صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 5 إلى 8 من 23

الموضوع: مقدمة أبن خلدون (الجزء الأول)


  1. #5
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    و كبراؤهم لهذا العهد بنو عمران بفاس من ولد يحيى الخوطي بن محمد بن يحيى العوام بن القاسم بن إدريس بن إدريس و هم نقباء أهل البيت هناك و الساكنون ببيت جدهم ادريس و لهم السيادة على أهل المغرب كافة حسبما نذكرهم عند ذكر الأدارسة إن شاء الله تعالى و يلحق بهذه المقالات الفاسدة و المذاهب الفائلة ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين و نسبته إلى الشعوذة و التلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق و النعي على أهل البغي قبله و تكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت و إنما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم و الفتيا و في الدين بزعمهم ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطؤ العقب نفسوا ذلك عليه و غضوا منه بالقدح في مذاهبه و التكذيب لمدعياته و أيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك المتونة أعدائه تجلةً و كرامةً لم تكن لهم من غيرهم لما كانوا عليه من السذاجة و انتحال الديانة فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة و الإنتصاب للشورى كل في بلده و على قدره في قومه فأصبحوا بذلك شيعة لهم و حرباً لعدوهم و نقموا على المهدي ما جاء به من خلافهم و التثريب عليهم و المناصبة، لهم تشيعاً للمتونة و تعصباً لدولتهم و مكان الرجل غير مكانهم و حاله على غير معتقداتهم و ما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم و خالف اجتهاده فقهاؤهم فنادى في قومه و دعا إلى جهادهم بنفسه فاقتلع الدولة من أصولها و جعل عاليها سافلها أعظم ما كانت قوةً و أشد شوكة و أعز أنصاراً و حاميةً و تساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها و قد بايعوه على الموت و وقوه بأنفسهم من الهلكة و تقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة و التعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم و دالت بالع***ين من الدول و هو بحاله من التقشف و الحصر و الصبر على المكاره و التقلل من الدنيا حتى قبضه الله و ليس على شيىء من الحظ و المتاع في دنياه حتى الولد الذي ربما تجنح أليه النفوس و تخادع عن تمنيه فليت شعري ما الذي قصد بذلك إن لم يكن و جه الله و هو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله و مع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره و انفسحت دعوته سنة الله التي قد خلت في عباده و أما انكارهم نسبه في أهل البيت فلا تعضده حجة لهم مع أنه إن ثبت أنه ادعاه و انتسب إليه فلا دليل يقوم على بطلانه لأن الناس مصدقون في أنسابهم و إن قالوا أن الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم كما هو الصحيح حسبما يأتي في الفصل الأول من هذا الكتاب و الرجل قد رأس سائر المصامدة و دانوا باتباعه و الانقياد إليه و إلى عصابته من هرغة حتى تم أمر الله في دعوته فأعلم أن هذا النسب الفاطمي لم يكن أمر المهدي يتوقف عليه و لا اتبعه الناس بسببه و إنما كان اتباعهم له بعصبية الهريغة و المصمودية و مكانه منها و رسوخ شجرته فيها و كان ذلك النسب الفاطمي خفياً قد درس عند الناس ليبقى عنده و عند عشيرته يتناقلونه بينهم فيكون النسب الأول كأنه انسلخ منه و لبس جلدة هؤلاء و ظهر فيها فلا يضره الانتساب الأول في عصبيته إذ هو مجهول عند أهل العصابة و مثل هذا واقع كثيراً إذا كان النسب الأول خفياً.
    و انظز قصة عرفجة و جرير في رئاسة بجيلة و كيف كان عرفجة من الأزد و لبس جلدة بجيلة حتى تنازع مع جرير رئاستهم عند عمر رضي الله عنه كما هو مذكور تتفهم منه وجه الحق و الله الهادي للصواب و قد كدنا أن نخرج عن غرض الكتاب بالإطناب في هذه المغالط فقد زلت أقدام كثير من الأثبات و المؤرخين الحفاظ في مثل هذه الأحاديث و الآراء و علقت أفكارهم و نقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر و الغفلة عن القياس و تلقوها هم أيضاً كذلك من غير بحث و لا روية و اندرجت في محفوظاتهم حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً و ناظره مرتبكاً وعد من مناحي العامة فإذا يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة و طبائع الموجودات و اختلاف الأمم و البقاع و الأعصار في السير و الأخلاق و العوائد و النحل و المذاهب و سائر الأحوال و الإحاطة بالحاضر من ذلك و مماثلة ما بينه و بين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف و تعليل المتفق منها و المختلف و القيام على أصول الدول و الملل و مبادىء ظهورها و أسباب حدوثها و دواعي كونها و أحوال القائمين بها و أخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل خبره و حينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد و الأصول فإن وافقها و جرى على مقتضها كان صحيحاً و إلا زيفه و استغنى عنه و ما استكبر القدماء علم التاريخ إلا لذلك حتى انتحله الطبري و البخاري و ابن إسحاق من قبلهما و أمثالهم من علماء الأمة و قد ذهل الكثير عن هذا السر فيه حتى صار انتحاله مجهلة و استخف العوام و من لا رسوخ له في المعارف مطالعته و حمله و الخوض فيه و التطفل عليه فاختلط المرعي بالهمل و اللباب بالقشر و الصادق بالكاذب و إلى الله عاقبة الأمور و من الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم و الأجيال بتبدل الأعصار و مرور الأيام و هو داء دوي شديد الخفاء إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة و ذلك أن أحوال العالم و الأمم و عوائدهم و نحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة و منهاح مستقر إنما هو اختلاف على الأيام و الأزمنة و انتقال من حال إلى حال و كما يكون ذلك في الأشخاص و الأوقات و الأمصار فكذلك يقع في الآفاق و الأقطار و الأزمنة و الدول سنة الله التي قد خلت في عباده و قد كانت في العالم أمم الفرس الأولى و السريانيون و النبط و التبابعة و بنو إسرائيل و القبط و كانوا على أحوال خاصة بهم في دولهم و ممالكهم و سياستهم و صنائعهم و لغاتهم و اصطلاحاتهم و سائر مشاركاتهم مع أبناء جنسهم وأحوال اعتمارهم للعالم تشهد بها آثارهم ثم جاء من بعدهم الفرق الثانية و الروم و العرب فتبدلت تلك الأحوال و انقلبت بها العوائد إلى ما يجانسها أو يشابهها و إلى ما يباينها أو يباعدها ثم جاء الإسلام بدولة مضر فانقلبت تلك الأحوال و أجمع انقلابة أخرى و صارت إلى ما أكثره فتعارف لهذا العهد بأخذه الخلف عن السلف ثم درست دولة العرب و أيامهم و ذهبت الأسلاف الذين شيدوا عزمهم و مهدوا ملكهم و صار الأمر في أيدي سواهم من العجم مثل الترك بالمشرق و البربر بالمغرب و الفرنجة بالشمال فذهبت بذهابهم أمم و انقلبت أحوال و عوائد نسي شأنها و أغفل أمرها و السبب الشائع في تبدل الأحوال و العوائد أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه كما يقال في الأمثال الحكمية الناس على دين الملك و أهل الملك و السلطان إذا استولوا على الدولة و الأمر فلابد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم و يأخذون الكثير منها و لا يغفلون عوائد جيلهم مع ذلك فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم و مزجت من عوائدهم و عوائدها خالفت أيضاً بعض الشيىء و كانت للأولى أشد مخالفة ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة فما دامت الأمم و الأجيال تتعاقب في الملك و السلطان لا تزال المخالفة في العوائد و الأحوال واقعة. و القياس و المحاكاة للإنسان طبيعة معروفة و من الغلط غير مأمونة تخرجه مع الذهول و الغفلة عن قصده و تعوج به عن مرامه فربما يسمع السامع كثيراً من أخبار الماضين و لا يتفطن لما وقع من تغير الأحوال و انقلابها فيجريها لأول وهلة على ما عرف و يقيسها بما شهد و قد يكون الفرق بينهما كثيراً فيقع في مهواة من الغلط فمن هذا الباب ما ينقله المؤرخون من أحوال الحجاج و أن أباه كان من المعلمين مع أن التعليم لهذا العهد من جملة الصنائع المعاشية البعيدة من اعتزاز أهل العصبية و المعلم مستضعف مسكين منقطع الجذم فيتشوف الكثير من المستضعفين أهل الحرف و الصنائع المعاشية إلى نيل الرتب التي ليسوا لها بأهل و يعدونها من الممكنات لهم فتذهب بهم وساوس المطامع و ربما انقطع حبلها من أيديهم فسقطوا في مهواة الهلكة و التلف و لا يعلمون استحالتها في حقهم و أنهم أهل حرف و صنائع للمعاش و أن التعليم صدر الإسلام و الدولتين لم كذلك و لم يكن العلم بالجملة صناعة إنما كان نقلاً لما سمع من الشارع و تعليماً لما جهل من الذين على جهة البلاغ فكان أهل الأنساب و العصبة الذين قاموا بالملة ثم الذين يعلمون كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم على معنى التبليغ الخبري لا على وجه التعليم الصناعي إذ هو كتابهم المنزل على الرسول منهم و به هداياتهم و الإسلام دينهم قاتلوا عليه و قتلوا و اختصوا به من بين الأمم و شرفوا فيحرصون على تبليغ ذلك و تفهيمه للأمة لا تصدهم عنه لائمة الكبر و لا يزغهم عاذل الأنفة و يشهد لذلك بعث النبي صلى الله عليه و سلم كبار أصحابه مع وفود العرب يعلمونهم حدود الإسلام و ما جاء به من شرائع الدين بعث في ذلك من أصحابه العشرة فمن بعدهم فما استقر الإسلام و وشجت عروق الملة حتى تناولها الأمم البعيدة من أيدي أهلها و استحالت بمرور الأيام أحوالها و كثر استنباط الأحكام الشرعية من النصوص لتعدد الوقائع و تلاحقها فاحتاج ذلك لقانون يحفظه من الخطإ و صار العلم ملكةً يحتاج إلى التعلم فأصبح من جملة الصنائع و الحرف كما يأتي ذكره في فصل العلم و التعليم و اشتغل أهل العصبية بالقيام بالملك و السلطان فدفع لعلم من قام به من سواهم و أصبح حرفة للمعاش و شمخت أنوف المترفين و أهل السلطان عن التصدي للتعليم و اختص انتحاله بالمستضعفين و صار منتحله محتقراً عند أهل العصبية و الملك و الحجاج بن يوسف كان أبوه من سادات ثقيف و أشرافهم و مكانهم من عصبية العرب و مناهضة قريش في الشرف ما علمت و لم يكن تعليمه للقرآن على ما هو الأمر عليه لهذا العهد من أنه حرفة للمعاش و أنما كان على ما وصفناه من الأمر الأول في الإسلام و من هذا الباب أيضاً ما يتوهمه المتصفحون لكتب التاريخ إذا سمعوا أحوال القضاة و ما كانوا عليه من الرئاسة في الحروب و قود العساكر فتترامى بهم و ساوس الهمم إلى مثل تلك الرتب يحسبون أن الشأن خطة القضاء لهذا العهد على ما كان عليه من قبل و يظنون بابن أبي عامر صاحب هشام المستبد عليه و ابن عباس من ملوك الطوائف بإشبيلية إذا سمعوا أن آباءهم كانوا قضاة أنهم مثل القضاة لهذا العهد و لا يتفطنون لما وقع في رتبة القضاء من مخالفة العوائد كما نبينه في فصل القضاء من الكتاب الأول و ابن أبي عامر و ابن عباد كانا من قبائل العرب القائمين بالدولة الأموية بالأندلس و أهل عصبيتها و كان مكانهم فيها معلوماً و لم يكن نيلهم لما نالوه من الرئاسة و الملك بخطة القضاء كما هي لهذا العهد بل إنما كان القضاء في الأمر القديم لأهل العصبية من قبيل الدولة و مواليه كما هي الوزارة لعهدنا بالمغرب و انظر خروجهم بالعساكر في الطرائف و تقليدهم عظائم الأمور التي لا تقلد إلا لمن له الغنى فيها بالعصبية فيغلط السامع في ذلك و يحمل الأحوال على غير ما هي و أكثر ما يقع في هذا الغلط ضعفاء البصائر من أهل الأندلس لهذا العهد لفقدان العصبية في مواطنهم منذ أعصار بعيدة بفناء العرب و دولتهم بها و خروجهم عن ملكة أهل العصبيات من البربر فبقيت أنسابهم العربية محفوظة و الذريعة إلى العز من العصبية و التناصر مفقودة بل صاروا من جملة الرعايا المتخاذلين الذين من تعبدهم القهر و رئموا للمذلة يحسبون أن أنسابهم مع مخالطة الدولة هي التي يكون لهم بها الغلب و التحكم فتجد أهل الحرف و الصنائع منهم متصدين لذلك ساعين في نيله فأما من باشر أحوال القبائل و العصبية و دولهم بالعدوة الغربية و كيف يكون التغلب بين الأمم و العشائر فقلما يغلطون في ذلك و يخطئون في اعتباره. و من هذا الباب أيضاً ما يسلكه المؤرخون عند ذكر الدول و نسق ملوكها فيذكرون اسمه و
رد مع اقتباس رد مع اقتباس  


  • #6
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    نسبه و أباه و أمه و نساءه و لقبه و خاتمه و قاضيه و حاجبه و وزيره كل ذلك تقليد لمؤرخي الدولتين من غير تفطن لمقاصدهم و المؤرخون لذلك العهد كانوا يضعون تواريخهم لأهل الدولة و أبناؤها متشوفون إلى سير أسلافهم و معرفة أحوالهم ليقتفوا آثارهم و ينسجوا على منوالهم حتى في اصطناع الرجال من خلف دولتهم و تقليد الخطط و المراتب لأبناء صنائعهم و ذويهم و القضاة أيضاً كانوا من أهل عصبية الدولة و في عداد الوزراء كما ذكرناه لك فيحتاجون إلى ذكر ذلك كله و أما حين تباينت الدول و تباعد ما بين العصور و وقف الغرض على معرفة الملوك بأنفسهم خاصة و نسب الدول بعضها من بعض في قوتها و غلبتها و من كان يناهضها من الأمم أو يقصر عنها فما الفائدة للمصنف في هذا العهد في ذكر الأنباء و النساء و نقش الخاتم و اللقب و القاضي و الوزير و الحاجب من دولة قديمة لا يعرف فيها أصولهم و لا أنسابهم و لا مقاماتهم إنما حملهم على ذلك التقليد و الغفلة عن مقاصد المؤلفين الأقدمين و الذهول عن تحري الأغراض من التاريخ اللهم إلا ذكر الوزراء الذين عظمت آثارهم و عمت على الملوك أخبارهم كالحجاج و بني المهلب و البرامكة و بني سهل بن نوبخت و كافور الأخشيدي و ابن أبي عامر و أمثالهم فغير نكير الالماع بآبائهم و الاشارة إلى أحوالهم لانتظامهم في عداد الملوك. و لنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها و هي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق و الأجيال و الأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده و تتبين به أخباره و قد كان الناس يفردونه بالتأليف كما فعله المسعودي في كتاب مروج الذهب شرح فيه أحوال الأمم و الآفاق لعهده في عصر الثلاثين و الثلاثمائة غرباً و شرقاً و ذكر نحلهم و عوائدهم و وصف البلدان و الجبال و البحار و الممالك و الدول و فرق شعوب العرب و العجم فصار إماماً لمؤرخين يرجعون إليه و أصلاً يعولون في تحقيق الكثير من أخبارهم عليه ثم جاء البكري من بعده ففعل مثل ذلك في المسالك و الممالك خاصة دون غيرها من الأحوال لأن الأمم و الأجيال لعهده لم يقع فيها كثير انتقال و لا عظيم تغير و أما لهذا العهد و هو آخر المائة الثامنة فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه و تبدلت بالجملة و اعتاض من أجيال البربر أهله على القدم بما طرأ فيه من لدن المائة الخامسة من أجيال العرب بما كسروهم و غلبوهم و انتزعوا منهم عامة الأوطان و شاركوهم فيما بقي من البلدان لملكهم هذا إلى ما نزل بالعمران شرقاً و غرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم و ذهب بأهل الجيل و طوى كثيراً من محاسن العمران و محاها و جاء للدول على حين هرمها و بلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلالها و فل من حدها و أوهن من سلطانها و تداعت إلى التلاشي و الاضمحلال أموالها و انتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار و المصانع و درست السبل و المعالم و خلت الديار و المنازل و ضعفت الدول و القبائل و تبدل الساكن و كأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته و مقدار عمرانه و كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول و الانقباض فبادر بالإجابة و الله وارث الأرض و من عليها و إذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله و تحول العالم بأسره و كأنه خلق جديد و نشأة مستأنفة و عالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة و الآفاق و أجيالها و العوائد و النحل التي تبدلت لأهلها و يقفو مسلك المسعودي لعصره ليكون أصلاً يقتدي به من يأتي من المؤرخين من بعده و أنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما صريحاً أو مندرجاً في أخباره و تلويحاً لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب و أحوال أجياله و أممه و ذكر ممالكه و دوله دون ما سواه من الأقطار لعدم اطلاعي على أحوال المشرق و أممه و أن الأخبار المتناقلة لا تفي كنه ما أريده منه و المسعودي إنما استوفى ذلك لبعد رحلته و تقلبه في البلاد كما ذكر في كتابه مع أنه لما ذكر المغرب قصر في استيفاء أحواله و فوق كل ذي علم عليم و مرد العلم كله إلى الله و البشر عاجز قاصر و الاعتراف متعين واجب و من كان الله في عونه تيسرت عليه المذاهب و انجحت له المساعي و المطالب و نحن آخذون بعون الله فيما رمناه من أغراض التأليف و الله المسدد و المعين و عليه التكلان و قد بقي علينا أن نقدم مقدمة في كيفية وضع الحروف التي ليست من لغات العرب إذا عرضت في كتابنا هذا.
    اعلم أن الحروف في النطق كما يأتي شرحه بعد هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة و أطراف اللسان مع الحنك و الحلق و الأضراس أو بقرع الشفتين أيضاً فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع و تجيء الحروف متمايزة في السمع و تتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر و ليست الأمم كلها متساوية في النطق بتلك الحروف فقد يكون لأمة مني الحروف ما ليس لأمة أخرى و الحروف التي نطقت بها العرب هي ثمانية و عشرون حرفاً كما عرفت و نجد للعبرانيين حروفاً ليست في لغتنا و في لغتنا أيضاً حروف ليست في لغتهم و كذلك الإفرنج و الترك و البربر و غير هؤلاء من العجم ثم إن أهل الكتاب من العرب اصطلحوا في الدلالة على حروفهم المسموعة بأوضاع حروف مكتوبة متميزة بأشخاصها كوضع ألف وباء و جيم وراء و طأ إلى آخر الثمانية و العشرين و إذا عرض لهم الحرف الذي ليس من حروف لغتهم بقي مهملاً عن الدلالة الكتابية مغفلاً عن البيان و ربما يرسمه بعض الكتاب بشكل الحرف الذي يكتنفه من لغتنا قبله أو بعده و ليس بكاف في الدلالة بل هو تغيير للحرف من أصله. و لما كان كتابنا مشتملاً على أخبار البربر و بعض العجم و كانت تعرض لنا في أسمائهم أو بعض كلماتهم حروف ليست من لغة كتابنا و لا اصطلاح أوضاعناً اضطررنا إلى بيانه و لم نكتف برسم الحرف الذي يليه كما قلناه لأنه عندنا غير واف بالدلالة عليه فاصطلحت في كتابي هذا على أن أضع ذلك الحرف العجمي بما يدل على الحرفين اللذين يكتنفانه ليتوسط القارىء بالنطق به بين مخرجي ذينك الحرفين فتحصل تأديته و إنما اقتبست ذلك من رسم أهل المصحف حروف الإشمام كالصراط في قراءة خلف فإن النطق بصاده فيها معجم متوسط بين الصاد و الزاي فوضعوا الصاد و رسموا في داخلها شكل الزاي و دل ذلك عندهم على التوسط بين الحرفين فكذلك رسمت أنا الكاف حرف يتوسط بين حرفين من حروفنا كالكاف المتوسطة عند البربر بين الكاف الصريحة عندنا و الجيم أو القاف مثل اسم بلكين فأضعها كافاً و أنقطها بنقطة الجيم واحدة من أسفل أو بنقطة القاف واحدة من فوق أو اثنتين فيدل ذلك على أنه متوسط بين الكاف و الجيم أو القاف و هذا الحرف أكثر ما يجيء في لغة البربر و ما جاء من غيره فعلى هذا القياس أضع الحرف المتوسط بين حرفين من لغتنا بالحرفين معاً ليعلم القارىء أنه متوسط فينطق به كذلك فنكون قد دللنا عليه و لو وضعناه برسم الحرف الواحد عن جانبه لكنا قد صرفناه من مخرجه إلى مخرج الحرف الذي من لغتنا و غيرنا لغة القوم فأعلم ذلك و الله الموفق للصواب بمنه و فضله.


  • #7
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الكتاب الأول في طبيعة العمران في الخليقة

    وما يعرض فيها من البدو والحضر والتغلب والكسب والمعاش والصنائع والعلوم ونحوها وما لذلك من العلل والأسباب

    إعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الانساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. ولما كان الكذب متطرقاً للخبر بطبعته وله أسباه تقتضيه. فمنها التشيعات للآراء والمذاهب فإن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأول وهلة. وكان ذلك الميل والتشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب و نقله. ومن الأسباب المقتضية للكذب في الأخبار أيضاً الثقة بالناقلين وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح. ومنها الذهول عن المقاصد فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.
    و منها توهم الصدق وهو كثير وإنما يجيء في الأكثر من جهة الثقة بالناقلين ومنها الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس والتصنع فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه. ومنها تقرب الناس في الأكثر لأصحاب التجلة والمراتب بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك فيستفيض الإخبار بها على غير حقيقة فالنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطلعون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفصائل ولا متنافسين في أهلها. ومن الأسباب المقتضية له أيضاً وهي سابقة على جميع ما تقدم الجهل بطبائع الأحوال في العمران فإن كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فإذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث و الأحوال في الوجود و مقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب وهذا أبلغ في التمحيص من كل وجه يعرض و كثيراً ما يعرض للسامعين قبول الأخبار المستحيلة وينقلونها وتؤثر عنهم كما نقله المسعودي عن الإسكندر لما صدته دواب البحر عن بناء الاسكندرية وكيف أتخذ صندوق الزجاج وغاص فيه إلى قعر البحر حتى صور تلك الدواب الشيطانية التي رآها وعمل تماثيلها من أجساد معدنية و نصبها حذاء البنيان ففرت تلك الدواب حين خرجت وعاينتها وتم بناؤها في حكاية طويلة من أحاديث خرافة مستحيلة من قبل اتخاذه التابوت الزجاجي ومصادمة البحر وأمواجه بجرمه ومن قبل أن الملوك لا تحمل أنفسها على مثل هذا الغرور ومن اعتمده منهم فقد عرض نفسه للهلكة وانتقاض العقدة واجتماع الناس إلى غيره وفي ذلك إتلافه ولا ينظرون به رجوعه من غروره ذلك طرفة عين ومن قبل أن الجن لا يعرف لها صورة ولا تماثيل تختص بها إنما هي قادرة على التشكيل وما يذكره من كثرة الرؤوس لها فإنما المراد به البشاعة والتهويل لا إنه حقيقة. وهذه كلها قادحة في تلك الحكاية والقادح المحيل لها من طريق الوجود أبين من هذا كله وهو أن المنغمس في الماء ولو كان في الصندوق يضيق عليه الهواء للتنفس الطبيعي وتسخن روحه بسرعة لقلته فيفقد صاحبه الهواء البارد المعدل لمزاج الرئة والروح القلبي ويهلك مكانه وهذا هو السبب في هلاك أهل الحمامات إذا أطبقت عليهم عن الهواء البارد والمتدلين في الآبار والمطامير العميقة المهوى إذا سخن هواؤها بالمعونة ولم تداخلها الرياح فتخلخلها فإن المتدلى فيها يهلك لحينه وبهذا السبب يكون موت الحوت إذا فارق البحر فإن الهواء لا يكفيه في تعديل رئته إذ هو حار بإفراط والماء الذي يعدله بارد والهواء الذي في خرج إليه حار فيستولي الحار على روحه الحيواني ويهلك دفعة ومنه هلاك المصعوقين وأمثال ذلك ومن الأخبار المستحيلة ما نقله المسعودي أيضاً في تمثال الزرزور الذي برومة تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ومنه يتخذون زيتهم وانظر ما أبعد ذلك عن المجرى الطبيعي في اتخاذ الزيت.
    ومنها ما نقله البكري في بناء المدينة المسماة ذات الأبواب تحيط بأكثر من ثلاثين مرحلة وتشتمل على عشرة آلاف باب والمدن إنما اتخذت للتحصن والاعتصام كما يأتي وهذه خرجت عن أن يحاط بها فلا يكون فيها حصن ولا معتصم وكما نقله المسعودي أيضاً في حديث مدينة النحاس وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلماسة ظفر بها موسى بن نصير في غروته إلى المغرب و أنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط صفق ورمي بنفسه فلا يرجع آخر الدهر في حديث مستحيل عادة من خرافات القصاص وصحراء سجلماسة قد نفضها الركاب والأدلاء ولم يقفوا لهذه المدينة على خبرهم أن هذه الأحوال التي ذكروا عنها كلها مستحيل عادةً مناف للأمور الطبيعية في بناء المدن واختطاطها وأن المعادن غاية الموجود منها أن يصرف في الآنية والخرثي و أما تشيي


  • #8
    مغترب ذهبي
    الحالة : عاشق الوطنية غير متواجد حالياً
    تاريخ التسجيل: Apr 2010
    رقم العضوية: 464
    الدولة: سوريا
    الإهتمامات: الرياضة , الصداقة والغناء
    السيرة الذاتية: أحب سوريا و لا تسألني كيف أو لماذا
    العمل: على باب الله
    العمر: 36
    المشاركات: 11,254
    الحالة الإجتماعية: اعزب و الله يبعت بنت الحلال
    معدل تقييم المستوى : 484
    Array

    الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري على الجملة

    و فيه مقدمات
    الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري
    و يعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم و هو معنى العمران و بيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان و ركبه على صورة لا يصح حياتها و بقاؤها إلا بالغذاء و هداه إلى التماسه بفطرته و بما ركب فيه من القدرة على تحصيله إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء غير موفية له بمادة حياته منه و لو فرضنا منه أقل ما يمكن فرصة و هو قوت يوم من الحنطة مثلاً فلا يحصل إلا بعلاج كثير من الطحن و العجن و الطبخ و كل واحد من هذه الأعمال الثلاثة يحتاج إلى مواعين و آلات لا تتم إلا بصناعات متعددة من حداد و نجار و فاخوري وهب أنه يأكله حباً من غير علاج فهو أيضاً يحتاج في تحصيله أيضاً حباً إلى أعمال أخرى أكثر من هذه من الزراعة و الحصاد و الدراس الذي يخرج الحب من غلاف السنبل و يحتاج كل واحد من هذه آلات متعددة و صنائع كثيرة أكثر من الأولى بكثير و يستحيل أن تفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد فلا بد من اجتماع القدر الكثيرة من أبناء جنسه ليحصل القوت له و لهم فيحصل بالتعاون قدر الكفاية من الحاجة لأكثر منهم بإضعاف و كذلك يحتاج كل واحد منهم أيضاً في الدفاع عن نفسه إلى الاستعانة بأبناء جنسه لأن الله سبحانه لما ركب الطباع في الحيوانات كلها و قسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان و كذا قدرة الحمار و الثور و قدرة الأسد و الفيل أضعاف من قدرته. و لما كان العدوان طبيعياً في الحيوان جعل لكل واحد منها عضواً يختص بمدافعته ما يصل إليه من عادية غيره و جعل للإنسان عوضاً من ذلك كله الفكر و اليد فاليد مهيئة للصنائع بخدمة الفكر و الصنائع تحصل له الآلات التي تنوب له عن الجوارح المعدة في سائر الحيوانات للدفاع مثل الرماح التي تنوب عن القرون الناطحة و السيوف النائبة عن المخالب الجارحة و التراس النائبة عن البشرات الجاسية إلى غير ذلك و غيره مما ذكره جالينوس في كتاب منافع الأعضاء فالواحد من البشر لا تقاوم قدرته قدرة واحد من الحيوانات العجم سيما المفترسة فهو عاجز عن مدافعتها وحده بالجملة و لا تفي قدرته أيضاً باستعمال الآلات المعدة لها فلا بد في ذلك كله من التعاون عليه بأبناء جنسه و ما لم يكن هذا التعاون فلا يحصل له قوت و لا غذاءاً و لا تتم حياته لما ركبه الله تعالى عليه من الحاجة إلى الغذاء في حياته و لا يحصل له أيضاً دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات و يعاجله الهلاك عن مدى حياته و يبطل نوع البشر و إذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء و السلاح للمدافعة و تمت حكمة الله في بقائه و حفظ نوعه فإذن هذا الاجتماع ضروري للنوع الإنساني و إلا لم يكمل و جودهم و ما أراده الله من اعتمار العالم بهم و استخلافه إياهم و هذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم و في هذا الكلام نوع إثبات للموضوع في فنه الذي هو موضوع له و هذا و أن لم يكن واجباً على صاحب الفن لما تقرر في الصناعة المنطقية أنه ليس على صاحب علم إثبات الموضوع في ذلك العلم فليس أيضاً من المنوعات عندهم فيكون إثباته من التبرعات و الله الموفق بفضله. ثم أن هذا الاجتماع إذا حصل للبشر كما قررناه و تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظلم و ليست السلاح التي جعلت دافعة لعدوان الحيوانات العجم عنهم كافية في دفع العدوان عنهم لأنها موجودة لجميعهم فلا بد من شيىء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض. و لا يكون من غيرهم لقصور جميع الحيوانات عن مداركهم و إلهاماتهم فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة و السلطان و اليد القاهرة حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان و هذا هو معنى الملك و قد تبين لك بهذا أن للإنسان خاصة طبيعية و لا بد لهم منها و قد يوجد في بعض الحيوانات العجم على ما ذكره الحكماء كما في النحل و الجراد لما استقرىء فيها من الحكم و الانقياد و الاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه و جثمانه إلا أن ذلك موجود لغير الإنسان بمقتضى الفطرة و الهداية لا بمقتضى الفكرة و السياسة أعطى كل شيء خلقه ثم هدى و تزيد الفلاسفة على هذا البرهان حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل! العقلي و أنها خاصة طبيعية للإنسان فيقررون هذا البرهان إلى غاية و أنه لا بد للبشر من الحكم الوازع ثم يقولون بعد ذلك و ذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر و أنه لا بد أن يكون متميزاً عنهم بما يودع الله فيه في خواص هدايته ليقع التسليم له و القبول منه حتى يتم الحكم فيهم و عليهم من غير إنكار و لا تزيف و هذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه إذ الوجود و حياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم و حملهم على جادته فأهل الكتاب و المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم و مع ذلك فقد كانت لهم الدول و الآثار فضلاً عن الحياة و كذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال و الجنوب بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع و بهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات و أنه ليس بعقلي و إنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة و الله ولي التوفيق و الهداية.
    المقدمة الثانية في قسط العمران من الأرض و الإشارة إلى بعض ما فيه من الأشجار و الأنهار و الأقاليم
    اعلم أنه تبين في كتب الحكماء الناظرين في أحوال العالم أن شكل الأرض كروي و أنها محفوفة بعنصر الماء كأنها عنبة طافية عليه فانحسر الماء عن بعض جوانبها لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها و عمرانها بالنوع البشري الذي له الخلافة على سائرها و قد يتوهم من ذلك أن الماء تحت الأرض و ليس بصحيح و أنما النحت الطبيعي قلب بالأرض و وسط كرتها الذي هو مركزها و الكل يطلبه بما فيه من الثقل و ما عدا ذلك من جوانبها و أما الماء المحيط بها فهو فوق الأرض و أن قيل في شيىء منها إنه تحت الأرض فبالإضافة إلى جهة أخرى منه. و أما الذي انحسر عنه الماء من الأرض فهو النصف من سطح كرتها في شكل دائرة أحاط العنصر الماء من بها من جميع جهاتها بحراً يسمى البحر المحيط و يسمى أيضاً لبلايه بتفخيم اللام الثانية و يسمى أوقيانوس أسماء أعجمية و يقال له البحر الأخضر و الأسود ثم أن هذا المنكشف من الأرض للعمران فيه القفار و الخلاء أكثر من عمرانه و الخالي من جهة الجنوب منه أكثر من جهة الشمال و إنما المعمور منه أميل إلى الجانب الشمالي على شكل مسطح كروي ينتهي من جهة الجنوب إلى خط الاستواء و من جهة الشمال إلى خط كروي و وراءه الجبال الفاصلة بينه و بين الماء العنصري الذي بينهما سد يأجوج و مأجوج و هذه الجبال مائلة إلى جهة المشرق و ينتهي من المشرق و المغرب إلى عنصر الماء أيضاً بقطعتين من الدائرة المحيطة و هذا المنكشف من الأرض قالوا هو مقدار النصف من الكرة أو أقل و المعمور منه مقدار ربعه و هو المنقسم بالأقاليم السبعة و خط الاستواء يقسم الأرض بنصفين من المغرب إلى المشرق و هو طول الأرض و أكبر خط في كرتها كما أن منطقة فلك البروج و دائرة فعدل النهار أكبر خط في الفلك و منطقة البروج منقسمة بثلثمائة و ستين درجة و الدرجة من مسافة الأرض خمسة و عشرون فرسخاً و الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع و الذراع أربعة و عشرون إصبعاً و الإصبع ست حبات شعير مصفوفة ملصق بعضها إلى بعض ظهراً لبطن و بين دائرة فعدل النهار التي تقسم الفلك بنصفين و تسامت خط الاستواء من الأرض و بين كل واحد من القطبين تسعون درجة لكن العمارة في الجهة الشمالية من خط الاستواء أربع و ستون درجة و الباقي منها خلاء لا عمارة فيه لشدة البرد و الجمود كما كانت الجهة الجنوبية خلاء كلها لشدة الحر كما نبين ذلك كله إن شاء الله تعالى. ثم إن المخبرين عن هذا المعمور و حدوده و عما فيه من الأمصار و المدن و الجبال و البحار و الأنهار و القفار و الرمال مثل بطليموس في كتاب الجغرافيا و صاحب كتاب زخار من بعده قسموا هذا المعمور بسبعة أقسام يسمونها الأقاليم السبعة بحدود وهمية بين المشرق و المغرب متساوية في العرض مختلفة في الطول فالإقليم الأول أطول مما بعده و هكذا الثاني إلى آخرها فيكون السابع أقصر لما اقتضاه وضع الدائرة الناشئة عن انحسار الماء عن كرة الأرض و كل واحد من هذه الأقاليم عندهم منقسم بعشرة أجزاء من المغرب إلى المشرق على التوالي و في كل جزء الخبر عن أحواله و أحوال عمرانه. و ذكروا أن هذا البحر المحيط يخرج من جهة المغرب في الأقليم الرابع البحر الرومي المعروف يبدأ في خليج فتضايق في عرض اثني عشر ميلاً أو نحوها ما بين طنجة و طريف و يسمى أن الزقاق ثم يذهب مشرقاً و ينفسح إلى عرض ستمائة ميل و نهايته في آخر الجزء الرابع من الإقليم الرابع على ألف فرسخ و مائة و ستين فرسخاً من مبدأه و عليه هنالك سواحل الشام و عليه من جهة الجنوب سواحل المغرب أولها طنجة عند الخليج ثم أفريقية ثم برقة إذ الاسكندرية و من جهة الشمال سواحل القسطنطينية عند الخليج ثم البنادقة ثم رومة ثم الافرنجة ثم الاندلس إلى طريف عند أن الزقاق قبالة طنجة و يسمى هذا البحر الرومي و الشامي و فيه جزر كثيرة عامرة كبار مثل أقريطش و قبرص و صقلية و ميورقة و سردانية قالوا: و يخرج منه في جهة الشمال بحران آخران من خليجين. أحدهما مسامت للقسطنطينية يبدأ من هذا البحر متضايقاً في عرض رمية السهم و يمر ثلاثة بحار فيتصل بالقسطنطينية ثم ينفسح في عرض أربعة أميال و يمر في جريه ستين ميلاً و يسمى خليج القسطنطينية ثم يخرج من فوهة عرضها ستة أميال فيمد بحر نيطش و هو بحر ينحرف من هنالك في مذهبه إلى ناحية الشرق فيمر بأرض هرقلة و ينتهي إلى بلاد الخزرية على ألف و ثلثمائة ميل من فوهته و عليه من الجانبين أمم من الروم و الترك و برجان و الروس. و البحر الثاني من خليجي هذا البحر الرومي و هو بحر البنادقة يخرج من بلاد الروم على سمت الشمال فإذا انتهى إلى سمت الجبل انحرف في سمت المغرب إلى بلاد البنادقة و ينتهي إلى بلاد إنكلاية على ألف و مائة ميل من مبدإه و على حافتيه من البنادقة و الروم و غيرهم أمم و يسمى خليج البنادقة. قالوا و ينساح من هذا البحر المحيط أيضاً من الشرق و على ثلاث عشرة درجة في الشمال من خط الاستواء بحر عظيم متسع يمر في الجنوب قليلاً حتى ينتهي إلى الإقليم الأول ثم يمر فيه مغرباً إلى أن ينتهي في الجزء الخامس منه إلى بلاد الحبشة و الزنج و إلى بلاد باب المندب منه على أربعة آلاف فرسخ من مبدئه و يسمى البحر الصيني و

  • صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

    معلومات الموضوع

    الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

    الذين يشاهدون الموضوع الآن: 2 (0 من الأعضاء و 2 زائر)

    المواضيع المتشابهه

    1. مقدمة عن ال asp
      بواسطة M-AraBi في المنتدى هندسة الكمبيوتر والبرمجيات
      مشاركات: 3
      آخر مشاركة: 07-25-2010, 01:53 AM
    2. معجم البلدان ـ الجزء الأول ـ ياقوت الحموي
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 197
      آخر مشاركة: 07-15-2010, 10:18 PM
    3. مبدع علم الاجتماع ( ابن خلدون )
      بواسطة SHARIEF FATTOUH في المنتدى ملتقى إستراحة المغترب Forum rest expatriate
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 07-15-2010, 01:04 AM
    4. مقدمة عن الحاسبات
      بواسطة أحمد فرحات في المنتدى ملتقى دروس الكمبيوتر ونصائح الإستخدام شروحات مصورة Computer lessons
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-11-2010, 02:07 PM
    5. خلدون المبارك: مانشيني قام بعمل رائع ولن يغادر مانشستر سيتي
      بواسطة Mgtrben Sport في المنتدى الملتقى الرياضي وكرة القدم Football & Sports Forum
      مشاركات: 0
      آخر مشاركة: 05-07-2010, 09:10 PM

    الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

    مواقع النشر (المفضلة)

    مواقع النشر (المفضلة)

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •  
    Untitled-1