الباب الخامس في أن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بأن يكون مدركا للحق مريدا له مؤثرا له على غيره
لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل فمن لم يعرف الحق فهو ضال ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه
وقد أمرنا سبحانه وتعالى أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا كان النصاري أخص بالضلال لأنهم أمة جهل واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد وهذه الأمة هم المنعم عليهم ولهذا قال سفيان ابن عيينة من فسد من عبادنا ففيه شبه من النصاري ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود لأن النصاري عبدوا بغير علم واليهود عرفوا الحق وعدلوا عنه
وفي المسند والترمذي من حديث عدي بن حاتم عن النبي قال: اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون
وقد جمع الله سبحانه بين الأصلين في غير موضع من كتابه فمنها قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون. فجمع سبحانه بين الاستجابة له والإيمان به ومنها قوله عن رسوله فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون. وقال تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. وقال الله تعالى في وسط السورة: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيعين وآتي المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة إلى آخر الآية، وقال تعالى: والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.
فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالعمل بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملاك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله لو فكر الناس في سورة والعصر لكفتهم
وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة: يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره
وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي أصدق الأسماء: حارث وهمام
فالحارث الكاسب العامل والهمام المريد فإن النفس متحركة بالإرادة وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها والإرادة تستلزم مرادا يكون متصورا لها متميزا عندها فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولابد وهذا يتبين بالباب الذي بعده فنقول:
الباب السادس في أنه لا سعادة للقلب ولا لذة ولا نعيم ولا صلاح إلا بأن يكون الله هو إلهه وفاطره وحده وهو معبوده وغاية مطلوبه وأحب إليه من كل ما سواه
معلوم أن كل حي سوى الله سبحانه: من ملك أو إنس أو جن أو حيوان فهو فقير إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ولا يتم ذلك إلا بتصوره للنافع والضار والمنفعة من جنس النعيم واللذة والمضرة من جنس الألم والعذاب
فلابد له من أمرين: أحدهما معرفة ما هو المحبوب المطلوب الذي ينتفع به ويلتذ بإدراكه والثاني: معرفة المعين الموصل المحصعل لذلك المقصود وبإزاء ذلك أمران آخران أحدهما: مكروه بغيض ضار والثاني: معين دافع له عنه فهذه أربعة أشياء:
أحدهما: أمر هو محبوب مطلوب الوجود الثاني: أمر مكروه مطلوب العدم الثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب الرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه فهذه الأمور الأربعة ضرورية للعبد بل ولكل حيوان لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها
فإذا تقرر ذلك فالله تعالى هو الذي يجب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب الذي يراد وجهه ويبتغى قربه ويطلب رضاه وهو المعين على حصول ذلك وعبودية ما سواه والالتفات إليه والتعلق به: هو المكروه الضار والله هو المعين على دفعه فهو سبحانه الجامع لهذه الأمور الأربعة دون ما سواه فهو المعبود المحبوب المراد وهو المعين لعبده على وصوله إليه وعبادته له والمكروه البغيض إنما يكون بمشيئته وقدرته وهو المعين لعبده على دفعه عنه كما قال أعرف الخلق به: أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك وقال: اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك فمنه المنجي وإليه الملجأ وبه الاستعاذة من شر ما هو كائن بمشيئته وقدرته فالإعاذة فعله والمستعاذ منه فعله أو مفعوله الذي خلقه بمشيئته
فالأمر كله له والحمد كله له والملك كله له والخير كله في يديه لا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بل هو كما أثني على نفسه وفوق ما يثني عليه كل أحد من خلقه ولهذا كان صلاح العبد وسعادته في تحقيق معنى قوله: إياك نعبد وإياك نستعين [ الفاتحه: 4 ] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب لكن على أكمل الوجوه والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب فالأول: من معنى ألوهيته والثاني: من معنى ربوبيته فإن الإله هو الذي تألهه القلوب: محبة وإنابة وإجلالا وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا والرب هو الذي يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى مصالحه فلا إله إلا هو ولا رب إلا هو فكما أن ربوبية ما سواه أبطل الباطل فكذلك إلهية ما سواه
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه كقوله: فاعبده وتوكل عليه [ هود: 123 ] وقوله عن نبيه شعيب: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ هود: 88 ] وقوله: وتوكل على الحىالذي لا يموت وسبح بحمده [ الفرقان: 58 ] وقوله: وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ المزمل: 8 ] وقوله: قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب [ الرعد: 30 ] وقوله عن الحنفاء أتباع إبراهيم عليه السلام: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [ الممتحنة: 4 ]
فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين لمعنيى التوحيد اللذين لا سعادة للعبد بدونهما ألبتة
الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والانابة إليه ومحبته والاخلاص له فبذكره تطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم وبرؤيته في الآخرة تقر عيونهم ويتم نعيمهم فلا يعطيهم في الآخرة شيئا هو أحب إليهم ولا أقر لعيونهم ولا أنعم لقلوبهم: من النظر اليه وسماع كلامه منه بلا واسطة ولم يعطهم في الدنيا شيئا خيرا لهم ولا أحب إليهم ولا أقر لعيونهم من الإيمان به ومحبته والشوق إلى لقائه والأنس بقربه والتنعم بذكره وقد جمع النبي بين هذين الأمرين في الدعاء الذي رواه النسائي والإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهم من حديث عمار بن ياسر: أن رسول الله كان يدعو به: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسلك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لاتنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين
فجمع في هذا الدعاء العظيم القدر بين أطيب شىء في الدنيا وهو الشوق إلى لقائه سبحانه وأطيب شىء في الآخرة وهو النظر إلى وجهه سبحانه ولما كان كمال ذلك وتمامه موقوفا على عدم ما يضر في الدنيا ويفتن في الدين قال: في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
ولما كان كمال العبد في أن يكون عالما بالحق متبعا له معلما لغيره مرشدا له قال: واجعلنا هداة مهتدين
ولما كان الرضى النافع المحصل للمقصود هو الرضى بعد وقوع القضاء لاقبله فإن ذلك عزم على الرضى فإذا وقع القضاء انفسخ ذلك العزم سأل الرضى بعده فإن المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه والرضى بعد وقوعه فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما كما في المسند وغيره عنه إن من سعادة ابن آدم استخارة الله ورضاه بما قضى الله وإن من شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله وسخطه بما قضى الله تعالى
ولما كانت خشية الله تعالى رأس كل خير في المشهد والمغيب سأله خشيته في الغيب والشهادة
ولما كان أكثر الناس إنما يتكلم بالحق في رضاه فإذا غضب أخرجه غضبه إلى الباطل وقد يدخله أيضا رضاه في الباطل سأل الله تعالى أن يوفقه لكلمة الحق في الغضب والرضى ولهذا قال بعض السلف: لا تكن ممن إذا رضي أدخله رضاه في الباطل وإذا غضب أخرجه غضبه من الحق
ولما كان الفقر والغنى بليتين ومحنتين يبتلي الله بهما عبده ففي الغنى يبسط يده وفي الفقر يقبضها سأل الله تعالى القصد في الحالتين وهو التوسط الذي ليس معه إسراف ولا تقتير
ولما كان النعيم نوعين: نوعا للبدن ونوعا للقلب وهو قرة العين وكماله بدوامه واستمراره جمع بينهما في قوله: أسألك نعيما لا ينفد وقرة عين لا تنقطع ولما كانت الزينة زينتين: زينة البدن وزينة القلب وكانت زينة القلب أعظمهما قدرا وأجلهما خطرا وإذا حصلت زينة البدن على أكمل الوجوه في العقبى سأل ربه الزينة الباطنة فقال زينا بزينة الإيمان
ولما كان العيش في هذه الدار لا يبرد لأحد كائنا من كان بل هو محشو بالغصص والنكد ومحفوف بالآلام الباطنة والظاهرة سأل برد العيش بعد الموت
والمقصود: أنه جمع في هذا الدعاء بين أطيب ما في الدنيا وأطيب ما في الآخرة فإن حاجة العباد إلى ربهم في عبادتهم إياه وتأليههم له كحاجتهم إليه في خلقه لهم ورزقه إياهم ومعافاة أبدانهم وستر عوراتهم وتأمين روعاتهم بل حاجتهم إلى تأليهه ومحبته وعبوديته أعظم فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم ولا صلاح لهم ولا نعيم ولا فلاح ولا لذة ولا سعادة بدون ذلك بحال ولهذا كانت لا اله إلا الله أحسن الحسنات وكان توحيد الإلهية رأس الأمر وأما توحيد الربوبية الذي أقر به المسلم والكافر وقرره أهل الكلام في كتبهم فلا يكفي وحده بل هو الحجة عليهم كما بين ذلك سبحانه في كتابه الكريم في عدة مواضع ولهذا كان حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما في الحديث الصحيح الذي رواه معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي قال: أتدري ما حق الله على عباده قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقه على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم بالنار ولذلك يحب سبحانه عباده المؤمنين الموحدين ويفرح بتوبتهم كما أن في ذلك أعظم لذة فليس في الكائنات شيء غير الله تعالى يسكن القلب إليه ويطمئن به ويأنس به ويتنعم بالتوجه إليه ومن عبد غيره سبحانه وحصل له به نوع منفعة ولذة فمضرته بذلك أضعاف أضعاف منفعته وهو بمنزلة أكل الطعام المسموم اللذيذ وكما أن السموات والأرض لو كان فيهما آلهة غيره سبحانه لفسدتا كما قال تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ الأنبياء: 22 ] فكذلك القلب إذا كان فيه معبود غير الله تعالى فسد فسادا لا يرجى صلاحه إلا بأن يخرج ذلك المعبود منه ويكون الله تعالى وحده إلهه ومعبوده الذي يحبه ويرجوه ويخافه ويتوكل عليه وينيب إليه الوجه الثالث: أن فقر العبد إلى أن يعبد الله سبحانه وحده لا يشرك به شيئا ليس له نظير فيقاس به لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنفس فيقاس بها لكن بينهما فروق كثيرة فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ولا صلاح له إلا بالهه الحق الذي لا إله إلا هو فلا يطمئن إلا بذكره ولا يسكن إلا بمعرفته وحبه وهو كادح إليه كدحا فملاقيه ولا بد له من لقائه ولا صلاح له إلا بتوحيد محبته وعبادته وخوفه ورجائه ولو حصل له من اللذات والسرور بغيره ما حصل فلا يدوم له ذلك بل ينتقل من نوع إلى نوع ومن شخص إلى شخص ويتنعم بهذا في حال وبهذا في حال وكثيرا ما يكون ذلك الذي يتنعم به هو أعظم أسباب ألمه ومضرته وأما إلهه الحق فلا بد له منه في كل وقت وفي كل حال وأينما كان فنفس الإيمان به ومحبته وعبادته وإجلاله وذكره هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان ودلت عليه السنة والقرآن وشهدت به الفطرة والجنان لا كما يقوله من قل نصيبه من التحقيق والعرفان وبخس حظه من الإحسان: إن عبادته وذكره وشكره تكليف ومشقة لمجرد الابتلاء والامتحان أو لأجل مجرد التعويض بالثواب المنفصل كالمعاوضة بالأثمان أو لمجرد رياضة النفس وتهذيبها ليرتفع عن درجة البهيم من الحيوان كما هي مقالات من بخس حظه من معرفة الرحمن وقل نصيبه من ذوق حقائق الإيمان وفرح بما عنده من زبد الأفكار وزبالة الأذهان بل عبادته ومعرفته وتوحيده وشكره قرة عين الإنسان وأفضل لذة للروح والقلب والجنان وأطيب نعيم ناله من كان أهلا لهذا الشان والله المستعان وعليه التكلان
وليس المقصود بالعبادات والأوامر المشقة والكلفة بالقصد الأول وإن وقع ذلك ضمنا وتبعا في بعضها لأسباب اقتضته لابد منها هي من لوازم هذه النشأة
فأوامره سبحانه وحقه الذي أوجبه على عباده وشرائعه التي شرعها لهم هي قرة العيون ولذة القلوب ونعيم الأرواح وسرورها وبها شفاؤها وسعادتها وفلاحها وكمالها في معاشها ومعادها بل لا سرور لها ولا فرح ولا لذة ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك كما قال تعالى: يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ يونس: 57 ] قال أبو سعيد الخدري: فضل الله: القرآن ورحمته: أن جعلكم من أهله وقال هلال بن يساف: بالإسلام الذي هداكم إليه وبالقرآن الذي علمكم إياه هو خير مما تجمعون: من الذهب والفضة وكذلك قال: ابن عباس والحسن وقتادة: فضله: الإسلام ورحمته: القرآن وقالت طائفة من السلف: فضله القرآن ورحمته الإسلام
والتحقيق: أن كلا منهما فيه الوصفان الفضل والرحمة وهما الأمران اللذان امتن الله بهما على رسوله فقال: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ الشورى: 52 ] والله سبحانه إنما رفع من رفع بالكتاب والإيمان ووضع من وضع بعدمها
فإن قيل: فقد وقع تسمية ذلك تكليفا في القرآن كقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ البقرة: 286 ] وقوله: لا نكلف نفسا إلا وسعها [ الأنعام: 152 ]
قيل: نعم إنما جاء ذلك في جانب النفي ولم يسم سبحانه أوامره ووصاياه وشرائعه تكليفا قط بل سماها روحا ونورا وشفاء وهدى ورحمة وحياة وعهدا ووصية ونحو ذلك
الوجه الرابع: أن أفضل نعيم الآخرة وأجله وأعلاه على الإطلاق هو النظر إلى وجه الرب تعالى وسماع خطابه كما في صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه عن النبي إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال: فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وفي حديث آخر: فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه فبين أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم ربهم في الجنة لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وإنما كان ذلك أحب إليهم لأن ما يحصل لهم به من اللذة والنعيم والفرح والسرور وقرة العين فوق ما يحصل لهم من التمتع بالأكل والشرب والحور العين ولا نسبة بين اللذتين والنعيمين ألبتة ولهذا قال سبحانه وتعالى في حق الكفار: كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ثم إنهم لصالوا الجحيم [ المطففين: 15 ] فجمع عليهم نوعي العذاب: عذاب النار وعذاب الحجاب عنه سبحانه كما جمع لأوليائه نوعي النعيم: نعيم التمتع بما في الجنة ونعيم التمتع برؤيته وذكر سبحانه هذه الأنواع الأربعة في هذه السورة فقال في حق الأبرار: إن الأبرار لفي نعيم على الارائك ينظرون [ المطففين: 23 ] ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم أو ينظر بعضهم إلى بعض وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره وإنما المعنى ينظرون إلى وجه ربهم ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون: ثم إنهم لصالوا الجحيم [ المطففين: 32 ] وتأمل كيف قابل سبحانه ما قاله الكفار في أعدائهم في الدنيا وسخروا به منهم بضده في القيامة فإن الكفار كانوا إذا مر بهم المؤمنون يتغامزون ويضحكون منهم وإذا رأوهم قالوا إن هؤلآء لضالون [ المطففين: 32 ] فقال تعالى:
فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون [ المطففين: 34 ] مقابلة لتغامزهم وضحكهم منهم ثم قال: على الأرائك ينظرون [ المطففين: 23 ] فأطلق النظر ولم يقيده بمنظور دون منظور وأعلى ما نظروا إليه وأجله وأعظمه هو الله سبحانه والنظر إليه أجل أنواع النظر وأفضلها وهو أعلى مراتب الهداية فقابل بذلك قولهم إن هؤلاء لضالون فالنظر إلى الرب سبحانه مراد من هذين الموضعين ولا بد إما بخصوصه وإما بالعموم والإطلاق ومن تأمل السياق لم يجد الآيتين تحتملان غير إرادة ذلك خصوصا أو عموما
فصل في أن لذة النظر إلى وجه الله يوم القيامة تابعة للتلذذ بمعرفته ومحبته في الدنيا
وكما أنه لا نسبة لنعيم ما في الجنة إلى نعيم النظر إلى وجهه الأعلى سبحانه فلا نسبة لنعيم الدنيا إلى نعيم محبته ومعرفته والشوق إليه والأنس به بل لذة النظر إليه سبحانه تابعة لمعرفتهم به ومحبتهم له فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة فكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان التذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم
الوجه الخامس أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضر ولا عطاء ولا منع ولا هدى ولا ضلال ولا نصر ولا خذلان ولا خفض ولا رفع ولا عز ولا ذل بل الله وحده هو الذي يملك له ذلك كله قال الله تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وقال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وقال تعالى إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده الآية وقال تعالى عن صاحب يس أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون وقال تعالى يا أيها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون وقال تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور فجمع سبحانه بين النصر والرزق فإن العبد مضطر إلى من يدفع عنه عدوه بنصره ويجلب له منافعه برزقه فلا بد له من ناصر ورازق والله وحده هو الذي ينصر ويرزق فهو الرزاق ذو القوة المتين ومن كمال فطنة العبد ومعرفته أن يعلم أنه إذا مسه الله بسوء لم يرفعه عنه غيره وإذا ناله بنعمة لم يرزقه إياها سواه ويذكر أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه أدرك لي لطيف الفطنة وخفي اللطف فإني أحب ذلك قال: يا رب وما لطيف الفطنة قال: إن وقعت عليك ذبابة فاعلم أني أنا أوقعتها فاسألني أرفعها قال: وما خفي اللطف قال: إذا أتتك حبة فاعلم أني أنا ذكرتك بها وقد قال تعالى عن السحرة: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ البقرة: 102 ] فهو سبحانه وحده الذي يكفي عبده وينصره ويرزقه ويكلؤه
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: سمعت وهبا يقول: قال الله تعالى في بعض كتبه: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن فإني أجعل له من ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفى لعبدي ملآي إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه قال أحمد: وحدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز قال: نعم أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك وهذا الوجه أظهر للعامة من الذي قبله ولهذا خوطبوا به في القرآن أكثر من الأول ومنه دعت الرسل إلى الوجه الأول وإذا تدبر اللبيب القرآن وجد الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إلى الوجه الأول وهذا الوجه يقتضي التوكل على الله تعالى والاستعانة به ودعاءه ومسألته دون ما سواه ويقتضي أيضا: محبته وعبادته لإحسانه إلى عبده وإسباغ نعمه عليه فإذا أحبوه وعبدوه وتوكلوا عليه من هذا الوجه دخلوا منه إلى الوجه الأول
ونظير ذلك: من ينزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق فجعل يدعو الله سبحانه ويتضرع إليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته وعظيم الإيمان به والإنابة إليه ما هو أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولا ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه وفي نحو ذلك قال القائل:
جزى الله يوم الروع خيرا... فإنه أرانا على علاته أم ثابت
أرانا مصونات الحجال ولم نكن... نراهن إلا عند نعت النواعت
الوجه السادس: أن تعلق العبد بما سوى الله تعالى مضرة عليه إذا أخذ منه فوق القدر الزائد على حاجته غير مستعين به على طاعته فإذا نال من الطعام والشراب والنكاح واللباس فوق حاجته ضره ذلك ولو أحب سوى الله ما أحب فلا بد أن يسلبه ويفارقه فإن أحبه لغير الله فلابد أن تضره محبته ويعذب بمحبوبه إما في الدنيا وإما في الآخرة والغالب أنه يعذب به في الدارين قال تعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [ التوبة: 34 ] وقال تعالى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيوة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون [ التوبة: 55 ] ولم يصب من قال: إن الآية على التقديم والتأخير كالجرجاني حيث قال: ينتظم قوله في الحياة الدنيا بعد فصل آخر ليس بموضعه على تأويل فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وهذا القول يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو منقطع واختاره قتادة وجماعة وكأنهم لما أشكل عليهم وجه تعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا وأن سرورهم ولذتهم ونعيمهم بذلك فروا إلى التقديم والتأخير
وأما الذين رأوا أن الآية على وجهها ونظمها فاختلفوا في هذا التعذيب فقال الحسن البصري: يعذبهم بأخذ الزكاة منها والإنفاق في الجهاد واختاره ابن جرير وأوضحه فقال: العذاب بها إلزامهم بما أوجب الله عليهم فيها من حقوقه وفرائضه إذ كان يؤخذ منه ذلك
وهو غير طيب النفس ولا راج من الله جزاء ولا من الآخذ منه حمدا ولا شكرا بل على صغار منه وكره
وهذا أيضا عدول عن المراد بتعذيبهم في الدنيا بها وذهاب عن مقصود الآية
وقالت طائفة: تعذيبهم بها أنهم يتعرضون بكفرهم لغنيمة أموالهم وسبي أولادهم فإن هذا حكم الكافر وهم في الباطن كذلك وهذا أيضا من جنس ما قبله فإن الله سبحانه أقر المنافقين وعصم أموالهم وأولادهم بالإسلام الظاهر وتولى سرائرهم فلو كان المراد ما ذكره هؤلاء لوقع مراده سبحانه: من غنيمة أموالهم وسبى أولادهم فإن الإرادة ههنا كونية بمعنى المشيئة وما شاء الله كان ولابد وما لم يشأ لم يكن
والصواب والله أعلم أن يقال: تعذيبهم بها هو الأمر المشاهد من تعذيب طلاب الدنيا ومحبيها ومؤثريها على الآخرة: بالحرص على تحصيلها والتعب العظيم في جمعها ومقاساة أنواع المشاق في ذلك فلا تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده على تحصيلها والعذاب هنا هو الألم والمشقة والنصب كقوله السفر قطعة من العذاب وقوله: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه أي يتألم ويتوجع لا أنه يعاقب بأعمالهم وهكذا من الدنيا كل همه أو أكبر همه كما قال في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له
ومن أبلغ العذاب في الدنيا: تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب على أن أكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه وفي الترمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك وإن لا تفعل ملأت يديك شغلا ولم أسد فقرك وهذا أيضا من أنواع العذاب وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومحاربة أهلها إياه ومقاساة معاداتهم كما قال بعض السلف: من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم وتعب دائم وحسرة لا تنقضي وذلك أن محبها لا ينال منها شيئا إلا طمحت نفسه إلى ما فوقه كما في الحديث الصحيح عن النبي لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى لهما ثالثا وقد مثل عيسى بن مريم عليه السلام: محب الدنيا بشارب الخمر كلما ازداد شربا ازداد عطشا
وذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب الى عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر فمالها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختيارا وبسطها لاعدائه اغترارا فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها ونسى ما صنع الله تعالى برسوله حين شد الحجر على بطنه وقال الحسن أيضا: إن قوما أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها وهذا باب واسع وأهل الدنيا وعشاقها أعلم بما يقاسونه من العذاب وأنواع الألم في طلبها ولما كانت هي أكبر هم من لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لقاء ربه كان عذابه بها بحسب حرصه عليها وشدة اجتهاده في طلبها وإذا أردت أن تعرف عذاب أهلها بها فتأمل حال عاشق فان في حب معشوقه وكلما رام قربا من معشوقه نأى عنه ولا يفي له ويهجره ويصل عدوه فهو مع معشوقه في أنكد عيش يختار الموت دونه فمعشوقه قليل الوفاء كثير الجفاء كثير الشركاء سريع الاستحالة عظيم الخيانة كثير التلون لا يأمن عاشقه معه على نفسه ولا على ماله مع أنه لا صبر له عنه ولا يجد عنه سبيلا إلى سلوة تريحه ولا وصال يدوم له فلو لم يكن لهذا العاشق عذاب إلا هذا العاجل لكفى به فكيف إذا حيل بينه وبين لذاته كلها وصار معذبا بنفس ما كان ملتذا به على قدر لذته به التي شغلته عن سعيه في طلب زاده ومصالح معاده
وسنعود إلى تمام الكلام في هذا الباب في باب ذكر علاج مرض القلب بحب الدنيا إن شاء الله تعالى إذ المقصود بيان أن من أحب شيئا سوى الله تعالى ولم تكن محبته له لله تعالى ولا لكونه معينا له على طاعة الله تعالى: عذب به في الدنيا قبل يوم القيامة كما قيل:
أنت القتيل بكل من أحببته... فاختر لنفسك في الهوى من تصطفى
فإذا كان يوم المعاد ولى الحكم العدل سبحانه كل محب ما كان يحبه في الدنيا فكان معه: إما منعما أو معذبا ولهذا يمثل لصاحب المال ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه يقول: أنا مالك أنا كنزك ويصفح له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره وكذلك عاشق الصور إذا اجتمع هو ومعشوقه على غير طاعة الله تعالى جمع الله بينهما في النار وعذب كل منهما بصاحبه قال تعالى: الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين [ الزخرف: 67 ] وأخبر سبحانه أن الذين توادوا في الدنيا على الشرك يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة ويلعن بعضهم بعضا ومأواهم النار وما لهم من ناصرين
فالمحب مع محبوبه دنيا وأخرى ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة للخلق: أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا وقال المرء مع من أحب وقال الله تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا [ الفرقان: 29 ] وقال تعالى: احشروا الذين ظلموا وأزاواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهذوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون مالكم لا تناصرون [ الصافات: 22 ] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أزواجهم: أشباههم ونظراؤهم وقال تعالى: وإذا النفوس زوعجت [ التكوير: 7 ] فقرن كل شكل إلى شكله وجعل معه قرينا وزوجا: البر مع البر والفاجر مع الفاجر
والمقصود: أن من أحب شيئا سوى الله تعالى فالضرر حاصل له بمحبوبه: إن وجد وإن فقد فإنه إن فقده عذب بفواته وتألم على قدر تعلق قلبه به وإن وجده كان ما يحصل
له من الألم قبل حصوله ومن النكد في حال حصوله ومن الحسرة عليه بعد فوته أضعاف أضعاف ما في حصوله له من اللذة:
فما في الأرض أشقى من محب... وإن وجد الهوى حلو المذاق
تراه باكيا في كل حال... مخافة فرقة أو لاشتياق
فيبكي إن نأوا شوقا إليهم... ويبكي إن دنوا حذر الفراق
فتسخن عينه عند التلاقي... وتسخن عينه عند الفراق
وهذا أمر معلوم بالاستقراء والاعتبار والتجارب ولهذا قال النبي في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه. فذكره جميع أنواع طاعته فكل من كان في طاعته فهو ذاكر له وإن لم يتحرك لسانه بالذكر وكل من والاه الله فقد أحبه وقربه فاللعنة لا تنال ذلك بوجه وهي نائلة كل ما عداه
الوجه السابع: أن اعتماد العبد على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته هو ولابد عكس ما أمله منه فلابد أن يخذل من الجهة التي قدر أن ينصر منها ويذم من حيث قدر أن يحمد وهذا أيضا كما أنه ثابت بالقرآن والسنة فهو معلوم بالاستقراء والتجارب قال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عززا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ مريم: 81 ] وقال تعالى: واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ يس: 75 ] أي يغضبون لهم ويحاربون كما يغضب الجند ويحارب عن أصحابه وهم لا يستطيعون نصرهم بل هم كل عليهم وقال تعالى: وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شىء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ هود 101 ] أي غير تخسير وقال تعالى: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين [ الشعراء 213 ] وقال تعالى: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا فإن المشرك يرجو بشركه النصر تارة والحمد والثناء تارة فأخبر سبحانه أن مقصوده ينعكس عليه ويحصل له الخذلان والذم والمقصود: أن هذين الوجهين في المخلوق ضدهما في الخالق سبحانه فصلاح القلب وسعادته وفلاحه في عبادة الله تعالى والاستعانة به وهلاكه وشقاؤه وضرره العاجل والآجل في عبادة المخلوق والاستعانة به
الوجه الثامن: أن الله سبحانه غني كريم عزيز رحيم فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر لا لجلب منفعة إليه من العبد ولا لدفع مضرة بل رحمة منه وإحسانا فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة ولا ليرزقوه ولا لينفعوه ولا ليدفعوا عنه كما قال تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطمعون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ الذاريات: 56 ] وقال تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ الإسراء: 111 ] فهو سبحانه لا يوالى من يواليه من الذل كما يولاى المخلوق المخلوق وإنما يوالي أولياءه إحسانا ورحمة ومحبة لهم وأما العباد فإنهم كما قال تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء [ محمد: 38 ] فهم لفقرهم وحاجتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانفاعه به عاجلا أو آجلا ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل فهو محتاج إلى ذلك الجزاء أو معاوضة بإحسانه أو لتوقع حمده وشكره وهو أيضا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء والمدح فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة فهو أيضا محسن إلى نفسه بذلك وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته فهو غير ملوم في هذا القصد فإنه فقير محتاج وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه وقال تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم [ الإسراء: 7 ] وقال: وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون [ البقرة: 272 ] وقال تعالى فيما رواه عنه رسوله يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول بل إنما يقصد انتفاعه بك والرب تعالى إنما يريد نفعك لا انتفاعه به وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة بخلاف إرادة المخلوق نفعك فإنه قد يكون فيه مضرة عليك ولو بتحمل منته
فتدبر هذا فإن ملاحظته تمنعك أن ترجو المخلوق أو تعامله دون الله تعالى أو تطلب منه نفعاأو دفعاأو تعلق قلبك به فإنه إنما يريد انتفاعه بك لا محض نفعك وهذا حال الخلق كلهم بعضهم مع بعض وهو حال الولد مع والده والزوج مع زوجه والمملوك مع سيده والشريك مع شريكه فالسعيد من عاملهم لله تعالى لا لهم وأحسن إليهم لله تعالى وخاف الله تعالى فيهم ولم يخفهم مع الله تعالى ورجا الله تعالى بالإحسان إليهم ولم يرجهم مع الله وأحبهم لحب الله ولم يحبهم مع الله تعالى كما قال أولياء الله تعالى: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا [ الإنسان: 9 ]
الوجه التاسع: أن العبد المخلوق لا يعلم مصلحتك حتى يعرفه الله تعالى إياها ولا يقدر على تحصيلها لك حتى يقدره الله تعالى عليها ولا يريد ذلك حتى يخلق الله فيه إرادة ومشيئة فعاد الأمر كله لمن ابتدأ منه وهو الذي بيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فتعلق القلب بغيره رجاء وخوفا وتوكلا وعبودية: ضرر محض لا منفعة فيه وما يحصل بذلك من المنفعة فهو سبحانه وحده الذي قدرها ويسرها وأوصلها إليك
الوجه العاشر: أن غالب الخلق إنما يريدون قضاء حاجاتهم منك وإن أضر ذلك بدينك ودنياك فهم إنما غرضهم قضاء حوائجهم ولو بمضرتك والرب تبارك وتعالى إنما يريدك لك ويريد الإحسان إليك لك لا لمنفعته ويريد دفع الضرر عنك فكيف تعلق أملك ورجاءك وخوفك بغيره وجماع هذا أن تعلم: أن الخلق كلهم لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا كلهم على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك قال الله تعالى: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ التوبة: 51 ]
خاتمة لهذا الباب
لما كان الإنسان بل وكل حي متحرك بالإرادة لا ينفك عن علم وإرادة وعمل بتلك الإرادة وله مراد مطلوب وطريق وسبب يوصل إليه معين عليه وتارة يكون السبب منه وتارة يكون من خارج منفصل عنه وتارة منه ومن الخارج فصار الحي مجبولا على أن يقصد شيئا ويريده ويستعين بشيء ويعتمد عليه في حصول مراده
والمراد قسمان: أحدهما: ما هو مراد لنفسه والثاني: ما هو مراد لغيره والمستعان قسمان أحدهما ما هو مستعان بنفسه والثاني ما هو تبع له وآلة فهذه أربعة أمور: مراد لنفسه ومراد لغيره ومستعان بنفسه ومستعان بكونه آلهة وتبعا للمستعان بنفسه
فلا بد للقلب من مطلوب يطمئن إليه وتنتهي إليه محبته ولابد من شيء يتوصل به ويستعين به في حصول مطلوبه والمستعان مدعو ومسئول والعبادة والاستعانة كثيرا ما يتلازمان فمن اعتمد القلب عليه في رزقه ونصره ونفعه خضع له وذل له وانقاد له وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته لكن قد يغلب عليه حكم الحال حتى يحبه لذاته وينسى مقصوده منه وأما من أحبه القلب وأراده وقصده فقد لا يستعين به ويستعين بغيره عليه كمن أحب مالا أو منصبا أو امرأة فإن علم أن محبوبه قادر على تحصيل غرضه استعان به فاجتمع له محبته والاستعانة به
فالأقسام أربعة: محبوب لنفسه وذاته مستعان بنفسه فهذا أعلى الأقسام وليس ذلك إلا لله وحده وكل ما سواه فإنما ينبغي أن يحب تبعا لمحبته ويستعان به لكونه آلة وسببا الثاني: محبوب لغيره ومستعان به أيضا كالمحبوب الذي هو قادر على تحصيل غرض محبه الثالث: محبوب مستعان عليه بغيره الرابع: مستعان به غير محبوب في نفسه
فإذا عرف ذلك تبين من أحق هذه الأقسام الأربعة بالعبودية والاستعانة وأن محبة غيره واستعانته به إن لم تكن وسيلة إلى محبته واستعانته وإلا كانت مضرة على العبد ومفسدتها أعظم من مصلحتها والله المستعان وعليه التكلان
الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)
مواقع النشر (المفضلة)