاب سوط منها وجهه. فقال له: ويحك! اكفف عن وجهي فإنّ له حرمةً من رسول الله ؛ قال: فأغرى أبو جعفر، فقال للجلاد: الرأس الرأس. قال: فضرب على رأسه نحوًا من ثلاثين سوطًا، ثم دعا بساجور من خشب شبيه به في طوله - وكان طويلًا - فشدّ في عنقه، وشدّت به يده؛ ثم أخرج به ملبّبًا، فلما طلع به من حجرة أبي جعفر؛ وثب إليه مولى له، فقال: بأبي أنت وأمي ألا ألوثك بردائي! قال: بلى جزيت خيرًا؛ فوالله لشفوف إزاري أشدّ علي من الضرب الذي نالني؛ فألقى عليه المولى الثوب، ومضى به إلى أصحابه المحبّسين.
قال: وحدثني الوليد بن هشام، قال: حدثني عبد الله بن عثمان، عن محمد بن هاشم بن البريد، مولى معاوية، قال: كنت بالرّبذة، فأتيَ ببني حسن مغلولين، معهم العثماني كأنه خلق من فضّة، فأقعدوا، فلم يلبثوا حتى خرج رجل من عند أبي جعفر، فقال: أين محمد بن عبد الله العثماني؟ فقام فدخل، فلم يلبث أن سمعنا وقع السياط، فقال أيوب بن سلمة المخزومىّ لبنيه: يا بنىّ؛ إني لأرى رجلًا ليس لأحد عنده هوادة، فانظروا لأنفسكم؛ لا تسقطوا بشىء. قال: فأخرج كأنه زنجى قد غيّرت السياط لونه، وأسالت دمه، وأصاب سوط منها إحدى عينيه فسالت، فأقعد إلى جنب أخيه عبد الله بن حسن بن حسن، فعطش فاستسقّى ماء، فقال عبد الله بن حسن: يا معشر الناس، من يسقي ابن رسول الله شربة ماء؟ فتحاماه الناس فما سقوه حتى جاء خراساني بماء، فسلّه إليه فشرب، ثم لبثنا هنيهةً، فخرج أبو جعفر في يشقّ محمل، معادله الربيع في شقّه الأيمن، على بغلة شقراء، فناداه عبد الله: يا أبا جعفر؛ والله ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر! قال: فأخسأه أبو جعفر؛ وتفل عليه، ومضى ولم يعرّج.
وذكر أن أبا جعفر لما دخل عليه محمد بن عبد الله العثماني سأله عن إبراهيم، فقال: ما لي به علم، فدقّ أبو جعفر وجهه بالجرز.
وذكر عمر عن محمد بن أبي حرب، قال: لم يزل أبو جعفر جميل الرأي في محمد حتى قال له رياح: يا أمير المؤمنين؛ أمّا أهل خراسان فشيعتك وأنصارك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأما أهل الشأم فوالله ما علي عندهم إلا كافر، وما يعتدّون بأحد من ولده؛ ولكنّ أخاهم محمد بن عبد الله ابن عمرو، ولو دعا أهل الشأم ما تخلف عنه منهم رجل. قال: فوقعت في نفس أبي جعفر، فلما حجّ دخل عليه محمد، فقال: يا محمد، أليس ابنتك تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن؟ قال: بلى؛ ولا عهد لي به إلا بمنىً في سنة كذا وكذا، قال: فهل رأيت ابنتك تختضب وتمتشط؟ قال: نعم، قال: فهي إذًا زانية، قال: مَهْ يا أمير المؤمنين! أتقول هذا لابنة عمّك! قال: يا بن اللخناء، قال: أي أمهاتي تلخّن! قال: يا بن الفاعلة، ثم ضرب وجهه بالجرز وحدده؛ وكانت رقية ابنة محمد تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن، ولها يقول:
خليلي من قيس دعا اللوم واقعدا ** يسرّكما ألّا أنام وترقدا
أبيت كأنّي مسعرٌ من تذكري رقية جمرًا من غضًا متوقدًا
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله بن محمد، قال: حدثني سليمان بن داود بن حسن؛ قال: ما رأيت عبد الله بن حسن جزع من شيء مما ناله إلّا يومًا واحدًا؛ فإنّ بعير محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان انبعث وهو غافل، لم يتأهّب له، وفي رجليه سلسلة، وفي عنقه زمّارة، فهوى، وعلقت الزمارة بالمحمل، فرأيته منوطًا بعنقه يضطرب؛ فرأيت عبد الله بن حسن قد بكى بكاء شديدًا.
قال: وحدثني موسى بن عبد الله بن موسى، قال: حدثني أبي عن أبيه، قال: لما صرنا بالرّبذة، أرسل أبو جعفر إلى أبي أن أرسل إلي أحدكم؛ واعلم أنه غير عائد إليك أبدًا، فابتدره بنو إخوته يعرضون أنفسهم عليه، فجزاهم خيرًا، وقال: أنا أكره أن أفجعهم بكم؛ ولكن اذهب أنت يا موسى، قال: فذهبت وأنا يومئذ حديث السنّ، فلما نظر إلي قال: لا أنعم الله بك عينًا؛ السياط يا غلام قال: فضربت والله حتى غشيَ علي، فما أدرى بالضرب، فرفعت السياط عني، ودعاني فقرّبت منه واستقربني. فقال: أتدري ما هذا؟ هذا فيض فاض مني، فأفرغت منه سجلًا لم أستطع ردّه؛ ومن ورائه الموت أو تفتدي منه. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين؛ والله إن ما لي ذنب؛ وإني لبمعزل عن هذا الأمر. قال: فانطلق فأتني بأخويك، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، تبعثني إلى رياح بن عثمان فيضع علي العيون والرّصد، فلا أسلك طريقًا إلا تبعني له رسول، ويعلم ذلك أخواي فيهربان مني! قال: فكتب إلى رياح: لا سلطان لك على موسى، قال: وأرسل معي حرسًا أمرهم أن يكتبوا إليه بخبري، قال: فقدمت المدينة، فنزلت دار ابن هشام بالبلاط، فأقمت بها أشهرًا، فكتب إليه رياح: إنّ موسى مقيم بمنزله يتربّص بأمير المؤمنين الدوائر؛ فكتب إليه: إذا قرأت كتابي هذا فاحدره إلي، فحدرني.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني موسى، قال: أرسل أبي إلى أبي جعفر: إني كاتب إلى محمد وإبراهيم؛ فأرسل موسى عسى أن يلقاهما؛ وكتب إليهما أن يأتياه، وقال لي: أبلغهما عنّي فلا يأتياه أبدًا. قال: وإنما أراد أن يفلتني من يده - وكان أرقّ الناس علي، وكنت أصغر ولد هند - وأرسل إليهما:
يا بني أميّة إني عنكما غان ** وما الغنى غير أني مرعش فان
يا بني أمية إلّا ترحما كبري ** فإنما أنتما والثكل مثلان
قال: فأقمت بالمدينة مع رسل أبي جعفر إلى أن استبطأني رياح، فكتب إلى أبي جعفر بذلك، فحدرني إليه.
قال: وحدثني يعقوب بن القاسم بن محمد، قال: أخبرني عمران بن محرز من بني البكّاء، قال: خرج ببني حسن إلى الربذة، فيهم علي وعبد الله ابنا حسن بن حسن بن حسن، وأمّهما حبابة ابنة عامر بن عبد الله بن عامر ابن بشر بن عامر ملاعب الأسنة؛ فمات في السجن حسن بن حسن وعباس ابن حسن، وأمّه عائشة بنت طلحة بن عمر بن عبيد الله وعبد الله بن حسن وإبراهيم بن حسن.
قال عمر: حدثني المدائني، قال: لما خرج ببني حسن، قال إبراهيم ابن عبد الله بن حسن، قال عمر: وقد أنشدني غير أبي الحسن هذا الشعر لغالب الهمداني:
ما ذكرك الدمنة القفار وأه ** ل الدار إمّا نأوك أو قربوا
إلّا سفاهًا وقد تفرّعك الشّ ** يب بلونٍ كأنّه العطب
ومر خمسون من سنيك كما ** عدّ لك الحاسبون إذا حسبوا
فعد ذكر الشباب لست له ** ولا إليك الشباب منقلب
إني عرتني الهموم فاحتضر ال ** همّ وسادى فالقلب منشعب
واستخرج الناس للشقاء وخل ** فت لدهر بظهره حدب
أعوج يستعذب اللئام به ** ويحتويه الكرام إن سربوا
نفسي فدت شيبةً هناك وظن ** بوبًا به من قيوده ندب
والسادة الغر من بنيه فما ** روقب فيه الإله والنسب
يا حلق القيد ما تضمّن من ** حلم وبرّ يشوبه حسب
وأمهات من العواتك أخ ** لصنك بيض عقائل عرب
كيف اعتذاري إلى الإله ولم ** يشهرن فيك المأثورة القضب!
ولم أقد غارة ململمة ** فيها بنات الصريح تنتحب
والسابقات الجياد والأسل الذّ ** بّل فيهيا أسنة ذرب
حتى نوفّى بني نتيلة بال ** قسط بكيل الصاع الذي احتلبوا
بالقتل قتلًا وبالأسير الذي ** في القد أسرى مصفودة سلب
أصبح آل الرسول أحمد في الن ** اس كذي عرّة به جرب
بؤسًا لهم ما جنت أكفهم ** وأي حبل من أمّة قضبوا!
وأي حبل خانوا المليك به ** شد بميثاق عقده الكذب
وذكر عبد الله بن راشد بن يزيد، قال: سمعت الجرّاح بن عمر وخاقان ابن زيد وغيرهما من أصحابنا يقولون: لما قدم بعبد الله بن حسن وأهله مقيّدين فأشرف بهم على النجف، قال لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية؟ قال: فلقيه ابنا أخي الحسن وعلي مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله، فمرنا بالذي تريد، قال: قد قضيتما، ولن تغنيا في هؤلاء شيئًا فانصرفا.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: أمر أبو جعفر أبا الأزهر فحبس بني حسن بالهاشميّة.
قال: وحدثني محمد بن الحسن، قال: حدثني محمد بن إبراهيم، قال: أتى بهم أبو جعفر، فنظر إلى محمد بن إبراهيم بن حسن، فقال: أنت الديباج الأصفر؟ قال: نعم، قال: أما والله لأقتلنّك قتلة ما قتلتها أحدًا من أهل بيتك، ثم أمر بأسطوانة مبنيّة ففرقت، ثم أدخل فيها فبنى عليه وهو حي.
قال محمد بن الحسن: وحدثني الزبير بن بلال، قال: كان الناس يختلفون إلى محمد ينظرون إلى حسنه.
قال عمر: وحدثني عيسى، قال: حدثني عبد الله بن عمران، قال: أخبرني أبو الأزهر، قال: قال لي عبد الله بن حسن: ابغني حجّامًا، فقد احتجت إليه، فاستأذنت أمير المؤمنين، فقال: آتيه بحجام مجيد.
قال: وحدثني الفضل بن دكين أبو نعيم، قال: حبس من بني حسن ثلاثة عشر رجلًا، وحبس معهم العثماني وابنان له في قصر ابن هبيرة؛ وكان في شرقي الكوفة مما يلي بغداد؛ فكان أوّل من مات منهم إبراهيم ابن حسن، ثم عبد الله بن حسن، فدفن قريبًا من حيث مات؛ وإلا يكن بالقبر الذي يزعم الناس أنه قبره؛ فهو قريب منه.
وحدثني محمد بن أبي حرب، قال: كان محمد بن عبد الله بن عمرو محبوسًا عند أبي جعفر، وهو يعلم براءته؛ حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أمير المؤمنين أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّي، وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله؛ فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمّد بن عبد الله بن عمرو، فضربت عنقه، وأرسل برأسه إلى خراسان؛ وأقسم لهم أنه رأس محمد بن عبد الله، وأنّ أمه فاطمة بنت رسول الله .
قال عمر: فحدثني الوليد بن هشام، قال: حدثني أبي، قال: لما صار أبو جعفر بالكوفة، قال: ما أشتفي من هذا الفاسق من أهل بيت فسق، فدعا به، فقال: أزوّجت ابنتك ابن عبد الله؟ قال: لا، قال: أفليست بامرأته؟ قال: بلى زوّجها إيّاه عمّها وأبوه عبد الله بن حسن فأجزت نكاحه، قال: فأين عهودك التي أعطيتني؟ قال: هي علي، قال: أفلم تعلم بخضاب! ألم تجد ريح طيب! قال: لا علم لي؛ قد علم القوم ما لك علي من المواثيق فكتموني ذلك كله، قال: هل لك أن تستقيلني فأقيلك، وتحدث لي أيمانًا مستقبلة؟ قال: ما حنثت بأيماني فتجدّدها علي، ولا أحدثت ما أستقيلك منه فتقيلني؛ فأمر به فضرب حتى مات، ثم احتزّ رأسه؛ فبعث به إلى خراسان؛ فلما بلغ ذلك عبد الله بن حسن، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله إن كنّا لنأمن به في سلطانهم، ثم قد قتل بنا في سلطاننا.
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني مسكين بن عمرو، قال: لما ظهر محمد بن عبد الله بن حسن، أمر أبو جعفر بضرب عنق محمد ابن عبد الله بن عمرو، ثم بعث به إلى خراسان؛ وبعث معه الرجال يحلفون بالله إنه لمحمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله . قال عمر: فسألت محمد بن جعفر بن إبراهيم، في أي سبب قتل محمد بن عمرو؟ قال: احتيج إلى رأسه.
قال عمر: وحدثني محمد بن أبي حرب، قال: كان عون بن أبي عون خليفة أبيه بباب أمير المؤمنين؛ فلما قتل محمد بن عبد الله بن حسن وجّه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، إلى أبي عون مع محمد بن عبد الله بن أبي الكرام وعون بن أبي عون؛ فلما قدم به ارتاب أهل خراسان، وقالوا: أليس قد قتل مرّة وأتينا برأسه! قال: ثم تكشّف لهم الخبر حتى علموا حقيقته؛ فكانوا يقولون: لم يطّلَع من أبي جعفر على كذبةٍ غيرها.
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: حدثني عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: كنا نأتي أبا الأزهر ونحن بالهاشميّة أنا والشعباني، فكان أبو جعفر يكتب إليه: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى أبي الأزهر مولاه، ويكتب أبو الأزهر إلى أبي جعفر: من أبي الأزهر مولاه وعبده؛ فلما كان ذات يوم ونحن عنده - وكان أبو جعفر قد ترك له ثلاثة أيام لا ينوبها؛ فكنّا نخلو معه في تلك الأيام - فأتاه كتاب من أبي جعفر، فقرأه ثم رمى به، ودخل إلى بني حسن وهم محبوسون.. قال: فتناولت الكتاب وقرأته؛ فإذا فيه: انظر يا أبا الأزهر ما أمرتك به في مدلّهٍ فعجّله وأنفذه. قال: وقرأ الشعباني الكتاب فقال: تدري من مدلّه؟ قلت: لا، قال: هو والله عبد الله بن حسن، فانظر ما هو صانع. قال: فلم نلبث أن جاء أبو الأزهر، فجلس فقال: قد والله هلك عبد الله بن حسن، ثم لبث قليلًا ثم دخل وخرج مكتئبًا، فقال: أخبرني عن علي بن حسن، أيُّ رجل هو؟ قلت: أمصدّقٌ أنا عندك؟ قال: نعم، وفوق ذلك؛ قال: قلت: هو والله خير من تقلّه هذه وتظلّه هذه! قال: فقد والله ذهب.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: سمعت جدّي موسى بن عبد الله يقول: ما كنّا نعرف أوقات الصلاة في الحبس إلا بأحزاب كان يقرؤها علي بن حسن.
قال عمر: وحدثني ابن عائشة، قال: سمعت مولىً لبني دارم، قال: قلت لبشير الرحال ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟ قال: إنه أرسل إلي بعد أخذه عبد الله بن حسن فأتيته، فأمرني يومًا بدخول بيت فدخلته، فإذا بعبد الله بن حسن مقتولًا، فسقطت مغشيًا علي، فلما أفقت أعطيت الله عهدًا ألّا يختلف في أمره سيفان إلا كنت مع الذي عليه منهما. وقلت للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيت؛ فإنه إن علم قتلني. قال عمر: فحدثت به هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد من أهل همذان. وهو العباسي أن أبا جعفر أمر بقتله، فحلف بالله ما فعل ذلك؛ ولكنّه دسّ إليه من أخبره أن محمدًا قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات.
قال: وحدثني عيسى بن عبد الله، قال: قال من بقي منهم: إنهم كانوا يسقون؛ فماتوا جميعًا إلا سليمان وعبد الله ابني داود بن حسن بن حسن وإسحاق وإسماعيل ابني إبراهيم بن حسن بن حسن، وجعفر بن حسن، فكان من قتل منهم إنما قتل بعد خروج محمد.
قال عيسى: فنظرت مولاة لآل حسن إلى جعفر بن حسن، فقالت: بنفسي أبو جعفر! ما أبصره بالرجال حيث يطلقك وقتل عبد الله بن حسن!
ذكر بقية الخبر عن الأحداث التي كانت في سنة أربع وأربعين ومائة
فمن ذلك ما كان من حمل أبي جعفر المنصور بني حسن بن حسن بن علي من المدينة إلى العراق.
ذكر الخبر عن سبب حمله إياهم إلى العراق
حدثني الحارث بن محمد، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: لما ولّى أبو جعفر رياح بن عثمان بن حيّان المري المدينة، أمره بالجدّ في طلب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن وقلة الغفلة عنهما.
قال محمد بن عمر: فأخبرني عبد الرحمن بن أبي الموالي؛ قال: فجدّ رياح في طلبهما ولم يداهن، واشتدّ في ذلك كلّ الشدّة حتى خافا؛ وجعلا ينتقلان من موضع إلى موضع، واغتمّ أبو جعفر من بغّيهما؛ وكتب إلى رياح ابن عثمان: أن يأخذ أباهما عبد الله بن حسن وإخوته: حسن بن حسن وداود ابن حسن وإبراهيم بن حسن، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان - وهو أخوهم لأمهم فاطمة بنت حسين - في عدّة منهم، ويشدّهم وثاقًا، ويبعث بهم إليه حتى يوافوه بالرّبذة. وكان أبو جعفر قد حجّ تلك السنة وكتب إليه أن يأخذني معهم فيبعث بي إليه أيضًا. قال: فأدركت وقد أهللت بالحجّ، فأخذت فطرحت في الحديد، وعورض بي الطريق حتى وافيتهم بالرّبذة.
قال محمد بن عمر: أنا رأيت عبد الله بن حسن وأهل بيته يخرجون من دار مروان بعد العصر وهم في الحديد؛ فيحملون في المحامل؛ ليس تحتهم وطاء؛ وأنا يومئذ قد راهقت الاحتلام، أحفظ ما أرى.
قال محمد بن عمر: قال عبد الرحمن بن أبي الموالي: وأخذ معهم نحو من أربعمائة، من جهينة ومزينة وغيرهم من القبائل؛ فأراهم بالرّبذة مكتّفين في الشمس. قال: وسجنت مع عبد الله بن حسن وأهل بيته. ووافى أبو جعفر الربذة منصرفًا من الحجّ، فسأل عبد الله بن حسن أبا جعفر أن يأذن له في الدخول عليه، فأبى أبو جعفر؛ فلم يره حتى فارق الدنيا. قال: ثم دعاني أبو جعفر من بينهم، فأقعدت حتى أدخلت - وعنده عيسى بن علي - فلما رآني عيسى، قال: نعم؛ هو هو يا أمير المؤمنين؛ وإنْ أنت شددت عليه أخبرك بمكانهم. فسلّمت، فقال أبو جعفر: لا سلّم الله عليك! أين الفاسقان ابنا الفاسق الكذابان ابنا الكذاب؟ قال: قلت: هل ينفعني الصدق يا أمير المؤمنين عندك؟ قال: وما ذاك؟ قال: امرأته طالق، وعلي وعلي، إن كنت أعرف مكانهما! قال: فلم يقبل ذلك مني، وقال: السياط! وأقمت بين العقابين، فضربني أربعمائة سوط؛ فما عقلت بها حتى رفع عني، ثم حملت إلى أصحابي على تلك الحال، ثم بعث إلى الديباج محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان؛ وكانت ابنته تحت إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فلما أدخل عليه قال: أخبرني عن الكذّابين ما فعلا؟ وأين هما؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم، قال: لتخبرنّي، قال: قد قلت لك وإني والله لصادق؛ ولقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم؛ وأما اليوم فمالي والله بهما علم. قال: جرّدوه، فجُرّد فضربه مائة سوط، وعليه جامعة حديد في يده إلى عنقه؛ فلمّا فرغ من ضربه أخرج فألبس قميصًا له قوهيًّا على الضرب، وأتيَ به إلينا؛ فوالله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاة، ثم انتزع القميص ثم داووه. فقال أبو جعفر: احدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشميّة، فحبسنا بها؛ فكان أوّل من مات في الحبس عبد الله ابن حسن؛ فجاء السجان فقال: ليخرج أقربكم به فليصلّ عليه؛ فخرج أخوه حسن بن حسن بن حسن بن علي عليهم السلام، فصلّى عليه. ثم مات محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فأخذ رأسه، فبعث به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان؛ فطافوا في كورخراسان، وجعلوا يحلفون بالله أنّ هذا رأس محمد بن عبد الله بن فاطمة بنت رسول الله ؛ يوهمون الناس أنه رأس محمد بن عبد الله بن حسن؛ الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية.
وكان والي مكة في هذه السنة السري بن عبد الله، ووالي المدينة رياح ابن عثمان المرّي، ووالي الكوفة عيسى بن موسى، ووالي البصرة سفيان بن معاوية.
وعلى قضائها سوّار بن عبد الله، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمما كان فيها من ذلك خروج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة، وخروج أخيه إبراهيم بن عبد الله بعده بالبصرة ومقتلهما.
ذكر الخبر عن مخرج محمد بن عبد الله ومقتله
ذكر عمر أنّ محمد بن يحيى حدثه، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: لما انحدر أبو جعفر ببني حسن، رجع رياح إلى المدينة، فألحّ في الطلب، وأخرج محمدًا حتى عزم على الظهور.
قال عمر: فحدثت إبراهيم بن محمد بن عبد الله الجعفري أن محمدًا أحرج، فخرج قبل وقته الذي فارق عليه أخاه إبراهيم، فأنكر ذلك، وقال: ما زال محمد يطلب أشدّ الطلب حتى سقط ابنه فمات وحتى رهقه الطلب، فتدلّى في بعض آبار المدينة يناول أصحابه الماء، وقد انغمس فيه إلى رأسه، وكان بدنه لا يخفى عظمًا؛ ولكن إبراهيم تأخّر عن وقته لجدرىً أصابه.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: تحدث أهل المدينة بظهور محمد؛ فأسرعنا في شراء الطعام حتى باع بعضهم حلي نسائه؛ وبلغ رياحًا أنّ محمدًا أتى المذاد، فركب في جنده يريده وقد خرج قبله محمد يريده، ومعه جبير بن عبد الله السلمي وجبير ابن عبد الله بن يعقوب بن عطاء وعبد الله بن عامر الأسلمي؛ فسمعوا سقّاءةً تحدث صاحبتها أنّ رياحًا قد ركب يطلب محمدًا بالمذاد، وأنه قد سار إلى السوق، فدخلوا دارًا لجهينة وأجافوا بابها عليهم، ومرّ رياح على الباب لا يعلم بهم، ثم رجع إلى دار مروان؛ فلما حضرت العشاء الأخيرة صلى في الدار ولم يخرج.
وقيل: إنّ الذي أعلم رياحًا بمحمد سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة من بني عامر بن لؤي.
وذكر عن الفضل بن دكين، قال: بلغني أن عبيد الله بن عمرو بن أبي ذؤيب وعبد الحميد بن جعفر دخلوا على محمد قبل خروجه، فقالوا له: ما ننتظر بالخروج! والله ما نجد في هذه الأمة أحدًا أشأم عليها منك. ما يمنعك أن تخرج وحدك! قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: بعث إلينا رياح فأتيته أنا وجعفر بن محمد بن علي بن حسين، وحسين بن علي بن حسين بن علي، وعلي بن عمر بن علي بن حسين بن علي، وحسن بن علي بن حسين ابن علي بن حسين بن علي ورجال من قريش؛ منهم إسماعيل بن أيوب ابن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة، ومعه ابنه خالد، فإنّا لعنده في دار مروان إذ سمعنا التكبير قد حال دون كلّ شيء، فظنناه من عند الحرس، وظنّ الحرس أنه من الدار. قال: فوثب ابن مسلم بن عقبة - وكان مع رياح - فاتّكأ على سيفه، فقال: أطعني في هؤلاء فاضرب أعناقهم؛ فقال علي بن عمر: فكدنا والله تلك الليلة أن نطيح حتى قام حسين بن علي، فقال: والله ما ذاك لك؛ إنّا على السمع والطاعة. قال: وقام رياح ومحمد بن عبد العزيز، فدخلا جنبذًا في دار يزيد؛ فاختفيا فيه، وقمنا فخرجنا من دار عبد العزيز ابن مروان حتى تسوّرنا على كبًا كانت في زقاق عاصم بن عمرو، فقال إسماعيل بن أيوب لابنه خالد: يا بني، والله ما تجيبني نفسي إلى الوثوب، فارفعني، فرفعه.
وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: حدثني أبي قال: جاء الخبر إلى رياح وهو في دار مروان أنّ محمدًا خارج الليلة، فأرسل إلى أخي محمد بن عمران وإلى العباس بن عبد الله بن الحارث ابن العباس وإلى غير واحد. قال: فخرج أخي وخرجت معه؛ حتى دخلنا عليه بعد العشاء الآخرة، فسلمنا عليه فلم يردّ علينا، فجلسنا فقال أخي: كيف أمسى الأمير أصلحه الله! قال: بخير - بصوت ضعيف - قال: ثم صمت طويلًا ثم تنبّه، فقال: إيهًا يأهل المدينة! أمير المؤمنين يطلب بغيته في شرق الأرض وغربها؛ وهو ينتفق بين أظهركم! أقسم بالله لئن خرج لا أترك منكم أحدًا إلا ضربت عنقه. فقال أخي: أصلحك الله! أنا عذيرك منه. هذا والله الباطل، قال: فأنت أكثر من ها هنا عشيرة؛ وأنت قاضي أمير المؤمنين، فادعُ عشيرتك. قال: فوثب أخي ليخرج، فقال: اجلس، اذهب أنت يا ثابت، فوثبت، فأرسلت إلى بني زهرة ممن يسكن حشّ طلحة ودار سعد ودار بني أزهر: أن أحضروا سلاحكم. قال: فجاء منهم بشر، وجاء إبراهيم بن يعقوب بن سعد بن أبي وقاص متنكبًا قوسًا - وكان من أرمى الناس - فلما رأيت كثرتهم، دخلت على رياح، فقلت: هذه بنو زهرة في السلاح يكونون معك، ائذن لهم. قال: هيهات! تريد أن تدخل علي الرجال طروقًا في السلاح، قل لهم: فليجلسوا في الرحبة؛ فإن حدث شيء فليقاتلوا، قال: قلت لهم: قد أبى أن يأذن لكم، لا والله ما ها هنا شيء، فاجلسوا بنا نتحدث.
قال: فمكثنا قليلًا، فخرج العباس بن عبد الله بن الحارث في خيل يعس حتى جاء رأس الثنيّة، ثم انصرف إلى منزله وأغلقه عليه؛ فوالله إنا لعلى تلك الحال إذ طلع فارسان من قبل الزوراء يركضان؛ حتى وقفا بين دار عبد الله بن مطيع ورحبة القضاء في موضع السقاية. قال: قلنا: شرّ الأمر والله جدّ. قال: ثم سمعنا صوتًا بعيدًا، فأقمنا ليلًا طويلًا، فأقبل محمد بن عبد الله من المذاد ومعه مائتان وخمسون رجلًا، حتى إذا شرع على بني سلمة وبطحان، قال: اسلكوا بني سلمة إن شاء الله. قال: فسمعنا تكبيرًا؛ ثم هدأ الصوت فأقبل حتى إذا خرج من زقاق ابن حبين استبطن السوق حتى جاء على التمارين؛ حتى دخل من أصحاب الأقفاص، فأتى السجن وهو يومئذ في دار ابن هشام، فدّقه، وأخرج من كان فيه، ثم أقبل حتى إذا كان بين دار يزيد ودار أويس نظرنا إلى هول من الهؤل.
قال: فنزل إبراهيم بن يعقوب، ونكب كنانته وقال: أرمي؟ فقلنا: لا تفعل، ودار محمد بالرحبة، حتى جاء بيت عاتكة بنت يزيد، فجلس على بابها، وتناوش الناس حتى قتل رجل سندي كان يستصبح في المسجد، قتله رجل من أصحاب محمد.
قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، أخبرني جهم بن عثمان؛ قال: خرج محمد من المذاد على حمار ونحن معه، فولّى خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير الرجالة، وولّى عبد الحميد بن جعفر الحربة، وقال: اكفنيها، فحملها ثم استعفاه منها فأعفاه؛ ووجّهه مع ابنه حسن بن محمد.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني جعفر بن عبد الله بن يزيد بن ركانة قال: بعث إبراهيم بن عبد الله إلى أخيه بحملي سيوف، فوضعها بالمذاد، فأرسل إلينا ليلة خرج: وما نكون؟ مائة رجل! وهو على حمار أعرابي أسود، فافترق طريقان: طريق بطحان وطريق بني سلمة، فقلنا له: كيف نأخذ؟ قال: على بني سلمة، يسلمكم الله؛ قال: فجئنا حتى صرنا بباب مروان.
قال: وحدثني محمد بن عمرو بن رتبيل بن نهشل أحد بني يربوع، عن أبي عمرو المديني - شيخ من قريش - قال: أصابتنا السماء بالمدينة أيامًا، فلما أقلعت خرجت في غبّها متمطّرًا، فانتسأت عن المدينة؛ فإنّي لفي رحلي إذا هبط علي رجل لا أدري من أين أتى، حتى جلس إلي، وعليه أطمار له درنة وعمامة رثّة، فقلت له: من أين أقبلت؟ قال: من غنيمة لي أوصيت راعيها بحاجة لي، ثم أقبلت أريد أهلي. قال: فجعلت لا أسلك من العلم طريقًا إلا سبقني إليه وكثّرني فيه، فجعلت أعجب له ولما يأتي به، قلت: ممن الرجل؟ قال: من المسلمين، قلت: أجل، فمن أيهم أنت؟ قال: لا عليك؛ ألا تريد؟ قلت: بلى علي ذلك؛ فمن أنت؟ قال: فوثب وقال: منخرق الخفّين يشكو الوجى الأبيات الثلاثة.
قال: ثم أدبر فذهب؛ فوالله ما فات مدى بصري حتى ندمت على تركه قبل معرفته؛ فاتبعته لأسأله؛ فكأنّ الأرض التأمت عليه، ثم رجعت إلى رحلي، ثم أتيت المدينة فما غبرت إلّا يومي وليلتي؛ حتى شهدت صلاة الصبح بالمدينة، فإذا رجل يصلّي بنا، لا أعرف صوته، فقرأ: " إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا "، فلما انصرف صعد المنبر، فإذا صاحبي، وإذا هو محمد بن عبد الله بن حسن.
قال: وحدثني إسماعيل بن إبراهيم بن هود مولى قريش، قال: سمعت إسماعيل بن الحكم بن عوانة يخبر عن رجل قد سمّاه بشبيهة بهذه القصة. قال إسماعيل: فحدثت بها رجلًا من الأنبار يكنى أبا عبيد؛ فذكر أن محمدًا - أو إبراهيم - وجّه رجلًا من بني ضبة - فيما يحسب إسماعيل بن إبراهيم بن هود - ليعلم له بعض علم أبي جعفر، فأتى الرجل المسيّب وهو يومئذ على الشرط، فمتّ إليه برحمه، فقال المسيّب: إنه لا بدّ من رفعك إلى أمير المؤمنين. فأدخله على أبي جعفر فاعترف، فقال: ما سمعته يقول؟ قال:
شرّده الخوف فأزرى به ** كذاك من يكره حرّ الجلاد
قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم ابن سنان الحكمي أخو الأنصار، قال: أخبرني غير واحد أنّ مالك بن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إنّ في أعناقنا بيعةً لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على كل مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته.
وحدثني محمد بن إسماعيل، قال: حدثني ابن أبي مليكة مولى عبد الله ابن جعفر، قال: أرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر - وقد كان بلغ عمرًا - فدعاه محمد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي، أنت والله مقتول، فكيف أبايعك! فارتدع الناس عنه قليلًا، وكان بنو معاوية قد أسرعوا إلى محمد، فأتته حمادة بنت معاوية، فقالت: يا عمّ، إن أخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبّطت عنه الناس، فيقتل ابن خالي وإخوتي. قال: فأبى الشيخ إلّا النهي عنه؛ فيقال: إنّ حمّادة عدت عليه فقتلته؛ فأراد محمد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي ثم تصلي عليه! فنحّاه الحرس، وصلى عليه محمد.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: أتيَ محمد بعبيد الله ابن الحسيين بن علي بن الحسين بن علي مغمضًا عينيه، فقال: إن علي يمينًا إن رأيته لأقتللنّه. فقال عيسى بن زيد: دعني أضرب عنقه، فكفّه عنه محمد.
قال: وحدثني أيوب بن عمر، قال: حدثني محمد بن معن، قال: حدثني محمد بن خال القسري، قال: لما ظهر محمد وأنا في حبس ابن حيّان أطلقنيي؛ فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر، قلت: هذه دعوة حقّ؛ والله لأبلينّ الله فيها بلاء حسنًا، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك قد خرجت في هذا البلد؛ والله لو وقف على نقب من أنقابه مات أهله جوعًا وعطشًا؛ فانهض معي؛ فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى علي؛ فإني لعنده يومًا إذ قال لي: ما وجدنا من حرّ المتاع شيئًا أجود من شيء وجدناه عند ابن أبي فروة، ختن أبي الخصيب - وكان انتهبه - قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت حرّ المتاع! فكتبت إلى أمير المؤمنين فأخبرته بقلة من معه، فعطف علي، فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله إياه.
قال: وحدثني سعيد بن عبد الحميد بن جعفر، قال: حدثني أختي بريكة بنت عبد الحمييد، عن أبيها، قال: إني لعند محمد يومًا ورجله في حجري؛ إذ دخل عليه خوّات بن بكير بن خوّات بن جبير، فسلم عليه، فردّ عليه سلامًا ليس بالقوي، ثم دخل عليه شابٌ من قريش، فسلّم عليه فأحسن الردّ عليه، فقلت: ما تدع عصبيّتك بعد! قال: وما ذلك؟ قلت: دخل عليك سيد الأنصار فسلم فرددت عليه ردًا ضعيفًا، ودخل عليك صعلوك من صعاليك قريش فسلّم فاحتفلت في الردّ عليه! فقال: ما فعلت ذاك؛ ولكنّك تفقدت مني ما لا يتفقد أحد من أحد.
قال: وحدثني عبد الله بن إسحاق بن القاسم، قال: استعمل محمد الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على مكة، ووجّه معه القاسم بن إسحاق واستعمله على اليمن.
قال: وحدثني محمد بن إسماعيل عن أهله، أن محمدًا استعمل القاسم ابن إسحاق على اليمن وموسى بن عبد الله على الشأم، يدعوان إلهي؛ فقُتل قبل أن يصلا.
قال: وحدثني أزهر بن سعيد، قال: استعمل محمد حين ظهر عبد العزيز ابن الدراوردي على السلاح.
قال: وأخبرني محمد بن يحيى ومحمد بن الحسن بن زبالة وغيرهما، قالوا: لما ظهر محمد، قال ابن هرمة - وقد أنشد بعضهم ما لم ينشد غيره لأبي جعفر:
غلبت على الخلافة من تمنّى ** ومنّاه المضلّ بها الضلول
فأهلك نفسه سفهًا وجبنًا ** ولم يقسم له منها فتيل
ووازره ذوو طمع فكانوا ** غثاء السيل يجمعه السيول
دعوا إبليس إذ كذبوا وجاروا ** فلم يصرخهم المغوي الخذول
وكانوا أهل طاعته فولّى ** وسار وراءه منهم قبيل
وهم لم يقصروا فيها بحقّ ** على أثر المضلّ ولم يطيلوا
وما الناس احتبوك بها ولكن ** حباك بذلك الملك الجليل
تراث محمد لكم وكنتم ** أصول الحقّ إذ نفي الأصول
قال: وحدثني محمود بن معمر بن أبي الشدائد الفزاري وموهوب بن رشيد ابن حيان الكلابي، قال: قال أبو الشدائد لما ظهر محمد وتوجّه إليه عيسى:
أتتك النجائب والمقربات ** بعيسى بن موسى فلا تعجل
قال: وحدثني عيسى، قال: كان محمد آدم شديد الأدمة، أدلم جسيمًا عظيميًا؛ وكان يلقب القاري من أدمته، حتى كان أبو جعفر يدعوه محمّمًا.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني إبراهيم بن زياد بن عنبسة، قال: ما رأيت محمدًا رقيَ المنبر قطّ إلا سمعت بقعقعة من تحته؛ وإني لبمكاني ذلك.
قال: وحدثني عبد الله بن عمر بن حبيب، قال: حدثني من حضر محمدًا على المنبر يخطب؛ فاعترض بلغم في حلقه فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، فذهب ثم عاد فتنحنح، ثم عاد فتنحنح ثم نظر فلم ير موضعًا؛ فرمى بنخامته سقف المسجد فألصقها به.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، قال: حدثني إبراهيم بن علي من آل أبي رافع، قال: كان محمد تمتامًا، فرأيته على المنبر يتلجلج الكلام في صدره، فيضرب بيده على صدره، ويستخرج الكلام.
قال: وحدثني عيسى، قال: حدثني أبي، قال: دخل عيسى بن موسى يومًا على أبي جعفر، فقال: سرّك الله يا أمير المؤمنين! قال: فيم؟ قال: ابتعت وجه دار عبد الله بن جعفر من بني معاوية؛ حسن ويزيد وصالح، قال: أتفرح! أما والله ما باعوها إلّا ليثبوا عليك بثمنها.
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن عبد المدان بن عبيد الله، قال: خرج محمد بالمدينة، وقد خطّ المنصور مدينته بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة وسرت معه، فصيّح بي فلحقته، فسمت طويلًا ثم قال: يا بن الربيع، خرج محمد، قلت: أين؟ قال: بالمدينة، قلت: هلك والله وأهلك؛ خرج والله في غير عدد ولا رجال يا أمير المؤمنين؛ ألا أحدثك حديثًا حدثنيه سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي؟ قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفًا فقال: يا سعيد، من هذا الذي قاتلني في هذه الخيل؟ قلتُ: عبد الله ابن علي بن عبد الله بن عباس، قال: أيهم هو؟ عرّفه، قلت: نعم، رجل أصفر حسن الوجه رقيق الذراعين، رجل دخل عليك يشتم عبد الله بن معاوية حين هزم؛ قال: قد عرفته، والله لوددت أن علي بن أبي طالب يقاتلني مكانه؛ إن عليًّا وولده لا حظّ لهم في هذا الأمر؛ وهذا رجل من بني هاشم وابن عمّ رسول الله وابن عباس، معه ريح الشأم ونصر الشأم. يا بن جعدة، تدري ما حملني على أن عقدت لعبد الله وعبيد الله ابني مروان، وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبيد الله؟ قلت: لا، قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله؛ وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك؛ فعقدت له. فقال: أنشدك الله! أحدثك هذا ابن جعدة! قلت: ابنة سفيان بن معاوية طالق البتّة إن لم يكن حدثني ما حدثتك.
قال عمر: وحدثني محمد بن يحيى، قال: حدثني الحارث بن إسحاق، قال: خرج إلى أبي جعفر في الليلة التي ظهر فيها محمد رجل من آل أويس ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤي، فسار تسعًا من المدينة، فقدم ليلًا، فقام على أبواب المدينة، فصاح حتى نذر به، فأدخل، فقال له الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم! قال: لا بدّ لي منه، قال: أعلمنا نعلمه، فأبى، فدخل الربيع عليه فأعلمه، فقال: سله عن حاجته ثم أعلمني؛ قال: قد أبى الرجل إلا مشافهتك. فأذن له، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، خرج محمد بن عبد الله بالمدينة، قال: قتلته والله إن كنت صادقًا! أخبرني من معه؟ فسمّى له من خرج معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته، قال: أنت رأيته وعاينته؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله جالسًا. فأدخله أبو جعفر بيتًا، فلما أصبح جاءه رسول لسعيد بن دينار؛ غلام عيسى بن موسى كان يلي أموال عيسى بالمدينة، فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي فقال: لأوطئنّ الرجال عقبيك ولأغنينّك؛ وأمر له بتسعة آلاف، لكلّ ليلة سارها ألفًا.
قال: وحدثني ابن أبي حرب، قال: لما بلغ أبا جعفر ظهوره أشفق منه؛ فجعل الحارث المنجّم يقول له: يا أمير المؤمنين، ما يجزعك منه! فوالله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يومًا.
قال: وحدثني سهل بن عقيل بن إسماعيل، عن أبيه، قال: لما بلغ أبا جعفر خبره بادر إلى الكوفة، وقال: أنا أبو جعفر؛ استخرجت الثعلب من جحره.
قال: وحدثني عبد الملك بن سليمان، عن حبيب بن مرزوق، قال: حدثني تسنيم بن اعلحواري، قال: لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله، أرسل أبو جعفر إلى عبد الله بن علي وهو محبوس عنده: إنّ هذا الرجل قد خرج؛ فإن كان عندك رأي فأشر به علينا - وكان ذا رأي عندهم - فقال: إنّ المحبوس محبوس الرأي، فأخرجني حتى يخرج رأيي؛ فأرسل إليه أبو جعفر: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك؛ وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك فأرسل إليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتيَ الكوفة، فاجثم على أكبادهم؛ فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح؛ فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه؛ وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر عليك - وكان بالرّي - واكتب إلى أهل الشأم فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما يحمل البريد، فأحسن جوائزهم، ووجّههم مع سلم. ففعل.
قال: وحدثني العباس بن سفيان بن يحيى بن زياد، قال: سمعت أشياخنا يقولون: لما ظهر محمد ظهر وعبد الله بن علي محبوس، فقال أبو جعفر لإخوته: إن هذا الأحمق لا يزال يطلع له الرأي الجيّد في الحرب؛ فادخلوا عليه فشاوروه ولا تعلموه أني أمرتكم. فدخلوا عليه، فلما رآهم قال: لأمر ما جئتم؛ ما جاء بكم جميعًا وقد هجرتموني منذ دهر! قالوا: استأذنّا أمير المؤمنين فأذن لنا، قال: ليس هذا بشيء؛ فما الخبر؟ قالوا: خرج ابن عبد الله، قال: فما ترون ابن سلامة صانعًا؟ يعني أبا جعفر - قالوا: لا ندري والله، قال: إنّ البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال، فليعط الأجناد، فإن غلب فما أوشك أن يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على درهم واحد.
قال: وحدثني عبد الملك بن شيبان، قال: أخبرني زيد مولى مسمع بن عبد الملك، قال: لما ظهر محمد دعا أبو جعفر عيسى بن موسى، فقال له: قد ظهر محمد فسر إليه، قال: يا أمير المؤمنين؛ هؤلاء عمومتك حولك، فادعهم فشاورهم، قال: فأين قول ابن هرمة:
ترون أمرأً لا يمحض القوم سرّه ** ولا ينتجي الأذنين فيما يحاول
إذا ما أتى شيئًا مضى كالذي أبى ** وإن قال إني فاعل فهو فاعل
قال: وحدثني محمد بن يحيى، قال: نسخت هذه الرسائل من محمد ابن بشير؛ وكان بشير ييصححها؛ وحدثنيها أبو عبد الرحمن من كتّاب أهل العراق والحكم بن صدقة بن نزار، وسمعت ابن أبي حرب يصحّحُها؛ ويزعم أن رسالة محمد لما وردت على أبي جعفر، قال أبو أيوب: دعني أجبه عليها، فقال أبو جعفر: لا بل أنا أجيبه عنها؛ إذ تقارعنا على الأحساب فدعني وإيّاه.
قالوا: لما بلغ أبا جعفر المنصور ظهور محمد بن عبد الله المدينة كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين، إلى محمد بن عبد الله: " إنّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يقتلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أنّ الله غفور رحيم " ولك علي عهد الله وميثاقه وذمّته وذمّة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتّبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوّغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم، وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمّن كلّ من جاءك وبايعك واتبعك، أو دخل معك في شيء من أمرك، ثم لا أتبع أحدًا منهم بشيء كان منه أبدًا. فإن أردت أن تتوثّق لنفسك، فوجّه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تثق به.
وكتب على العنوان: من عبد الله عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله.
فكتب إليه محمد بن عبد الله:
بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله المهدي محمد بن عبد الله إلى عبد الله بن محمد: " طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين ونمكّن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ". وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي عرضت علي، فإنّ الحقّ حقّنا؛ وإنما ادّعيتم هذا الأمر بنا، وخرجتم له بشيعتنا، وحظيتم بفضلنا؛ وإنّ أبانا عليًّا كان الوصي وكان الإمام؛ فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء! ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا؛ لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمتّ أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل؛ وإنا بنو أمّ رسول الله فاطمة بنت عمرو في الجاهليّة ونبو بنته فاطمة في الإسلام دونك. إن الله اختارنا واختار لنا؛ فوالدنا من النبيين محمد ، ومن السلف أوّلهم إسلامًا علي، ومن الأزواج أفضلهنّ خديجة الطاهرة، وأوّل من صلّى القبلة، ومن البنات خيرهنّ فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيّدا شباب أهل الجنة؛ وإنّ هاشمًا ولد عليًا مرتين؛ وإن عبد المطلب ولد حسنًا مرتين وإن رسول الله ولدني مرّتين من قبل حسن وحسين؛ وإني أوسط بني هاشم نسبًا، وأصرحهم أبًان لم تعرّق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد؛ فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في النار؛ فأنا ابن أرفع الناس درجةً في الجنة، وأهونهم عذابًا في النار، وأنا ابن خير الأخيار، وابن خير الأشرار، وابن خير أهل الجنة وابن خير أهل النار. ولك الله علي إن دخلت في طاعتي، وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك؛ وعلى كل أمر أحدثته؛ إلا حدًا من حدود الله أو حقًا لمسلم أو معاهد؛ فقد علمت ما يلزمك من ذلك، وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد؛ لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالًا قبلي؛ فأي الأمانات تعطيني! أمان ابن هبيرة، أم أمان عمّك عبد الله بن علي، أم أمان أبي مسلم! فكتب إليه أبو جعفر: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فقد بلغني كلامك، وقرأت كتابك، فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء؛ لتضلّ به الجفاة والغوغاء؛ ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء؛ لأن الله جعل العمّ أبًا، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا. ولو كان اختيار الله لهنّ على قدر قرابتهنّ كانت آمنة أقربهنّ رحمًا، وأعظمهن حقًا؛ وأوّل من يدخل الجنة غدًا؛ ولكن اختيار الله لخلقه على علمه لما مضى منهم، واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أمّ أبي طالب وولادتها؛ فإن الله لم يرزق أحدًا من ولدها الإسلام لا بنتًا ولا ابنًا؛ ولو أن أحدًا رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله أولاهم بكلّ خير في الدنيا والآخرة؛ ولكنّ الأمر لله يختار لدينه من يشاء؛ قال: الله عز وجل: " إنك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين "؛ ولقد بعث الله محمدًا عليه السلام وله عمومة أربعة، فأنزل الله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين ". فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان أحدهما أبي، وأبى اثنان أحدهما أبوك؛ فقطع الله ولايتهما منه؛ ولم يجعل بينه وبينهما إلًّا ولا ذزّةً ولا ميراثًا. وزعمت أنك ابن أخفّ أهل النار عذابًا وابن خير الأشرار؛ وليس في الكفر بالله صغير، ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير؛ وليس في الشرّ خيار؛ ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)