خبر مقتل طرخان قائد بابك
وفي هذه السنة قت قائد لبابك كان يقال له طرخان.
ذكر سبب قتله
ذكر أن طرخان هذا كان عظيم المنزلة عند بابك؛ وكان أحد قواده، فلما دخل الشتاء من هذه السنة استأذن بابك في الأذن له أن يشتو في قرية له بناحية المراغة - وكان الأفشين يرصده، ويحب الظفر به؛ لمكانه من بابك - فأذن له بابك، فصار إلى قريته ليشتو بها بناحية هشتادسر فكتب الأفشين إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب وهو بالمراغة، أن يسري إلى تلك القرية - ووصفها له - حتى يقتل طرخان، أو يبعث به إليه أسيرًا. فأسرى ترك إلى طرخان، فصار إليه في جوف الليل، فقتل طرخان وبعث طرخان وبعث برأسه إلى الأفشين.
وفي هذه السنة قدم صول أرتكين وأهل بلاده في قيود فنزعت قيودهم، وحمل على الدوابّ منهم نحو من مائتي رجل. وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري وبعث به مقيّدًا.
وحجّ بالناس في هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو والي مكة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
فمن ذلك ما كان من توجيه المعتصم جعفر بن دينار الخياط إلى الأفشين مددًا له، ثم إتباعه بعد ذلك بإيتاخ وتوجيهه معه ثلاثين ألف ألف درهم عطاء للجند والنفقات.
ذكر خبر الوقعة بين أصحاب الأفشين وآذين قائد بابك
وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك يقال له آذين.
ذكر الخبر على هذه الوقعة وما كان سببها
ذكر أن الشتاء لما انقضى من سنة إحدى وعشرين ومائتين وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووجهّ المعتصم إلى الأفشين ما وجهه إليه من المدد والمال، فوافاه ذلك كله وهو ببرزند، سلّم إيتاخ إلى الأفشين المال والرّجال الذين كانوا معه وانصرف، وأقام جعفر الخياط مع الأفشين مدّة، ثم رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ، فاحتفر فيه خندقًا، وكتب إلى أبي سعيد، فرحل من برزند إلى إزائه على طرف رستاق كلان روذ، وتفسيره: نهر كبير؛ بينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام معسكرًا في خندق، فأقام بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائدًا من قواد بابك يدعى آذين، قد عسكر بإزاء الأفشين، وأنه قد صير عياله في جبل يشرف على روذ الروذ، وقال: لا أتحصن من اليهود - يعني المسملين - ولا أدخل عيالي حصنًا؛ وذلك أن بابك قال له: أدخل عيالك الحصن، قال: أنا أتحصن من اليهود! والله لا أدخلتهم حصنًا أبدًا، فنقلهم إلى هذا الجبل، فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي والحسين بن خالد المدائني من قواد أبي سعيد في جماعة من الفرسان والكوهبانية، فساروا ليلتهم من كلان روذ؛ حتى انحدروا في مضيق لا يمر فيه راكب واحد إلا بجهد، فأكثر الناس قادوا دوابهم، وانسلوا رجلًا خلف رجل، فأمرهم أن يصيروا قبل طلوع الفجر على روذ الروذ فيعبر الكوهبانية رجالة؛ لأنه لا يمكن الفارس أن يتحرك هناك، ويتسلقوا الجبل؛ فصاروا على روذ الروذ قبل السحر، ثم أمر من أطاق من الفرسان أن يترجل وينزع ثيابه، فترجل عامة الفرسان، وعبروا وعبر معهم الكوهبانية جميعًا، وصعدوا الجبل؛ فأخذوا عيال آذين وبعض ولده، وعبروا بهم، وبلغ آذين الخبر بأخذ عياله؛ وكان الأفشين عند توجه هؤلاء الرجالة ودخولهم المضيق يخاف أن يؤخذ عليهم المضيق، فأم الكوهبانية أن يكون معهم أعلام، وأن يكونوا على رءوس الجبال الشواهق في المواضع التي يشرفون منها على ظفر بن العلاء وأصحابه؛ فإن رأوا أحدًا يخافونه حركوا الأعلام، فبات الكوهبانية على رءوس الجبال، فلما رجع ابن العلاء والحسين بن خالد بمن أخذوا من عيال آذين، وصاروا في بعض الطريق قبل أن يصيروا إلى المضيق، انحدر عليهم رجالة آذين فحاربوهم قبل أن يدخلوا المضيق، فوقع بينهم قتلى، واستنفذوا بعض النساء. ونظر إليهم الكوهبانية الذين رتبهم الأفشين؛ وكان آذين قد وجه عسكرين؛ عسكرًا يقاتلهم، وعسكرًا يأخذ عليهم المضيق؛ فلما حركوا الأعلام وجه الأفشين مظفر بن كيدر في كردوس من أصحابه، فأسرع الركض. ووجه أبا سعيد خلف المظفر، وأتبعهما ببخارا خذاه، فوافوا؛ فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين كانوا على المضيق انحدروا عن المضيق، وانضموا إلى أصحابهم، ونجا ظفر بن العلاء والحسين بن خالد ومن معهما من أصحابهما، ولم يقتل إلا من قتل في الوقعة الأولى، وجاءوا جميعًا إلى عسكر الأفشين؛ ومعهم النساء اللواتي أخذوهن.
ذكر خبر فتح البذ مدينة بابك
وفي هذه السنة فتحت البذّ مدينة بابك، ودخلها المسملون، واستباحوها؛ وذلك في يوم الجمعة لعشر بقين من شهر رمضان في هذه السنة
ذكر الخبر عن أمرها وكيف فتحت والسبب في ذلك
ذكر أن الأفشين لما عزم على الدنو من البذ والإرتحال من كلان روذ جعل يزحلف قليلًا قليلًا - على خلاف زحفه قبل ذلك - إلى المنازل التي كان ينزلها؛ فكان يتقدم الأميال الأربعة، فيعسكر في موضع على طريق المضيق الذي ينحدر إلى روذ الروذ، ولا يحفر خندقًا؛ ولكنه يقيم معسكرًا في الحسك، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب كراديس تقف على ظهور الخيل، كما يدور العسكر بالليل؛ فبعض القوم معسكرون وبعض وقوف على ظهور دوابهم على ميل كما يدور العسكر بالليل والنهار مخافة البيات؛ كي إن دهمهم أمر أن يكون الناس على تعبية والرجالة في العسكر؛ فضج الناس من التعب، وقالوا: كم نقعد ها هنا في المضيق ونحن قعود في الصحراء، وبيننا وبين العدو أربعة فراسخ، ونحن نفعل فعلًا؛ كأن العدو بإزائنا! قد استحينا من الناس والجواسيس الذين يمرون بيننا وبين العدو أربعة فراسخ؛ ونحن قد متنا من الفزع؛ أقدم بنا؛ فإما لنا وإما علينا، فقال: أنا والله أعلم أن ما تقولون حق؛ ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا. ولا أجد منه بدًا. فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يتحرى بدراجة الليل على حسب ما كان؛ فلم يزل كذلك أيامًا، ثم انحدر في خاصته حتى نز إلى روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي به الركوة التي واقعة عليها بابك في العام الماضي؛ فنظر إليهما، ووجد عيها كردوسًا من الخرمية؛ فلم يزل يحاربوه ولم يحاربهم؛ فقال بعض العلوج: ما لكم تجيئون وتفرون! أما تستحيون! فأمر الأفشين ألا يجيئوهم ولا يبرز إليهم أحد؛ فلم يزل مواقفهم إلى قريب من الظهر، ثم رجع إلى معسكره، فمكث فيه يومين، ثم انحدر أيضًا في أكثر مما كان انحدر في المرة الأولى، فأمر أبا سعيد أن يذهب فيوافقهم على حسب ما كان وافقهم في المرة الأولى، ولا يحركهم ولا يهجم عليهم.
وقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية أن يصعدوا إلى رءوس الجبال التي يظنون أنها حصينة، فيتراءوا فيها، ويختاروا له في رءوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة؛ فاختاروا له ثلاثة أجبل، قد كانت عليها حصون فيما مضى، فخربت فعرفها، ثم بعث إلى أبي سعيد، فصرفه يومه ذلك؛ فلما كان بعد يومين انحدر من معسكره إلى روذ الروذ، وأخذ معه الكلغرية - وهم الفعلة - وحملوا معهم شكاء الماء والكعك؛ فما صاروا إلى روذ الروذ وجه أبا سعيد، وأمره أن يوافقهم أيضًا على حسب ما كان أمره به في اليوم الأول، وأمر الفعلة بنقل الحجارة وتحصين الطرق التي تسلك إلى تلك الثلاثة الأجبل؛ حتى صارت شبه الحصون، وأمر فاحتفر على كل طريق وراء تلك الحجارة إلى المصعد خندقًا؛ فلم يترك مسلكًا إلى جبل منها إلا مسلكًا واحدًا. ثم أمر أبا سعيد بالانصراف، فانصرف، ورجع الأفشين إلى معسكره. قال: فلما كان في اليوم الثامن من الشهر، واستحكم الحصر، دفع إلى الرجالة كعكًا وسويقًا، ودفع إلى الفرسان الزاد والشعير، ووكل بمعسكره ذلك من يحفظه. وانحدروا، وأمر الرجالة أن يصعدوا إلى رءوس تلك الجبال، وأن يصعدوا معهم بالماء، وبجميع ما يحتاجون إليه، ففعلوا ذلك، وعسكر ناحية، ووجه أبا سعيد ليواقف القوم على حسب ما كان يوافقهم، وأمر الناس بالنزول في سلاحهم، وألا يأخذوا الفرسان سروج دوابهم. ثم خط الخندق، وأمر الفعلة بالعمل فيه، ووكل بهم من يستحثهم، ونزل هو والفرسان، فوقفوا تحت الشجر في ظل يرعون دوابهم، فلما صلى العصر، أمر الفعلة بالصعود إلى رءوس الجبال التي حصنها مع الرجالة، وأمر الرجالة أن يتحارسوا ولا يناموا، ويدعوا الفعلة فوق الجبال ينامون، وأمر الفرسان بالركوب عند اصفرار الشمس، فصيرهم كراديس وقفها حيالهم، بين كل كردوس وكردوس قدر رمية سهم، وتقدم إلى جميع الكراديس ألا يلتفتن كل واحد منكم إلى الآخر؛ ليحفظ كل واحد منكم ما يليه؛ فإن سمعتم هدة فلا يلتفتن أحد منكم إلى أحد، وكل كردوس منكم قائم بما يليه، فإنه لا بهدة يأخذ. فلم يزل الكراديس وقوفًا على ظهور دوابهم إلى الصباح، والرجالة فوق رءوس الجبال يتحارسون. وتقدم إلى الرجالة: متى ما أحسوا في الليل بأحد فلا يكترثوا، وليلزم كل قوم منهم المواضع التي لهم؛ وليحفظوا جبلهم وخندقهم فلا يلتفتن أحد إلى أحد. فلم يزالوا كذلك إلى الصباح؛ ثم أمر من يتعاهد الفرسان والرجالة بالليل، فينظر إلى حالتهم؛ فلبثوا في حفر الخندق عشرة أيام، ودخله اليوم العاشر فقسمه بين الناس وأمر القواد أن يبعثوا إلى أثقالهم وأثقال أصحابهم على الرفق، وأتاه رسول بابك ومعه قثاء وبطيخ وخيار؛ يعلمه أنه في أيامه هذه في جفاء؛ إنما يأكل الكعك والسويق هو وأصحابه، وأنه أحب أن يلطفه بذلك. فقال الأفشين للرسول: قد عرفت أي شيء أراد؟ أخي بهذا؛ إنما أراد أن ينظر إلى المعسكر، وأنا أحقّ من قبل بّره، وأعطاه شهوته؛ فقد صدق، أنا في جفاء. وقال للّرسول: أما أنت فلا بدّ لك أن تصعد حتى معسكرنا، فقد رأيت ما ها هنا، وترى ما وراءنا أيضًا، فأمر بحمله على دابة، وأن يصعد به حتى يرى الخندق، ويرى خندق كلان روذ وخندق برزند، ولينظر إلى الخنادق الثلاثة ويتأملها ولا يخفى عليه منها شيء ليخبر به صاحبه. ففعل به ذك؛ حتى صار إلى برزند، ثم رده إليه، فأطلقه وقال له: اذهب فاقرئه مني السلام - وكان من الخرمية الذين يتعرضون لمن يجلب الميرة إلى المعسكر - ففعل ذك مرة أو مرتين ثم جاءت الخرمية بعد ذلك في ثلاثة كراديس، حتى صاروا قريبًا من سور خندق الأفشين يصيحون، فأمر الأفشين الناس ألا ينطق أحد منهم، ففعلوا ذلك ليلتين أو ثلاث ليال، وجعلوا يركضون دوابهم خلف السور، ففعلوا ذلك غير مرة؛ فلما أنسوا هيأ لهم الأفشين أربعة كراديس من الفرسان والرجالة، فكانت الرجالة ناشبة فكمنوا لهم في الأودية، ووضع عليهم العيون؛ فلما انحدروا في وقتهم الذي كانوا ينحدرون فيه في كل مرة وصاحوا وجلبوا كعادتهم شدت عليهم الخيل والرجالة الذين رتبوا فأخذوا عليهم طريقهم. وأخرج الأفشين إليهم كردوسين من الرجالة في جوف الليل، فأحسوا أن قد أخذت عليهم العقبة؛ فتفرقوا في عدة طرق؛ حتى أقبلوا يتسلقون الجبال فمروا فلم يعودوا إلى ما كانوا يفعلون، ورجع الناس من الطلب مع صلاة الغداة إلى الخندق بروذ الروذ، ولم يلحقوا من الخرمية أحدًا. قوا من الخرمية أحدًا.
ثم إن الأفشين كان في كل أسبوع يضرب الطبول نصف الليل، ويخرج بالشمع والنفاطات إلى باب الخندق، وقد عرف كل إنسان منهم كردوسه؛ من كان في الميمنة ومن كان في الميسرة؛ فيخرج الناس فيقفون في مواقفهم ومواضعهم. وكان الأفشين يحمل أعلامًا سودًا كبارًا، اثني عشر علمًا يحملها على البغال؛ ولم يكن يحملها على الخيل لئلا تزعزع يحملها على اثني عشر بغلًا؛ وكانت طبوله الكبار واحد وعشرين طبلًا؛ وكانت الأعلام الصغار نحو من خمسمائة علم، فيقف أصحابه كل فرق على مرتبتهم من ربع الليل؛ حتى إذا طلع الفجر ركب الأفشين من مضربه فيؤذن المؤذن بين يديه ويصلي ثم يصلي الناس بغلس ثم يأمر بضرب الطبول، ويسير زحفًا. وكانت علامته في المسير والوقوف تحريك الطبول وسكونها، لكثرة الناس ومسيرهم في الجبال والأزفة على مصافهم؛ كلما استقبلوا جبلًا صعدوه، وإذا هبطوا إلى واد مضوا فيه؛ إلا أن يكون جبلًا منيعًا لا يمكنهم صعوده وهبوطه؛ فإنهم كانوا ينضمون إلى العساكر، ويرجعون إذا جاءوا إلى الجبل إلى مصافهم ومواضعهم؛ وكانت علامة المسير ضرب الطبول؛ فإن أراد أن يقف أمسك عن ضرب الطبول؛ فيقف الناس جميعًا من كل ناحية على جبل، أو في وادٍ أو في مكانهم؛ وكان يسير قليلًا قليلًا؛ كلما جاءه كوهباني بخبر وقف قليلًا؛ وكان يسير هذه السنة الأميال التي بين روذ الروذ، وبين البذ، ما بين طلوع الفجر إلى الضحى الأكبر؛ فإذا أراد أن يصعد إلى الركوة التي كانت الحرب تكون عليها في العام الماضي، خلف بخاراخداه على رأس العقبة مع ألف فارس وستمائة راجل؛ يحفظون عليه الطريق؛ لا يخرج أحد من الخرمية؛ فيأخذ عليه الطريق. وكان بابك إذا أحس بالعسكر أنه وارد عليه وجه عسكرًا له فيه رجالة إلى واد تحت تلك العقبة التي كان عليها بخاراخداه، ويكمنون لمن يريد أن يأخذ عليه الطريق.
وكان الأفشين يقف بخاراخذاه يحفظ هذه العقبة التي وجه بابك عسكره إليها ليأخذها على الأفشين؛ وكان بخاراخذاه يقف بها أبدًا، ما دام الأفشين داخل البذ على الركوة، وكان الأفشين يتقدم إلى بخاراخذاه أن يقف على وادٍ فيما بينه وبين البذ شبه الخندق، وكان يأمر أبا سعيد محمد بن يوسف أن يعبر ذلك الوادي في كردوس من أصحابه، ويأمر جعفرًا الخياط أن يقف أيضًا في كردوس من أصحابه، ويأمر أحمد بن الخليل فيقف في كردوس آخر؛ فيصير في جانب ذلك الوادي ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم؛ وكان بابك يخرج عسكرًا مع آذين، فيقف على تل بإزاء هؤلاء الثلاثة الكراديس خارجًا من البذ لئلا يتقدم أحد من عساكر الأفشين إلى باب البذ. وكان الأفشين يقصد إلى باب البذ، ويأمرهم إذا عبروا بالوقوف فقط، وترك المحاربة، وكان بابك إذا أحس بعساكر الأفشين أنها قد تحركت من الخندق تريده فرق أصحابه كمناء؛ ولم يبق معه إلا نفير يسير؛ وبلغ ذلك الأفشين، ولم يكن يعرف الواضع التي يكمنون فيها. ثم أتاه الخبر بأن الخرمية قد خرجوا جميعًا، ولم يبق مع بابك إلا شر ذمة من أصحابه. وكان الأفشين إذا صعد إلى ذلك الموضع بسط له نطع، ووضع له كرسي، وجلس على تل مشرف يشرف على باب قصر بابك، والناس كراديس وقوف من كان معه من جانب الوادي هذا أمره بالنزول عن دابته، ومن كان من ذاك الجانب مع أبي سعيد وجعفر الخياط وأصحابه وأحمد بن الخليل لم ينزل لقربه من العدو؛ فهم وقوف على ظهور دوابهم؛ ويفرق رجالته الكوهبانية ليفتشوا الأودية؛ طمع أن يقع على مواضع دوابهم؛ فيعرفها. فكانت هذه حالته في التفتيش إلى بعد الظهر، والحزمية بين يدي بابك يشربون النبيذ ويزمرون بالسرنيايات ويضربون بالطبول حتى إذا صلى الأفشين الظهر تقدم فانحدر إلى خندقه بروذ الروذ؛ فكان أول من ينحدر أبو سعيد ثم أحمد بن الخليل ثم جعفر بن دينا، ثم ينصرف الأفشين وكان مجيئه ذلك مما يغيظ بابك وانصرافه فإذا دنا الانصراف ضربوا بصنوجهم ونفخوا بوقاتهم استهزاء ولا يبرح بخاراخذاه من العقبة التي هو عليها؛ حتى تجوز الناس جميعًا، ثم ينصرف في آثارهم؛ فلما كان في بعض أيامهم ضجرت الحزمية من المعادلة والتفتيش الذي كان يفتش عليهم؛ فانصرف الأفشين كعادته، وانصرفت الكراديس أولًا فأولا، وعبر أبو سعيد الوادي، وعبر أحمد بن الخليل، وعبر بعض أصحاب جعفر الخياط، وفتح الخرمية باب خندقهم، وخرج منهم عشرة فوارس، وحملوا على من بقى من أصحاب جعفر الخياط في ذلك الموضع، وارتفعت الضجة في العسكر، فرجع جعفر مع كردوس من أصحابه بنفسه فحمل على أولئك الفرسان حتى ردهم إلى باب البذ، ثم وقعت الضجة في العسكر، فرجع الأفشين وجعفر وأصحابه من ذلك الجانب يقاتلون؛ وقد خرج من أصحاب جعفر عدة، وخرج بابك بعدة فرسان لم يكن معهم رجالة؛ لا من أصحاب الأفشين ولا من أصحاب بابك؛ كان هؤلاء يحملون؛ وهؤلاء يحملون؛ فوقعت بينهم جراحات، ورجع الأفشين حتى طرح له النطع والكرسي فجلس في موضعه الذي كان يجلس فيه؛ وهو يتلظى على جعفر ويقول: قد أفسد على تعبيتي وما أريد.
وارتفعت الضجة، وكان مع أبي دلف في كردوس قوم من المطوعة من أهل البصرة وغيرهم؛ فلما نظروا إلى جعفر يحارب انحدر أولئك المطوعة بغير أمر الأفشين، وعبروا إلى ذلك جانب الوادي؛ حتى صاروا إلى جانب البذ، فتعلقوا به، وأثروا فيه آثارًا؛ وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين: أن أمدني بخمسمائة راجل من الناشبة؛ فإني أرجوا أن أدخل البذ إن شاء الله؛ ولست أرى في وجهي كثير أحد إلا هذا الكردوس الذي تراه أنت فقط - يعني كردوس آذين - فبعث إليه الأفشين أن قد أفسدت على أمري، فتخلص قليلًا قليلًا وخلّص أصحابك وانصرف. وارتفعت الضجة من المطوّعة حين تعلّقوا بالبذّ، وظنّ الكمناء الذين أخرجهم بابك أنها حرب قد اشتبكت؛ فنعروا ووثبوا من تحت عسكر بخاراخذاه، ووثب كمين آخر من مراء الركوة التي كان الأفشين يقعد عليها، فتحركت الخرمية، والناس وقوف على رءوسهم لم يزل منهم أحد؛ فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين لنا مواضع هؤلاء.
ثم انصرف جعفر وأصحابه والمطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين؛ فقال له: إنما وجهني سيدي أمير المؤمين للحرب التي ترى، ولم يوجهني للقعود هاهنا، وقد قطعت بي في موضع حاجتي ما كان يكفيني إلا خمسمائة راجل حتى أدخل البذ أو جوف داره؛ أني قد رأيت من بين يدي فقال له الأفشين: لا تنظر إلى ما بين يديك ولكن انظر إلى ما خلفك وما قد وثبوا ببخاراخذاه وأصحابه فقال الفضل بن كاوس لجعفر الخياط: لو كان الأمر إليك ما كنت تقدر أن تصعد إلى هذا الموضع الذي أنت عليه واقف؛ حتى تقول: كنت وكنت.. فقال له جعفر: هذه الحرب؛ وما أنا واقف لمن جاء. فقال له الفضل: ولا مجلس الأمير لعرفتك نفسك الساعة؛ فصاح بهما الأفشين فأمسكا، وأمر أبا دلف أن يرد المطوعة عن السور، فقال أبو دلف للمطوعة: انصرفوا. فجاء رجل منهم ومعه صخرة، فقال: أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور! فقال له: الساعة، إذا انصرفت تدري من على طريقك جالس - يعني العسكر الذي وثب على بخاراخذاه من وراء الناس. ثم قال الأفشين لأبي سعيد في وجه جعفر: أحسن الله جزاءك عن نفسك وعن أمير المؤمنين؛ فإني ما علمتك عالمًا بأمر هذه العساكر وسياستها؛ ليس كل من حف رأسه يقول: إن الوقوف في الموضع الذي يحتاج إليه خبر من المحاربة في الموضع الذي لا يحتاج إليه، لو وثب هؤلاء الذين تحتك - وأشار إلى الكمين الذي تحت الجبل - كيف كنت ترى هؤلاء المطوعة الذين هم في القمص؟ أي شيء كان يكون حالهم ومن كان يجمعهم؟ الحمد لله الذي سلمهم؛ فقف ها هنا فلا تبرح حتى لا يبق ها هنا أحد. وانصرف الأفشين؛ وكان من سنته إذا بدأ بالانصراف ينحدر علم الكراديس وفرسانه ورجالته، والكردوس الآخر واقف بينه وبينه قدر رمية سهم؛ لا يدنو من العقبة، ولا من المضيق؛ حتى ير أنه قد عبر كل من في الكردوس الذي بين يديه خلابه الطريق ثم يدنو بعد ذلك فينحدر في الكردوس الآخر بفرسانه ورجالته؛ ولا يزال كذلك؛ وقد عرف كل كردوس من خلف من ينصرف؛ فلم يكن يتقدم أحد منهم بين يدي صاحبه، ولا يتأخر هكذا؛ حتى إذا نفذت الكراديس كلها ولم يبق أحد غير بخاراخذاه، انحدر بخار اخذاه وخلى العقبة. فانصرف ذلك اليوم على هذه الهيئة؛ وكان أبو سعيد آخر من انصرف؛ وكلما مر العسكر بموضع بخاراخذاه، ونظروا إلى الموضع الذي كان فيه الكمين؛ علموا ما كان وطئ لهم، وتفرق أؤلئك الأعلاج الذين أرادوا أخذ الموضع الذي كان بخاراخذاه يحفظه، ورجعوا إلى مواضعهم، فأقام الأفشين في خندقه بروذ الروذ أيامًا؛ فشكا إليه المطوعة الضيق في العلوفة والأزواد والنفقات، فقال لهم: من صبر منكم فليصبر، ومن لم يصبر فالطريق واسع فلينصرف بسلام؛ معي جند أمير المؤمنين؛ ومن هو في أرزاقه يقيمون معي في الحر والبرد؛ ولست أبرح من ها هنا حتى يسقط الثلج. فانصرف المطوعة وهم يقولون: لو ترك الأفشين جعفرًا وتركنا لأخذنا البذ؛ هذا لا يشتهى إلا المماطلة؛ فبلغه ذلك وما كثر المطوعة فيه، ويتناولونه بألسنتهم وأنه لا يحب المناجزة؛ وإنما يريد التطويل؛ حتى قال بعضهم إنه رأى في المنام، أن رسول الله قال له: قل للأفشين: إن أنت حاربت هذا الرجل وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة؛ فتحدث الناس بذلك في العسكر علانية؛ كأنه مستور، فبعث الأفشين إلى رؤساء المطوعة، فأحضرهم وقال لهم: أحب أن تروني هذا الرجل؛ فإن الناس يرون في المنام أبوابًا؛ فأتوه بالرجل في جماعة من الناس، فسلم عليه، فقربه وأدناه وقال له: قص علي رؤياك، لا تحتشم ولا تستحي؛ فإنما تؤدي. قال: رأيت كذا ورأيت كذا؛ فقال: الله يعلم كل شيء قبل كل أحد؛ وما أريد بهذا الخلق. إن الله تبارك وتعالى لو أراد أن يأمر الجبال أن ترجم أحدًا لرجم الكافر وكفانا مؤنته؛ كيف يرجمني حتى أكفيه مؤنة الكافر كان يرجمه؛ ولا يحتاج أن أقاتله أنا، وأنا أعلم أن الله عز وجل لا يخفى عليه خافية؛ فهو مطلع على قلبي؛ وما أريد بكم يا مساكين! فقال رجل من المطوعة من أهل الدين: يأيها الأمير؛ لا تحرمنا شهادة إن كانت قد حضرت؛ وإنما قصدنا وطلبنا ثواب الله ووجهه؛ فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك؛ فلعل الله أن يفتح علينا. فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة؛ وأحسب هذا الأمر يريده الله؛ وهو خير إن شاء الله؛ وقد نشطتم ونشط الناس؛ والله أعلم ما كان هذا رأيي؛ وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، وأرجو أن يكون أراد هذا الأمر وهو خير؛ اعزموا على بركة الله أي يوم أحببتم حتى نناهضهم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله! فخرج القوم مستبشرين فبشروا أصحابهم؛ فمن كان أراد أن ينصرف أقام، ومن كان في القرب وقد خرج مسيرة أيام فسمع بذلك رجع؛ ووعد الناس ليوم، وأمر الجند والفرسان والرجالة وجميع الناس بالأهبة، وأظهر أنه يريد الحرب لا محالة. وخرج الأفشين وحمل المال والزاد، ولم يبق في العسكر بغل إلا وضع عليه محمل للجرحى، وأخرج معه المتطببين، وحمل الكعك والسويق وغير ذلك؛ وجميع ما يحتاج إليه، وزحف الناس حتى صعد إلى البذ، وخلف بخاراخذاه في موضعه الذي كان يخلفه عليه على العقبة، ثم طرح النطع ووضع له الكرسي، وجلس عليه كما كان يفعل، وقال لأبي دلف: قل للمطوعة: أي ناحية هي أسهل عليكم، فاقتصروا عليها. وقال لجعفر: العسكر كله بين يديك، والناشبة والنفاطون؛ فإن أردت رجالًا دفعتهم إليك؛ فخذ حاجتك وما تريد، واعزم على بركة الله؛ فادن من أي موضع تريد. قال: أريد أن أقصد الموضع الذي كنت عليه، قال: امض إليه. ودعا أبا سعيد، فقال له: قف بين يدي؛ أنت وجميع أصحابك، ولا يبرحن منكم أحد. ودعا أحمد بن الخليل فقال له: قف أنت وأصحابك ها هنا، ودع جعفرًا يعبر وجميع من معه من الرجال؛ فإن أراد رجالًا أو فرسانًا أمددناه؛ ووجهنا بهم إليه؛ ووجه أبا دلف وأصحابه من المطوعة؛ فانحدروا إلى الوادي، وصعدوا إلى حائط البذ من الموضع الذي كانوا صعدوا عليه تلك المرة، وعلقوا بالحائط على حسب ما كانوا فعلوا ذلك اليوم؛ وحمل جعفر حملةً حتى ضرب باب البذ؛ على حسب ما كان فعل تلك المرة الأولى؛ ووقف على الباب، وواقفه الكفرة ساعة صالحة؛ فوجه الأفشين برجل معه بدرة دنانير، وقال له اذهب إلى أصحاب جعفر، فقل: من تقدم، فاحث له ملء كفك، ودفع بدرة أخرى إلى رجل من أصحابه، وقال له: اذهب إلى المطوعة ومعك هذا المال وأطواق وأسورة؛ وقل لأبي دلف: كل من رأيته محسنًا من المطوعة وغيرهم فأعطه. ونادى صاحب الشراب، فقال له: اذهب فتوسط الحرب معهم حتى أراك بعيي معك السويق والماء؛ لئلا يعطش القوم فيحتاجوا إلى الرجوع؛ وكذلك فعل بأصحاب جعفر في الماء والسويق ودعا صاحب الكلغريّة، فقال له: من رأيته في وسط الحرب من المطوّعة في يده فأس فله عندي خمسون درهمًا؛ ودفع إليه بدرة دراهم؛ وفعل مثل ذلك بأصحاب جعفر ووجه إليهم الكلغرّية بأيديهم الفئوس، ووجه إلى جعفر بصندوق فيه أطواق وأسوارة، فقال له: ادفع إلى من أردت من أصحابك هذا سوى ما لهم عندي، وما تضمن لهم علي من الزيادة في أرزاقهم والكتاب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم. فاشتبكت الحرب على الباب طويلًا، ثم فتح الخرّميةّ الباب وخرجوا على أصحاب جعفر، فنحّوهم عن الباب، وشدوّا على المطوّعة من الناحية الأخرى؛ فأخذوا منهم علّمين وطرحوهم عن السور. وجرحوهم بالصّخر حتى أثّروا فيهم، فرقّوا عن الحرب، ووقفوا، وصاح جعفر بأصحابه، فبدر منهم نحو من مائة رجل، فبركوا خلف تراسهم التي كانت معهم، وواقفوهم متحاجزين؛ لا هؤلاء يقدمون على هؤلاء ولا هؤلاء يقدمون على هؤلاء؛ فلم يزالوا كذلك حتى صلّى الناس الظهر؛ وكان الأفشين قد حمل عرّادات، فنصب عرّادة منها مما يلي جعفرًا على الباب، وعرّادة أخرى من طرف الوادي من ناحية المطوّعّة؛ فأما العرّادة التي من ناحية جعفر؛ فدافع عنها جعفر حتى صارت العرّادة فيما بينهم وبين الخرّمية ساعة طويلة؛ ثم تخلّصها أصحاب جعفر بعد جهد، فقلعوها وردّوها إلى العسكر؛ فلم يزل الناس متوافقين متحاجزين؛ يختلف بينهم النشاب والحجارة أؤلئك على سورهم والباب وهؤلاء قعود تحت أتراسهم؛ ثم تناجزوا بعد ذلك؛ فلمّا نظر الأفشين إلى ذلك كره أن يطمع العدوّ في الناس، فوجّه الرجالة الذين كان أعدّهم قبله؛ حتى وقفوا في موضع المطوّعة، وبعث إلى جعفر بكردوس فيه رجّالة، فقال جعفر: لست أوتي من قلة الرجّالة معي رجال فرهٌ ولكني لست أرى للحرب موضعًا يتقدمون؛ إنما هاهنا موضع مجال رجل أو رجلين قد وقفوا عليه، وانقطعت الحرب، فبعث إليه: انصرف على بركة الله؛ فانصرف جعفر، وبعث الأفشين بالبغال التي كان جاء بها معه عليها المحامل؛ فجعلت فيها الجرحى ومن كان به وهن من الحجارة ولا يقدر على المشي؛ وأمر الناس بالانصراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة. صراف؛ فانصرفوا إلى خندقهم بروذ الروذ، وأيس الناس من الفتح في تلك السنة، وانصرف أكثر المطوّعة.
ثم إنّ الأفشين تجهزّ بعد جمعتين؛ فلمّا كان في جوف الليل؛ بعث الرجّالة الناشبة؛ وهم مقدار ألف رجل، فدفع إلى كل واحد منهم شكوة وكعكًا، ودفع إلى بعضهم أعلامًا سودًا وغير ذلك، وأرسلهم عند مغيب الشمس، وبعث معهم أدلّاء، فساروا ليلتهم في جبال منكرة صعبة على غير الطريق؛ حتى داروا فصاروا خلف التلّ الذي يقف آذين عليه - وهو جبل شاهق - وأمرهم ألّا يعلم بهم أحد؛ حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلّوا الغداة ورأوا الوقعة، ركبّوا تلك الأعلام في الرماح، وضربوا الطبول، وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرّمية؛ وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحرّكوا حتى يأتيهم خبره؛ ففعلوا ذلك. فوافوا رأس الجبل عند السحر، وجعلوا في تلك الشكاء الماء من الوادي؛ وصاروا فوق الجبل، فلمّا كان في بعض الليل وجّه الأفشين إلى القواد أن يتهيئوا في السلاح؛ فإنه يركب في السحر؛ فلما كان في بعض الليل، وجهّ بشيرًا التركي وقوّادًا من الفراعنة كانوا معه؛ فأمرهم أن يسيوا حتى يصيروا تحت التلّ مع أسفل الوادي الذي حملوا منه الماء؛ وهو تحت الجبل الذي كان عليه آذين؛ وقد كان الأفشين علم أنّ الكافر يكمن تحت ذلك الجبل كلّما جاءه العسكر؛ فقصد بشير والفراعنة إلى ذلك الموضع الذي علم أن للخرمّية فيه عسكرًا كامنين، فساروا في بعض الليل؛ ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر. ثم بعث للقوّاد: تأهبّوا للركوب في السلاح؛ فإن الأمير يغدو في السحر؛ فلمّا كان السحر خرج وأخرج الناس، وأخرج النفّاطين والنفّاطات والشمع على حسب ما كان يخرج، فصلّى الغداة، وضرب الطبل، وركب حتى وافى الموضع الذي كان يقف فيه في كلّ مرّة، وبسط له النطع، ووضع له الكرسي كعادته. وكان بخارًا خذاه يقف على العقبة التي كان يقف عليها في كلّ يوم؛ فلمّا كان ذلك اليوم صيّر بخارًا خذاه في المقدّمة مع أبي سعيد وجعفرٍ الخياط وأحمد بن الخليل؛ فأنكر الناس هذه التعبية في ذلك الوقت، وأمرهم أن يدنوا من التلّ الذي عليه آذين؛ فيحدقوا به؛ وقد كان ينهاهم عن هذا قبل ذلك اليوم؛ فمضى الناس مع هؤلاء القوّاد الأربعة الذين سمّينا؛ حتى صاروا حول التلّ. وكان جعفر الخياط مما يلي باب البذّ. وكان أبو سعيد مما يليه، وبخارًا خذاه مما يلي أبا سعيد، وأحمد بن الخليل بن هشام ممّا يلي بخارًا خذاه؛ فصاروا جميعًا حلقة حول التلّ، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي؛ وإذا الكمين الذي تحت التلّ الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراعنة؛ فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة.
وسمع أهل العسكر ضجّتهم، فتحرّك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا: أيها الناس، هذا بشير التركي والفراعنة قد وجّهتهم؛ فأثاروا كمينًا فلا تتحرّكوا. فلما سمع الرجّالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين؛ فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق؛ أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ؛ وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم؛ قد ركبّوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين؛ فلّما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجّه إليهم بعض رجّالته الذين معه من الخرمية. ولما نظر الناس إليهم راعوهم؛ فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين؛ فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممّن في ناحية أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد - أو محمد بن معاذ - في عدّة معه؛ فإذا تحت حوافز دوابّهم آبار محفورة تدخل أيدي الدوابّ فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها؛ فوجّه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار؛ ففعلوا ذلك؛ فحمل الناس عليهم حملة واحدة؛ وكان آذين قد هيّأ فوق الجبل عجلًا عليها صخر؛ فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد خرجت؛ ثم حمل الناس من كلّ وجه فلمّا نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طوف البذّ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التلّ الذي عليه الأفشين قدر ميل. فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين؛ فأرسل أبو دلف إلى الأفشين يعلمه بذلك؛ فأرسل الأفشين رجلًا يعرف بابك؛ فنظر إ ليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك؛ فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا؛ وهو لك مبذولُ متى شئت، فقال: قد شئت الآن؛ على أن تؤجّلني أجلًا أحمل فيه عيالي، وأتجهّز. فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرّة فلم تقبل نصيحتي؛ وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خيرٌ من غدٍ. قال: قد قبلت أيها الأمير؛ وأنا على ذلك؛ فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك. قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التلّ، فأمر أصحابك بالتوقف.
قال: فجاء رسول الأفشين ليردّ الناس، فقيل له: أعلام الفراعنة قد دخلت البذّ وصعدوا بها القصور. فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك؛ وكان قد كمّن في قصوره - وهي أربعة - ستمائة رجل؛ فوافاهم الناس؛ فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذّ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجّالة يقاتلون الناس. ومرّ بابك حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر، واشتغل الأفشين وجميع قوّاده بالحرب عل أبواب القصور، فقاتل الخرّمية قتالًا شديدًا، وأحضر النفّاطين، فجعلوا يصبّون النفط والنار، والناس يهدمون القصور؛ حتى قتلوا عن آخرهم. وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذّ من عيالاتهم حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرّمية في البيوت؛ فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أنّ الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذّ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادي الذي يلي هشتادسر. فلمّا كان في الغد خرج الأفشين حتى دخل البذّ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجّه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدًا من العلوج، فأصعد الكلغريّة، فهدموا القصور وأحرقوها؛ فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره؛ ولم يدع فيها بيتًا ولا قصرًا إلا أحرقه وهدمه؛ ثم رجع وعلم أنّ بابك قد أفلت في بعض أصحابه؛ فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أنّ بابك قد هرب وعدّة معه، وصار إلى وادٍ، وخرج منه إلى ناحية أرمينية؛ وهو مارّ بكم، وأمرهم أن يحفظ كلّ واحدً منه ناحيته، ولا يسلكها أحدٌ إلا أخذوه حتى يعرفوه. فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي؛ وكان واديًا كثير العشب والشجر، طرفه بإرمينة وطرفه الآخر بأذربيجان؛ ولم يكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجرة ومياهه لما كانت غيضة واحدة؛ ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقًا ينحدر منه إلى تلك الغيضة أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق؛ فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرًا فيه ما بين أربعمائة إلى خمسمائة مقاتل ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد.
وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرًا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختومًا فيه أمان لبابك. فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؛ فلم يحسر عل ذلك أحد منهم فقال بعضهم: أيها الأمير ما فينا أحد يجترىء أن يلقاه بهذا فقال له الأفشين: ويحك إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك؛ قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم وتوصلوا هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالنا فضمن لهما الأفشين ذلك وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير الأمان فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه فقرأه، وقل: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا ولم نعرف موضعك فنأتيك وكنا في موضع تحوفنا أن يأخذونا فطلبنا الأمان. فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا أعرفه ولكن أنت يا بن الفاعلة: كيف اجترأ على هذا أن تجيئي من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه وشد الكتاب على صدره مختومًا لم يفضه ثم قال الآخر: أذهب وقل لذامك لابن الفاعلة يعني ابنه حيث يكتب لي، وكتب إليه: لو أنك لحق بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأم يومًا كنت ابني وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة، يا بن الفاعلة عسى أن أعيش بعد اليوم قد كنت كتب باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكًا ولكنك من جنس لا خير فيه وأنا أشهد أنك لست با بني تعيش يومًا واحدًا وأنت رئيس خير أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل.
ورحل موضعه من وضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من وضع من المواضع ثم الحقوا بباك فلم يزل في تلك الغيضة حتى فنى زاده وخرج مما يأتي طريقًا كان عليه بعض العساكر وكان موضع الطريق جبلًا ليس فيه ماء فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء فتنحى العسكر عن الطريق الى قرب الماء وصيروا كوهبانين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف كل ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبيناهم ذات يوم نصف النهار إذ خرج بابك وأصحابه؛ ولم يروا أحدًا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر؛ فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية وأمه وامرأة له يقال لها ابنة الكلندانية. فخرجوا من الطريق؛ وساروا يريدون إرمينية ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيّان، فوجّهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قدر رأينا فرسانًا يمروّن ولا ندري من هم. فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدوّن عليها؛ فلمّا نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأمّ بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجهّ أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومرّ بابك متوجّهًا حتى دخل جبال إرمينية يسير في الجبال متكمنًا، فاحتاج إلى طعام؛ وكان جميع بطارقة إرمينية قد تحفّظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه؛ فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين؛ وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحرّاث يحرث على فدان له بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحرّاث، وخذ معك دنانير ودراهم؛ فإن كان معه خبز فخذه وأعطه؛ وكان للحرّاث شريك ذهب لحاجته؛ فنزل الغلام إلى الحرّاث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحرّاث شيئًا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه؛ ويظنّ أنما اغتصبه خبزه؛ ولم يظنّ أنه أعطاه شيئًا، فعدا إلى المسلحة؛ فأعلمهم أن رجلًا جاءهم عليه سيف وسلاح؛ وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي؛ فركب صاحب المسلحة - وكان في جبال ابن سنباط - ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعًا، فوافى الحراث والغلام عنده فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مرّ بي، فطلب مني خبزًا فأعطيته، فقال للغلام: وأين مولاك؟ قال: ها هنا - وأومى إليه - فاتبعه فأدركه وهو نازل؛ فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه؛ إلى أين؟ قال: أريد بلاد الروم - أو موضعًا سماه - فقال له: لا تجد موضعًا ولا أحدًا أعرف بحقك؛ ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي؛ ليس بيني وبين السلطان عمل؛ ولا تدخل على أحد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي؛ وكل من ها هنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد؛ وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختًا جميلة وجه إليها يطلبها؛ فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غضبًا.
ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني؛ فإنما هو منزلك؛ وأنا عبدك؛ كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك. وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط؛ وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد؛ فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر؛ ولكن أقيم عندك أنا ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس؛ لا ندري ما يكون؛ وليس لنا خلفٌ يقوم بدعوتنا. فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال: ليس فيهم خير. وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس - وكان يثق به - فصار هو مع ابن سنباط في حصنه فما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس؛ وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه. فكتب إليه: إن كان هذا صحيحًا فلك عندي وعند أمير المؤمنين - أيده الله - الذي تحب؛ وكتب يجزيه خيرًا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك. فكره ابن سنباط أن يوحش بابك، فقال لرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبًا على طعامه يتغدى؛ فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئًا؛ فإنه يكون منكبًا على الطعام؛ فتفقد منه ما تريد؛ فاذهب فاحكه لصاحبك.
ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال: من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان منقطع إلينا منذ زمان؛ نصراني. فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك. فقال له بابك: منذ كم أنت ها هنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف أقمت ها هنا؟ قال: تزوجت ها هنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال: من حيث امرأتي.
ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك. ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزبارة إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قدما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما. ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع - قد سماه ووصفه لهما - إلى أن يأتيهما رسوله. فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج إلى الصيد، فقال له: ها هنا وادٍ طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت. فأنفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبوزبارة يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح؛ فإذا جاءهما رسوله وأشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولًا إلى أبي سعيد ورسولًا إلى بوزبارة، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجئ بهذا إلى موضع كذا؛ فأشرفا علينا؛ فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم؛ وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله؛ فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبوزبارة، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظر إليه وانحدرا وأصحابهما عليه؛ هذا من ها هنا، وهذا من ها هنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق؛ وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير. ويقال كان بيده باشق؛ فلما نظر إلى العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزبارة، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه؛ فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير؛ لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين؛ فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيًا يدخل بين الصفين فرقًا أن يقتله إنسان أو يخرجه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية.
وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان؛ ذكروا أن بابك كان أسرهم؛ وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيًا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه؛ فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر؛ فنزلوا به راكبًا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه طموا على وجوههم، وصاحوا به وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس؛ تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله. قالوا: كان يحسن إلينا. فأمر به الأفشين فأدخل بيتًا، ووكل به رجالًا من أصحابه.
وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار إلى عيسى بن يوسف بن اصطفانوس؛ فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس؛ فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله؛ فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد؛ ووكل بهما قومًا يحفظونهما.
وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي. فوجه معه الأفشين قومًا في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين؛ وكان الأفشين قد وكل به رجلًا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجئ ويده ملأى غمرًا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها. فأعفاه منه.
وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ.
وحج الناس في هذه السنة محمد بن داود.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين ومائتين
ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
ذكر خبر قدوم الأفشين ببابك على المعتصم
فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس ثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسًا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلًا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسًا معه مجر مرتب؛ فكان يركض بالخبر ركضًا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدًا بيد؛ وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج؛ فكان يركض بها يومًا أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر؛ فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق؛ فيأخذ الخريطة منه؛ فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة أيام وأقل فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي داود متنكرًا فرآه وكلمه ثم رجع إلى المعتصم فوصفه له فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير فدخل إليه متنكرًا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه؛ فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامةً إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أميرالمؤمنين؛ لا شيء أشهر من الفيل، فقال صدقت؛ فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة؛ وهو وحده؛ فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعادته ** يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ** إلا لذي شأنٍ من الشأن
فاشتشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة؛ فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارًا ليقطع يديه ورجليه؛ ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامة؛ وهو ينادي: نودنود - وهو اسم سياف بابك - فارتفعت صيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر أن بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟ فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلًا من الدهاقين يتولى قتلي. قال: إنما يتولى قتلك هذا - وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك - فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج فأخبرني، أأمرت أن تطعمني شيئًا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدًا أني دهقان إن شاء الله. ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذًا؟ قال؟ نعم، ولا تكثر، قال فإني لا أكثر، قال فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به رأس الجسر، وأمر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام.
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 3 (0 من الأعضاء و 3 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)