وما كل ذي لبٍ بمؤيتك نصحه
وما كل مؤتٍ نصحه بلبيب وفي كتاب سيبويه نصف هذا البيت الآخر، وهو في باب الإدغام لم يسم قائله. وزعم غيره أنه لأبي الأسود الدؤلي. ويقال: إن يعقوب بن داود وزير المهدي تحامل بشار حتى قتل، واختلف في سنه: فقيل كان يومئذ ابن ثمانين سنة، وقيل أكثر، والله العالم بحقيقة الأمر،ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار، وإنما ذكرت ما ذكرت فيما تقدم لأني عقدته بمشيئة الله، وإن الله لحليم وهاب.
وذكر صاحب كتاب الورقة جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة، وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم، بها علام الغيوب. وكانت تلك الحال تكتم في ذلك الزمان خوفاً من السيف، فالآن ظهر نجيث القوم، وانغاصت التريكة عن أخبث رأل.
وكان في ذلك العصر رجل له أصدقاء من الشيعة وصديق زنديق، فدعا المتشيعة في بعض الأيام، فجاء الزنديق فقرع حلقة الباب وقال:
أصبحت جم بلابل الصدر
متقسم الأشجان والفكر قال صاحب المنزل: ويحك! مم ذا؟ فتركه الزنديق ومضى، فلقيه صاحب المأدبة فقال له: يا هذا، أردت أن توقعني فيما أكره( خوفاً من أن يظن أصدقاؤه أنه زنديق) فقال: ادعهم ثانية وأعملني بمكانهم. فلما حصلوا عنده، جاء الزنديق فقال:
أصبحت جم بلابل الصدر
متقسم الأشجان والفكر فقالوا: ويحك! مما ذا؟ فقال:
مما جناه على أبي حسن
عمر وصاحبه أبو بكر وانصرف. ففرح الشيعة بذلك، ولقيه صاحب المنزل فقال: جزيت عني خيراً، فقد خلصتني من الشبهة! وكان يجلس في مجلس البصرة جماعة من أهل العلم، وكان فيهم رجل زنديق له سيفان، قد سمى أحدهما " الخير " والآخر " الفلح " فإذا سلم عليه رجل من المسلمين قال: صبحك الخير ومساك الفلح ثم يلتفت لأصحابه الذين قد عرفوا مكان السيفين فيقول:
سيفان كالبرق إذا البرق لمح
فأما قول الحكمي: تيه مغن وظرف زنديق فقد عيب عليه هذا المعنى، وقيل: إنه أراد رجلاً من بني الحارث كان معروفاً بالزندقة والظرف، وكان له موضع من السلطان،وقوله في صدر هذا البيت:
نديم قيلٍ محدثه ملكٍ
فهو نحو من قول امريْ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
إثماً من الله ولا واغل وليس ينبغي أن يحمل على قول من وقف على الهاء كما قال: يا بيذره، يا بيذره، يا بيذره وكما قال الآخر:
يا رب أباز من العصم صدع
تقبض الظل عليه فاجتمع لما رأى ألا دعه ولا شبع
مال إلى أرطأة حقف فاضطجع لأن هذأ حسن فيه إظهار الهاء، إذ كان الكلام تاماً يحسن عليه السكوت، وقوله: محدثه ملك، مضاف ومضاف إليه، فلا يحسن فيه مثل ذلك، إذ كان الاسمان كاسم واحد.
[عدل] صالح بن عبد القدوس
وأما صالح بن عبد القدوس فقد شهر بالزندقة، ولم يقتل، ولله العلم، حتى ظهرت عنه مقالات توجب ذلك. ويروى لأبيه عبد القدوس:
كما أهلكت ملكة من زائرٍ
خربها الله وأبياته لا رزق الرحمن أحياءها
وأشوت الرحمة أمواتها وقد كان لصالح ولد حبس على الزندقة حبساً طولاً، وهو الذي يروى له:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى إذا ما أتانا زائر متفقد
فرحنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا وأما رجوعه عن الزندقة لما أحس بالقتل، فإنما ذلك على سبيل الختل. فصلى الله على محمد، فقد روي عنه أنه قال: " بعثت بالسيف، والخير في السيف، والخير بالسيف " . وفي حديث آخر: لا تزال أمتي بخير ما حملت السيوف " . والسيف حمل صالحاً على التصديق، ورده عن رأي الزنديق، وتلك آية من آيات الله إذا هي ظهرت للنفس الكافرة، فقد فني لا ريب زمانها، ولا يقبل هناك إيمانها: " لم تكن آمنت من قبل " وللسفه طل ووبل.
وأما " القصار " فجهل يجمع ويصار، ولو تبع حقاً مقروباً، لكفي سماً مشروباً، ولكن الغرائز أعاد، ولا بد من لقاء الميعاد.
وأما المنسوب إلى الصناديق، فإنه يحسب من الزناديق. وأحسبه الذي كان يعرف بالمنصور، ظهر سنة سبعين ومائتين، وأقام برهة باليمن، وفي زمانه كانت القيان تلعب بالدف وتقول:
خذي الدف يا هذه والعبي
وبثي فضائل هذا النبي تولى نبي بني هاشم
وقام نبي بني يعرب فما نبتغي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب إذا القوم صلَّوا فلا تنهضي
وإن صوّموا فكلي واشربي ولا تحرمي نفسك المؤمنين
من أقربين ومن أجنبي فكيف حللت لذاك الغريب
وصرت محرمة للأب؟ أليس الغراس لمن ربّه
وروّاه في عامه المجدب؟ وما الخمر إلا كماء السحا
ب طلق، فقد ست من مذهب فعلى معتقد هذه المقالة بهلة المبتهلين. وهذه الطبقة، لعنها الله، تستعبد الطغام بأصناف مختلفة، فإذا طمعت في دعوى الربوبية لم تتئب في الدعوى، ولا لها عما قبح رعوى، وإذا علمت أن في الإنسان تميزاً، أرته إلى ما يحسن تحيزاً. وقد كان باليمن رجل يحتجب في حصن له، ويكون الواسطة بينه وبين الناس خادماً له أسود قد سماه جبريل، فقتله الخادم في بعض الأيام وانصرف. فقال بعض المجان:
تبارك الله في علاه
فر من الفسق جبرئيل فظل من تزعمون رباً
وهو على عرشه قتيل ويقال إنه حمله على ذلك ما كان يكلفه من الفسق.
وإذا طمع بعض هؤلاء، فإنه لا يقتنع بالإمامة ولا النبوة. ولكنه يرتفع صعداً في الكذب، ويكون شربه من تحت العذب ( أي الطُّحلب.) ولم تكن العرب في الجاهلية تقدم على هذه العظائم، والأمور غير النظائم. بل كانت عقولهم تجنح إلى رأي الحكماء. وما سلف من كتب القدماء. إذ كان أكثر الفلاسفة لا يقولون بنبي، وينظرون إلى من زعم ذلك بعين الغبي.
وكان ربيعة بن أمية بن خلفٍ الجمحي، جرى له مع أبي بكر الصديق، رحمة الله عليه، خطب، فلحق بالروم، ويروى أنه قال:
لحقت بأرض الروم غير مفكرٍ
بترك صلاة من عشاء ولا ظهرِ فلا تتركوني من صبوح مدامةٍ
فما حرم الله السلاف من الخمرِ إذا أمرت تيم بن مرة فيكم
فلا خير في أرض الحجاز ولا مصرِ فإن يك إسلامي هو الحق والهدى
فإني قد خليته لأبي بكرِ وافتن الناس في الضلالة حتى استجازوا دعوى الربوبية، فكان ذلك تنطساً في الكفر، وجمعاً للمعصية في المزاد الوفر. وإنما كان أهل الجاهلية يدفعون النبوة ولا يجاوزون ذلك إلى سواه.
ولما أجلى عمر بن الخطاب، رحمة الله عليه، أهل الذمة عن جزيرة العرب، شق ذلك على الجالين، فيقال إن رجلاً من يهود خيبر يعرف بسمير بن أدكن قال في ذلك:
يصول أبو حفصٍ علينا بدرةٍ
رويدك إن المرء يطفو ويرسب كأنك لم تتبع حمولة ماقطٍ
لتشبع، إن الزاد شيء محبب فلو كان موسى صادقاً ما ظهرتم
علينا ولكن دولة ثم تذهب ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا
لنا رتبة البادي الذي هو أكذب مشيتم على آثارنا في طريقنا
وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
وما زال اليمن منذ كان، معدناً للمتكسبين بالتدين، والمحتالين على السحت بالتزين. وحدثني من سافر إلى تلك الناحية، أن به اليوم جماعة كلهم يزعم أنه القائم المنتظر، فلا يعدم جباية من مالٍ، يصل بها إلى خسيس الآمال.
وحكي لي أن للقرامطة بالأحساء بيتاً يزعمون أن إمامهم يخرج منه، ويقيمون على باب ذلك البيت فرساً بسرجٍ ولجام، ويقولون للهمج والطغام: هذا الفرس لركاب المهدي، يركبه متى ظهر بحق بديٍ. وإنما غرضهم بذلك خدعُ وتعليل، وتوصل إلى المملكة وتضليل. ومن أعجب ما سمعت أن بعض رؤساء القرامطة في الدهر القديم، لما حضرته المنية جمع أصحابه وجعل يقول لهم لما أحس بالموت: إني قد عزمت على النقلة، وقد كنت بعثت موسى وعيسى ومحمداً، ولا بد لي أن أبعث غير هؤلاء! فعليه اللعنة، لقد كفر أعظم الكفر، في الساعة التي يجب أن يؤمن فيها الكافر، ويؤوب إلى آخرته المسافر.
وأما الوليد بن يزيد فكان عقله عقل وليد، وقد بلغ سن الكهل الجليد، ما أغنته نية سابجة، ولا نفعت البنابجة. وشغل عن الباطية، بجريرة النفس الخاطية. دحاه إلى سقر داحٍ، فما يغترف بالأقداح. وقد رويت له أشعار، يلحق به منها العار، كقوله:
أدنيا مني خليلي
عبد لا دون الإزار فلقد أيقنت أني
غير مبعوثٍ لنار واتركا من يطلب الجن
ة يسعى في خسار سأروض الناس حتى
يركبوا دين الحمار فالعجب لزمان صير مثله إماماً، وأورده من المملكة جماماً ولعل غيره ممن ملك يعتقد مثله أو قريباً، ولكن يساتر ويخاف تثريباً. ومما يروى له:
أنا الإمام الوليد مفتخراً
أجر بردي، وأسمع الغزلا أسحب ذيلي إلى منازلها
ولا أبالي من لام أو عذلا ما العيش إلى سماع محسنةٍ
وقهوة تترك الفتى ثملا لا أرتجي الحور في الخلود وهل
يأمل حور الجنان من عقلا؟ إذا حبتك الوصال غانية
فجازها بذلها كمن وصلا ويقال إنه لما أحيط به، دخل القصر وأغلق بابه وقال:
دعوا لي هنداً والرباب وفرتنى
ومسمعة، حسبي بذلك مالا خذوا ملككم، لا ثبت الله ملككم
فليس يساوي بعد ذاك عقالا وخلوا سبيلي قبل عير وما جرى
ولا تحسدوني أن أموت هزالا فألب عن تلك المنزلة أي ألب، ورئي رأسه في فم كلب. كذلك نقل بعض الرواة، والله القائم بجزاء الغواة. ولا حيلة للبشر في أم دفرٍ، أعيت كل حضرٍ وسفرٍ. كان حق الخلافة أن تفضي إلى من هو بنسكٍ معروف، لا تصرفه عن الرشد صروف، ولكن البلية خلقت مع الشمس، فهل يخلص من سكن في رمس؟ وأما أبو عيسى بن الرشيد، فليس بالناشد ولا النشيد. وإن صح ما روي عنه فقد باين بذلك أسلافه، وأظهر لأهل الديانة خلافه.
وما يحفل ربه بالعبيد صائمين للخيفة ولا مفطرين، ولكن الإنس غدوا محظرين. وربما كان الجاهل أو المتجاهل، ينطق بالكلمة وخلده بضدها آهل، وإنما أقول ذلك راجياً أن أبا عيسى ونظراءه، لم يتبعوا في الغي أمراءه، وأنهم على سوى ما علن يبيتون، لقد وعظهم الميتون.
ورأى بعضهم عبد السلام بن رغبان، المعروف بديك الجن، في النوم وهو بحسن حالٍ، فذكر له الأبيات الفائية التي فيها:
هي الدنيا، وقد نعموا بأخرى
وتسويف الظنون من السواف أي ( الهلاك ) فقال: إنما كنت أتلاعب بذلك ولم أكن أعتقده. ولعل كثيراً ممن شهر بهذه الجهالات تكون طويته إقامة الشريعة، والإرتاع برياضها المريعة. فإن اللسان طماحُ، وله بالفند إسماح. وكان أبو عيسى المذكور يستحسن شعره في البيتين والثلاثة، وأنشد له الصولي في نوادره:
لساني كتومُ لأسراره
ودمعي نموم بسري مذيع ولولا دموعي، كتمت الهوى
ولولا الهوى، لم يكن لي دموع فإن كان فر من صيام شهر. فلعله يقع في تعذيب الدهر، و " لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " .
وأما الجنابي فلو عوقب بلد بمن يسكنه، لجاز أن تؤخذ به " جنابة " ، ولا يقبل لها إنابة. ولكن حكم الكتاب المنزل أجدر وأحرى: " ألا تزر وازرة وزر أخرى " . وقد اختلف في حديث الركن معه: فزعم من يدعي الخبرة به أنه أخذه ليعبده ويعظمه، لأنه بلغه أنه يد الصنم الذي جعل على خلق زحل. وقيل: جعله موطئاً في مرتفق، وهذا تناقض في الحديث. وأي ذلك كان، فعليه اللعنة ما رسا " ثبير " وهمى صبير.
وأما العلوي البصريّ فذكر بعض الناّس أنّه كان قبل خروجه يذكر أنّه من عبد القيس ثمَّ من أنمار. وكان أسمه أحمد، فلمّا خرج تسمّى عليّاً. والكذب كثير جمّ، كأنه في النَّظر طود أشم؛ والصدّق لديه كالحصاة، توطأ بأقدام عصااة. تلك الأبيات المنسوبة إليه مشهورة وهي:
أيا حرفة الزمني ألم بك الرّدى
أمالي لي خلاص منك والشمَّل جامع لئن قنعت نفسي بتعليم صبية
يد الدهّر إني بالمذلة قانع وهل يرضين حرُّ بتعليم صبية
وقد ظنَّ أنَّ الرزَّق في الأرض واسع؟ وما أمنع أن يكون حملة حب الحطام، على أن غرق في بحرٍ طامٍ، يسبح فيه ما دامت السموات والأرض إلاّ ما شاء ربَّك إن ربكَّ فعَّال لما يريد. وقد رويت له أبيات تدل على تألهٍ، وما أدفع أن تكون قيلت على لسانه، لأن من خبر هذا العالم حكم عليه بفجور ومين، وأخلاق تبعد من الزَّين. والأبيات:
قتلت النّاس إشقاقاً
على نفسي كي تبقى وحزت المال بالسَّيف
لكي أنعم لا أشقى فمن أبصر مثواي
فلا يظلم إذاً خلقا فواويلي إذا ما متُّ
عند الله ما ألقى أخلداً في جوار اللّ
ه أم في ناره ألقى؟ وأنشدني بعضهم أبياتاً قافَّية طويلة الوزن، وقافيتها مثل هذه القافية، قد نسبت إلى عضد الدّولة. وقيل إنّه أفاق في بعض الأيّام، فكتبها على جدار الموضع الذي كان فيه، وقد نحي بها نحو أبيات البصريّ. وأشهد أنَّها متكلَّفة، صنعها رقيع من القوم، وأنّ عضد الدولة ما سمع بها قط.
وأمَّا الحكاية عن أصحاب الحديث أنَّهم صحفوا زخمة فقالوا: رحمة، فلا أصدَّق بما يجري مجراها، والكذب غالب ظاهر، والصدق، خفي متضائل، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكذلك أدعاء من يدَّعي أنَّ علياً، عليه السلام، قال: تهلك البصرة بالزنج؛ فصحَّفها أهل الحديث: بالريح، لا أؤمن بشيء من ذلك. ولم يكن عليّ، عليه السلام، ولا غيره ممن يكشف له علم الغيب، وفي الكتاب العزيز: قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وفي الحديث المأثور: أنه سمع جواري يغنيَّن في عرس ويقلن:
وأهدى لنا أكبشاً
تبحبح في المربد وزوجك في النّادي
ويعلم ما في غد فقال: لا يعلم ما في غدٍ إلاالله. ولا يجوز أن يخبر منذ مائة سنة أن أمير حلب، حرسها الله، في سنة أربع وعشرين وأربعمائة، أسمه فلان بن فلان، وصفته كذا؛ فإن أدعى ذلك مدّعٍ فإنمّا هو متخرِّص كاذب. وأمّا النجوم فإنمّا لها تلويح لا تصريح، وحكي أنَّ الفضل ابن سهل كان يتمثل كثيراً بقول الراّجز:
لئن نجوت و نجتْ ركائبي
من غالبٍ من لفيف غالب إنّي لنجَّاء من الكرائب وأنّ غالباً كان فيمن قتله، فهذا ينَّفق مثله. وأجدر بهذه الحكاية أن تكون مصنوعة. فأما تمثله بالشعر فغير مستنكر، وربما أتفق أن يكون في الوقت جماعة يسمون بهذا الاسم، فيمكن أن يقترن معنى بلفظٍ، على أنَّ في الأيام عجائب، وفوق كلّ ذي علم عليم.
وقد حكي أنَّ إياس بن معاوية القاضي كان يظن الأشياء فتكون كما ظن، ولهذه العلَّة قالوا: رجل نقاب وألمعيَّ، قال أوس:
الألمعيّ الذي يظن بك الظ
ن كأن قد رأى وقد سمعا وقال: نقاب يحدِّث بالغائب. فأمّا الحسين بن منصور فليس جهله بالمحصور. وإذا كانت الأمةّ ربّما عبدت الحجر، فكيف يأمن الحصيف البجر؟ أراد أن يدير الضّلالة على القطب، فانتقل عن تدبير العطب، ولو انصرف إلى علاج البرس، ما بقي ذكر عنه في طرس، ولكنّها مقادير، تغشى النّاظر بها سمادير. فكون ابن آدم حصاة أو صخرة، أجمل به أن يجعل سخرةّ. والنّاس إلى الباطل سراع، ولهم إلى الفتن إشراع.
وكم افتري للحلاج، والكذب كثير الخلاج، وجميع ما ينسب إليه مما لم تجر العادة بمثله فإنّه الميّن الحنبريت، لا أصدّق به ولو كريت. وممّا يفتعل عليه أنّه قال للّذين قتلوه: أتظنون انكم إيّاي تقتلون؟ أنمّا تقتلون بغلة المادراني وأنّ البغلة وجدت في إصطبلها مقتولة.
وفي الصّوفية إلى اليوم من يرفع شأنه، ويجعل من النجَّم مكانه. وبلغني أنَّ ببغداد قوماً ينتظرون خروجه. وأنهم يقفون بحيث صُلب على دجلة يتوقَّعون ظهوره. وليس ذلك ببدع من جهل النّاس، ولو عبد عابد ظبي كناس، فقد نزل حظ على قرد، فظفر بأكرم الورد. وقالت العامة: اسجد للقرد في زمانه. وأنا أتحوَّب من ذكر القرد الذي يقال: إنّ القوادّ في زمن زبيدة كانوا يدخلون للسلام عليه وأنّ يزيد ابن مزيد الشَّيبانيَّ دخل في جملة المسلَّمين فقتله. وقد روي أن يزيد بن معاوية كان له قرد يحمله على أتانٍ وحشيةٍ ويرسلها مع الخليل في الحلبة. وأمّا الأبيات التي على الياء:
يا سرّ يدقُّ حتَّى
يجل عن وصف كلّ حيّ وظاهراً باطناً تبدَّى
من كلّ شيء لكل شيء يا جملة الكل، لست غيري
فما اعتذاري إذا إلي؟
فلا بأس بنظمها في القوَّة، ولكن قوله: إليّ، عاهة في الأبيات: إن قيد فالتقيد لمثل هذا الوزن لا يجوز عند بعض النّاس، وإن كسر الياء من إلي فذلك رديء قبيح. وأصحاب العربية مجمعون على كراهة قراءة حمزة: وما أنتم بمصرخيّ: بكسر الياء. وقد روي أنَّ أبا عمرو بن العلاء سئل عن ذلك فقال: أنه لحسن، تارة إلى فوق، وتارة إلى أسفل، يعني فتح الياء في مصرخيّ وكسرها والذين نقلوا هذه الحكاية يحتجون بها لحمزة ويذهبون إلى أن أبا عمرو أجاز الكسر لالتقاء الساكنين. وإن صحت الحكاية عنه، فما قالها إلا متهَّزئاً على معنى العكس، كما الغنوي وهو سهل بن خنظلة:
لا يمنع النّاس منيّ ما أرادت، ولا
أعطيهم ما أرادوا، حسن ذا أدبا أي ليس ذلك بحسن وهذا كما يقول الرّجل لولده إذا رآه قد فعل فعلاً قبيحاً: ما أحسن هذا! وهو يريد ضدّ الحسن. ولم يأت كسر هذه الياء في شعر فصيح. وقد طعن الفراء على البيت الذي أنشده:
قال لها: هل لك يا تا فيّ؟
قالت له: ما أنت بالمرضيِّ وقد سمعت في أشعار المحدثين: إليّ وعليّ، ونحو ذلك، وهو دليل على ضعف المنَّة وركاكة الغريزة؟ وكذلك قوله: الكلّ، وإدخاله الألف واللامّ مكروه. وكان أبو علي يجيزه ويدعي إجازته على سيبويه، فأما الكلام القديم فيفتقد فيه الكل والبعض، وقد أنشدوا بيتاً لسحيم:
رأيت الغنيّ والفقير كليهما
إلى الموت يأتي الموت للكل معمدا [عدل] الحلاج
ينشد لفتى كان في زمن الحلاّج:
إن يكن مذهب الحلول صحيحاً
فإلهي في حرمة الزَّجَّاج عرضت في غلالة بطراز
بين دار العطّار والثلاّج زعموا لي أمراً وما صحَّ لكن
هو من إفك شيخنا الحلاجّ وهذه المذاهب قديمة، تنتقل في عصر بعد عصر، ويقال إن فرعون كان على مذهب الحلولية، فلذلك ادّعى أنه رب العزَّة. وحكي عن رجلٍ منهم أنّه كان يقول في تسبيحه: سبحانك سبحاني ... غفرانك غفراني وهذا هو الجنون الغالب، إنّ من يقول هذا القول مسدود في الأنعام، ما عرف كنه الإنعام. وقال بعضهم:
أنا أنت بلا شكٍّ
فسبحانك سبحاني وإسخاطك إسخاطي
وغفرانك غفراني رولم أجلد يا ربّي
إذا قيل هو الزّاني وينو آدم بلا عقول، وهذا أمر يلقنه صغير عن كبير، فيكون بالهلكة أوفى صبير: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون، إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلاً. ويروي لبعض أهل هذه النحلة:
رأيت ربّي يمشي بلا لكلة
في سوق يحيى فكدت أنفطر فقلت: هل في اتصالنا طمع؟
فقال: هيهات! يمنع الحذر ولو قضى الله ألفة بهوى
لم يك إلاّ السجود والنّظر وتؤدَّي هذه النّحلة إلى التناسخ، وهو مذهب عتيق يقول به أهل الهند، وقد كثر في جماعة من الشّيعة، نسأل الله التوفيق والكفاية،وينشد لرجل من النصُّيرية:
أعجبني أمنّا لصرف اللّيالي
جعلت أختنا سكينة فاره فازجري هذه السّنانير عنها
واتركيها وما تضم الغراره وقال آخر منهم:
تبارك الله كاشف المحن
فقد أرانا عجائب الزّمن حمار شيبان شيخ بلدتنا
صيرّه جارنا أبو السكن بدل من مشيه بحلته
مشيته في الحزام والرّسن ويصوّر لهم الرأي الفاسد أباجير ومشبهَّات، فيسلكون في تغلسَّ وفي الترهات.
وحكى لي عن بعض ملوك الهند، وكان شابّاً حسناً، أنّه جدَّر فنظر إلى وجهه في المرآة وقد تغير، فأحرق نفسه وقال: أريد أن ينقلني الله إلى صورة أحسن من هذه.
وحدثني قوم من الفقهاء، ما هم في الحكاية بكاذبين، ولا في أسباب النحَّل جاذبين، أنّهم كانوا في بلاد محمود وكان معه جماعة من الهندون قد وثق بصفائهم، يفيض عليهم الأعطية لوفائهم، ويكونون أقرب الجند إليه إذا حلّ وإذا ارتحل، وأن رجلاً منهم سافر في جيشٍ جهزه محمود، فجاء خبره أنّه قد هلك بموت أو قتل، فجمعت امرأته لها حطباً كثيراً وأوقدت ناراً عظيمة واقتحمتها والنّاس ينظرون، وكان ذلك الخبر باطلاً، فلمّا قدم الزّوج أوقد له ناراً جاحمة ليحرق نفسه حتى يلحق بصاحبته، فاجتمع خلق كثير للنّظر إليه، وأنّ أصحابه من الهندون كانوا يجيئون إليه فيوصونه بأشياء إلى أمواتهم: هذا إلى أبيه وهذا إلى أخيه. وجاءه إنسان منهم بوردة وقال: أعط هذه فلاناً يعني ميتاً له، وقذف نفسه في تلك النّار.
وحدّث من شاهد إحراقهم نفوسهم أنّهم إذا لذعتهم النّار أرادوا الخروج فيدفعهم من حضر إليها بالعصي والخشب. فلا إله إلاّ الله، لقد جئتم شيئاً إدّاً.
وفي الناس من يتظاهر بالمذهب ولا يعتقده، يتوصَّل به إلى الدنيا الفانية، وهي إغدر من الورهاء الزّانية.
وكان لهم في الغرب رجل يعرف بابن هانئ وكان من شعرائهم المجيدين، فكان يغلة في مدح المعزّ أبي تميم معدٍّ، غلوا عظيماً حتى قال يخاطب صاحب المظلَّة:
أمديرها من حيث دار لشدَّ ما
زاحمت تحت ركابه جبريلا وقال فيه وقد نزل بموضع يقال له رقَّادة:
حلَّ برقادة المسيح
حلَّ بها آدم ونوح حلّ بها الله ذو المعالي
وكل شيءٍ سواه ريح وحضر شاعر يعرف بابن القاضي بين يدي ابن أبي عامر صاحب الأندلس فأنشده قصيدة أوَّلها:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم، فأنت الواحد القهار ويقول فيها أشياء، فانكر عليه ابن أبي عامر، وأمر بجلده ونفيه. وأدل رتب الحلاجّ أن يكون شعوذياً، لا ثاقب الفهم ولا أحوذيا، على أنَّ الصوفيَّة تعظمِّه منهم طائفة، ما هي لأمره شائفة. وأمّا ابن أبي عون فإنهّ أخذ في لون بعد لون، غرّ البائس بأبي جعفر، فما جعل رسله في أوفره؛ وقد تجد الرّجل حاذقاً في الصناعة، بليغاً في النّظر والحجة، فإذا رجع إلى الدّيانة ألفى كأنّه عير مقتاد، وإنمّا يتبع ما يعتاد. والتأله موجود في الغرائز، يحسب من الألجاء الحرائز، ويلقن الطّفل الناشئ ما سمعه من الأكابر، فليبث معه في الدّهر الغابر.
والذين يسكنون في الصوامع، متعبدون في الجوامع، يأخذون ما هم عليه كنقل الخبر عن المخبر، لا يميَّزون الصدّق من الكذب لدى المعبّر، فلو أنّ بعضهم ألفى الأسرة من المجوس لخرج مجوسياً، أو من الصّابئة لأصبح لهم قريناً سياً. وإذا المجتهد نكب عن التقّليد، فما يظفر بغير التبليد. وإذا المعقول جعل هادباً، نقع بريه صادياً، ولكن أين من يصبر على أحكام العقل، ويصقل فهمه أبلغ صقل؟ هيهات! عدم ذلك في من تطلع عليه الشمس، ومن ضمنه في الرِّمم رمس، إلىّ أن يشذّ رجل في الأمم، يخص من فضل بعمم.
ربمّا لقينا من نظر في كتب الحكماء، وتبع بعض آثار القدماء، فألفيناه يستحسن قبيح الأمور، ويبتكر بلبّ مغمور، إنّ قدر على فظيع ركبه، وإن عرف واجباً نكبَّه، كأنّ العالم سعوا له في إفقاد، فهو يعتقد شرّ اعتقاد؛ وإنّ أودع وديعه خان، وإن سئل عن شهادة مان، وإن وصف لعليل صفةّ فما يحفل أقتلته بما قال، أم ضاعف عليه الأثقال؛ بل غرضه فيما يكتسب، وهو إلى الحكمة منتسب.
وربّ زارٍ بالجهالة على أهل ملّة، وعلتَّه الباطنة أدهى علَّة، وإن البشر لكما جاء في الكتاب العزيز " كل حزبٍ بما لديهم فرحون " . والإمامية تقَّربوا بالتعّفير، فعدّه بعض المتدينةٍ ذنباً ليس بغفير، ويحضر المجالس أناس طاغون، كأنهم للرّشد باغون، وأولئك، علم الله، أصحاب البدع والمكر، ومن لك بزنحٍ في دكر! كم متظاهر باعتزال، وهو مع المخالف في نزال! بزعم أنّ ربّه على الذّرَّة يخلد في النار، بله الدّرهم وبله الدّينار ، وما ينفكّ يحتقب المآثم عظائم، ويقع بها في أطائم. ينهمك على العهار والغسق، ويظعن من الأوزار الموبقة بأوفى وسق، ويقنت على رهط الإجبار، ويسند إلى عبد الجبار. يطيل الدأب في النهّار واللّيل، ويضمر أنّ شيخ المعتزلة غير طاهر الرُّدن ولا الذّيل، فقد صيّر الجدل مصيدة، ينظم به الغيّ قصيدة.
وحدَّثت عن إمام لهم يوقرّ ويتبع، وكأنه من الجهل ربع أنّه كان إذا جلس في الشرّب، ودارت عليهم المسكرة ذات الغرب، وجاءه القدح شربه فاستوفاه، وأشهد من حضرة على التوبة لما اقتفاه.
والأشعري إذا كشف ظهر نمي، تلعنه الأرض الرّاكدة والسمي، إنّما مثله مثل راعٍ حطمة، ويخبط في الدهماء المظلمة، لا يحفل علام هجم بالغنم، وأن يقع بها في الينم، وما أجدره أن تأتي بها سراحين، تضمن لجميعها أن يحين! فمن له أيسر حجى، كأنمّا وضع في دجى، إلا من عصمه الله باتباع السّلف، وتحمل ما يشرع من الكلف:
وإنّا، ولا كفران لله ربنَّا
لكالبدن، لا تدري متى حتفها البدن
إن شعر قلد، المسكين، سواه فإنمّا وثق بمن أغواه، وإن بحث عن السِّرَّ وتبّصر، أقصر عن الخبر وقصَّر. والشيعة يزعمون أمنّ عبد الله بن ميمون القدّاح، وهو من باهلة، كان من علية أصحاب جعفر بن محمدٍ، وروى عنه شيئاً كثيراً، ثم أرتدّ بعد ذلك، فحدثني بعض شيوخهم أنّهم يروون عنه ويقولون: حدّثنا عبد الله بن ميمون القدّاح كأحسن ما كان، أي قبل أن يرتدّ. ويروون له:
هات اسقني الخمرة يا سنبر
فليس عندي أنَّني أنشر أما ترى الشِّيعة في فتنة
يغرها من دينها جعفر؟ قد كنت مغروراً به برهةً
ثمّ بدا لي خبر يستر وممّا ينسب إليه:
مشيت إلى جعفر حقبةً
فألفيته خادعاً يخلب يجرّ العلاء إلى نفسه
وكلّ إلى حبله يجذب فلو كان أمركم صادقاً
لما ظل مقتولكم يسحب ولا غضّ منكم عتيق ولا
سما عمر فوقكم يخطب والحلولّيهّ قريبة من مذهب التناسخ، وحدَّثت عن رجلٍ من رؤساء المنجمين من أهل حرانّ أقام في بلدنا زماناً، فخرج مرّة من قومّ يتنزهون، فمروا بثورٍ يكرب، فقال لأصحابه: لا أشك في أنّ هذا الثور رجل كان يعرف بخلفٍ بحرُّان، وجعل يصيح به: يا خلف، فيتفَّق أن يجوز ذلك الثّور، فيقول لأصحابه: ألا ترون إلى صحَّة ما خبرتكم به؟ وحكي لي عن رجلٍ آخر ممّن يقول بالتنّاسخ أنّه قال: رأيت في النّوم أبي وهو يقول لي: يا بنيّ، إنّ روحي قد نقلت إلى جملٍ أعور في قطار فلانٍ، وإنيّ قد اشتهيت بطيخةّ. قال: فاخذت بطيخة وسألت عن ذلك القطار وجدت فيه جملاً أعور، فدنوت منه بالبطيخة، فأخذها أخذ مريد مشتهٍ! أفلا يرى مولاي الشّيخ إلى ما رمي به هذا البشّر من سوء التمّييز، وتحيزهم إلى ما يمتنع من التحييز؟ وأمّا ابن الرّواندي فلم يكن إلى المصلحة بمهدي، وأمّا تاجه فلا يصلح أن يكون نعلاً، ولم يجد من عذابٍ وعلاً أي ملجأ، قال ذو الرّمة:
حتّى إذا لم يجد وعلاّ ونجنجها
مخافة الرّمي حتى كلهّا هيم ويجوز أن ينظم تاجه عقارب، فما كان المحسن ولا المقارب، فكيف له إذا توج شبواتٍ، أليس يمينه عن تلك الصبوات؟ وهل تاجه إلاّ كما قالت الكاهنة: أفّ وتف، وجورب وخف!؟ قيل: وما جورب وخف؟ قالت واديان في جهنم. ما تاجه بتاج ملك، ولكن دعي بالمهلك، ولا اتخّذ من الذّهب، وسوف يصوَّر من اللهّب، ولا نظم من درّ، بل وقع من عناء بقرّ، يقال: صابت بقرٍ، إذا وقعت في موضعها، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشرّ. قال الشاعر:
ترجيَّها وقد صابت بقرٍ
كما ترجوا أصاغرها عتيب ما توَّج من الفضة،ولا يقنع له بالقضَّة، ما هو كتاج كسرى، لكن طرق بسوء المسرى، ولا تاج الملك انوشروان، ولكل أثقل وجرّ الهوان، ذلك تاج فرس عنقاً، فظن على من توِّج به محنقاً. ليس هو كتاج المنذر، ولكن مندية غويّ حذّر، ولا هو كخرزات النعّمان، بل شين يدخر في الأزمان. وما يفقر مثبه إلى أن ينقض منه وبه تقوضّ.
وأمّا الدامغ فما إخاله دمغ إلاّ من الفّه، وبسوء الخلافة خلفه. وفي العرب رجل يعرف بدميغ الشيطان، وهذا الرّجل كذاوي الخيطان. وإنمّا المنكر، أنَّه في الآونة يذكر. دلّ ممن وضعه على ضعف دماغ، فهل يؤذن لصوت ماغٍ؟ من قولهم: مغت الهرة إذا صاحت.
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي
بريئاً ومن جول الطوَّي رماني رجع عليه حجره، وطال في الآخرة بجره. بئس ما نسب إلى راوند، فهل قدح في دباوند؟ إنمّا هتك قميصه، وأبان للنظر خميصه. وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجَّة ومقتدِ، أنّ هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدّوه بالأرجاز. ما حذي على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال. ما هو من القصيد الموزون، ولا الرَّجز من سهلّ وحزون. ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب. وجاء كالشمس اللائحة، نوراً للمسرَّة والبائحة؛ لو فهمه الهضب الرّاكد لتصدع، أو الوعول المعصمة لراق الفادرة والصدّع: " وتلك الأمثال نضربها للنّاس لعلهم يتفكرون " وإنّ الآية منه أو بعض الآية، لتعترض في أفصح كلم يقدر عليهم المخلوقون، فتكون فيه كالشَّهاب المتلألئ في جنح غسق، والزّهرة البادية في جدوبٍ ذات نسق؛ فتبارك الله أحسن الخالقين.
وأمّا القضيب فمن عمله أخسر صفقة من قضيب. وخير له من إنشائه، لو ركب قضيباً عند عشائه، فقذفت به على قتاد، ونزعت المفاصل كنزع الأوتاد:
إن الطرٍّمّاح يهجوني لأشتمه
هيهات هيهات، عيلت دونه القضب كيف للنّاطق به أن يكون اقتضب وهو يافع، إذ ماله في العاقبة شافع. وودّ لو أنّه قضبه، أو تلتئم عليه الهضبة،وقد صح أن يكون مثل القائل:
وروحة دنيا بين حييّن رحتها
أسير عروضاً، أو قضيباً أروضها وقضيب وادٍ كانت فيه وقعة في الجاهلية بين كندة وبين بني الحارث ابن كعب فكيف لهذا المائق أن يكون قتل في قضيب، وسقط في إهابه الخضيب. فهو عليه شرّ من قضيب الشجرّة على السّاعية، ومن له ان يظفر بمنطق الناّعية؟ وكيف له أن يجدَّع بقضيب هندي ويلبس ممّا لفظ به ثوب المفديّ؟ لقد أنزل الله به من النكّال، ما لا يدفع بحمل الأنكال؛ فهو كما قال الأوّل:
فلم أر مغلوبين يفري فرينا
ولا وقع ذاك السَّيف وقع قضيب وهذا البيت يستشهد به، كما علم، لأنّه قال: مغلوبين يفري، وإنمّا يجب أن يقال: يفريان، ولكنّه أجرى الاثنين مجرى الجمع. ومثله قول الرّاجز:
مثل القارخ نتقت حواصله
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)