إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن. فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع منها، ومنها ما ينفرد فيها. وذلك مما يدعوهم إلى المباراة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحديا إليه. ألا ترى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة، وأخبار مشهورة، وآثار منقولة مذكورة. وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة، ويتبجحون بذلك، ويتفاخرون بينهم. فلن يجوز والحال هذه أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها تحداهم أو لم يتحدهم إليها.
ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر، لوجب في ذلك أمر آخر، وهو: أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا لقبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه، وتعمل نظمه في الحال.
فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئت به وأغرب منه أو هو مثله - علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لم يوجد له نظير.
ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا، ولعرفناه، كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد، وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم، وصنوف فصاحاتهم.
فإن قيل: الذي بُني عليه الأمر في تثبيت معجزة القرآن: أنه وقع التحدي إلى الإتيان بمثله، وأنهم عجزوا عنه بعد التحدي إليه، فإذا نظر الناظر وعرف وجه النقل المتواتر في هذا الباب - وجب له العلم بأنهم كانوا عاجزين عنه، وما ذكرتم يوجب سقوط تأثير التحدي، وأن ما أتى به قد عرف العجز عنه بكل حال.
قيل: إنما احتيج إلى التحدي لإقامة الحجة، وإظهار وجه البرهان [ على الكافة ]، لأن المعجزة إذا ظهرت فإنما تكون حجة بأن يدعيها من ظهرت عليه، ولا تظهر على مدع لها إلا وهي معلومة أنها من عند الله. فإذا كان يظهر وجه الإعجاز فيها للكافة بالتحدي وجب فيها التحدي. لأنه تزول بذلك الشبهة عن الكل، وينكشف للجميع أن العجز واقع في المعارضة. وإلا كان مقتضى ما قدمناه من الفصل أن من كان يعرف وجوه الخطاب، ويفتن في مصارف الكلام، وكان كاملا في فصاحته، جامعا للمعرفة بوجوه الصناعة - لو أنه احتج عليه بالقرآن، وقيل له، إن الدلالة على النبوة والآية للرسالة ما تلوته عليك منه، لكان ذلك بالغا في إيجاب الحجة [ عليه ]، وتماما في إلزامه فرض المصير إليه.
ومما يؤكد هذا، أن النبي قد دعا الآحاد إلى الإسلام، محتجا عليهم بالقرآن، لأنا نعلم [ ضرورة ] أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا، ونعلم أن السابقين الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه، إنما دخلوا على بصيرة. ولم نعلمه قال لهم: ارجعوا إلى جميع الفصحاء، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبت حجتي.
بل لما رآهم يعلمون إعجازه، ألزمهم حكمه فقبلوه، وتابعوا الحق، وبادروا إليه مستسلمين، ولم يشكوا في صدقه، ولم يرتابوا في وجه دلالته.
فمن كانت بصيرته أقوى، ومعرفته أبلغ، كان إلى القبول منه أسبق. ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز، أو خفى عليه بعض شروط المعجزات وأدلة النبوات - كان أبطأ إلى القبول، حتى تكاملت أسبابه، واجتمعت له بصيرته، وترادفت عليه مواده.
وهذا فصل يجب أن يتمم القول فيه [ من ] بعد، فليس هذا بموضع له.
ويبين ما قلناه: أن هذه الآية علم يلزم الكل قبوله والانقياد له، وقد علمنا تفاوت الناس في إدراكه، ومعرفة وجه دلالته، لأن الأعجمي لا يعلم أنه معجز إلا بأن يعلم عجز العرب عنه. وهو يحتاج في معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم، وجرى مجراهم في توجه الحجة عليه.
وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان، من هذا الشأن، ما يعرفه العالي في هذه الصنعة. فربما حل في ذلك محل الأعجمي، في أن لا تتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهي في الصنعة عنه.
وكذلك لا يعرف المتناهي في معرفة الشعر وحده، أو الغاية في معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما - [ من ] غور هذا الشأن - ما يَعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ووجوه الكلام وطرق البراعة. فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه لعجز البارع في هذه العلوم كلها عنه.
فأما من كان متناهيا في معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التي يمكن فيها إظهار الفصاحة، فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه. وإن لم نقل ذلك أدى هذا القول إلى أن يقال: إن النبي لم يعرف إعجاز القرآن حين أوحي إليه، حتى سبر الحال بعجز أهل اللسان عنه! وهذا خطأ من القول.
فصح من هذا الوجه أن النبي حين أوحى إليه القرآن عرف كونه معجزا، أو عرف - بأن قيل له: إنه دلالة وعلم على نبوتك - أنه كذلك، من قبل أن يقرأه على غيرة أو يتحدى إليه سواه.
ولذلك قلنا: إن المتناهي في الفصاحة والعلم بالأساليب التي يقع فيها التفاصح، متى سمع القرآن عرف أنه معجز، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه، وهو يعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه، فيعلم أن عجز غيره كعجزه هو. وإن كان يحتاج بعد هذا إلى استدلال آخر على أنه علم على نبوته، ودلالة على رسالته بأن يقال له: إن هذه آية لنبي، وإنها ظهرت عليه، وادعاها معجزة له، وبرهانا على صدقه.
فإن قيل: فإن من الفصحاء من يعلم عجز نفسه عن قول الشعر، ولا يعلم مع ذلك عجز غيره عنه. فكذلك البليغ، وإن علم عجز نفسه عن مثل القرآن، فهو يخفى عليه عجز غيره.
قيل: هو مع مستقر العادة، وإن عجز عن قول الشعر، وعلم أنه مفحم، فإنه يعلم أن الناس لا ينفكون من وجود الشعراء فيهم.
ومتى علم البليغ المتناهي في صنوف البلاغات عجزه عن القرآن، علم عجز غيره عنه، وأنه كهو، لأنه يعلم أن حاله وحال غيره في هذا الباب سواء. إذ ليس في العادة مثل للقرآن يجوز أن يعلم قدرة أحد من البلغاء عليه. فإذا لم يكن لذلك مثل في العادة - وعرف هذا الناظر جميع أساليب الكلام، وأنواع الخطاب، ووجد القرآن مباينا لها - علم خروجه عن العادة، وجرى مجرى ما يعلم أن إخراج اليد البيضاء من الجيب خارج عن العادات، فهو لا يجوزه من نفسه، وكذلك لا يجوز وقوعه من غيره، إلا على وجه نقض العادة، بل يرى وقوعه موقع المعجزة. وهذا وإن كان يفارق فلق البحر، وإخراج اليد البيضاء ونحو ذلك من وجه، فهو أنه يستوى الناس في معرفة عجزهم عنه، بكونه ناقضا للعادة، من غير تأمل شديد، ولا نظر بعيد. فإن النظر في معرفة إعجاز القرآن يحتاج إلى تأمل، ويفتقر إلى مراعاة مقدمات، والكشف عن أمور نحن ذاكروها بعد هذا الموضع. فكل واحد منهما يؤول إلى مثل حكم صاحبه، في الجمع الذي قدمناه.
ومما يبين ما قلناه - من أن البليغ المتناهى في وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن، وتكون معرفته حجة عليه، إذا تحدى إليه وعجز عن مثله، وإن لم ينتظر وقوع التحدي في غيره، وما الذي يصنع ذلك بالغير - فهو ما روي في الحديث أن جبير بن مطعم ورد على النبي في مُعَنًّى حليف له، أراد أن يفاديه، فدخل والنبي يقرأ سورة { والطور وكتاب مسطور } في صلاة الفجر، قال: فلما انتهى إلى قوله: { إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع }، قال: خشيت أن يدركني العذاب. فأسلم.
وفي حديث آخر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع سورة طه فأسلم.
وقد روي أن قوله عز وجل في أول { حم } السجدة إلى قوله { فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون } نزلت في شيبة وعتبة ابني ربيعة، وأبي سفيان بن حرب، وأبي جهل. وذكر أنهم بعثوا هم وغيرهم من وجوه قريش، بعتبة بن ربيعة إلى النبي ليكلمه، وكان حسن الحديث، عجيب البيان بليغ الكلام،. وأرادوا أن يأتيهم بما عنده فقرأ النبي سورة حم السجدة، من أولها حتى انتهى إلى قوله: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }، فوثب مخافة العذاب، فاستحكوه ما سمع فذكر أنه لم يفهم منه كلمة واحدة، ولا اهتدى لجوابه. ولو كان ذلك من جنس كلامهم لم يخف عليه وجه الاحتجاج والرد. فقال له عثمان بن مظعون: لتعلموا أنه من عند الله، إذ لم يهتد لجوابه.
وأبين من ذلك قول الله عز وجل: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه }. فجعل سماعه حجة عليه بنفسه، فدل على أن فيهم من يكون سماعه إياه حجة عليه.
فإن قيل: لو كان [ كذلك ] على ما قلتم، لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا في عصر النبي ، على طريقة واحدة في إسلامهم عند سماعه.
قيل له: لا يجب ذلك، لأن صوارفهم كانت كثيرة، منها أنهم كانوا يشكون، ففيهم من يشك في إثبات الصانع، وفيهم من يشك في التوحيد، وفيهم من يشك في النبوة. ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله ليسلم عام الفتح، قال له النبي عليه السلام: أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: بلى. فشهد، قال: أما آن لك أن تشهد أني رسول الله؟ قال: أما هذه ففي النفس منها شئ.
فكانت وجوه شكوكهم مختلفة، وطرق شبههم متباينة، فمنهم من قلت شبههه وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم. ومنهم من كثرت شبهه، أو أعرض عن تأمل الحجة حق تأملها، أو لم يكن في البلاغة على حدود النهاية، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر، وراعى واعتبر، واحتاج إلى أن يتأمل عَجْزَ غيره عن الإتيان بمثله، فلذلك وقف أمره.
ولو كانوا في الفصاحة على مرتبة واحدة، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة - لتوافوا إلى القبول جملة واحدة.
فإن قيل: فكيف يعرف البليغ الذي وصفتموه إعجاز القرآن، وما الوجه الذي يتطرق به إليه، والمنهاج الذي يسلكه، حتى يقف به على جلية الأمر فيه؟ قيل: هذا سبيله أن يفرد له فصل.
فإن قيل: فلم زعتم أن البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات، وتصرفهم في أجناس الفصاحات؟ وهلا قلتم: إن من قدر على جميع هذه الوجوه البديعة بوجه من هذه الطرق الغريبة - كان على مثل نظم القرآن قادرا، وإنما يصرفه الله عنه ضربا من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضربا من المنع، أو تقصر دواعيه [ إليه ] دونه، مع قدرته عليه، ليتكامل ما أراده الله من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة، لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين، لم يعجز عن نظم مثلها، وإذا قدر على ذلك قدر على ضم الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة، حتى يتكامل قدر الآية والسورة؟
فالجواب: أن لو صح ذلك لصح لكل من أمكنه نظم ربع بيت أو مصراع من بيت أن ينظم القصائد ويقول الأشعار، وصح لكل ناطق قد يتفق في كلامه الكلمة البديعة نظم الخطب البليغة والرسائل العجيبة! ومعلوم أن ذلك غير سائغ ولا ممكن.
على أن ذلك لو لم يكن معجزا على ما وصفناه من جهة نظمه الممتنع، لكان مهما حط من رتبة البلاغة فيه، ومنع من مقدار الفصاحة في نظمه، [ كان ] أبلغ في الاعجوبة، إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا من معارضته، وعدلت دواعيهم عنه، فكان يستغنى عن إنزاله على النظم البديع، وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب.
على أنه لو كانوا صرفوا على ما ادعاه، لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية مصروفين عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنهم لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته.
فلما لم يوجد في كلامه من قبله مثله، علم أن ما ادعاه القائل " بالصرفة " ظاهر البطلان.
وفيه معنى آخر، وهو أن أهل الصنعة في هذا الشأن إذا سمعوا كلاما مطمعا لم يخف عليهم، ولم يشتبه لديهم.
ومن كان متناهيا في فصاحته لم يجز أن يطمع في مثل هذا القرآن بحال.
فإن قال صاحب السؤال: إنه قد يطمع في ذلك.
قيل له: أنت تزيد على هذا فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه، ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه ويحسبه ظان من أمره. والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ببين الغلط، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه: { إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر، ثم نظر، ثم عبس وبسر، ثم أدبر واستكبر، فقال إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر } فهم يعبرون عن دعواهم: أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله، وأن ذلك من قول البشر، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.
ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة - وإنما منع منها الصرفة - لم يكن الكلام معجزا. وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه.
وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم: أن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيبٍ لو تعلموه لوصلوا إليه به.
ولا بأعجب من قول فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.
فإن قيل: فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عز وجل معجز، كالتوراة والإنجيل والصحف؟
قيل: ليس شئ من ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وإن كان معجزا كالقرآن فيما يتضمن من الإخبار عن الغيوب.
وإنما لم يكن معجزا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولانا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.
ولمعنى آخر، وهو أن ذلك اللسان لا يتأتي فيه من وجوه الفصاحة، ما يقع به التفاضل الذي ينتهى إلى حد الإعجاز، ولكنه يتقارب.
وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة، ويقولون: ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب. ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشئ الواحد، من الأسماء ما نعرف من اللغة، وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناوله العربية، وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات، ووجوه الاستعمالات البديعة، التي يجئ تفصيلها بعد هذا.
ويشهد لذلك من القرآن: أن الله تعالى وصفه بأنه: { بلسان عربي مبين }. وكرر ذلك في مواضع كثيرة، وبين أنه رفعه عن أن يجعله أعجميا.
فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته، لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وأنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله: إنه عربي مبين، أنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم، ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم، فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضا، كما أفاد بظاهره ما قدمناه.
ويبين ذلك أن كثيرا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة، وهم من أهل البراعة فيها، وفى العربية، فقد وقفوا على أنه ليس فيها من التفاضل والفصاحة، ما يقع في العربية. ومعنى آخر، وهو أنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم، ولا ادعى لهم المسلمون. فعلم أن الإعجاز مما يختص به القرآن.
ويبين هذا أن الشعر لا يتأتي في تلك الألسنة، على ما قد اتفق في العربية. وإن كان قد يتفق منها صنف أو أصناف ضيقة، لم يتفق فيها من البديع ما يمكن ويتأتي في العربية، وكذلك لا يتأتي في الفارسية جميع الوجوه التي تتبين فيها الفصاحة على ما يتأتي في العربية.
فإن قيل: فإن المجوس تزعم أن كتاب زرادشت وكتاب ماني معجزان؟
قيل: الذي يتضمنه كتاب ماني، من طرق النيرنجات، [7] وضروب من الشعوذة، ليس يقع فيه إعجاز. ويزعمون أن في الكتاب الحِكَم، وهي حكم منقولة متداولة على الألسن، لا تختص بها أمة دون أمة، وإن كان بعضهم أكثر اهتماما بها، وتحصيلا لها، وجمعا لأبوابها.
وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة واليتمية. وهما كتابان. أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شئ بديع من لفظ ولا معنى؛ والآخر في شئ من الديانات، وقد تهوس فيه بما لا يخفى على متأمل.
وكتابه الذي بيناه في الحكم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟
وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعي مدع أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة، ثم مزق ما جمع، واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك، فقد أصاب وأبصر القصد، ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء ثم يلوح له رشده، ويتبين له أمره، وينكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه، لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته.
ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شئ من كتبها أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟
فصل في جملة وجوه إعجاز القرآن
ذكر أصحابنا وغيرهم في ذلك ثلاثة أوجه من الإعجاز:
أحدها: يتضمن الإخبار عن الغيوب، وذلك مما لا يقدر عليه البشر، ولا سبيل لهم إليه.
فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه، عليه السلام، أنه سيظهر دينه على الأديان، بقوله عز وجل: { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون }، ففعل ذلك.
وكان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله، من إظهار دينه. ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه، فكان سعد بن أبي وقاص رحمه الله وغيره من أمراء الجيوش، من جهته، يذكر ذلك لأصحابه، ويحرضهم به، ويوثق لهم، وكانوا يلقون الظفر في متوجهاتهم، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضي الله عنه، إلى بلخ، وبلاد الهند، وفتح في أيامه مرو الشاهجان، ومرو الروذ، ومنعهم من العبور إلى جيحون، وكذلك فتح في أيامه فارس إلى إصطخر، وكرمان، ومكران، وسجستان، وجميع ما كان من مملكة كسرى، وكل ما كان يملكه ملوك فارس بين البحرين من الفرات إلى جيحون، وأزال ملك ملوك الفرس، فلم يعد إلى اليوم ولا يعود أبدا، إن شاء الله تعالى، ثم إلى حدود إرمينية، وإلى باب الأبواب. وفتح أيضا ناحية الشام، والأردن، وفلسطين، وفسطاط مصر، وأزال ملك قيصر عنها، وذلك من الفرات إلى بحر مصر، وهو ملك قيصر. وغزت الخيول في أيامه إلى عمورية، فأخذ الضواحي كلها، ولم يبق منها إلا ما حجز دونه بحر، أو حال عنه جبل منيع، أو أرض خشنة، أو بادية غير مسلوكة.
وقال الله عز وجل: { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد }، فصدق فيه.
وقال في أهل بدر: { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم }. ووفى لهم بما وعد.
وجميع الآيات التي يتضمنها القرآن، من الإخبار عن الغيوب، يكثر جدا، وإنما أردنا أن ننبه بالبعض على الكل.
والوجه الثاني: أنه كان معلوما من حال النبي أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ.
وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين، وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتى بجمل ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام، إلى حين مبعثه، فذكر في الكتاب، الذي جاء به معجزة له: قصة آدم عليه السلام، وابتداء خلقه، وما صار أمره إليه من الخروج من الجنة. ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته، ثم ذكر قصة نوح عليه السلام، وما كان بينه وبين قومه، وما انتهى إليه أمرهم. وكذلك أمر إبراهيم عليه السلام، إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين في القرآن، والملوك والفراعنة الذين كانوا في أيام الأنبياء، صلوات الله عليهم.
ونحن نعلم ضرورة أن هذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم؛ وإذ كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لاهل الآثار وحملة الأخبار، ولا مترددا إلى التعلم منهم، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه - عُلم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحي. ولذلك قال الله عز وجل: { وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لا رتاب المبطلون } وقال: { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست }.
وقد بينا أن من كان يختلف إلى تعلم علم، ويشتغل بملابسة أهل صنعة، لم يخف على الناس أمره، ولم يشتبه عندهم مذهبه، وقد كان يعرف فيهم من يحسن هذا العلم، وإن كان نادرا، وكذلك كان يعرف من يختلف إليه للتعلم، وليس يخفى في العرف عالم كل صنعة ومتعلمها، فلو كان منهم لم يخف أمره.
والوجه الثالث: أنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه. والذي أطلقه العلماء هو على هذه الجملة، ونحن نفصل ذلك بعض التفصيل، ونكشف الجملة التي أطلقوها.
فالذي يشتمل عليه بديع نظمه، المتضمن للإعجاز وجوه:
منها ما يرجع إلى الجملة، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه، وتباين مذاهبه - خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد. وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم، تنقسم إلى أعاريض الشعر، على اختلاف أنواعه، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع، ثم إلى معدل موزون غير مسجع، ثم إلى ما يرسل إرسالا، فتطلب فيه الإصابة والافادة، وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع، ترتيب لطيف، وإن لم يكن معتدلا في وزنه، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل [ فيه ]، ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه، ومباين لهذه الطرق. ويبقى علينا أن نبين أنه ليس من باب السجع، ولا فيه شئ منه، وكذلك ليس من قبيل الشعر، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع، ومنهم من يدعي فيه شعرا كثيرا. والكلام عليهم يذكر بعد هذا الموضع.
فهذا إذا تأمله المتأمل تبين - بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم - أنه خارج عن العادة وأنه معجز. وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن، وتميُّز حاصل في جميعه.
ومنها أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة، والتصرف البديع، والمعاني اللطيفة، والفوائد الغزيرة، والحكم الكثيرة، والتناسب في البلاغة، والتشابه في البراعة، على هذا الطول، وعلى هذا القدر. وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة، وإلى شاعرهم قصائد محصورة، يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف، ويشملها ما نبديه من التعمل والتكلف، والتجوز والتعسف.
وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة، على ما وصفه الله تعالى به، فقال عز من قائل: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها، مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } * وقوله: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فأخبر سبحانه أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال.
وهذا المعنى هو غير المعنى الأول الذي بدأنا بذكره، فتأمله تعرف الفصل.
وفي ذلك معنى ثالث: وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين، على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها: من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج، وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة. وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع - يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور.
فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو.
ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح.
ومنهم من يسبق في التقريط دون التأبين.
ومنهم من يجود في التأبين دون التقريط.
ومنهم من يغرب في وصف الابل أو الخيل، أو سير الليل، أو وصف الحرب، أو وصف الروض، أو وصف الخمر، أو الغزل، أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وبزهير إذا رغب.
ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام.
ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت في شعره على حسب الاحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره؛ ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم، لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر، ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتي في شعرهم، لاختلاف ما يتصرفون فيه، ستغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها.
ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز، ولا يمكنه نظم القصيد أصلا. ومنهم من ينظم القصيد، ولكن يقصر [ تقصيرا عجيبا، ويقع ذلك من رجزه موقعا بعيدا. ومنهم من يبلغ في القصيدة الرتبة العالية، ولا ينظم الرجز، أو يقصر ] فيه مهما تكلفه أو تعمّله.
ومن الناس من يجود في الكلام المرسل، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا بينا. ومنهم من يوجد بضد ذلك.
وقد تأملنا نظم القرآن، فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم وبديع التأليف والرصف، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا، ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا.
وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب، من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حد واحد لا يختلف.
وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة [ تفاوتا بينا، ويختلف اختلافا كبيرا. ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ] فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة.
فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر، لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن.
ومعنى رابع: وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا في الفصل والوصل، والعلو والنزول، والتقريب والتبعيد، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عند النظم، ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع.
ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عند التنقل من معنى إلى غيره، والخروج من باب إلى سواه. حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحتري، مع جودة نظمه وحسن وصفه، في الخروج من النسيب إلى المديح، وأطبقوا على أنه لا يحسنه، ولا يأتي فيه بشئ، وإنما اتفق له في مواضع معدودة خروج يرتضى، وتنقل يستحسن.
وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شئ إلى شئ، والتحول من باب إلى باب. ونحن نفصل بعد هذا، ونفسر هذه الجملة، ونبين أن القرآن - على اختلاف [ فنونه و ] ما يتصرف فيه من الوجوه الكثيرة والطرق المختلفة - يجعل المختلف كالمؤتلف، والمتباين كالمتناسب، والمتنافر في الأفراد إلى حد الآحاد. وهذا أمر عجيب تبين به الفصاحة وتظهر به البلاغة ويخرج معه الكلام عن حد العادة، ويتجاوز العرف.
ومعنى خامس: وهو أن نظم القرآن وقع موقعا في البلاغة يخرج عن عادة كلام [ الجن، كما يخرج عن عادة كلام الإنس ]. فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا، ويقصرون دونه كقصورنا، وقد قال الله عز وجل: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }.
فإن قيل: هذه دعوى منكم، وذلك أنه لا سبيل لنا إلى أن نعلم عجز الجن عن [ الإتيان ] بمثله، وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله، وإن كنا عاجزين، كما أنهم قد يقدرون على أمور لطيفة، وأسباب غامضة دقيقة، لا نقدر نحن عليها، ولا سبيل لنا - للطفها - إليها. وإذا كان كذلك، لم يكن إلى علم ما ادعيتم سبيل.
قيل: قد يمكن أن نعرف ذلك بخبر الله عز وجل. وقد يمكن أن يقال: إن هذا الكلام خرج على ما كانت العرب تعتقده من مخاطبة الجن، وما يروون لهم من الشعر، ويحكون عنهم من الكلام، وقد علمنا أن ذلك محفوظ عندهم منقول عنهم. والقدر الذي نقلوه [ من ذلك ] قد تأملناه، فهو في الفصاحة لا يتجاوز حد فصاحة الإنس، ولعله يقصر عنها. ولا يمتنع أن يسمع كلامهم، ويقع بينهم وبينهم محاورات في عهد الأنبياء، صلوات الله عليهم، وذلك الزمان مما لا يمتنع فيه وجود ما ينقض العادات. على أن القوم إلى الآن يعتقدون مخاطبة الغيلان، ولهم أشعار محفوظة مدونة في دواوينهم. قال تأبط شرا:
وأدهم قد جبت جلبابه * كما اجتابت الكاعب الخيعلا [8]
إلى أن حدا الصبح أثناءه * ومزق جلبابه الأليلا [9]
على شيم نار تنورتها * فبت لها مدبرا مقبلا [10]
فأصبحت والغول لي جارة * فيا جارتا أنت ما أهولا
وطالبتها بضعها، فالتوت * بوجه تهول واستغولا
فمن سال أين ثوت جارتي * فإن لها باللوى منزلا
وكنت إذا ما هممت اعتزمـ * ت وأحْرِ إذا قلت أن أفعلا
وقال آخر: [11]
عشوا ناري فقلت: منون أنتم * فقالوا: الجن، قلت: عموا ظلاما
فقلت إلى الطعام فقال منهم * زعيم يحسد الإنس الطعاما
ويذكرون لامرئ القيس قصيدة مع عمرو الجني، وأشعارا لهما، كرهنا نقلها لطولها.
وقال عبيد بن أيوب:
فلله در الغول أي رفيقة * لصاحب قفر خائف يتقفر
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت * حوالى نيرانا تلوح وتزهر [12]
وقال ذو الرمة بعد قوله:
قد أعسِف النازح المجهول معسفه * في ظل أخضر يدعوا هامه البوم [13]
للجن بالليل في حافاتها زجل * كما تناوح يوم الريح عيشوم [14]
دويه ودجى ليل كأنهما * يم تراطن في حافاته الروم [15]
وقال أيضا:
وكم عرست بعد السرى من معرس * به من كلام الجن أصوات سامر [16]
وقال: ورمل عزيف الجن في عقباته * هزير كتضراب المغنين بالطبل [17]
وإذا كان القوم يعتقدون كلام الجن ومخاطباتهم، ويحكون عنهم، وذلك القدر المحكى لا يزيد أمره على فصاحة العرب، صح ما وصف عندهم من عجزهم عنه كعجز الإنس.
ويبين ذلك من القرآن: أن الله تعالى حكى عن الجن ما تفاوضوا فيه من القرآن فقال: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين } إلى آخر ما حكى عنهم فيما يتلوه.
فإذا ثبت أنه وصف كلامهم ووافق ما يعتقدونه من نقل خطابهم، صح أن يوصف الشئ المألوف بأنه ينحط عن درجة القرآن في الفصاحة.
وهذان الجوابان أسد عندي من جواب بعض المتكلمين عنه، بأنه عجز الإنس عن القرآن يثبت له حكم الإعجاز، فلا يعتبر غيره. ألا ترى أنه لو عرفنا من طريق المشاهدة عجز الجن عنه، فقال لنا قائل: فدلوا على أن الملائكة تعجز عن الإتيان بمثله، لم يكن لنا في الجواب غير هذه الطريقة التي قد بيناها.
وإنما ضعفنا هذا الجواب، لأن الذي حُكي وذكر عجز الجن والإنس عن الإتيان بمثله، فيجب أن نعلم عجز الجن عنه كما علمنا عجز الإنس عنه. ولو كان وصف عجز الملائكة عنه، لوجب أن نعرف ذلك أيضا بطريقه.
فإن قيل: أنتم قد انتهيتم إلى ذكر الإعجاز في التفاصيل، وهذا الفصل إنما يدل على الإعجاز في الجملة؟
قيل: هذا كما أنه يدل على الجملة، فإنه يدل على التفصيل أيضا، فصح أن يلحق هذا القبيل، كما كان يصح أن يلحق بباب الجمل.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)