صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 5 إلى 8 من 27

الموضوع: مقدمة ابن خلدون - الجزء الثالث


  1. #5
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    فصار حكم العلامة التي للكاتب ملغى و صورتها ثابتة إتباعاً لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يضعه و يتخير له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له و يضع العلامة المعتادة و قد يختص السلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمر قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته و من خطط الكتابة التوقيع و هو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه و فصله و يوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ و أبلغه فإما أن تصدر كذلك و إما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة و يحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه و قد كان جعفر بن يحيى يوقع في القصص بين يدي الرشيد و يرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة و فنونها حتى قيل أنها كانت تباع كل قصة منها بدينار و هكذا كان شأن الدول، و اعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد من أن يتخير أرفع طبقات الناس و أهل المرؤة و الحشمة منهم و زيادة العلم و عارضة البلاغة فأنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك و مقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب و التخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل و تطبيق مقاصد الكلام من البلاغة و أسرارها و قد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته و سائر رتبه فيقلد المال و السيف و الكتابة منهم فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم
    و أما المال و الكتابة فيضطر إلى ذلك البلاغة في هذه و الحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة و يقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده و يكون نظره منصرفاً عن نظره كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم و إن كانت لصاحب الإنشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار و تعويل السلطان و وثوقه به و استنامته في غالب أحواله إليه و تعويله على الآخر في أحوال البلاغة و تطبيق المقاصد و كتمان الأسرار و غير ذلك من توابعها. و أما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره و انتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة و أحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب و هي: أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة و حاطكم و وفقكم و أرشدكم فإن الله عز و جل جعل الناس بعد الأنبياء و المرسلين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين و من بعد الملوك المكرمين أصنافاً و إن كانوا في الحقيقة سواء و صرفهم في صنوف الصناعات و ضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم و الجواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب و المرؤات و العلم و الرزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها و تستقيم أمورها و بنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم و تعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم و لا يوجد كاف إلا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون و أبصارهم التي بها يبصرون و ألسنتهم التي بها ينطقون و أيديهم التي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصكم من فصل صناعتكم و لا نزع عنكم ما أضفاه من النغمة عليكم و ليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة و خصال الفضل المذكورة المعدودة منهم أيها الكتاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج في نفسه و يحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف و العدل و الإنصاف كتوماً للأسرار و فياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها و الطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه و إن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله و حسن أدبه و فضل تجربته
    ما يرد عليه قبل وروده و عاتبة ما يصدر عنه قبل صدور فيعد لكل أمر عدته و عتاده و يهيء لكل وجه هيئته و عادته فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب و تفقهوا في الدين و ابدأوا بعلم كتاب الله عز و جل و الفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم و ارووا الأشعار و اعرفوا غريبها و معانيها و أيام العرب و العجم و أحاديثها و سيرها فإن ذلك معين لهم على ما تسمو إليه هممكم و لا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج و ارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها و دنيها و سفساف الأمور و محاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب و نزهوا صناعتكم عن الدناءة و اربأوا بأنفسكم عن السعاية و النميمة و ما فيه أهل الجهالات و إياكم و الكبر و السخف و العظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة و تحابوا في الله عز و جل في صناعتكم و تواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل و العدل و النبل من سلفكم و إن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه و آسوه حتى يرجع إليه حاله و يثوب إليه أمره و إن أقعد أحداً منهم الكنز عن مكسبه و لقاء إخوانه فزوروه و عظموه و شاوروه و استظهروا بفضل تجربته و قديم معرفته
    و ليكن الرجل منكم على من اصطنعه و استظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده و أخيه فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصفها إلا إلى صاحبه و إن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه و ليحذر السقطة و الزلة و الملل عند تغير الحال فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء و هو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبة من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه و شكره و احتماله و خيره و نصيحته و كتمان سر و تدبير أمر ما هو جزاء لحقه و يصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه و الاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك و فقكم الله من أنفسكم في حالة الرخاء و الشدة و الحرمان و المؤاساة و الإحسان و السراء و الضراء فنعمت السيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة و إذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله و عياله أمر فليراقب الله عز و جل و ليؤثر طاعته
    و ليكن على الضعيف رفيقاً و للمظلوم منصفاً ( فإن الخلق عيال الله و أحبهم إليه أرفقهم بعياله ) ثم ليكن بالعدل حاكماً و للأشراف مكرماً و للفيء موفراً و للبلاد عامراً و للرعية متألفاً و عن أذاهم متخلفاً و ليكن في مجلسه متواضعاً حليماً و في سجلات خراجه و استقضاء حقوقه رفيقاً و إذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها و قبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن و احتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة و أجمل و سبيلة و قد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصير بسياستها التمس معرفة إخلاقها فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها و إن كانت شبوباً أتقاها من بين يديها و إن خاف منها شرودا توقاها من ناحية رأسها و إن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها و في هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس و عاملهم و جربهم و داخلهم و الكاتب يفضل أدبه و شريف صنعته و لطيف حيلته و معاملته لبن يحاوره من الناس و يناظره و يفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه و مداراته و تقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً و لا تعرف صواباً و لا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النظر و اعملوا ما أمكنكم فيه من الروية و الفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة و الاستثقال و الجفوة و يصير منكم إلى الموافقة و تصيروا منه إلى المؤاخاة و الشفقة إن شاء الله.
    و لا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه و ملبسه و مركبه و مطعمه و مشربه و بنائه و خدمه و غير ذلك من فنون أمر قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير و حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع و التبذير و استعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم و قصصته عليكم و احذروا متالف السرف و سوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر و يذلان الرقاب و يفصحان أهلهما و سيما الكتاب و أرباب الآداب و للأمور أشباه و بعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجةً و أصدقها حجةً و أحمدها عاقبةً و اعلموا أن للتدبير آفة متلفة و هو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه و رويته فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه و ليوجز في ابتدائه و جوابه و ليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله و مدفعه للتشاغل عن إكثاره و ليضرع إلى الله في صلة توفيقه و إمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه و عقله و أدبه فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته و قوة حركته إنما هو بفصل حيلته و حسن تدبيره فقد تعرض بظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز و جل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف و ذلك على من تأمله غير خاف و لا يقل أحد منكم إنه أبصر بالأمور و أحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته و مصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الألباب من رمى بالعجب وراء ظهره و رأى أن أصحابه أعقل منه و أحمد في طريقته و على كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثنأوه من غير اغترار برأيه و لا تزكية لنفسه و لا يكاثر على أخيه أو نظيره و صاحبه و عشيره و حمد الله واجب على الجميع و ذلك بالتواضع لعظمته و التذلل لعزته و التحدث بنعمته و أنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل من تلزمه النصيحة يلزمه العمل و هو جوهر هذا الكتاب و غره كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز و جل فلذلك جعلته آخره و تممته به تولانا الله و إياكم يا معشر الطلبة و الكتبة بما يتولى به من سبق عليه بإسعاده و إرشاده فإن ذلك إليه و بيده و السلالم عليكم و رحمة الله و بركاته.

    ( الشرطة ) و يسمى صاحبها لهذا العمل بأفريقية الحاكم و في دولة أهل الأندلس صاحب المدينة و في دولة الترك الوالي. و هي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة و حكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان و كان أصل و ضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال اسبدادها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها و للسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد و باستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة و ربما جعلوا إليه النظر في الحدود و الدماء بإطلاق، و أفردوها من نظر القاضي و نزهوا هذه المرتبة و قلدوها كبار القواد و عظماء الخاصة من مواليهم و لم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدماء و أهل الريب و الضرب على أيدي الرعاع و الفجرة. ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس و نوعت إلى شرقي كبرى و شرطة صغرى و جعل حكم الكبرى على الخاصة و الدماء و جعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية و الضرب على أيديهم في الظلامات و على أيدي أقاربهم و من إليه من أهل الجاه و جعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة و نصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان و رجال يتبوؤن المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه و كانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة و الحجابة. و أما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه إن لم يجعلوها عامة و كان لا يليها إلا رجالات الموحدين و كبراؤهم و لم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية ثم فسد اليوم منصبها و خرجت عن رجال الموحدين و صارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين.
    و أما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليه و أهل اصطناعهم و في دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الترك يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة و المضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد و حسم أبواب الدعارة و تخريب مواطن الفسوق و تفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية و السياسة كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة و الله مقلب الليل و النهار و هو العزيز الجبار و الله تعالى أعلم.

رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #6
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    ( قيادة الأساطيل ): و هي من مراتب الدولة و خططها في ملك المغرب و أفريقية و مرؤسة لصاحب السيف و تحت حكمه في كثير من الأحوال و يسمى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الإفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم و إنما اختصت هذه المرتبة بملك أفريقية و المغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب و على ع***ه الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الشام و على ع***ه الشمالية بلاد الأندلس و الإفرنجة و الصقالبة و الروم إلى بلاد الشام أيضاً و يسمى البحر الرومي و البحر الشامي نسبةً إلى أهل ع***ه و الساكنون بسيف هذا البحر و سواحله من ع***يه يعانون من أحواله مالا تعانيه أمة من أمم البحار فقد كانت الروم و الإفرنجة و القوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي و كانت أكثر حروبهم و متاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه و الحرب في أساطيله و لما أسف من أسف منهم إلى تلك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى أفريقية و القوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل و ملكوها و تغلبوا على البربر بها و انتزعوا من أيديهم أمرها و كان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة و سبيطلة و جلولاء و مرناق و شرشال و طنجة و كان صاحب قرطاجنة من قبليهم يحارب صاحب رومة و يبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر و المدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم و الحديث و لما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن ( صف لي البحر ) فكتب إليه: ( إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ) فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه و لم يركبه أحد من العرب إلا من افتات على عمر في ركوبه و نال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمال فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه و عنفه أنه ركب البحر للغزو و لم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه و الجهاد على أعواده و السبب في ذلك أن العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته و ركوبه و الروم و الإفرنجة لممارستهم أحواله و مرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه و أحكموا الدراية بثقافته فلما استقر الملك للعرب و شمخ سلطانهم و صارت أمم العجم خولا لهم و تحت أيديهم و تقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته و استخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً و تكررت ممارستهم للبحر و ثقافته و استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه و أنشأوا السفن فيه و الشواني و شحنوا الأساطيل بالرجال و السلاح و أمطوها العساكر و المقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر و اختصوا بذلك من ممالكهم و ثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر و على حافته مثل الشام و أفريقية و المغرب و الأندلس و أوعز الخليفة عند الملك إلى حسان بن النعمان عامل أفريقية باتخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد و منها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا و فتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه و فتحت على يد ابن الأغلب و قائده أسد بن الفرات و كانت من بعد ذلك أساطيل أفريقية و الأندلس في دولة العبيديين و الأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد و التخريب. و انتهي أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها و أسطول أفريقية كذلك مثله أو قريباً منه و كان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس و مرفأها للخط و الإقلاع بجاية و المرية و كانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد تتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه و سلاحه و مقاتلته و رئيس يدبر أمر جزيته بالريح أو بالمجاذيف و أمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم و شحنها السلطان برجاله و أنجاد عساكره و مواليه و جعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم
    و ينتظر إيابهم الفتح و الغنيمة و كان المسلمون لعهده الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه و عظمت صولتهم و سلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشي من جوانبه و امتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح و الغنائم و ملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة و منورقة و يابسة و سردانية و صقلية و قوصرة و مالطة و أقريطش و قبرص و سائر ممالك الروم و الإفرنج و كان أبو القاسم الشيعي و أبناوه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر و الغنيمة و افتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيل سنة خمس و أربعمائة و ارتجعها النصارى لوقتها و المسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثير من لجة هذا البحر و صارت أساطيلهم فيهم جائية و ذاهبة و العساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج و تثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين و انحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجالب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة و الصقالبة و جزائر الرومانية لا يعدونها و أساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته و قد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة و عدداً و اختلفت في طرقه سلماً و حرباً فلم تظهر للنصرانية فيه ألواح حتى إذا أدرك الدولة العبيدية و الأموية الفشل و الوهن و طرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية و إقريطش و مالطة فملكوها ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة و ملكوا طرابلس و عسقلان و صور و عكاء و استولوا على جميع الثغور بسواحل الشام و غلبوا على بيت المقدس و بنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم و عبادتهم و غلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس و صفاقس و وضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري
    و كانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر و ضعف شأن الأساطيل في دولة مصر و الشام إلى أن انقطع و لم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو تجاوزت في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك و بقيت بأفريقية و المغرب فصارت مختصة بها و كان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو و لا كانت لهم به كرة فكال قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس و من أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم و طاعتهم و انتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد الع***ين جميعاً. و لما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة و ملكوا الع***ين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف و أعظم ما عهد و كان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صد غيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النصارى من سواحلها و ربي عندهم و استخلصه صاحب صقلية و استكفاه ثم هلك، و ولي الجنة فأسخطه ببعض النزعات و خشي على نفسه و لحق بتونس و نزل على السند بها من بنى عبد المؤمن و أجاز مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة و الكرامة و أجزل الصلة و قلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية و كانت له آثار و أخبار و مقامات مذكورة في دولة الموحدين. و انتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة و الاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل و لا بعد فيما عهدناه و لما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر و الشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية و تطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد و الأقوات و لم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحرية
    و تعدد أساطيلهم فيه و ضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب فمنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من ملوك بني منقذ ملوك شيزر، و كان ملكها من أيديهم و أبقى عليهم في دولته فبعث عند الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب و بين مرامهم من أمداد النصرانية بثغور الشام و أصحبه كتابة إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه ( فتح الله لسيدنا أبواب المناحج و الميامن ) حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القيسي فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين و أسرها في نفسه و حملهم على مناهج البر و الكرامة و ردهم إلى مرسلهم و لم يجبه إلى حاجته من ذلك و في هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل و ما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الاستطالة و عدم عناية الدول بمصر و الشام لذلك العهد و ما بعده لشأن الأساطيل البحرية و الاستعداد منها للدولة و لما هلك أبو يعقوب المنصور و اعتلت دولة الموحدين و استولت أمهم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس و ألجأوا المسلمين إلى سيف البحر و ملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي في من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر و اشتدت شوكتهم و كثرت فيه أساطيلهم و تراجعت قوة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية و عديدهم ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة و نسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب و انقطاع الموائد الأندلسية و رجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه و المران عليه و البصر بأحواله و غلب الأمم في لجته على أعواده و صار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار و الأعوال أو قلة من الدولة تستجيش لهم أعواناً و ترضع لهم في هذا الغرض مسلكاً و بقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة و الرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء و الركوب مهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية و المسلمون يستهبون الريح على الكفر و أهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية و افتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة و أن ذلك يكون في الأساطيل و الله و لي المؤمنين و هو حسبنا و نعم الوكيل.


  • #7
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل الخامس و الثلاثون في التفاوت بين مراتب السيف و القلم في الدول

    إعلم أن السيف و القلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمر إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني و السيف شريك في المعونة و كذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتهما كما ذكرناه و يقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قذفناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف و تقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة و المدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين و يكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً و أكثر نعمة و اسنى إقطاعاً و أما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره و لم يبقى همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية و الضبط و مباهاة الدول و تنفيذ الأحكام و القلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه و تكون السيوف مهملة في مضاجع أعمالها إلا إذا أنابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة و مما سوى ذلك فلا حاجة إليها فتكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً و أعلى رتبة و أعظم نعمةً و ثروةً و أقرب من السلطان مجلساً و أكثر إليه تردداً و في خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه و النظر إلى أعطافه و تثقيف أطرافه و المباهاة بأحواله و يكون الوزراء حينئذ و أهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره. و في معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهما سنة الله في عباده و الله سبحانه و تعالى أعلم.


  • #8
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الفصل السادس و الثلاثون في شارات الملك و السلطان الخاصة به

    إعلم أن للسلطان شارات و أحوالاً تقتضيها الأبهة و البذخ فيختص بها و يتميز بانتحالها عن الرعية و البطالة و سائر الرؤساء في دولته فنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ( و فوق كل ذي علم عليم ).
    الآلة:
    فمن شارات الملك اتخاذ الآلة من نشر الألوية و الرايات و قرع الطبول و النفخ في الأبواق و القرون و قد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة و لعمري أنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه و هذا السبب الذي ذكره أرسطو أن كان ذكره فهو صحيح ببعض الاعتبارات. و أما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم و الأصوات يدركها الفرح و الطرب بلا شك فتصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب و يستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه و هذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء و الخيل بالصفير و الصريخ كما علمت و يريد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء و أنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى لأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الآلات الموسيقية لا طبلاً و لا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم و يغنون فيحركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة و لقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر و يطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها و يسارعون إلى مجال الحرب و ينبعث كل قرن إلى قرنه و كذلك زناتة من أمم المغرب يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف و يتغنى فيحرك بغنائه الجبال الرواسي و يبعث على الاستماتة من لا يظن بها و يسمون ذلك الغناء تاصو كايت و أصله كأنه فرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخبر بما حدث عنها من الفرح و الله أعلم
    و أما تكثير الرايات و تلوينها و إطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر و بما تحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام و أحوال النفوس و تنويعاتها غريبة و الله الخلاق العليم. ثم أن الملوك و الدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر و منهم مقلل بحسب أتساع الدولة و عظمها فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة و لم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب و الغزوات لعهد النبي صلى الله عليه و سلم و من بعده من الخلفاء. و أما قرع الطبول النفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزها عن غلظة الملك و رفضاً لأحواله و احتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء حتى إذا انقلبت الخلافة ملكاً و تبجحوا بزهرة الدنيا و نعيمها و لا بسهم الموالي من الفرس و الروم أهل الدول السالفة و أروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ و الترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الآلة فأخذوها و أذنوا لعمالهم في أتخاذها تنويهاً بالملك و أهله فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش و يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه و يخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات و الآلات فلا يميز بين موكب العامل و الخليفة إلا بكثرة الألوية و قلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم و نعياً على بني أمية في قتلهم و لذلك سموا المسودة، و لما افترق أمر الهاشميين و خرج الطالبيون على العباسيين من كل جهة و عصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً و سموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين و من خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان و داعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من غيرهم كالقرامطة. و لما نزع المأمون عن لبس السواد و شعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء. و أما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد و قد كانت أنه العبيدبين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود و خمسمائة من الأبواق. و أما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة و غيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب و اتخذوها من الحرير الخالص ملونة و استمروا على الإذن فيها لعمالهم حتى إذا جاءت دولة الموحدين و من بعدهم من زناتة قصروا الآلة من الطبول و البنود على السلطان و حظروها على من سواه من عماله و جعلوا لها موكبا خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة و هم فيه بين مكر و مقل باختلاف مذاهب الدول في ذلك فمنهم من يقتصر على سبعة من العدد تبركاً بالسنة كما هو في دولة الموحدين و بني الأحمر بالأندلس و منهم من يبلغ العشرة و العشرين كما هو عند زناتة و قد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول و مائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير و صغير و يأذنون للولاة و العمال و القواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء و طبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك و أما دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون راية واحدة عظيمة و في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش و الجتر و هي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات و يسمونها السناجق واحدها سنجق و هي الراية بلسانهم. و أما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها و يسمونها الكوسات و يبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان.
    و أما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً و معها قرع الأوتار من الطنابير و نفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء و طريقه في مواطن حروبهم هكذا يبلغنا عنهم و عمن وراءهم من ملوك العجم و من آياته خلق السموات و الأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين.

    السرير:
    و أما السرير و المنبر و التخت و الكرسي، فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد و لم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام و في دول العجم و قد كانوا يجلسون على أسرة الذهب و كان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما و سلامه كرسي و سرير من عاج مغشى بالذهب إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال و الترف شأن الأبهة كلها كما قلناه و أما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوقون إليه و أول من أتخذه في الإسلام معاوية و استأذن الناس فيه و قال لهم إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه و أتبعه الملوك الإسلاميون فيه و صار من منازع الأبهة و لقد كان عمرو بن العاصي بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب و يأتيه المقوقس إلى قصره و معه سرير من الذهب محمولاً على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه و هو أمامه و لا يغيرون عليه وفاءً له بما عقد معهم من الذمة و اطراحاً لأبهة الملك ثم كان بعد ذلك لبني العباس و العبيديين و سائر ملوك الإسلام شرقاً و غرباً من الأسرة و المنابر و التخوت ما عفا عن الأكاسرة و القياصرة و الله مقلب الليل و النهار.
    السكة:
    و هي الختم على الدنانير و الدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة و يضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرةً مستقيمةً بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى و بعد تقدير أشخاص الدراهم و الدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً و أن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً و لفظ السكة كان ا سماً للطابع و هي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها و هي النقوش الماثلة على الدنانير و الدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك و النظر في استيفاء حاجاته و شروطه و هي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول و هي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات و يتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة و كان ملوك العجم يتخذونها و ينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك و لم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم و لما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين و بداوة العرب و كانوا يتعاملون بالذهب و الفضة وزناً و كانت دنانير الفرس و دراهمهم بين أيديهم و يردونها في معاملتهم إلى الوزن و يتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير و الدراهم لغفلة الدولة عن ذلك
    و أمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب و أبو الزناد بضرب الدراهم و تمييز المغشوش من الخالص و ذلك سنة أربع و سبعين و قال المدائني سنة خمس و سبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست و سبعين و كتب عليها الله أحد الله الصمد ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسري في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده و قيل أول من ضرب الدنانير و الدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز و كتب عليها في أحد الوجهين بركة الله و في الآخر اسم الله ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة و كتب عليها اسم الحجاج و قدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر و ذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق و المثقال وزنه درهم و ثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل و كان السبب في ذلك أن أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة
    و كان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً و منها اثنا عشر و منها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط و ذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً و ثلاثة أسباع درهم و قيل كان منها البغلي بثمانية دوانق و الطبري أربعة دوانق و المغربي ثمانية دوانق و اليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي و الطبري اثني عشر دانقاً و كان الدرهم ستة دوانق و إن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً و إذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه و اتخذ فيه كلمات لا صوراً، لأن العرب كان الكلام و البلاغة أقرب مناحيهم و أظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها و كان الدينار و الدرهم على شكلين مدورين و الكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً و تحميداً و صلاة على النبي و آله و في الوجه الثاني التاريخ و اسم الخليفة و هكذا أيام العباسيين و العبيديين و الأمويين و أما صنهاجة فلم يتخذوا سكةً إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه و لما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ السكة الدرهم مربع الشكل و أن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه و يملأ من أحد الجانبين تهليلاً و تحميداً من الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه و اسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون و كانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد و لقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته و أما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة و إنما يتعاملون بالدنانير و الدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها و لا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل و الصلاة و اسم السلطان كما يفعله أهل المغرب ذلك تقدير العزيز العليم. و لنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم و الدينار الشرعيين و بيان حقيقة مقدارهما.


  • صفحة 2 من 7 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. الشام شامك لو الزمن ضامك .. الجزء الثالث
      بواسطة شوالأخبار في المنتدى ملتقى صـــور ســــوريا الغالية Syria photographs
      مشاركات: 3
      آخر مشاركة: 09-12-2010, 11:47 AM
    2. مقدمة ابن خلدون - الجزء الثاني
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 26
      آخر مشاركة: 08-01-2010, 01:24 AM
    3. مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 22
      آخر مشاركة: 07-29-2010, 08:26 PM
    4. تاريخ الرسل والملوك(الجزء الثالث)
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى الطلاب السوريين المغتربين في مجال الطب Medical Students
      مشاركات: 124
      آخر مشاركة: 07-26-2010, 01:16 AM
    5. معجم البلدان الجزء الثالث
      بواسطة عاشق الوطنية في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 74
      آخر مشاركة: 07-19-2010, 05:49 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1