عمرة القضاء
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما رجع رسول الله إلى المدينة من خيبر، أقام بها شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوالا؛ يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه، ثم خرج في ذي القعدة في الشهر الذي صده فيه المشركون معتمرًا عمرة القضاء مكان عمرته التي صدوه عنها؛ وخرج معه المسلمون ممن كان معه في عمرته تلك، وهي سنة سبع؛ فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه؛ وتحدثت قريش بينها أن محمدًا وأصحابه في عسر وجهد وحاجة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: اصطفوا لرسول الله عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه؛ فلما دخل رسول الله المسجد، أضطبع بردائه، وأخرج عضده اليمنى، ثم قال: رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوةً! ثم أستلم الركن. وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه حتى إذا واراه البيت منهم؛ وأستلم الركن اليماني مشى حتى يستلم الأسود، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف؛ ومشى سائرها.
وكان ابن عباس يقول: كان الناس يظنون أنها ليست عليهم؛ وذلك أن رسول الله إنما صنعها لهذا الحي من قريش للذي بلغه عنهم؛ حتى حج حجة الوداع، فرملها، فمضت السنة بها.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر؛ أن رسول الله حين دخل مكة في تلك العمرة، دخلها وعبد الله بن رواحة آخذ بخطام ناقته؛ وهو يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ** إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله ** يا رب إني مؤمن بقيله
أعرف حق الله في قبوله ** نحن قتلناكم على تأويله
كما قتلناكم على تنزيله ** ضربًا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء بن رباح ومجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله تزوج ميمونة بنت الحارث في سفره ذلك؛ وهو حرام؛ وكان الذي زوجه إياها العباس بن عبد المطلب.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله ص بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العزي بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل، في نفر من قريش في اليوم الثالث، وكانت قريش وكلته بإخراج رسول الله ص من مكة، فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فأخرج عنا، فقال لهم رسول الله ص: ما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه! قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا. فخرج رسول الله ص وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة؛ حتى أتاه بها بسرف، فبنى عليها رسول الله هنالك، وأمر رسول الله أن يبدلوا الهدى وأبدل معهم، فعزت عليهم الإبل فرخص لهم في البقر؛ ثم انصرف رسول الله ص إلى المدينة في ذي الحجة، فأقام بها بقية ذي الحجة - وولى تلك الحجة المشركون - والمحرم وصفرا وشهري ربيع، وبعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
وقال الواقدي: حدثني ابن أبي ذئب، عن الزهري، قال: أمرهم رسول الله ص أن يعتمروا في قابل قضاء لعمرة الحديبية، وأن يهدوا.
قال: وحدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: لم تكن هذه العمرة قضاءً، ولكن كان شرط على المسلمين أن يعتمروا قابلًا في الشهر الذي صدهم المشركون فيه.
قال الواقدي: قول ابن أبي ذئب أحب إلينا، لأنهم أحصروا ولم يصلوا إلى البيت.
وقال الواقدي: وحدثني عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن محمد ابن إبراهيم، قال: ساق رسول الله ص في عمرة القضية ستين بدنة.
قال: وحدثني معاذ بن محمد الأنصاري، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: حمل السلاح والبيض والرماح، وقاد مائة فرس، وأستعمل على السلاح بشير بن سعد، وعلى الخيل محمد بن مسلمة، فبلغ ذلك قريشًا فراعهم؛ فأرسلوا مكرز بن حفص بن الأخيف، فلقيه بمر الظهران، فقال له: ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا إلا بالوفاء؛ وما أريد إدخال السلاح عليهم؛ ولكن يكون قريبًا إلى. فرجع إلى قريش فأخبرهم.
قال الواقدي: وفيها كانت غزوة ابن أبي العوجاء السلمي إلى بني سليم في ذي القعدة؛ بعثه رسول الله إليهم بعد ما رجع من مكة في خمسين رجلًا، فخرج إليهم.
قال أبو جعفر: فلقيه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، بنو سليم، فأصيب بها هو وأصحابه جميعًا.
قال أبو جعفر: أما الواقدي فإنه زعم أنه نجا ورجع إلى المدينة، وأصيب أصحابه.
ثم دخلت سنة ثمان من الهجرة
ففيها توفيت - فيما زعم الواقدي - زينب ابنة رسول الله ص، عن يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر.
خبر غزوة غالب بن عبد الله الليثي بني الملوح
قال: وفيها أغزي رسول الله غالب بن عبد الله الليثي في صفر إلى الكديد إلى بني الملوح.
قال أبو جعفر: وكان من خبر هذه السرية وغالب بن عبد الله؛ ما حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري وسعيد بن يحيى بن سعيد - قال إبراهيم: حدثني يحيى بن سعيد، وقال سعيد بن يحيى: حدثني أبي - وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة؛ جميعًا عن ابن إسحاق، قال: حدثني يعقوب ابن عتبة بن المغيرة، عن مسلم بن عبد الله بن خبيب الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله غالب بن عبد الله الكلبي؛ كلب ليث، إلى بني الملوح بالكديد، وأمره أن يغير عليهم، فخرج - وكنت في سريته - فمضينا؛ حتى إذا كنا بقديد لقينا بها الحارث ابن مالك - وهو ابن البرصاء الليثي - فأخذناه فقال: إني إنما جئت لأسلم؛ فقال غالب بن عبد الله: إن كنت إنما جئت مسلمًا، فلن يضرك رباط يوم وليلة؛ وإن كنت على غير ذلك استوثقنا منك. قال: فأوثقه رباطًا ثم خلف عليه رويجلًا أسود كان معنا، فقال: أمكث معه حتى نمر عليك، فإن نازعك فأحتز رأسه. قال: ثم مضينا حتى أتينا بطن الكديد، فنزلنا عشيشية بعد العصر، فبعثني أصحابي ربيئة، فعمدت إلى تل يطلعني على الحاضر، فأنبطحت عليه - وذلك قبيل المغرب - فخرج منهم رجل، فنظر فرآني
منبطحًا على التل، فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سوادًا ما كنت رأيته أول النهار؛ فانظري لا تكون الكلاب جرت بعض أوعيتك. فنظرت فقالت: والله ما أفقد شيئًا. قال: فناوليني قوسي وسهمين من نبلي فناولته فرماني بسهم فوضعه في جنبي. قال: فنزعته فوضعته، ولم أتحرك. ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته ولم أنحرك. فقال: أما والله لقد خالطه سهماي، ولو كان ربيئة لتحرك؛ فإذا أصبحت فأتبعني سهمي فخذيهما لا تمضغهما على الكلاب، قال: فأمهلناهم حتى راحت رائحتهم، حتى إذا أحتلبوا وعطنوا سكنوا، وذهبت عتمة من الليل شننا عليهم الغارة، فقتلنا من قتلنا وأستقنا النعم؛ فوجهنا قافلين؛ وخرج صريخ القوم إلى القوم مغوثًا. قال: وخرجنا سراعًا حتى نمر بالحارث بن مالك؛ ابن البرصاء، وصاحبه؛ فأنطلقنا به معنًا، وأتانا صريخ الناس، فجاءنا ما لا قبل لنا به، حتى إذا لم يكن بيننا وبينهم إلا بطن الوادي من قديد، بعث الله عز وجل من حيث شاء سحابًا ما رأينا قبل ذلك مطرًا ولا خالًا، فجاء بما لا يقدر أحد أن يقدم عليه؛ فلقد رأيناهم ينظرون إلينا، ما يقدر أحد منهم أن يقدم ولا يتقدم؛ ونحن نحدوها سراعًا؛ حتى أسندناها في المشلل؛ ثم حدرناها عنها، فأعجزنا القوم بما في أيدينا، فما أنسى قول راجز من المسلمين؛ وهو يحدوها في أعقابها، ويقول:
أبي القاسم أن تعزبي ** في خضل نباته مغلولب
صفر أعاليه كلون المذهب
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن رجل من أسلم، عن شيخ منهم، أن شعار أصحاب رسول الله تلك الليلة كان: أمت أمت.
قال الواقدي: كانت سرية غالب بن عبد الله بضعة عشر رجلًا.
قال: وفيها بعث رسول الله العلاء بن الحضري إلى المنذر بن ساوي العبدي؛ وكتب إليه كتابًا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوي. سلام عليك؛ فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإن كتابك جاءني ورسلك. وإنه من صلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، وأستقبل قبلتنا فإنه مسلم؛ له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، ومن أبى فعليه الجزية. قال: فصالحهم رسول الله على أن على المجوس الجزية، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
قال: وفيها بعث رسول الله عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني جلندي بعمان، فصدقا النبي، وأقرا بما جاء به، وصدق أموالهما، وأخذ الجزية من المجوس.
قال: وفيها سرية شجاع بن وهب إلى بني عامر، في شهر ربيع الأول في أربعة وعشرين رجلًا، فشن الغارة عليهم، فأصابوا نعمًا وشاءً، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيرًا؛ لكل رجل.
قال: وفيها كانت سرية عمرو بن كعب الغفاري إلى ذات أطلاح، خرج في خمسة عشر رجلًا؛ حتى أنتهى إلى ذات أطلاح، فوجد جمعًا كثيرًا، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا أن يجيبوا، فقتلوا أصحاب عمرو جميعًا، وتحامل حتى بلغ المدينة.
قال الواقدي: وذات أطلاح من ناحية الشأم، وكانوا من قضاعة، ورأسهم رجل يقال له سدوس.
إسلام عمرو بن العاص
قال: وفيها قدم عمرو بن العاص مسلمًا على رسول الله ، قد أسلم عند النجاشي، وقدم معه عثمان بن طلحة العبدري، وخالد ابن الوليد بن المغيرة، قدموا المدينة في أول صفر.
قال أبو جعفر: وكان سبب إسلام عمرو بن العاص، ما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن راشد مولي ابن أبي أوس، عن حبيب بن أبي أوس، قال: حدثني عمرو بن العاص من فيه إلى أذني، قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالًا من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علوًا منكرًا. وإني قد رأيت رأيًا فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قلت: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، فلأن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد؛ وإن يظهر قومنا فنحن من قد عرفوا؛ فلا يأتينا منهم إلا خير. فقالوا: إن هذا لرأي. قلت: فأجمعوا له ما نهدي إليه - وكان أحب ما يهدي إليه من أرضنا الأدم - فجمعنا له أدمًا كثيرًا، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه؛ فو الله إنا لعنده؛ إذ جاءه عمرو بن أمية الضمري - وكان رسول الله ص قد بعثه إليه في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه - قال: فدخل عليه ثم خرج من عنده. قال: فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري، لو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه؛ فأعطانيه فضربت عنقه! فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي! أهديت لي شيئًا من بلادك؟ قلت: نعم، أيها الملك، قد أهديت لك أدمًا كثيرًا، ثم قربته إليه، فأعجبه واشتهاه؛ ثم قلت له: أيها الملك؛ إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك؛ وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا. قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربةً ظننت أنه قد كسره - يعني النجاشي - فلو انشقت الأرض لي لدخلت فيها فرقًا منه. ثم قلت: والله أيها الملك لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله! فقلت: أيها الملك، أكذاك هو؟ قال: ويحك يا عمرو! أطعني واتبعه؛ فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده.
قال: قلت: فتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده، فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي؛ وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامدًا لرسول الله لأسلم؛ فلقيت خالد ابن الوليد - وذلك قبل الفتح - وهو مقبل من مكة، فقلت: إلى أين يا أبا سليمان؟ قال: والله لقد أستقام المنسم؛ وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم؛ فحتى متى! فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على رسول الله ص، فتقدم خالد بن الوليد فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر! فقال رسول الله ص: يا عمرو، بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، وإن الهجرة تجب ما قبلها. فبايعته ثم انصرفت.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عمن لا أتهم؛ أن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، كان معهما، أسلم حين أسلما.
ذكر ما في الخبر عن الكائن
كان من الأحداث المذكورة في سنة ثمان من سني الهجرة فمما كان فيها من ذلك توجيه رسول الله ص عمرو بن العاص في جمادى الآخرة إلى السلاسل من بلاد قضاعة في ثلثمائة؛ وذلك أن أم العاص بن وائل - فيما ذكر - كانت قضاعية، فذكر أن رسول الله ص أراد أن يتألفهم بذلك، فوجهه في أهل الشرف من المهاجرين والأنصار، ثم استمد رسول الله ص، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر في مائتين، فكان جميعهم خمسمائة.
غزوة ذات السلاسل
وحدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، قال: بعث رسول الله ص عمرو بن العاص إلى أرض بلى وعذرة، يستنفر الناس إلى الشأم؛ وذلك أن أم العاص بن وائل كانت أمرأة من بلى، فبعثه رسول الله إليهم يستألفهم بذلك؛ حتى إذا كان على ماء بأرض جذام، يقال له السلاسل - وبذلك سميت تلك الغزوة ذات السلاسل - فلما كان عليه خاف، فبعث إلى رسول الله يستمده، فبعث إليه رسول الله ص أبا عبيدة ابن الجراح في المهاجرين الأولين؛ فيهم أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم، وقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا؛ فخرج أبو عبيدة حتى إذا قدم عليه، قال له عمرو بن العاص: إنما جئت مددًا لي، فقال له أبو عبيدة: يا عمرو؛ إن رسول الله قد قال لي: لا تختلفا؛ وأنت إن عصيتني أطعتك، قال: فأنا أمير عليك؛ وإنما أنت مدد لي، قال: فدونك! فصلي عمرو ابن العاص بالناس.
غزوة الخبط
قال الواقدي: وفيها كانت غزوة الخبط؛ وكان الأمير فيها أبو عبيدة ابن الجراح، بعثه رسول الله ص في رجب منها، في ثلثمائة من المهاجرين والأنصار قبل جهينة، فأصابهم فيها أزل شديد وجهد، حتى أقتسموا التمر عددًا.
وحدثنا بن عبد الرحمن، قال: حدثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار حدثه أنه سمع جابر ابن عبد الله يقول: خرجنا في بعث ونحن ثلثمائة، وعلينا أبو عبيدة بن الجراح، فأصابنا جوع، فكنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر؛ فخرجت دابة من البحر يقال لها العنبر، فمكثنا نصف شهر، نأكل منها، ونحر رجل من الأنصار جزائر، ثم نحر من الغد كذلك؛ فنهاه أبو عبيدة، فأنتهى.
قال عمرو بن دينار - وسمعت ذكوان أبا صالح قال: إنه قيس بن سعد.
قال عمرو: وحدثني بكر بن سوادة الجذامي، عن أبي جمرة، عن جابر بن عبد الله نحو ذلك، إلا أنه قال: جهدوا؛ وقد كان عليهم قيس ابن سعد، ونحر لهم تسع ركائب، وقال: بعثهم في بعث من وراء البحر؛ وإن البحر ألقي إليهم دابة؛ فمكثوا عليها ثلاثة أيام يأكلون منها ويقددون ويغرفون شحمها؛ فلما قدموا على رسول الله ص ذكروا له ذلك من أمر قيس بن سعد، فقال رسول الله: إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت، وقال في الحوت: لو نعلم أنا نبلغه قبل أن يروح لأحببنا أن لو كان عندنا منه شيء؛ ولم يذكر الخبط ولا شيئًا سوى ذلك.
حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا الضحاك بن مخلد، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله يخبر، قال: زودنا النبي ص جرابًا من تمر، فكان يقبض لنا أبو عبيدة قبضة قبضة، ثم تمرة تمرة، فنمصها ونشرب عليها الماء إلى الليل؛ حتى نفد ما في الجراب، فكنا نجني الخبط، فجعنا جوعًا شديدًا. قال: فألقي لنا البحر حوتًا ميتًا، فقال أبو عبيدة: جياع كلوا، فأكلنا - وكان أبو عبيدة ينصب الضلع من أضلاعه فيمر الراكب على بعيره تحته، ويجلس النفر الخمسة في موضع عينه - فأكلنا واد هنا حتى صلحت أجسامنا، وحسنت شحماتنا؛ فلما قدمنا المدينة قال جابر: فذكرنا ذلك للنبي ، فقال: كلوا رزقًا أخرجه الله عز وجل لكم معكم منه شيء؟ - وكان معنا منه شيء - فأرسل إليه بعض القوم فأكل منه.
قال الواقدي: وإنما سميت غزوة الخبط، لأنهم أكلوا الخبط حتى كأن أشداقهم أشداق الإبل العضهة.
قال: وفيها كانت سرية وجهها رسول الله ص في شعبان، أميرها أبو قتادة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، قال: تزوجت أمرأة من قومي، فأصدقتها مائتي درهم، فجئت رسول الله أستعينه على نكاحي، فقال: وكم أصدقت؟ قلت: مائتي درهم يا رسول الله، قال: سبحان الله! لو كنتم إنما تأخذون الدراهم من بطن واد ما زدتم! والله ما عندي ما أعينك به. قال: فلبثت أيامًا؛ وأفبل رجل من بني جشم بن معاوية يقال له رفاعة بن قيس - أو قيس بن رفاعة - في بطن عظيم من جشم؛ حتى نزل بقومه ومن معه بالغابة؛ يريد أن يجمع قيسًا على حرب رسول الله ص.
قال: وكان ذا أسم وشرف في جشم. قال: فدعاني رسول الله ص ورجلين، من المسلمين فقال: أخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتونا به؛ أو تأتونا منه بخبر وعلم. قال: وقدم لنا شارفًا عجفاء، فحمل عليها أحدنا؛ فو الله ما قامت به ضعفًا حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى أستقلت وما كادت. ثم قال: تبلغوا على هذه وأعتقبوها.
قال: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النبل والسيوف؛ حتى جئنا قريبًا من الحاضر عشيشية مع غروب الشمس، فكمنت في ناحية، وأمرت صاحبي، فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا سمعتماني قد كبرت وشددت على العسكر فكبرا وشدا معي.
قال: فو الله إنا لكذلك ننتظر أن نرى غرة أو نصيب منهم شيئًا، غشينا الليل حتى ذهبت فحمة العشاء؛ وقد كان لهم راع قد سرح في ذلك البلد، فأبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه.
قال: فقام صاحبهم ذلك رفاعة بن قيس، فأخذ سيفه، فجعله في عنقه ثم قال: والله لأتبعن أثر راعينا هذا؛ ولقد أصابه شر. فقال نفر ممن معه: والله لا تذهب، نحن نكفيك! فقال: والله لا يذهب إلا أنا، قالوا: فنحن معك، قال: والله لا يتبعني منكم أحد.
قال: وخرج حتى مر بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده، فو الله ما تكلم، ووثبت إليه فأحتززت رأسه، ثم شددت في ناحية العسكر وكبرت؛ وشد صاحباي وكبرا؛ فو الله ما كان إلا النجاء ممن كان فيه عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم؛ وما خف معهم من أموالهم.
قال: فأستقنا إبلًا عظيمة، وغنمًا كثيرة، فجئنا بها إلى رسول الله ص، وجئت برأسه أحمله معي، قال: فأعانني رسول الله ص من تلك الإبل بثلاثة عشر بعيرًا، فجمعت إلى أهلي.
وأما الواقدي، فذكر أن محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، حدثه عن أبيه، أن النبي ص بعث ابن أبي حدرد في هذه السرية مع أبي قتادة، وأن السرية كانت ستة عشر رجلًا، وأنهم غابوا خمس عشرة ليلة، وأن سهمانهم كانت أثنى عشر بعيرًا يعدل البعير بعشر من الغنم، وأنهم أصابوا في وجوههم أربع نسوة؛ فيهن فتاة وضيئة، فصارت لأبي قتادة، فكلم محمية بن الجزء فيها رسول الله ص، فسأل رسول الله ص أبا قتادة عنها، فقال: أشتريتها من المغنم، فقال: هبها لي، فوهبها له، فأعطاها رسول الله محمية بن جزء الزبيدي.
قال: وفيها أغزي رسول الله في سرية أبا قتادة إلى بطن إضم. حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي. وقال بعضهم عن ابن القعقاع - عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد، قال: بعثنا رسول الله إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم - وكانت قبل الفتح - مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له ووطب من لبن. فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة الليثي لشيء كان بينه وبينه؛ فقتله وأخذ بعيره ومتيعه، فلما قدمنا على رسول الله فأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: " يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية.
وقال الواقدي: إنما كان رسول الله بعث هذه السرية حين خرج لفتح مكة في شهر رمضان، وكانوا ثمانية نفر.
ذكر الخبر عن غزوة مؤتة
قال ابن إسحاق - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة عنه، قال: لما رجع رسول الله إلى المدينة من خيبر؛ أقام بها شهري ربيع، ثم بعث في جمادى الأولى بعثه إلى الشأم الذين أصيبوا بمؤتة.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى من سنة ثمان؛ وأستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد حارثة فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.
فتجهز الناس، ثم تهيئوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس أمراء رسول الله وسلموا عليهم وودعوهم؛ فلما ودع عبد الله بن رواحة مع من ودع من أمراء رسول الله بكى، فقالوا له: ما يبكيك يا بن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم؛ ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا ". فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود! فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ** وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً ** بحرية تنفذ الأحشاء والكبدا
حتى يقولوا إذا مروا على جدثي ** أرشدك الله من غاز وقد رشدا!
ثم إن القوم تهيئوا للخروج فجاء عبد الله بن رواحة إلى رسول الله فودعه، ثم خرج القوم، وخرج رسول الله يشيعهم؛ حتى إذا ودعهم وانصرف عنهم، قال عبد الله بن رواحة:
خلف السلام على أمرئ ودعته ** في النخل خير مشيع وخليل
ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشأم؛ فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وأنضمت إليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلى في مائة ألف منهم؛ عليهم رجل من بلى، ثم أحد إراشة، يقال له: مالك بن رافلة، فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى رسول الله ونخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا برجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم؛ والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فأنطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين؛ إما ظهور؛ وإما شهادة، فقال الناس: قد والله صدق ابن رواحة. فمضى الناس، فقال عبد الله بن رواحة في محبسهم ذلك:
جلبنا الخيل من آجام قرح ** تغر من الحشيش لها العكوم
حذوناها من من الصوان سبتًا ** أزل كأن صفحته أديم
أقامت ليلتين على معان ** فأعقب بعد فترتها جموم
فرحنا والجياد مسومات ** تنفس في مناخرها السموم
فلا وأبي، مآب لنأتينها ** ولو كانت بها عرب وروم
فعبأنا أعنتها فجاءت ** عوابس والغبار لها بريم
بذي لجب كأن البيض فيه ** إذا برزت قوانسها النجوم
فراضية المعيشة طلقتها ** أسنتنا فتنكح أو تئيم
ثم مضى الناس حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيمًا لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو يتمثل أبياته هذه:
إذا أديتني وحملت رحلي ** مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذم ** ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ** بأرض الشؤم مشتهي التواء
وردك كل ذي نسب قريب ** إلى الرحمن منقطع الإخاء
هنالك لا أبالي طلع بعل ** ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهن منه بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع! يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل! ثم قال عبد الله في بعض شعره وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذبل ** تطاول الليل هديت فأنزل
قال: ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب، بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف. ثم دنا العدو، وأنحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة؛ فألتقى الناس عندها، فتعبأ المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلًا من بني عذرة، يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلًا من الأنصار يقال له عباية بن مالك، ثم ألتقى الناس؛ فأقتتلوا؛ فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله حتى شاط في رماح القوم؛ ثم أخذها جعفر بن أبي طالب؛ فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال أقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام فرسه.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة وأبو تميملة، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، قال: حدثني أبي الذي أرضعني - وكان أحد بني مرة بن عوف، وكان في تلك الغزوة غزوة مؤتة - قال: والله لكأني أنظر إلى جعفر حين أقتحم عن فرس له شقراء؛ فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل؛ فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة؛ ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ** طائعةً أو فلتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ** مالي أراك تكرهين الجنه!
قد طالما قد كنت مطمئنه ** هل أنت إلا نطفة في شنه!
وقال أيضًا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ** هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ** إن تفعلي فعلهما هديت
قال: ثم نزل؛ فلما نزل أتاه ابن عم له بعظم من لحم؛ فقال: شد بها صلبك؛ فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت؛ فأخذه من يده؛ فأنتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا! ثم ألقاه من يده، وأخذ سيفه؛ فتقدم فقاتل حتى قتل؛ فأخذ الراية ثابت بن أقرم؛ أخو بلعجلان؛ فقال: يا معشر المسلمين أصطلحوا على رجل منكم، فقالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل؛ فأصطلح الناس على خالد بن الوليد؛ فلما أخذ الراية دافع القوم؛ وحاشى بهم، ثم أنحاز وتحيز عنه حتى انصرف بالناس.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 4 (0 من الأعضاء و 4 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)